المنشورات

‌‌التشبيه المقلوب

التشبيه المقلوب هو جعل المشبه مشبها به بادعاء أن وجه الشبه فيه أقوى وأظهر.
وأبو الفتح عثمان بن جني في كتابه الخصائص (1) يسمي هذا النوع من التشبيه «غلبة الفروع على الأصول» ويقول: «هذا فصل من فصول العربية طريف، تجده في معاني العرب، كما تجده في معاني الأعراب. ولا تكاد تجد شيئا من ذلك إلا والغرض فيه المبالغة.
فمها جاء فيه ذلك للعرب قول ذي الرمة:
ورمل كأوراك العذارى قطعته … إذا ألبسته المظلمات الحنادس (2)
أفلا ترى ذا الرمة كيف جعل الأصل فرعا والفرع أصلا؟ وذلك أن العادة والعرف في نحو هذا أن تشبه أعجاز النساء بكثبان الأنقاء أي الرمال، ألا ترى إلى قوله ليلى قضيب تحته كثيب … وفي القلاد رشأ ربيب (1)؟
ولله البحتري فما أعذب وأظرف وأدمث قوله:
أين الغزال المستعير من النقا … كفلا ومن نور الأقاحي مبسما؟
فقلب ذو الرمة العادة والعرف في هذا، فشبّه كثبان الأنقاء، أي الرمال بأعجاز النساء. وهذا كأنه يخرج مخرج المبالغة، أي قد ثبت هذا الموضع وهذا المعنى لأعجاز النساء، وصار كأنه الأصل فيه، حتى شبه به كثبان الأنقاء».
وقد عرض ابن الأثير في كتابه المثل السائر لهذا النوع من التشبيه، وسماه «الطرد والعكس»، وذلك إذ يقول: «واعلم أن من التشبيه ضربا يسمى الطرد والعكس، وهو أن يجعل المشبه به مشبها، والمشبه مشبها به، وبعضهم يسميه غلبة الفروع على الأصول … ومما جاء منه قول البحتري:
في طلعة البدر شيء من محاسنها … وللقضيب نصيب من تثنيها
وقول عبد الله بن المعتز في تشبيه الهلال:
ولاح ضوء قمير كاد يفضحنا … مثل القلامة قد قدّت من الظّفر
ولما شاع ذلك في كلام العرب واتسع صار كأنه الأصل، وهو موضع من علم البيان حسن الموقع لطيف المأخذ. وهذا قد ذكره أبو الفتح ابن جني في كتاب الخصائص.
ولما نظرت أنا في ذلك وأنعمت نظري فيه تبين لي ما أذكره، وهو أنه قد تقرر في أصل الفائدة المستنتجة من التشبيه أن يشبّه الشيء بما يطلق عليه لفظة أفعل، أي يشبه بما هو أبين وأوضح، أو بما هو أحسن منه أو أقبح، وكذلك يشبه الأقل بالأكثر، والأدنى بالأعلى.
وهذا الموضع لا ينقض هذه القاعدة لأن الذي قدمنا ذكره مطرد في بابه وعليه مدار الاستعمال. وهذا غير مطرد وإنما يحسن في عكس المعنى المتعارف، وذاك أن تجعل المشبه به مشبها، والمشبه مشبها به. ولا يحسن في غير ذلك مما ليس بمتعارف؛ ألا ترى أن من العادة والعرف أن تشبه الأعجاز بالكثبان، فلما عكس ذو الرمة هذه القضية في شعره جاء حسنا لائقا، وكذلك فعل البحتري، فإن من العادة والعرف أن يشبه الوجه الحسن بالبدر، والقد الحسن بالقضيب، فلما عكس البحتري القضية في ذلك جاء أيضا حسنا لائقا.
ولو شبه ذو الرمة الكثبان بما هو أصغر منها غير الأعجاز لما حسن ذلك، وهكذا لو شبه البحتري طلعة البدر بغير طلعة الحسناء، والقضيب بغير قدّها لما حسن ذلك أيضا.
وهكذا القول في تشبيه عبد الله بن المعتز صورة الهلال بالقلامة؛ لأن من العادة أن تشبه القلامة بالهلال، فلما صار ذلك مشهورا متعارفا حسن عكس القضية فيه» (1).


ومن أمثلة التشبيه المقلوب قول ابن المعتز:
والصبح في طرّة ليل مسفر … كأنه غرّة مهر أشقر (2) 

فالمشبه هنا هو الصبح والمشبه به هو غرّة مهر أشقر، وهذا تشبيه مقلوب، لأن العادة في عرف الأدباء أن تشبّه غرّة المهر بالصبح، لأن وجه الشبه وهو البياض أقوى في الصبح منه في المهر. ولكن الشاعر عدل عن المألوف، وقلب التشبيه للمبالغة، بادّعاء أن وجه الشبه أقوى في غرّة المهر منه في الصبح.
ومنه قول محمد بن وهيب الحميري (1) في ذات التشبيه:
وبدا الصباح كأن غرّته … وجه الخليفة حين يمتدح
فالمشبّه هنا أيضا هو ضوء الصباح في أول تباشيره، والمشبه به هو وجه الخليفة عند سماعه المديح. فالتشبيه كما ترى مقلوب، والأصل فيه هو العكس، لأن المألوف أن يشبّه الشيء دائما بما هو أقوى وأوضح منه في وجه الشبه؛ ليكتسب منه قوة ووضوحا. ولكن الشاعر تفننا منه في التعبير عكس القضية وقلب التشبيه للمبالغة والإغراق بادّعاء أن الشبه أقوى في المشبّه.
ومنه قول البحتري مادحا:
كأن سناها بالعشيّ لصبحها … تبسّم عيسى حين يلفظ بالوعد
شبّه البحتري برق السحابة الذي ظلّ لّماعا طوال الليل بتبسم الممدوح حين يعد بالعطاء، ولا شك أن لمعان البرق أقوى من بريق الابتسام، فكان المألوف أن يشبّه الابتسام بالبرق على عادة الشعراء، ولكن البحتري قلب التشبيه تفننا في التعبير والتماسا للمبالغة بادّعاء أن وجه الشبه أقوى في المشبّه 

ومنه قول شاعر آخر:
أحنّ لهم ودونهم فلاة … كأن فسيحها صدر الحليم
فالشاعر في هذا البيت شبّه فسيح الفلاة بصدر الحليم، فالتشبيه كما ترى مقلوب، إذ المعهود تشبيه صدر الحليم بالفلاة. ولكن الشاعر رغبة منه في المبالغة بادّعاء أن صدر الحليم أفسح من الصحراء عكس التشبيه.


وفيما يلي طائفة أخرى من أمثلة التشبيه المقلوب تترك للدّارس أمر التعرّف إلى المشبه والمشبه به في كلّ منها.
قال أبو نواس في وصف النرجس:
لدى نرجس غضّ القطاف كأنه … إذا ما منحناه العيون عيون
وقال البحتري في المدح:
لجرّ عليّ الغيث هدّاب مزنه … أواخرها فيه وأوّلها عندي
تعجّل عن ميقاته فكأنه … أبو صالح قد بت منه على وعد
وقال ابن المعتز يصف سحابة ويشبه البرق بالسيوف المنتضاة:
وسارية لا تملّ البكا … جرى دمعها في خدود الثرى
سرت تقدح الصبح في ليلها … ببرق كهندية تنتضى (1)
وقال البحتري في تشبيه حمرة الورد بحمرة خدي محبوبته، وتشبيه ميلان الغصن إذا هزّه النسيم بتثني قدّها في حمرة الورد شيء من تلهّبها … وللقضيب نصيب من تثنيها
وقال أيضا في وصف بركة المتوكل، وتشبيه البركة في تدفق مائها بيد المتوكل في العطاء:
كأنها حين لجّت في تدفقها … يد الخليفة لما سال واديها (1)
وقال في تشبيه الندى على شقائق النعمان بدموع الشوق على خدود الحسان:
شقائق يحملن الندى فكأنه … دموع التصابي في خدود الخرائد

 

مصادر و المراجع:
1-سحر البلاغة وسر البراعة
المؤلف: عبد الملك بن محمد بن إسماعيل أبو منصور الثعالبي (ت ٤٢٩هـ)
2-أسرار البلاغة
المؤلف: أبو بكر عبد القاهر بن عبد الرحمن بن محمد الفارسي الأصل، الجرجاني الدار (ت ٤٧١هـ)
3-الإيضاح في علوم البلاغة
المؤلف: محمد بن عبد الرحمن بن عمر، أبو المعالي، جلال الدين القزويني الشافعي، المعروف بخطيب دمشق (ت ٧٣٩هـ)
4-الطراز لأسرار البلاغة وعلوم حقائق الإعجاز
المؤلف: يحيى بن حمزة بن علي بن إبراهيم، الحسيني العلويّ الطالبي الملقب بالمؤيد باللَّه (ت ٧٤٥هـ)
5- عروس الأفراح في شرح تلخيص المفتاح
المؤلف: أحمد بن علي بن عبد الكافي، أبو حامد، بهاء الدين السبكي (ت ٧٧٣ هـ)
6-تلوين الخطاب لابن كمال باشا دراسة وتحقيق
المؤلف: أحمد بن سليمان بن كمال باشا، شمس الدين (ت ٩٤٠هـ)
7-الأطول شرح تلخيص مفتاح العلوم
المؤلف: إبراهيم بن محمد بن عربشاه عصام الدين الحنفي (ت: ٩٤٣ هـ)
8- معاهد التنصيص على شواهد التلخيص
المؤلف: عبد الرحيم بن عبد الرحمن بن أحمد، أبو الفتح العباسي (ت ٩٦٣هـ)
9-حاشية الدسوقي على مختصر المعاني لسعد الدين التفتازاني (ت ٧٩٢ هـ) [ومختصر السعد هو شرح تلخيص مفتاح العلوم لجلال الدين القزويني]
المؤلف: محمد بن عرفة الدسوقي
10- جواهر البلاغة في المعاني والبيان والبديع
المؤلف: أحمد بن إبراهيم بن مصطفى الهاشمي (ت ١٣٦٢هـ)
11-علوم البلاغة «البيان، المعاني، البديع»
المؤلف: أحمد بن مصطفى المراغي (ت ١٣٧١هـ)
12- بغية الإيضاح لتلخيص المفتاح في علوم البلاغة
المؤلف: عبد المتعال الصعيدي (ت ١٣٩١هـ)
13-علم البديع
المؤلف: عبد العزيز عتيق (ت ١٣٩٦ هـ)
14-علم البيان
المؤلف: عبد العزيز عتيق (ت ١٣٩٦ هـ)
15- علم المعاني
المؤلف: عبد العزيز عتيق (ت ١٣٩٦ هـ)
16-البلاغة العربية
المؤلف: عبد الرحمن بن حسن حَبَنَّكَة الميداني الدمشقي (ت ١٤٢٥هـ)
17-البلاغة الصافية في المعاني والبيان والبديع
المؤلف: حسن بن إسماعيل بن حسن بن عبد الرازق الجناجيُ رئيس قسم البلاغة بجامعة الأزهر (ت ١٤٢٩ هـ)
18- النظم البلاغي بين النظرية والتطبيق
المؤلف: حسن بن إسماعيل بن حسن بن عبد الرازق الجناجيُ رئيس قسم البلاغة بجامعة الأزهر (ت ١٤٢٩ هـ)
19-من قضايا البلاغة والنقد عند عبد القادر الجرجاني
المؤلف: حسن بن إسماعيل بن حسن بن عبد الرازق الجناجيُ رئيس قسم البلاغة بجامعة الأزهر (ت ١٤٢٩ هـ)
20- أساليب بلاغية، الفصاحة - البلاغة - المعاني
المؤلف: أحمد مطلوب أحمد الناصري الصيادي الرفاعي
21-الأسلوب
المؤلف: أحمد الشايب
22- المنهاج الواضح للبلاغة
المؤلف: حامد عونى
23-خصائص التراكيب دارسة تحليلية لمسائل علم المعاني
المؤلف: محمد محمد أبو موسى
24- البديع عند الحريري
المؤلف: محمد بيلو أحمد أبو بكر
25- شرح مائة المعاني والبيان
المؤلف: أبو عبد الله، أحمد بن عمر بن مساعد الحازمي
26-البلاغة ٢ - المعاني
كود المادة: LARB٤١٠٣
المرحلة: بكالوريوس
المؤلف: مناهج جامعة المدينة العالمية
الناشر: جامعة المدينة العالمية
27-علوم البلاغة «البديع والبيان والمعاني»
المؤلف: الدكتور محمد أحمد قاسم، الدكتور محيي الدين ديب

28-علم البيان

المؤلف: عبد العزيز عتيق (ت ١٣٩٦ هـ)

تعليقات (0)

الأكثر قراءة

ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلا … ويأتيك بالأخبار من لم تزوّد

المزید

فصبرا في مجال الموت صبرا … فما نيل الخلود بمستطاع

المزید

حننت إلى ريّا ونفسك باعدت … مزارك من ريّا وشعباكما معا

المزید

أفاطم مهلا بعض هذا التدلل … وإن كنت قد أزمعت صرمي فأجملي

المزید

إنّ أباها وأبا أباها … قد بلغا في المجد غايتاها

المزید