المنشورات

الحقيقة والمجاز

إذا تتبعنا نشأة الكلام عن «الحقيقة والمجاز» فإننا نجد أنّ الجاحظ من أوائل من عرضوا لهذا الموضوع بالبحث.
والجاحظ إذ يتناول قضايا البيان العربي لا يهتم كثيرا بصبها في قوالب التعريفات والتحديدات على عادة رجال
البلاغة من بعده. وإنّما نراه يسوق النماذج عليها من بليغ القول نثرا وشعرا، مع شرح بعضها أحيانا أو التعليق عليه، تاركا لمن يهمهم أن يعرفوا مفهومه لأي موضوع بلاغي طرقه أن يستنبطوه من خلال شرحه له.
ففي كلامه عن الحقيقة والمجاز يقول: «وإذا قالوا: أكله الأسد، فإنّما يذهبون إلى الأكل المعروف، وإذا قالوا: أكله الأسود، فإنّما يعنون النهش واللدغ والعض فقط. وقد قال الله عزّ وجل أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً؟ ويقولون في باب آخر: فلان يأكل الناس، وإن لم يكن يأكل من طعامهم شيئا، وكذلك قول دهمان النهري:
سألتني عن أناس أكلوا … شرب الدهر عليهم وأكل
فهذا كله مختلف، وهو كله مجاز» (1).
فالأكل في قوله: «أكله الأسد» حقيقي، أمّا في الأمثلة الأخرى فالأكل على اختلاف أنواعه مجازي كما ذكر.
فمن هذه الأمثلة يتضح أنّ المجاز عند الجاحظ مقابل للحقيقة، وأنّ الحقيقة في مفهومه تعني «استعمال اللفظ فيما وضع له أصلا»، كما أنّ المجاز عنده هو «استعمال اللفظ في غير ما وضع له لعلاقة مع قرينة مانعة من إرادة المعنى الحقيقي».
ومن معاصري الجاحظ الذين عرضوا لذات الموضوع من زاوية خاصة أبو محمد عبد الله بن مسلم بن قتيبة الدينوري «276 هـ»، فقد اهتمّ ابن قتيبة فقط بالرد على من أنكروا المجاز وزعموا أنّ الكلام كله حقيقة ولا مجاز فيه. وفي ذلك يقول: «لو كان المجاز كذبا لكان أكثر كلامنا باطلا، لأنّا نقول: نبت البقل، وطالت الشجرة، وأينعت الثمرة، وأقام الجبل ورخص السعر … ، وتقول: كان الله، وكان بمعنى حدث، والله قبل كل شيء. وقال الله عزّ وجل: فَوَجَدا فِيها جِداراً يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ فَأَقامَهُ، لو قلنا لمنكر هذا كيف تقول في جدار رأيته على شفا انهيار؟ لم يجد بدا من أن يقول: يهمّ أن ينقض، أو يكاد أو يقارب، فإن فعل فقد جعله فاعلا، ولا أحسبه يصل إلى هذا المعنى في شيء من ألسنة العجم إلّا بمثل هده الألفاظ» (1).
وبعد ابن قتيبة جاء أبو الحسين أحمد بن فارس «396 هـ» فعرف الحقيقة والمجاز بقوله: «الحقيقة هي الكلام
الموضوع موضعه الذي ليس باستعارة ولا تمثيل ولا تقديم ولا تأخير كقول القائل: الحمد لله على نعمه وإحسانه، وهذا أكثر الكلام، أي أنّ الكلام الحقيقي يمضي لسنته لا يعترض عليه. وقد يكون غيره ويجوز جوازه لقربه منه إلّا أنّ فيه من تشبيه واستعارة وكف ما ليس في الأول.
كقولك: عطاء فلان مزن واكف، فهذا التشبيه. وقد جاز مجاز قوله:
عطاؤه كثير واف» (2). فالمجاز عند ما كان قريبا من الحقيقة وفيه تشبيه أو استعارة.
وعند ابن رشيق القيرواني «456 هـ» أنّ «المجاز في كثير من الكلام أبلغ من الحقيقة، وأحسن موقعا في القلوب والأسماع، وما عدا الحقائق من جميع الألفاظ ثمّ لم يكن محالا محضا فهو مجاز، لاحتماله وجوه التأويل، فصار التشبيه والاستعارة وغيرهما من محاسن الكلام داخلة تحت المجاز، إلّا أنّهم خصوا بالمجاز، بابا بعينه، وذلك أن يسمّى الشيء باسم ما قاربه أو كان منه بسبب، كما قال جرير بن عطية:
إذا سقط السماء بأرض قوم … رعيناه وإن كانوا غضابا
أراد المطر لقربه من السماء، ويجوز أن تريد «بالسماء» السحاب، لأنّ كل ما أظلّك سماء، وقال «سقط» يريد سقوط المطر الذي فيه، وقال «رعيناه» والمطر لا يرعى، ولكنه أراد «النبت» الذي يكون عنه فهذا كله مجاز» (1).
كذلك أشار إلى ولع العرب بالمجاز فقال: «والعرب كثيرا ما تستعمل المجاز، وتعده من مفاخر كلامها، فإنّه دليل الفصاحة، ورأس البلاغة، وبه بانت لغتها عن سائر اللغات» (2).
ويعرف عبد القاهر الجرجاني «471 هـ» الحقيقة في المفرد بقوله:
«كل كلمة أريد بها ما وقعت له في وضع واضع وقوعا لا يستند فيه إلى غيره.
وهذه عبارة تنتظم الوضع الأول وما تأخر عنه كلغة تحدث في قبيلة أو في جميع العرب أو في جميع الناس مثلا أو تحدث اليوم. ويدخل فيها الأعلام منقولة كانت كزيد وعمرو أو مرتجلة كغطفان، وكل كلمة استؤنف بها على الجملة مواضعة أو ادّعي الاستثناف فيها.
وإنّما اشترطت هذا كله لأنّ وصف اللفظة بأنّها حقيقة أو مجاز حكم فيها من حيث أنّ لها دلالة على الجملة لا من
حيث هي عربية أو فارسية أو سابقة في الوضع أو محدثة مولدة».
ويعرف المجاز بقوله: «أمّا المجاز فكل كلمة أريد بها غير ما وقعت له في وضع واضعها لملاحظة بين الثاني والأول. وإن شئت قلت: كل كلمة جزت بها ما وقعت له في وضع الواضع إلى ما لم توضع له، من غير أن تستأنف فيها وضعا لملاحظة بين ما تجوّز بها إليه وبين أصلها الذي وضعت له في وضع واضعها فهي مجاز» (3) كذلك عرض السكاكي «626 هـ» للحقيقة والمجاز وعرفهما بقوله:
«الحقيقة اللغوية هي الكلمة المستعملة فيما وضعت له، والمجاز هو الكلمة المستعملة في غير ما هي موضوعة له بالتحقيق استعمالا في الغير بالنسبة إلى نوع حقيقتها مع قرينة مانعة من إرادة معناها في ذلك النوع» (1).
وممن توسع في موضوع «الحقيقة والمجاز» ضياء الدين الأثير «637 هـ» فقد عرفهما أولا بقوله: «الحقيقة اللغوية: هي حقيقة الألفاظ في دلالتها على المعاني، وليست بالحقيقة التي هي ذات الشيء، أي نفسه وعينه، فالحقيقة اللفظية إذن هي دلالة اللفظ على المعنى الموضوع له في أصل اللغة، والمجاز هو نقل المعنى عن اللفظ الموضوع له إلى لفظ آخر غيره 

 

مصادر و المراجع:
1-سحر البلاغة وسر البراعة
المؤلف: عبد الملك بن محمد بن إسماعيل أبو منصور الثعالبي (ت ٤٢٩هـ)
2-أسرار البلاغة
المؤلف: أبو بكر عبد القاهر بن عبد الرحمن بن محمد الفارسي الأصل، الجرجاني الدار (ت ٤٧١هـ)
3-الإيضاح في علوم البلاغة
المؤلف: محمد بن عبد الرحمن بن عمر، أبو المعالي، جلال الدين القزويني الشافعي، المعروف بخطيب دمشق (ت ٧٣٩هـ)
4-الطراز لأسرار البلاغة وعلوم حقائق الإعجاز
المؤلف: يحيى بن حمزة بن علي بن إبراهيم، الحسيني العلويّ الطالبي الملقب بالمؤيد باللَّه (ت ٧٤٥هـ)
5- عروس الأفراح في شرح تلخيص المفتاح
المؤلف: أحمد بن علي بن عبد الكافي، أبو حامد، بهاء الدين السبكي (ت ٧٧٣ هـ)
6-تلوين الخطاب لابن كمال باشا دراسة وتحقيق
المؤلف: أحمد بن سليمان بن كمال باشا، شمس الدين (ت ٩٤٠هـ)
7-الأطول شرح تلخيص مفتاح العلوم
المؤلف: إبراهيم بن محمد بن عربشاه عصام الدين الحنفي (ت: ٩٤٣ هـ)
8- معاهد التنصيص على شواهد التلخيص
المؤلف: عبد الرحيم بن عبد الرحمن بن أحمد، أبو الفتح العباسي (ت ٩٦٣هـ)
9-حاشية الدسوقي على مختصر المعاني لسعد الدين التفتازاني (ت ٧٩٢ هـ) [ومختصر السعد هو شرح تلخيص مفتاح العلوم لجلال الدين القزويني]
المؤلف: محمد بن عرفة الدسوقي
10- جواهر البلاغة في المعاني والبيان والبديع
المؤلف: أحمد بن إبراهيم بن مصطفى الهاشمي (ت ١٣٦٢هـ)
11-علوم البلاغة «البيان، المعاني، البديع»
المؤلف: أحمد بن مصطفى المراغي (ت ١٣٧١هـ)
12- بغية الإيضاح لتلخيص المفتاح في علوم البلاغة
المؤلف: عبد المتعال الصعيدي (ت ١٣٩١هـ)
13-علم البديع
المؤلف: عبد العزيز عتيق (ت ١٣٩٦ هـ)
14-علم البيان
المؤلف: عبد العزيز عتيق (ت ١٣٩٦ هـ)
15- علم المعاني
المؤلف: عبد العزيز عتيق (ت ١٣٩٦ هـ)
16-البلاغة العربية
المؤلف: عبد الرحمن بن حسن حَبَنَّكَة الميداني الدمشقي (ت ١٤٢٥هـ)
17-البلاغة الصافية في المعاني والبيان والبديع
المؤلف: حسن بن إسماعيل بن حسن بن عبد الرازق الجناجيُ رئيس قسم البلاغة بجامعة الأزهر (ت ١٤٢٩ هـ)
18- النظم البلاغي بين النظرية والتطبيق
المؤلف: حسن بن إسماعيل بن حسن بن عبد الرازق الجناجيُ رئيس قسم البلاغة بجامعة الأزهر (ت ١٤٢٩ هـ)
19-من قضايا البلاغة والنقد عند عبد القادر الجرجاني
المؤلف: حسن بن إسماعيل بن حسن بن عبد الرازق الجناجيُ رئيس قسم البلاغة بجامعة الأزهر (ت ١٤٢٩ هـ)
20- أساليب بلاغية، الفصاحة - البلاغة - المعاني
المؤلف: أحمد مطلوب أحمد الناصري الصيادي الرفاعي
21-الأسلوب
المؤلف: أحمد الشايب
22- المنهاج الواضح للبلاغة
المؤلف: حامد عونى
23-خصائص التراكيب دارسة تحليلية لمسائل علم المعاني
المؤلف: محمد محمد أبو موسى
24- البديع عند الحريري
المؤلف: محمد بيلو أحمد أبو بكر
25- شرح مائة المعاني والبيان
المؤلف: أبو عبد الله، أحمد بن عمر بن مساعد الحازمي
26-البلاغة ٢ - المعاني
كود المادة: LARB٤١٠٣
المرحلة: بكالوريوس
المؤلف: مناهج جامعة المدينة العالمية
الناشر: جامعة المدينة العالمية
27-علوم البلاغة «البديع والبيان والمعاني»
المؤلف: الدكتور محمد أحمد قاسم، الدكتور محيي الدين ديب

28-علم البيان

المؤلف: عبد العزيز عتيق (ت ١٣٩٦ هـ)

تعليقات (0)

الأكثر قراءة

ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلا … ويأتيك بالأخبار من لم تزوّد

المزید

فصبرا في مجال الموت صبرا … فما نيل الخلود بمستطاع

المزید

حننت إلى ريّا ونفسك باعدت … مزارك من ريّا وشعباكما معا

المزید

أفاطم مهلا بعض هذا التدلل … وإن كنت قد أزمعت صرمي فأجملي

المزید

إنّ أباها وأبا أباها … قد بلغا في المجد غايتاها

المزید