المنشورات

جمال الدين القاسمي

المفسر: محمّد بن محمّد سعيد بن قاسم الحلاق، من سلالة الحسين السبط جمال الدين القاسمي.
ولد: سنة (1283 هـ) ثلاث وثمانين ومائتين وألف.
من مشايخه: الشيخ أحمد الحلواني، والشيخ سليم العطار وغيرهما.
من تلامذته: الشيخ محمّد جميل الشطي، والشيخ محمَّد بهجة البيطار وغيرهما.

كلام العلماء فيه:
* الأعلام: "كان إمام الشام في عصره. علمًا بالدين، ومتضلعًا من فنون الأدب. مولده ووفاته في دمشق. كان سلفي العقيدة لا يقول بالتقليد. وقد اتهمه حسدته بتأسيس مذهب جديد في الدين سموه (المذهب الجمالي) فقبضت عليه الحكومة سنة (1313 هـ) وسألته فرد التهمة فأخلي سبيله، واعتذر إليه وإلي دمشق" أ. هـ.
* أعلام دمشق: "وكانت فيه نزعة سلفية معتدلة" أ. هـ.
* اتجاهات التفسير في العصر الراهن: (والقاسمي ينصر مذهب أهل السنة، ولذلك نجده يورد أقوال المعتزلة ويرد عليها ولنستمع إليه حين يورد قول المعتزلة في أن الشفاعة لا تقبل للعصاة ويفند زعمهم هذا بأقوال صاحب الانتصاف ابن المنير الإسكندري، يقول القاسمي: "القول في تأويل قوله تعالى {وَاتَّقُوا يَوْمًا لَا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيئًا وَلَا يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ وَلَا يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ} تنبيه: تمسكت المعتزلة بهذه الآية على أن الشفاعة لا تقبل للعصاة، لأنه نفي أن تقضي نفس عن نفس حقًّا أخلَّت به من فعل أو ترك، ثم نفي أن يقبل منها شفاعة شفيع فعُلم أنها لا تقبل للعصاة. والجواب: أنها خاصة بالكفار. ويؤيده أن الخطاب معهم كما قال: {فَمَا تَنْفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الْشَّافِعِينَ}، وكما قال عن أهل النار {فَمَا لَنَأ مِنْ شَافِعِينَ (100) وَلَا صَدِيقٍ حَمِيمٍ}. فمعنى الآية أنه تعالى لا يقبل فيمن كفر به فدية ولا شفاعة، ولا ينقذ أحدًا من عذابه منقذ ولا يخلص منه أحد وفي الانتصاف: من جحد الشفاعة فهو جدير ألا ينالها. وأما من آمن بها وصدقها، وهم أهل السنة والجماعة، فأولئك يرجون رحمة الله، ومعتقدهم أنها تنال العصاة من المؤمنين، وإنما ادخرت لهم. وليس في الآية دليل لمنكريها".
وها هو ذا ينصر مذهب أهل السنة في جواز رؤية الله تعالى يوم القيامة ويرد على المعتزلة الذين ينكرون ذلك، فيقول: "القول في تأويل قوله تعالى: {وَإِذْ قُلْتُمْ يَامُوسَى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ}.
دلت الآية على أن طلب رؤيته تعالى في الدنيا مستنكر غير جائز، ولذا لم يذكر، سبحانه وتعالى، سؤال الرؤية إلا استعظمه، وذلك في آيات منها هذه. ومنها قوله تعالى: الآية {يَسْأَلُكَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَنْ تُنَزِّلَ عَلَيهِمْ كِتَابًا مِنَ السَّمَاءِ فَقَدْ سَأَلُوا مُوسَى أَكْبَرَ مِنْ ذَلِكَ فَقَالُوا أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ بِظُلْمِهِمْ ... } الآية ومنها قوله تعالى: {وَقَال الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَينَا الْمَلَائِكَةُ أَوْ نَرَى رَبَّنَا لَقَدِ اسْتَكْبَرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ وَعَتَوْا عُتُوًّا كَبِيرًا}. فدلت هذه التهديدات الفظيعة الواردة لطالبيها في الدنيا على امتناعها فيها. وكما أخبر تعالى بأنه لا يرى في الدُّنيا فقد وعد الوعد الصادق عَزَّ وَجَلَّ برؤيته في الدار الآخرة في آيات عديدة، كما تواترت الأحاديث الصحيحة بذلك، وهي قطعية الدلالة لا ينبغي لمنصف أن يتمسك في مقابلها بتلك القواعد الكلامية التي جاء بها قدماء المعتزلة وزعموا أن العقل قد حكم بها".
والقاسمي لأنه عني بالنقل عن مفسري السلف فلا مفر له من ذكر الإسرائيليات في تفسيره، يقول في تأويل قوله تعالى: {وَإِذْ قَال مُوسَى لِقَوْمِهِ يَاقَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنْفُسَكُمْ بِاتِّخَاذِكُمُ الْعِجْلَ فَتُوبُوا إِلَى بَارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ ذَلِكُمْ خَيرٌ لَكُمْ عِنْدَ بَارِئِكُمْ فَتَابَ عَلَيكُمْ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ}.
* هذه الآية بيان لكيفية وقوع العفو المذكور في الآية قبل. روي أن موسى - عليه السلام - لما رجع من الميقات ورأى ما صنع قومه بعده من عبادة العجل، غضب ورمى باللوحين من يده. فكسرهما في أسفل الجبل. ثم أحرق العجل الذي صنعوه، ثم قال: من كان من حزب الرب فليقبل إليّ. فاجتمع إليه جميع بني لاوي، وقال لهم: هذا ما يقوله الرب إله إسرائيل: ليتقلد كل رجل منكم سيفه، فجوزوا من وسط المحلة من باب إلى باب وارجعوا. وليقتل الرجل منكم أخاه وصاحبه وقريبه. فصنع بنو لاوي كما أمرهم موسى فقتلوا في ذلك اليوم من الشعب نحو ثلاثة وعشرين ألف رجل (وفي رواية نحو ثلاثة آلاف رجل). وفي غد ذلك اليوم كلم موسى الشعب وقال لهم: أنتم قد أخطائم خطيئة عظيمة. وإني الآن أصعد إلى الرب فأتضرع إليه من أجل خطيئتكم. فصعد موسى وتضرع للرب وسأل المغفرة لقومه".
ولا يغيب عن البال أن القاسمي بدأ هذه الرواية بلفظة "روي" المبني للمجهول إشعارًا منه بضعفها.
والقاسمي إذ ينقل الإسرائيليات عن تفاسير السلف إلا أنه لا يقف منها كحاطب ليل، فنراه يضعفها وينبه إلى فسادها وغلطها مستفيدًا من أقوال ابن كثير الدمشقي فيها، يقول في تأويل قوله تعالى {وَاخْتَارَ مُوسَى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلًا لِمِيقَاتِنَا ... } الآية: "وقد غلط أهل الكتاب في دعواهم أن هؤلاء رأوا الله عَزَّ وَجَلَّ، فإن موسى الكليم - عليه السلام - قد سأل ذلك فمنع منه، فكيف يناله هؤلاء السبعون! أفاده ابن كثير. وقد رأيت دعواهم المذكورة في الفصل الرابع والعشرين في سفر الخروج. وهذا من المواضع الحقق تحريفها. ويدل عليه ما في الفصل الثالث والثلاثين من السفر المذكور أنه تعالى قال لموسى: لا تقدر أن ترى وجهي لأن الإنسان لا يراني ويعيش".
ويلوم المفسرون الذين أوردوا روايات مختلفة في قصة البقرة وصاحبها لأنه لا يتعلق به كبير فائدة ولم يرو بسند صحيح إلى النبي - عليه السلام -، يقول: "وقد ذكر أكثر المفسرين قصة البقرة وصاحبها بروايات مختلفة لم نورد شيئًا كما أن البعض من البقرة لم يجيء من طريق صحيح عن معصوم بيانه. فنحن نبهمه كما أبهمه الله تعالى، إذ ليس في تعيينه لنا فائدة دينيه ولا دنيوية، وإن كان معينًا في نفسى الأمر. وأيًا كان فالمعجزة حاصلة به".
والقاسمي في نقله عن مفسري السلف كان لا يلغي شخصيته ومواقفه، بل نجده ينقد بعض المفسرين ويضعف تأويلهم واجتهاداتهم في تفسير لفظة أو جملة قرآنية على شاكلة قوله في تأويل قوله تعالى: {وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ وَمَا هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ الْعَذَابِ أَنْ يُعَمَّرَ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ}: وما ذكره بعض المفسرين من أن البصير في اللغة بمعنى العليم لا يخفى فساده، فإن العليم والبصير اسمان متباينا المعنى لغة، نعم! لو حمل أحدهما على الآخر مجازًا يبعد، ولا ضرورة إليه هنا". ومن مثل ذلك قوله في تأويل قوله تعالى: {وَآتُوا الْيَتَامَى أَمْوَالهُمْ وَلَا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالهُمْ إِلَى أَمْوَالِكُمْ إِنَّهُ كَانَ حُوبًا كَبِيرًا}: "تنبيه: خص من ذلك مقدار أجر المثل عند كون الوالي فقيرًا لقوله تعالى: {وَمَنْ كَانَ فَقِيرًا فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ}، كذا قاله البيضاوي وتابعه أَبو السعود. وعندي أنه لا حاجة إلى تخصيص هذا النهي بالفقير في هذه الآية لأنها في الغني، لقوله {إِلَى أَمْوَالِكُمْ} فلا يشمل مساقها الفقير".
وفي صفات الله يستصوب القاسمي ما عليه أئمة السلف أهل العلم والإيمان وينصر موقفهم منها، إذ يقول: "والصواب ما عليه أئمة الهدى، وهو أن يوصف الله بما وصف به نفسه، أو وصفه به رسوله، لا يتجاوز القرآن والحديث ويتبع في ذلك سبل السلف الماضين، أهل العلم والإيمان. والمعاني المفهومة من الكتاب والسنة لا ترد بالشبهات فتكون من باب تحريف الكلم عن مواضعه، ولا يعرض عنها، فيكون من باب الذين إذا ذكروا بآيات ربهم لم يخروا عليها صمًا وعميانًا ولا يترك تدبر القرآن، فيكون من باب الذين لا يعلمون الكتاب إلا أماني".
ومن الواضح لكل من يقرأ محاسن التأويل أن القاسمي متأثر بمفسرين أشد التأثير. الأول ابن كثير الدمشقي، والثاني الشيخ محمّد عبده الذي كان يلقبه الأستاذ الحكيم. ونتيجة لتأثره بهذين فإن عبارته تتصف بالسهولة والإيجاز.
وكان معجبًا بابن تيمية الحراني شيخ ابن كثير الدمشقي الحافظ المفسر المؤرخ، وفي مواضع كثيرة من تفسير القاسمي نراه يستشهد بأقوال ابن تيمية ويذكر اسم الكتاب الذي نقل منه علي شاكلة قوله في تأويل قوله تعالى: {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ ... الآية}: "تنبيه: للعلماء في المحكم والمتشابه أقوال كثيرة، ومباحث واسعة. وأبدع ما رأيته في تحرير هذا المقام مقالة سابغة الذيل لشيخ الإسلام تقي الدين أحمد بن تيمية عليه الرحمة والرضوان. يقول في خلالها: "المحكم في القرآن تارة يقابل بالمتثابه والجميع من آيات الله، وتارة يقابل بما نسخه الله مما ألقاه الشيطان، ومن الناس من يجعله مقابلًا لما نسخه الله مطلقًا، حتى يقول هذه الآية محكمة ليست منسوخة، ويجعل المنسوخ ليس محكمًا، وإن كان الله أنزله أولًا اتباعًا للظاهر من قوله: {فَيَنْسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيطَانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آيَاتِهِ}. فهذه ثلاث معانٍ تقابل المحكم، ينبغي التفطُّن لها" أ. هـ.
قلت: وقد فصل الأستاذ المغراوي عقيدة القاسمي في الأسماء والصفات بشكل أكبر في كتابه "المفسرون بين التأويل والإثبات في آيات الصفات" ووصفه بأنه كان على نهج السلف الصالح، بل ولم يحد عنه إلا بما سنذكره آنفًا، ولعل نقولاته التي هي من أقوال الأئمة السلف الذين هم على الحق في الاعتقاد إن كان في الأسماء والصفات أو الإيمان أو غيرها ومن أراد الاستزادة فليرجع إليه فإنه مفيد.
على أننا نستدرك على الأستاذ المغراوي كلام القاسمي في صفة قرب الله تعالى في قوله تعالى من سورة ق: {وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ} حيث إنه لم يتطرق إلى هذه الصفة في كتابه الآنف الذكر، مع العلم أن القاسمي قد خالف ابن كثير في تفسير هذه الآية فقال في تفسيره محاسن التأويل (6/ 320) مرجحًا لقول من قال: -إنه تمثيل للقرب المعنوي، بالصورة الحسية المشاهدة، على من قال: يعني ملائكته تعالى أقرب إلى الإنسان من حبل وريده إليه-: "والوجه الأول أدق وأقرب، وفيه من الترهيب وتناهي سعة العلم، مع التعريف بجلالة المقام الرباني ما لا يخفى حسنه" والقول الثاني الذي اعتبره القاسمي مرجوحًا هو قول ابن كثير وهو مذهب السلف في هذه الآية (انظر تفسير ابن كثير (4/ 235) في تفسير سورة ق) ...
وبقي لنا أن نذكر كلام ابنه على تفسيره فقد قال في كتابه "جمال الدين القاسمي وعصره" (ص 683) ما نصه: "جرى في تفسيره على إظهار أسرار الشريعة وحقائقها على طريقة السلف الصالح حرًّا دون قيد، يفسر القرآن بالقرآن وبالحديث وبأقوال الصحابة والتابعين والأئمة من مختلف المذاهب فتراه ينقل عن المحدثين وقدامى المفسرين، وينقل عن المعتزلة والزيدية والشيعة والظاهرية وغيرهم. لا يتحرج في ذلك، ما رأى الحق في أقوالهم أو القول السديد في آثارهم".
* ثم قال ظافر القاسمي -ابن جمال الدين القاسمي- ضمن فصل السوانح (1) (ص 273) ما نصه: "لا عبرة برمي شيخ الإسلام ابن تيمية، وابن القيم، وأمثالهما رحمهم الله تعالى بالإلحاد، مثل النصير الطوسي، وابن عربي، وبعض الأشاعرة، أو المتأولين لآيات الصفات وآثارها، فإن ذلك منه ومن أمثاله حمية مذهبية، وغيرة على نصرة ما قوي لديه.
وقد عهد في العالم الغيور الذي لا يتسع صدره لخلاف الخصم، أن يحمل عليه أمثال هذا وأعظم، وإلا فالنصير قد علم أن له مؤلفات في فن الكلام، خدمت وشرحت، وكلها مما يبرئه عن الإلحاد والزندقة، ودعوى أنه كان محرض هولاكو على قتل العلماء، دعوى من لم يعرف سنة الملوك المتغلبين، المندفعين على البلاد، للأسر والقتل. وأين نصير الدين من هولاكو، حتى يكون مستشاره في القتل والسفك، وعقيدته، ومشربه؟ وترجمته المحفوظة، نبرئه من مثل ذلك!
وابن عربي، حق الباحث معه، المنكر عليه، أن ينكر عليه موضعًا لا يحتمل التأويل، ويقول: ظاهره إلحاد. إلا أن الرجل له عقيدة نشرها أولًا، ومذهب في الفقه حسن، فمثله لا يسوغ رميه بالإلحاد. وحينئذ فيقال: كلامه مشكل، إلا أن عقيدته صحيحة. فالأولى الإعراض عن المشكلات من كلامه، وعدم مطالعتها، إذ لعل لها معاني عنده. وأمثال هذا مما يخفف من الرمي، والإلحاد، فافهم .. " أ. هـ.
قلت: لا شك أن هذا الكلام مردود على القاسمي رحمه الله تعالى فمثل إلحاد النصير الطوسي (1) وابن عربي (2) صاحب وحدة الوجود لا يخفى على عالم مثله. على أنه مدح ابن عربي أيضًا في أحد كتبه، ولعل السبب في ذلك الجو الذي عاش فيه فقد كثر فيه التصوف والدعوة إليه والانتصار لبعض مشايخه -أي التصوف- ولا شك أنه تأثر بذلك فتراه يذكر في مشيخته: "ومن أجلاء مشايخي صوفي عصره، الأستاذ الجليل المحقق محمّد بن محمّد الخاني النقشبندي ... ولمهارته رحمه الله في فن التصوف قرأت عليه من كتبه لطائف الأعلام للقاشاني، وشرح الفصوص لملّا جامي، ومواقف أستاذه الأمير عبد القادر الحسني ثم الدمشقي، وحصة من شرح مواقع النجوم، وغير ذلك مما لم يحضرني الآن. وحضرته في كتاب والده البهجة السنية في آداب الطريقة النقشبندية.
"وكان رحمه الله لقنني ذكر الطريقة النقشبندية، ولازمت حلقته مدة، ثم تركتها لأمرٍ ما" أ. هـ.
وفي السانحة رقم (30) يقول القاسمي: "مسألة خلق الأفعال، يرى الواقف على أدلتها من المطولات الكلامية ظهور أدلة المعتزلة ظهورًا بيِّنًا. فإذا قيل لهم: لم يعذب الله العصاة؟ قالوا: لارتكابهم المعاصي. فإذا قيل لهم: أم ارتكبوها؟ قالوا: لإرادتهم ذلك، وإنهم مختارون. فإذا قيل لهم: أليس يجب صدور المعصية عنهم حتى يطابق علم الله تعالى؟ أجابوا: بأن العلم تابع للمعلوم، دون العكس. فليس العلم بالمعصية سببًا للمعصية، حتى تجب المعصية بوجوبه، فعلمه تعالى بمعصية زيد لأنه سيعصي، لا إن زيدًا يعصي لأنه قد علم الله معصيته. ومن المعلوم أن وجوب الشيء المقارن اللازم لفعل لا يجعل ذلك اضطراريًا، بحيث يقبح العقل التكليف.
وأما طريقة الحكماء فهي أن العقاب لازم من لوازم أفعالهم، ففعلهم هو سب له كالمرض، فإن حدوثه من لوازم فساد ما في الأخلاط، وكذلك العقاب لازم للأفعال المذمومة، وارد على النفس منها لفساد ملكتها".
وفي السانحة رقم (55) قال: "سنح لي أن أقيد ما أراه في مسألة كتب الصوفية، والمشهورين بالعارفين منهم، من الاعتدال في ذلك، والتوسط فيه، حبًا بالإنصاف، فإني رأيت من الناس من يكفر أربابها، ويحرم النظر فيها، ويحرقها إذا ظفر بها، اشتمالها على ما يعتقده حلولًا، واتحادًا، من ألفاظ ظاهرها ذلك. كما أن من الناس من يجلها وأربابها، ويشغف بها، ويدعو إليها، ويراها لب الألباب، وأنها الجديرة بأن ينفق في مطالعتاها العمر، وندر من يتوسط في ذلك أو في أصحابها، بل الأمر في بعض مؤلفيها أن يصفه قوم بأنه صديق، وآخرون بأنه زنديق. فما هذا الحال، وأين الاعتدال؟
فأما مسألة التكفير، فإنا لا نكفر كل من استقبل قبلتنا، وصلى صلاتنا، واعتقد عقيدتنا، ونلتمس لكلامه ما يدرأ عنه الكفر، للأصل الأصيل في باب الحدود، وهو حديث: "ادرأوا الحدود بالشبهات". نقول هذا أولًا مع الحشوية الذين لا يفقفون لكلام أولئك من قاعدة، وإلا فإنهم في فنهم على أصول قرروها، واصطلاحات حرروها، من رجع إليها رأى أن كلامهم شعبة من فن الحكمة. إلا أن مؤلفيها لما كانوا من أرباب الرياضة، والتجريد، والتزهد، مع الانصباغ بصبغة الدين، كان كلامهم أشبه بفلسفة إسلامية، لا يونانية محضة، فأصبحت مزيجًا، كما يعلمه الواقف على كلامهم في مطولات كتبهم، كالفتوحات والأسفار الأربعة، وغيرها.
نعم، لا ينكر أنها اشتملت على ما هو مردود، ومنظور فيه، مما ظهرت الحكمة الجديدة، والفلسفة الحقة الآن، بخلافه، إلا أنها في تلك العصور كانت هي المشهورة المتداولة وأما اشتمالها على ما يشعر بالحلول، أو الاتحاد، فهو ما يفهم منها بحسب ظاهر اللفظ، ولو رجع إلى مقاصد أربابها لوجدهم يبرؤون إلى الله من أن يفهم حلول أو اتحاد، لأنه خلاف الفن، وخلاف قواعده، لأن الوجود الكلي لا يتعين، فتعينه بذات، ودعوى أنه هو هي، خطأ في الفن، فالعلم يتبرأ منه. فإذن من الفرية عيهم أنهم يقولون بالحلول والاتحاد، ومن الجهل بقواعدهم ومشربهم واصطلاحاتهم .. " أ. هـ.
قلت: انظر في الرد على السانحة رقم (30) ما قاله شيخ الإسلام في مجمع الفتاوى (8/ 406) وما بعدها و (8/ 448) وما بعدها ودرء تعارض العقل والنقل (10/ 112) و (9/ 271) وما بعدها. ومنه يظهر لك خطأ ما ذهب إليه القاسمي في ذلك. وأن ما قاله ليس هو قول أهل السنة والجماعة.
أما ما ذكره في السانحة رقم (50) فنقول إنه قد ظهر أمر ابن عربي وأتباعه وانكشف فلا حاجة للاعتذار عنهم بمثل ما قاله القاسمي. ولا ندري ما الذي دفع القاسمي إلى القول بهذا مع أنه من العلماء الذين نذروا أنفسهم لنشر مذهب السلف وخصوصًا في مسألة الأسماء والصفات وتفسيره محاسن التأويل خير دليل على ذلك.
وحاولنا قدر الإمكان التحقق من نسبة هذه الأقوال إليه فوجدنا أن الأمر لا ليس فيه فقد ذكر ابنه ما نصه: "ولقد كانت هذه السوانح متنفسًا للقاسمي على ما يظهر، كتب فيها بعض آرائه التي لم يكن يجرؤ على نشرها. في المؤلفات التي طبعت في حياته ولا سيما دعوته إلى إعمال الفكر وإلى الاجتهاد. ففي هذه السوانح ترى هذه الدعوة واضحة" (القاسمي وعصره: ص: 260) بقي لنا أن نعلم أن تاريخ كتابة السانحة رقم (30) كان في صفر سنة (1326 هـ) والسانحة رقم (55) هو عيد الأضحى سنة (1327 هـ) وتاريخ كتابة التفسير هو عيد من سنة (1317 هـ) إلى سنة (1329 هـ).
قال الأستاذ المغراوي في كتابه "المفسرون بين التأويل والإثبات في آيات الصفات": "وله كتاب في تاريخ الجهمية أشك في نسبته إليه لما فيه من تعارض مع كتابه الكبير المسمى بمحاسن التأويل والله أعلم" انتهى.
قلت: أما نسبة الكتاب إلى القاسمي فثابتةٌ قطعًا وقد طبع في حياته كما ذكر ابنه في كتابه الآنف الذكر. ونحن نشارك الأستاذ المغراوي هذا الاستغراب؛ لأن ما في محاسن التأويل يثبت أن الشيخ جمال الدين القاسمي كان من المدافعين عن منهج السلف ضد بقية الفرق التي انحرفت عن منهج أهل السنة والجماعة كالمعتزلة والجهمية وغيرهما. ولا ندري هل إن الشيخ جمال الدين القاسمي قد نسخ ما قاله في سوانحه وفي كتاب تاريخ الجهمية والمعتزلة بما ذكره في تفسيره أم لا؟ لأن تاريخ كتابه السوانح قريب جدًّا من تاريخ كتابة التفسير! .
ولعل هناك سبب آخر في التماس القاسمي العذر لابن عربي والنصير الطوسي وهو منهجه المتساهل في الجرح والتعديل والشاهد على ذلك كتابه الذي ألفه في الجرح والتعديل. ونحن لا نرى غرابة في الأمر فقد وقع القاسمي بما وقع به الإمام السيوطي الذي ألف كتابًا في الدفاع عن ابن عربي سماه "تنبيه الغبي في تبرئة ابن عربي" ورد عليه إبراهيم الحلي في كتابه المسمى "تسفيه الغبي في تبرئة ابن عربي" [انظر الكتاب محققًا في مجلة الحكمة الغرّاء، العدد 11].
وختامًا نقول إن القاسمي هو علامة الشام والمجدد لعلوم الإسلام، محيي السنة بالعلم والعمل والتعليم والتهذيب والتأليف وأحد حلقات الاتصال بين هدي السلف والارتقاء المدني الذي يقيضه الزمن. ولكن كما يقولون لكل فارس كبوة، والله أعلم بالصواب.
وفاته: سنة (1332 هـ) اثنتين وثلاثين وثلاثمائة وألف.
من مصنفاته: "دلائل التوحيد"، و"محاسن التأويل"، و"قواعد التحديث من فنون مصطلح الحديث".






مصادر و المراجع :

١- الموسوعة الميسرة في تراجم أئمة التفسير والإقراء والنحو واللغة «من القرن الأول إلى المعاصرين مع دراسة لعقائدهم وشيء من طرائفهم»

تعليقات (0)

الأكثر قراءة

ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلا … ويأتيك بالأخبار من لم تزوّد
المزید
فصبرا في مجال الموت صبرا … فما نيل الخلود بمستطاع
المزید
حننت إلى ريّا ونفسك باعدت … مزارك من ريّا وشعباكما معا
المزید
أفاطم مهلا بعض هذا التدلل … وإن كنت قد أزمعت صرمي فأجملي
المزید
إنّ أباها وأبا أباها … قد بلغا في المجد غايتاها
المزید