المنشورات
الطَّرْطُوشي
المفسر محمّد بن الوليد بن محمّد بن خلف القرشى الفهري الأندلسي، أَبو بكر الطرطوشي (1)، ويعرف بابن أبي رندقة (2).
ولد: سنة (451 هـ)، إحدى وخمسين وأربعمائة.
من مشايخه: القاضي أَبو الوليد الباجي وأَبو محمّد بن حزم، وأَبو علي التستري وغيرهم.
من تلامذته: أَبو طاهر السَّلفي، والفقيه سلَّار بن المقدم، وجوهر بن لؤلؤ وغيرهم.
كلام العلماء فيه:
* الأنساب: "كان إمامًا فقيهًا صالحًا سديد السيرة مشتغلًا بما يعنيه، ملاذًا للغرباء والفقهاء .. " أ. هـ.
* الصلة: "كان إمامًا عالمًا عاملًا زاهدًا ورعًا دينًا متواضعًا، متقشفًا متقللًا من الدنيا راضيًا منها باليسير ... " أ. هـ.
* معجم البلدان: "فكان يصنع بشظف من العيش، وكانت له نفس أبية ... وراموا النقص من حاله فلم ينتقصوه قُلامة ظُفْر .. " أ. هـ.
* النجوم: "الإمام الفقيه، الصوفي، المالكي، العالم المشهور، نزيل الإسكندرية" أ. هـ.
* بغية الملتمس: "رحل إلى العراق وقد تفقه بالأندلس، وصحب أبا الوليد الباجي مدة أخبرني غير واحد عن الحافظ أبي بكر بن العربي، قال: سمعت الحافظ أبا بكر الطرطوشي، يقول: لم أرحل من الأندلس حتى تفقهت ولزمت الباجي مدة، فلما وصلت إلى بغداد دخلت المدرسة العادلية، فسمعت المدرس بها يقول: مسألة، إذا تعارض أصل وظاهر فأيها يحكم؟ فما علمت ما يقول، ولا دريت إلى ما يشير، حتى فتح الله، وبلغ بي ما بلغ.
أقام في رحلته مدة، ثم انصرف يريد مصر، وكان له غرض في الاجتماع مع أبي حامد الغزالي يجعل طريقه على البيت المقدس.
فلما تحقق أَبو حامد أنه يؤمّه حاد عنه، ووصل الحافظ أَبو بكر فلم يجده، فقصد جبل لنان، وأقام هناك مدة، وصحب به رجلا يعرف بعبد الله السائح، من أولياء الله المنقطعين إلى الله تعالى.
ثم أراد الحافظ أَبو بكر يقصد أرض مصر، فعرض على أبي محمّد السائح صحبته والمشى معه، وقال له: أنت ها هنا بمعزل، لا تلقى أحدا، ولا يلقاك، وإن مت لم تجد من يواريك، وفي مخالطة الناس ومقابلتهم ونشر العلم، وحضور الجماعة في الجمعة، ما لا يخفى عليك.
فقال له عبد الله: أنا ها هنا آكل الحلال، وأعش في المباح، دون تقلف من ثمر هذه الأشجار، ولا أجد في غير هذا الموضع من المباح ما أجد فيه، فقال له الحافظ أَبو بكر: إن تنظر مصر موضعًا يعرف برشيد، فيه شيئان مباحان: الملح والحطب، تقيم به ويكون عيشنا من هذين المباحين.
فقال له عبد الله: أنت لا يتركك الناس، وأفارق موضعي وأفارقك فعاهده أن لا يفارقه، وركبا الطريق إلى مصر حتى وصلا إلى رشيد وأقاما هناك، إذا احتاجا إلى قوت حوجًا من حطب أو ملح، فباعا ما يحملانه من ذلك على ظهورهما، وتقوتا بثمنه، وبقيا هناك مدة إلى أن قتل العبيدي، صاحب مصر جماعة من فقهاء أهل الإسكندرية، لسبب يطول شرحه، ولم يبق بها من يُشار إليه، وسمع أهل الإسكندرية بكون الفقيه برشيد، فركب إليه قاضيها ابن حديدة، وجماعة من أهلها.
فلما وصلوا إلى رشيد، سألوا عنه فلم يجدوا من يعرفه إلا بعض الفقراء هناك، قال لهم أنا أدلكم عليه، اقعدوا هنا، فكأني به قد وصل فقعدوا ساعة، ووصل الفقيه من الشعرا وعلى ظهره حُزمة حطب، وصاحبه معه، فقال لهم: هذا هو، ووضع الحزمة بالأرض وأخبروه بما طرأ عليهم .. ولا تعليم وباحتياج أهلها إليه، وبماله في قصدهم من الأجر، فقال لهم: قد علمت ذلك، ولكني لا أفارق صاحبي هذا بوجه، وأشار إلى عبد الله السائح، لأني سُقته من موضعه وعاهدته ألا أفارته، فدونكم فإن ساعدني فأنا ناهض معكم، فكلموه، فقال: أنا لا أمنعه، لكني أقيم هنا.
فتضرَّعوا إلى عبد الله فقال لهم: أنا هنا أعيش في الحلال، وآكل المباح ولا أجد هذا عندكم، فقال له القاضي: إن صاحب صقلية، دمّره الله، يؤدي جزية في كل عام لأهل الإسكندرية ثلثمائة قفيز من الشعير، وكذا وكذا، فخذ الشعير تتقوّت به وتصرفه في منافعك. فقال: أنا لا أحتاج إلى أكثر من رغيف في كل ليلة، فضمنوا له ذلك، وأقبل معهم إلى الإسكندرية ووفوا لأبي محمّد السائح بما قالوه، وصنعوا له من الشعير عدَّة أرغفة ووضعوها له في حبل، فكان يُفطر كل ليلة منها على رعيف، ويلزم بيته لا يبرح منه" أ. هـ.
* السير: "أنبأنا ابن علان عن الخُشوعي عن الطرطوشي أنه كتب هذه الرسالة جوابًا عن سائلٍ سأله من الأندلس عن حقيقة أمرِ مؤلف (الإحياء)، فكتب إلى عبد الله بن مظفر: سلَّامٌ عليك، فإني رأيت أبا حامدٍ، وكلمتُه، فوجدتُه امرءًا وافر الفهم والعقل، وممارسةً للعلوم، وكان ذلك مُعْظم زمانه، ثم خالف عن طريق العلماء، ودخل في غِمار العُمَّال، ثم تصوَّف، فهجر العلوم وأهلها، ودخل في علوم الخواطر، وأرباب القلوب، ووساوس الشيطان، ثم سابها، وجعل يطعنُ على الفقهاء بمذاهب الفلاسفة، ورموز الحلَّاج، وجعل ينتحي عن الفقهاء والمتكلمين، ولقد كاد أن ينسلخ من الدين.
قال الحافظ أَبو محمّد: إنّ محمّد بن الوليد هذا ذكر في غير هذه الرسالة كتاب (الإحياء) قال: وهو - لعمر والله - أشبه بإماتة علوم الدين، ثم رجعنا إلى تمام الرسالة.
قال: فلما عمل كتابه (الإحياء)، عمد فتكلم في علوم الأحوال، ومرامز الصوفية، وكان غير أنيس بها، ولا خبير بمعرفتها، فسقط على أُمِّ رأسه، فلا في عُلماء المسلمين قرّ، ولا في أحوال الزاهدين استقرّ، ثم شحن كتابه بالكذب على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فلا أعلم كتابًا على وجه بسيط الأرض أكثر كذبًا على الرسول منه، ثم شبّكه بمذاهب الفلاسفة، ورموز الحلاج، ومعاني رسائل إخوان الصفا، وهم يرون النبوة اكتسابًا، فليس النبيُّ عندهم أكثر من شخص فاضل، تخلَّق بمحاسن الأخلاق، وجانب سفاسفها، وساس نفسه حتى لا تغلبه شهوة، ثم ساق الخلق بتلك الأخلاق، وأنكروا أن يكون الله يبعثُ إلى الخلق رسولًا، وزعموا أن المعجزات حيلٌ ومخاريق، ولقد شرَّف الله الإسلام، وأوضح حُجَجَه، وقطع العذر بالأدلة، وما [مثل] من نصر الإسلام بمذاهب الفلاسفة، والآراء المنطقية، إلا كمن يغسل الثوب بالبول، ثم يسوق الكلام سوقًا يرعدُ فيه ويبرق، ويُمني ويشوّق، حتى إذا تشوقت له النفوس، قال: هذا من علم المعاملة، وما وراءه من علم المكاشفة لا يجوزُ تسطيره في الكتب، ويقول: هذا من سرّ الصدر الذي نهينا عن إفشائه، وهذا فعلُ الباطنية وأهل الدّغل والدّخل في الدين يستقل الموجود ويعلِّق النفوس بالمفقود، وهو تشويش لعقائد القلوب، وتوهين لما عليه كلمة الجماعة، فلئن كان الرجل يعتقد ما سطره، لم يبعد تكفيره، وإن كان لا يعتقده، فما أقرب تضليله.
وأما ما ذكرت من إحراق الكتاب، فلعمري إذا انتشر بين من لا معرفة له بسمومه القاتلة، خيف عليهم أن يعتقدوا إذا صحة ما فيه، فكان تحريقه في معنى ما حرّقته الصحابةُ من صُحف المصاحف التي تُخالف المصحف العُثماني، وذكر تمام الرسالة" أ. هـ.
* قلت: قال محقق "سراج الملوك" للمترجم له: "وفي بغداد أيضًا اتجه أَبو بكر الطرطوشي إلى التصوف، حيث كان الفكر الصوفي متأصلًا على يد أقطابه، وقد درس التصوف هناك ونبغ فيه، حتى عدّه من تحدث عنه من المتصوف الزاهدين، ولا غرابة في ذلك، فإن الحياة التي كان يحياها في بغداد، وما شاهده فيها من زهد، وتقشف العلماء الذين أخذ عنهم، قد أثرت فيه تأثيرًا كبيرًا، فقد كانوا برغم تضلُّعهم في الفقه والعلوم الدينية -من المتصوفة الذين يعتقدون أن الحياة نعيم زائل، وكانوا يفرغون لحياة كلها زهد وتقشّف وعبادة وذِكْر لله، هذا بالإضافة إلى الشعر الذي سمعه من شيوخه العراقيين، ورواه عنهم فيما بعد في "سراج الملوك" يضرب كله المثل بالأمم الغابرة، وما بنت من قصور، وما زيّنت من عمائر، وكيف انتهى كل هذا الزخرف إلى زوال.
ويسلتزم الطرطوشي، منذ يغادر العراق، وفيما يقبل من أيامه، هذه الحياة، حياة الزهد والبعد عن مباهج الدنيا" أ. هـ.
قلت: إن الذي ذكرته كُتب التراجم من لقاء الشيخ أبي بكر الطرطوشي مع بعض المتصوفة المخصوص بالذكر -وكما ذكر ذلك الضبي في بغية الملتمس في قصة تدور حول صحبة الشيخ مع الزاهد العابد عبد الله السائح- هذا الذي كان له الأثر في نهج الطرطوشي للسلوك الصوفي الذي جعل منه زاهدًا ورعًا متقشفًا، وسلوكه هذا لا يعني أنه انحرف مع طرق التصوف الفاسدة والمنحرفة وقتها، بل جعل من طريقه هذا إلى الزهد بالحياة وما فيها، وهذا ما أشار إليه محقق كتاب "سراج الملوك" للطرطوشي إذن ما كان عند أبي بكر الطرطوشي ليس إلا سلوكًا لا يفضي إلى المعتقدات المنحرفة لدى الطرق الصوفية وقتها وبعد الوقت الذي كان فيه ودلالة ذلك أنه قد ألف رسالة في الرد على مزاعم الصوفية في معتقداتهم والتي اسمها "تحريم الغناء واللهو عند الصوفية ورقصهم وسماعهم" وما ذكر من إيراد للشعر ممن سمع منهم في العراق، في وصف الأمم الغابرة لا يؤدي بنا إلى جعله في مصاف زعماء الصوفية وأصحاب الطرق، بل هو ممن يضرب المثل في زوال الدنيا وبقاء العمل الصالح والعبادة الصالحة لله سبحانه، وهذا الذي كان فيه. والله أعلم.
ولم نستطع من خلال مراجعة الكتب التي كتبت في سيرته أو عند مراجعة مؤلفاته أن نعثر على تصريحات تبين معتقد الشيخ إلا أن هناك تلميحات وقرائن تشير إلى أن الشيخ سلك في معتقده مسلك أهل الكلام وأخص بالذكر منهم الأشاعرة، فقد وصف المولى سبحانه في كتابه "سراج الملوك" بألفاظ لم يعتد أهل السنة أن يستعملوها في حق الله حيث قال:
"كما جعل إقرار المقرين بوقوف عقولهم عن الإحاطة بحقيقته إيمانًا لهم، لا يلزمه (لِمَ)، ولا يجاوزه (أين) ولا يلاصقه (حيث)، ولا يحده (ما)، ولا يعده (كم) ولا يحصره (متى) ولا يحيط به (كيف) ولا يناله (أي)، ولا يظلله (فوق) ولا يقله (تحت) ولا يقابله (حدٌّ)، ولا يزاحمه (نِدٌّ) ولا يأخذه (خلف) ولا يحده (أمام)، ولم يظهره (قبل) ولم يغبه (بعد) ولم يجعله (كلٌّ) ولم يوجده (كان) ولم يفقدْهُ (ليس).
وَصْفُهُ لا صفة له، وكونُهُ لا أمدَ له، ولا تخالطه الأشكال والصور، ولا تغيره الأيام والغير، ولا تجوزُ عليه المماسة والمقاربة، وتستحيل عليه المحاذاة والمقابلة، إن قلت: لم كان؟ فقد سبق العلل ذاتُه، ومن كان معلولًا كان له غيره علة يساوقه في الوجود، وهو قبل جميع الأغبار، بل لا علة لأفعاله، فَقُدْرَةُ الله في الأشياء بلا مزاج، وصنعه فيها بلا علاج، وعلة كل شيء صنعه، ولا علة لصنعه، فإن قلت: أين هو؟ فقد سبق المكان وجودُه، فمن أين الأين لم يفتقر وجودُه إلى أين، هو بعد [خلق] المكان غني بنفسه كما كان قبل خلق المكان، وكيف يحلُّ فيما منه بدأ؟ أو يعود إليه ما هو أنشأ؟ " أ. هـ.
ويؤيد ما ذهبنا إليه في معتقده ما قاله الدكتور عبد الرحمن المحمود في كتابه القيم (موقف ابن تيمية من الأشاعرة) حين كلامه على كتاب الغزالي (إحياء علوم الدين) في الهامش ما نصه: "فهناك جمهرة من العلماء المائلين إلى المذهب الأشعري ردوا على الغزالي في كتبه خاصة الإحياء، كما ردوا عليه بسبب ميله إلى الفلاسفة، ومن هؤلاء: ... أَبو بكر الطرطوشي المتوفى سنة (520 هـ) حيث كتب رسالة حط فيها من الغزالي وبرر قصة إحراق كتابه ... " أ. هـ.
ويؤيد أيضًا هذا أن المالكية في المغرب العربي في تلك الفترة كانوا على معتقد الأشعرية لانتشاره فيها.
وللطرطوشي مؤلف اسمه "حاشية على إثبات الواجب" ولم نطلع عليه وفيه إشارة لمسلك الطرطوشي ومعتقده الذي بيناه سابقًا. والله أعلم.
من أقواله: نفح الطيب: "كان يقول: إذا عرض لك أمران، أمر دنيا وأخرى، فبادر بأمر الأخرى يحصل لك أمر الدنيا والأخرى .. " أ. هـ.
وفاته: (520 هـ) عشرين وخمسمائة.
من مصنفاته: "مختصر تفسير الثعلبي" و"الكتاب الكبير في مسائل الخلاف" وغيرها.
مصادر و المراجع :
١- الموسوعة الميسرة في تراجم أئمة التفسير
والإقراء والنحو واللغة «من القرن الأول إلى المعاصرين مع دراسة لعقائدهم وشيء من
طرائفهم»
17 سبتمبر 2023
تعليقات (0)