المنشورات

ابن بَاجة

النحوي، اللغوي: محمّد بن يحيى بن باجة (1)، الأندلسي السرقسطي، الشاعر الفيلسوف، المعروف بابن الصائغ.
من تلامذته: أَبو الحسن علي بن عبد العزيز ابن الإمام، وأَبو الوليد بن رشد الحفيد وغيرهما.
كلام العلماء فيه:
* تاريخ الإسلام: "منسوب إلى انحلال العقيدة وسوء المذهب وكان يعتقد أن الكواكب تدبر العالم.
وكان آية في آراء الأوائل والفلاسفة وهَمّ به المسلمون غير مرة وسعوا في قتله، وكان عارفًا بالعربية والطب وعلم الموسيقى" أ. هـ.
* قلائد العقيان: "هو رمد جفن الدين، وكمد نفوس المهتدين، اشتهر سخفًا وجنونًا، وهجر مفروضًا ومسنونًا، فما يتشرع، ولا يأخذ في غير الأباطيل، ولا يشرع، ناهيك من رجل ما تطهر من جنابة، ولا أظهر مخيل إنابة ولا استنجى من حدث، ولا أشجى فؤاده موار في جدث، ولا أقرّ بباريه ومصوره، ولا قرّ عن تباريه، في ميدان تهوره، الإساءة إليه أجدى من الإحسان، والبهيمة عنده أهدى من الإنسان، نظر في تلك التعاليم وفكّر في أجرام الأفلاك وحدود الإقاليم، ورفض كتاب الله الحكيم العليم، ونبذه وراء ظهره ثاني عطفه، وأراد إبطال ما لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، واقتصر على الهيئة، وأنكر أن تكون له إلى الله عَزَّ وَجَلَّ فئة، وحكم للكواكب بالتدبير، واجترم على الله اللطيف الخبير، واجترأ عند سماع النهي والإيعاد، واستهزأ بقوله، تعالى: ({إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيكَ الْقُرْآنَ لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ}. فهو يعتقد أن الزمان دَوْرٌ، وأن الإنسان نبات له نور، حِمامُهُ تَمَامُهُ، واختطافه قطافه، قد محي الإيمان من قلبه، فما له فيه رسم، ونسي الرحمن لسانه فما يمر له عليه اسم، وانتمت نفسه إلى الضلال وانتسبت، ونفت يومًا تجزى فيه كل نفس ما كسبت، فقصر عمره على طرب ولهو، واستشعر كل كبر وزهو، وأقام سوق الموسيقى، وهام بحادي القطار وسقا، فهو يعكف على سماع التلاحين، ويقف عليها كل حين، ويعلن بذلك الاعتقاد، ولا يؤمن بشيء قادنا إلى الله في أسلس مقاد، مع منشأ وخيم، ولؤم أصل وخيم، وصورة شوهها الله وقبحها، وطلعة إذا أبصرها كلب نبحها، وقذارة يؤذي البلاد نفسها، ووضارة يحكي الحدَّاد دنسها، وفند لا يعمر إلَّا كنفه ولَدَدٍ لا يقوم الصُّغَّارُ حنقه، وله نظم أجاد فيه بعض إجادة وشارف الإحسان أو كاده، لولا ما يُضْمِرُ فيه من سوء اعتقاده، ويبدو منه عند انتقاده" أ. هـ.
* مطمح الأنفس: "بدر فهم ساطع، وبرهان علم لكل حجة قاطع، تفرحت بعطره الأعصار وتطيبت بذكره الأمصار، وقام به وزن المعارف واعتدل، ومال للأفهام فننًا وتهدّل، وعطل بالبرهان التقليد، وحقق بعد عدمه الاختراع والتوليد، إذا قدح زند فهمه أورى يشَرَر للجهل مُحْدق، وإن طما بحر خاطره فهو لكل شيء مغرق، مع نزاهة النفس وصونها، وبعد الفساد من كونها، والتحقيق الذي هو للإيمان شقيق، والجد، الذي يخلق العمر وهو مستجد، وله أدب يودُّ عطارد أن يلتحفه، ومذهب يتمنى المشتري أن يعرفه، ونظم تتمناه اللبات والنحور، وتدعيه مع نفاسه جوهرها البحور" أ. هـ.
قلت: ذكر محقق كتاب (مطمح الأنفس) محمّد علي شوابكه في مقدمته من خلال دراسة لشخصية وأخلاق ابن خاقان، وكيف تعامله مع الشخصيات في وقته، ومنهم ابن باجة ما نصه (1/ 40): "وقد حمل الفتح على ابن باجة حملة شعواء في كتابه القلائد، فرماه بسوء العقيدة ووصفه بالكفر، وطعنه في أصله ومنشئه وسلوكه وأخلاقه واتهمه بالقذراة والبخل والسرقة من الشعراء، فقال: والأديب أَبو بكر بن الصائغ، وهو رمد جفن الدين، وكمد نفوس المهتدين، اشتهر سُخْفًا ومجونًا وهجر مفروضًا ومسنونًا ... ناهيك من رجل ما تطهر من جنابة ولا أظهر نحيلة إنابة. . ولا استنجى من حدث ... ولا أقر بباريه ومصوره، الإساءة إليه أجدى من الإحسان، والبهيمة عنده أهدى من الإنسان، رفض كتاب الله الحكيم العليم، مع منشأ وخيم، ولؤم أصل وخيم، وصورة شوهها الله وقبحها وطلعة إذا أبصرها الكلب نبحها، وقذراة يوذي البلاد نفسها، ثم يقول: وكثيرًا ما يغير هذا الرجل على معاني الشعراء، وينبذ الاحتشام من ذلك بالعراء، ويأخذها من أربابها أخذ غاضب".
وابن باجة الذي حمل عليه الفتح هو أَبو بكر محمّد بن الحسين بن الصائغ المعروف بابن باجة التجيبي السرقسطي الأندلسي، الفيلسوف الشاعر المشهور الذي قال فيه العماد: "وقد أجمع الفضلاء على أنه لم يلحق أحدٌ مداه في زمانه ولم يوجد شرواه في إحسانه، وقد ختم به علم الهندسة وتداعت بموته في إقليمه مباني الحكم المؤسسة"، وقال القفطي: "عالم العلوم الأوائل، وهو في الأدب فاضل، له تصانيف في الرياضيات والمنطق والهندسة" وأثنى عليه ابن الخطيب ووصفه: بأنه آخر فلاسفة الإسلام بحزيرة الأندلس.
أما تحامل الفتح على الفيلسوف ابن باجة، فهناك روايتان بهذا الصدد:
الأولى: رواية ياقوت عن العالم جمال الدين بن أكرم السالفة الذكر، في أن الفتح كان يرسل إلى الملوك والأعيان والأدباء في الأندلس يعرّفهم عزمه على تأليف كتابه، ويسألهم إنفاذ شيء من نشرهم ونظمهم، وكانوا يعرفون شره فينفذون إليه ما طلب، وصرر الدنانير فكل من أرضته صلته مدحه، وكل من تغافل عن ذلك ذمه، وتقول الرواية: "وكان ممن تصدى له وأرسل إليه أَبو بكر بن باجة، وكان وزيرًا لابن تَيفلَوْيت صاحب المرية، وهو أحد الأعيان، وأركان العلم والبيان شديد العناية بعلوم الأوائل. .. فلما وصلته رسالته تهاون بها، ولم يعرها طرفة، ولا لوى نحوها عطفه، وذكر ابن خاقان بسوء فعله، فجعله ختم كتابه وصيَّره مقطع خطابه.
والثانية: رواية ابن الخطيب عن بعض الشيوخ، قال في الإحاطة: وحدثني بعض الشيوخ أن سبب حقده على ابن باجة ما كان من إزرائه به وتكذبيه إياه في مجلس إقرائه، إذ جعل (أي الفتح) يكر ذكر ما وصله به أمراء الأندلس، ووصف حِلْيا، وكان يبدو من أنفه فضلة خضراء اللون - زعموا - فقال له: فمن تلك الجواهر إذن الزُّمرُدة التي على شاربك، فثلبه في كتابه بها هو معروف.
ويورد الأستاذ علي أدهم هاتين الرواتين ويرجح الأولى بقوله: وأنا أميل إلى ترجيح الرواية الأولى لأنها تتفق مع ما عرف عن أخلاق ابن باجة من الحرص على المال والضَّن به، والفتح في شدة جشعه إلى المال والتماسه بكل الطرق والوسائل، لم يكن يحز في نفسه ويثيره ويحقده مثل حرمانه من العطاء وحبس المال عنه.
وأرى رَأي الأستاذ أدهم في ترجيح الرواية الأولى للتفسير الذي أورد، وقد زاد من هذه العدواة بين الرجلين ما كان يتمتع به ابن باجة من مكانه عالية في الفكر الأندلسي تفوق -بطبيعة الحال- مكانة الفتح بن خاقان، إذ كان الأول فيلسوفًا مفكرًا أديبًا، وكان بالإضافة إلى ذلك مقربًا إلى الملوك، فقد استوزره أَبو بكر بن تيفلويت واستوزره يحيى بن يوسف بالمغرب عشرين سنة وإذا علمنا أن الفتح كان يطمح دائمًا إلى الزعامة، فإنني أرى منزلة ابن الصائغ الفكرية والسياسية كافية لأن يحسده معاصروه ومنهم ابن خاقان وقد أشار القفطي وابن الجوزي إلى أن الأطباء الذين شاركهم ابن باجة صناعتهم حسدوه وقتلوه مسمومًا.
وقد بلغ ابن باجة هَجْوُ الفتح له، فأنفذ إليه مالًا استكفه به واستصلحه، قال في معجم الأدباء: "وصنف ابن خاقان كتابًا آخر سماه: مطمح الأنفس ومسرح التأنس في ذيل شعراء الأندلس، وصله بقلائد العقيان، وافتتحه بذكر ابن الصائغ وأثنى عليه فيه ثناءً جميلًا، وقد وصف ابن خاقان ابن باجة بصفات جميلة كنزاهة النفس وسعة الاطلاع والدراية بالعلوم العقلية، فقال: "نور فهم ساطع، وبرهان علم لكل حجة قاطع. تتوجت بعصره الأعصار، وتأرّجَت من طيب ذكره الأمصار ... وعطل بالبرهان التقليد، وحقق بعد عدمه الاختراع والتوليد، مع نزاهة النفس وصونها، وبعد الفساد من كونها، والتحقيق الذي هو للإيمان شقيق ... وله أدب يَودُّ عطارد أن يلتحفه، ومذهب يتمنّى المشتري أن يعرفه.
وإذا ما قارنا بين النصين فإننا نستطيع أن نضيف صفة أخرى للفتح قد تتضح في أكثر من موقف هذه الصفة هي التناقض، وهذا أمر طبيعي عند إنسان يحكم على الأشياء منطلقًا من عاطفته ولا يدع لعقله فرصة الحكم عليها، إنسان تبدو المواقف عاملًا أساسيًا في أحكامه، فشتان بين ابن باجة الكافر الذي لا يعترف بباريه ومصوره والذي لم يتطهر من رجس، وابن باجة الذي وصفه الفتح بالقبح والقذارة وسوء العقيدة والإغارة على معاني الشعراء وبين ابن باجة المؤمن المفكر الذي يصل إلى الإيمان بتحكيم عقله ... " أ. هـ. قول المحقق.
* عيون الأنباء: "وكان في العلوم الحكيمة علامة وقته وأوحد زمانه، وبلي بمحن كثيرة وشناعات من العوام، وقصدوا هلاكه مرات وسلمه الله منهم، وكان متميزًا في العربية والأدب حافظًا للقرآن، ويعد من الأفاضل في صناعة الطب. وكان متقنًا لصناعة الموسيقي جيد اللعب بالعود. وقال أَبو الحسن علي بن عبد العزيز بن الإمام، في صدر المجموع الذي نقله من أقاويل أبي بكر محمّد بن الصائغ بن باجة ما هذا مثاله: هذا مجموع ما قيد من أقوال أبي بكر بن الصائغ رحمه الله في العلوم الفلسفية. وكان ذا ثقابة الذهن. ولطف الغوص على تلك المعاني الشريفة الدقيقة أعجوبة دهره، ونادرة الفلك في زمانه. فإن هذه الكتب كانت متداولة بالأندلس، من زمان الحكم مستجلبها، ومستجلب غرائب ما صنف بالمشرق، ونقل من كتب الأوائل وغيرها، نضر الله وجهه، وتردد النظر فيها، فما انتهج فيها الناظر قبله سبيلًا، وما تقيد عنهم فيها إلا ضلالات وتبديل، كما تبدد عن ابن حزم الإشبيلي (1)، وكان من أجل نظار زمانه وأكثرهم لمن لقدم على إثبات شيء من خواطره. وله تعاليق في الهندسة وعلم الهيئة تدل على بروعه في هذا الفن. وأما العلم الإلهي فلم يوجد في تعاليقه شيء مخصوص به اختصاصًا تامًّا إلا نزعات تستقرأ من قوله في رسالة الوادع، واتصال الإنسان بالعقل الفعال، وإشارات مبددة في أثناء أقاويله لكنها في غاية القوة، والدلالة على نزوعه في ذلك العلم الشريف الذي هو غاية العلوم ومنتهاها" أ. هـ.
* الوافي: "وقد ناقض ابن خاقان في ترجمة ابن باجة ما قاله الكاتب أَبو عمرو عثمان بن علي بن عثمان الأنصاري في كتاب (سمط الجمان وسقط الأذهان) حيث ذكر ابن باجة فقال في حقه: الوزير الأديب الكاتب الماهر الطبيب الفيلسوف الجهبذ الأريب، أَبو بكر بن الصائغ سر الجزيرة إذا تهندست وجهبذها إذا تذطت ومنير محاسنها إذا ادلهمت وعسعست .. " أ. هـ.
* الأعلام - في هامشه -: "وانظر تزيين قلائد العقيان ... وفيه تفنيد لما جاء في القلائد من الطعن في ابن باجة، وأن صاحب القلائد نفسه كان قد بالغ في الثناء عليه في كتابه (مطمح الأنفس) ... أ. هـ.
* مرآة الزمان: "كانت سيرته حسنة صلحت به الأحوال ونجحت الآمال، حسده أطباء البلد وكادوه ونالوا بقتله مسمومًا ما أرادوه" أ. هـ.
قلت: وقال محقق كتاب "مطمح الأنفس" (ص 115): "لم يحدثنا الفتح عن هذا الكتاب متى ألفه وأين ألفه، كما أن الأحداث التي سجلها في كتابه لا تسعفنا في تحديد زمن تأليف الكتاب، إلَّا أنه من الواضح أن الفتح ألفه بعد كتاب القلائد، فقد أشار ياقوت إلى أن المطمح ما هو إلا تذييل على قلائد العقيان، وكان قد ترجم لابن باجة في القلائد وهجاه فيه، فلما سمع ابن باجة بذلك استصله، وبعث إليه بما طلب فذكره في المطمح، وقد أثار ابن سعيد إلى أن المطمح ذكر رجالًا من رجال القلائد وأضاف آخرين غيره، وأشار المقري أيضًا إلى هذه القضية في أزهار الرياض عندما قال: لم يظهر من مقتضى ذلك أن المطمح إنما زاد على القلائد في الرجال، وأما ما اتفقا عليه فلفظهما فيه واحد".
وهذا يدل على أنَّ القلائد هو الأصل، وأن المطمح ألف أيضًا بعد تأليف كتاب القلائد -أي بعد سنة (517 هـ) - ويبدو أن هذه المختارات لم تستغرق زمنًا طويلًا، فقد أملاها الفتح -كما يقول في مقدمته- في بعض أيامه .. " أ. هـ.
قلت: قد ناقض أَبو خاقان نفسه في هذين الترجمتين، وما قاله محقق كتاب "مطمح الأنفس" نعلم: إن ما ذكره الفتح كان هو في وقت صدام بينه وبين ابن باجة، كما ذكر ذلك المقري في نفح الطيب وقال سبب ذلك: "العداوة وبينه -أي ابن باجة- وبين الفتح ... ). نقلًا عن لسان الدين بن الخطيب، ولعل الصلح الذي تم بعدها بينهما قد جعل ابن خاقان يعدل عن قوله في القلائد، إلى القول بالثناء والمدح في مطمح الأنفس كما مرّ بك نصه.، . والله أعلم بالصواب.
* قلت: ومن كتاب (رسائل ابن باجة في الإلهية) حققها أستاذ الفلسفة في الجامعة الأمريكية ببيروت (ماجد فخري) حيث قال في مقدمته (ص 24): (تنطوي الرسائل التي بين يدي القارئ على فحوى فلسفة ابن باجة الإلهية والخلقية. فما هي القضايا التي تدور عليها هذه الفلسفة؟ يمكن الإجابة على ذلك بكلمتين:
التوحد والاتصال. فماذا نعني بهاتين اللفظتين؟
رددنا أعلاه مصادر فلسفة ابن باجة الرئيسية إلى ثلاثة: أفلاطون وأرسطو والفارابي. ولو أردنا أن نخصص لقلنا "الجمهورية، و"فادون" لأفلاطون وكتابي "الأخلاق" و"الحس والمحسوس" لأرسطو، و"السياسة المدنية" و"رسالة العقل" للفارابي. العاد المشترك لهذه المؤلفات هو تحديد طبيعة الإنسان العقلية وغايته القصوى والسبل المدنية المثلي لبلوغ هذه الغاية. وفي ذلك، يسقم ابن باجه بالمقدمة الفارابية الكبرى القائلة إن حيّز الطبيعة العقلية البشرية هو جوهر عقلي بسيط هو جوهر عقلي يقع خارج تخوم عالم ما تحت القمر، هو العقل الفعال، فاستحال على الإنسان أن يحقق طبيعته العقلية إذن إلا بالاتصال بهذا العقل. وبين الرسائل التي ننشرها رسالة قصير دعاها "من الأمور التي يمكن بها الوقوف على العقل الفعال" يثبت فيها وجودًا صورة لا يمكن أن تكون في مادة أصلًا وهي ملابسة للصور الهيولانية وسبب لوجودها" من أربعة وجوه، حاصلها: أولًا، أن الأجسام الكائنة الفاسدة خاضعة للأجرام السماوية ومشتقة من الإسطقسات، وهي غير كائنة ولا فاسدة. فلزوم ضرورة أن توجد "صورة لا يمكن أن تكون في مادة أصلًا، وهي ملابسة للصور الهيولانية وسبب لوجودها" كما مرّ معنا. وثانيًا، أن الإنفعال مرده إلى المعنى الكلي القائم في الفاعل، وليس إلى الفاعل من حيث هو كائن جزئي. وثالثًا، أن القوة المتخيلة في الحيوان تطلب المعنى الكلي لا المعنى الجزئي. فهي لا تطلب ماء بعينه وغذاء بعينه، بل تطلب الماء والغذاء، لما فيه من معنى الإرواء والإشباع الكلي. ورابعًا، العقل لا يدرك الموضوع الجزئي ما لم يكن له محمول كلي. وفي إدراك الموضوع الجزئي يحتاج الإنسان إلى قوة الحسّ، ويحتاج في إدراك هذا الإدراك إلى التخيل، لما في الموضوع من ازدواج ناجم عن صلته بالمادة. والحال في العقل على خلاف ذلك، فهو يدرك ويدرك أنه يدرك بقوة واحدة. لذا استحال أن يكون جسمًا أو قوة في جسم، ووجب أن يكون صورة لا في مادة. وأهمية هذه الرسالة أنها تمهّد لما يضعه في رسالة "اتصال العقل بالإنسان وفي "رسالة الوداع" من أن جوهر الإنسان العقل وغايته الاتصال بالعقل الفعّال).
قلت: قد ذكر المحقق ما يعتمد عليه ابن باجة في الأمور إلى وحانية والإلهية والخليقة وغيرها، وتفسيرها على أساس مصادره الثلاث المذكورة آنفًا في فلسفته، ومن نظرتنا لكتبه هذه، وجدنا أن له النزعة الفلسفية المتأثرة بالأقوال السابقة له في هذا المجال من ناحية تعريف الإنسان وخليقته على أساس فلسفي يدخل فيه الانحراف عن المنهج الشرعي وذلك بائن في كتبه هذه. وإليك ما قاله د. معن زيادة في تحقيقه لكتاب (تعبير المتوحد) حيث قال (23):
(والعقل والتعقل يلعبان دورًا رئيسيًا في فلسفة ابن باجة: ليس في كتاب التدبير فقط، بل وفي كتبه الأخرى وخاصة رسالة الوداع واتصال العقل بالاسنان، وسبب هذا الاهتمام بالعقل كون سعادة الإنسان تتوقف عليه، يؤكد ذلك قول ابن باجة:
ولما كانت الأفعال الإنسانية هي الاختيارية كان كل فعل من أفعال هذه القوى يمكن أن يكون للناطقة فيها مدخل. والنظام والترتيب في أفعال الإنسان إنما هو من أجل الناطقة، وهما للناطقة من أجل الغاية، التي جرت العادة أن يقال لها العافية و (السعادة).
هكذا تتوقف سعادة الإنسان على العقل وعلى النظام العقلي الذي يتبعه الإنسان، فالفعل الإنساني لا يكون إنسانيًا إلا إذا استند إلى العقل. لنأخذ على ذلك بعض الأمثلة التي يقدمها أَبو بكر. وأولها مثال أن يكسر الإنسان "حجرًا ضربه أو عودًا خدشه لأنه خدشه فقط، وهذه كلها أفعال بهيمية، فأما من يكسره لئلا يخدش غيره أو عن روية توجب كسره فذلك فعل إنساني".
وثانيها مثال من يأكل شيئًا لتشهيّه إياه. "فاتفق له عن ذلك أن لان بطنه وقد كان محتاجًا إليه، فإن ذلك فعل بهيمي، وهو فعل إنساني بالعرض".
أما من يأكله عن تعقلالا لتشهيه إياه بل لتلين بطنه، واتفق مع ذلك أن كان شهيًا عنده فإن ذلك فعل إنساني وهو بهيمي بالعرض". فإن الفعل لا يكون إنسانيًا إلا إذا كان "المحرك فيه ما يوجد في النفس من رأي أو اعتقادا فالمهم في الفعل الإنساني الاختيار الصادر المرتبط بالفكر، فإنه إن لم تستعمل الفكرة كان ذلك فعلًا بهيميًا، لا شركة للإنسانية فيه من جهة من الجهات.
من الواضح إذن أن ابن باجة يربط الفعل الإنساني بالتعقل من جهة وبالاختيار من جهة أخرى مؤكدًا أن التدبير الإنساني السليم هو تدبير عقلي سواء كان تدبيرًا جماعيًا أم فرديًا. 
وإذا كان الفيلسوف هو الإنسان الذي تنشط قوته العقلية باستمرار وهو المهيأ أكثر من غيره لوضع التدبير السليم لنفسه وللآخرين فإن الفيلسوف قد يوجد في ظروف يغلب فيها على أمره. فالفلاسفة - مع الأسف - أقلية في أكثر المجتمعات وكثيرًا ما لا تخرج أفكار الفيلسوف إلى حيّز التطبيق في المجتمع، إلا أنه مع ذلك يستطيع أن يضع لنفسه تدبيرًا خاصًّا به. ومهمته في هذه الحال تنحصر في أن يضع لنفسه تدبيرًا عقلانيًا في مجتمع لا يسوده العقل، أي أن يتخذ موقفًا إيجابيًا في ظروف سلبية، وعلى هذا الأساس ومن أجل الغرض كتب ابن باجة تدبير المتوحد).
ثم قال: (كثيرًا ما يتهم الفلاسفة المسلمون بأنهم نسجوا العناصر الأفلاطونية مع التراث الأرسطاطاليسي في كل موحدٍ، إلا أن تهمة المزج هذه تعتبر في الواقع عملًا رائعًا من أعمال الاقتباس ونقل الأفكار من ثقافة إلى أخرى، إنه ضرب من الترتيب الفلسفي بالمعنى الدقيق لهذه الكلمة ولولا هذا الضرب من الترتيب الفكري لكان الازدهار الفكري المسيحي في العصور الوسطى أمرًا غير ممكن. وابن باجة دون شك هو أحد أحسن ممثلي الفلاسفة المسلمين الذين أقاموا ترتيبات فلسفية من هذا القبيل، فهو يعلق ويشرح أعمال أرسطو مقتفيًا أثر المنهج الأرسطي، إلا أن روح منهجه هذا هي روح أفلاطونية رغم ظاهرها الأرسطي، فهو دائم البحث عن الذاتيات الحقيقية للموجودات أي مثلها العليا. وأصالة ابن باجة كممثل لجمع الفلسفة الإسلامية بين نظام أرسطو العقلي وتأمل أفلاطون الروحي يمكن أن تلمس من خلال أعمال ابن باجة ولا سيما فلسفته الطبيعية.
فوحدة العقل والمحرك الأول والله، هي حجر الزاوية التي استطاع بواسطتها ابن باجة أن يسد تلك الهوة الكبرى بين فلسفتي أرسطو وأفلاطون وأن يجمع بينهما في كل موحد جديد. فوحدة الموجود الأول سواء قيل له الله أو العقل هي مصدر الكثرة. فالكثرة إذن تنبع أو تخرج من الموحدة كالصدى يتردد بعد الصوت الأول، أو كالدوائر تتكاثر على مركز إلقاء الحجر في ماء المحيط، إلا أن التجزؤ والقسمة غير المتناهية للأشياء أو الأجسام لم تلغ في حال من الأحوال الشكل الهرمي للوجود الواحد الذي يتربع الموجود الأول على أعلى قمته. فالوحدة والكثرة، والوحدة والتنوع، وعدم قسمة المبدأ الأول والقسمة اللانهائية للأشياء والموجودات. والخلود والتناهي، كلها ترتبط بعضها مع بعض في نظام ترابطي هرمي يشمل الجميع. فالكل واحد والواحد هو الكل. هذا هو قانون النظام الذي يحكم رؤية ابن باجة للوجود).
ثم قال: (فإن ابن باجة لم يؤمن بخلود النفس الجزئية ولا بحياة أخرى للأفراد، وهو مع هذا لا يختلف كثيرًا عن الفلاسفة والمفكرين الأرسطيين الذين سبقوه في المشرق العربي الإسلامي قبل ظهوره في المغرب. ولكن وعلى الرغم من تأخر ابن باجة على فلاسفة المشرق المسلمين فهو ربما أول فليسوف استطاع أن يصيغ موقفًا فلسفيًا واضحًا ومتماسكًا موحدًا.
والتعبير "واحد" يستخدم على عدة وجوه فيما يقول أَبو بكر، فالإنسان مثلًا، يعتبر واحدًا مع أنه ينتقل من حال إلى أخرى، والإنسانية واحدة، مع أن بعض أفراد الإنسان كاملين في حين أن الآخرين ليسو كذلك. وبالمقابل فإن الصور العقلية وهي الصور العامة التي يظن أنها صورًا متعددة، هي في الواقع "واحدة" كما يؤكد ابن باجة، فالعقل وهو واحد يوحّد تجلياته أو صوره مهما كثرت، ومبدأ التوحد هذا مفصّل خير تفصيل في رسالة الاتصال، حيث يقول الفيلسوف الأندلسي:
وبالجملة فإن كان هنا عقل واحد بالعدد فالأشخاص الذين لهم مثل هذا العقل كلهم واحد بالعدد. كما لو أخذت حجر مغنطيس ولففته بمشعة فحرّك ذلك الحديد أو حديدًا آخر ثم لففته بزفت فحرك الحديد تلك الحركة ثم لففته بأجسام أخرى لكان تلك الأجسام المحركة كلها واحدًا بالعدد كالحال في ربّان السفينة كذلك هذا. إلا أنه لا يمكن في الأجسام أن يكون واحد منها في أجسام واحدة معًا في وقت واحد كما يمكن ذلك في المعقولات.
وبطريق وحدة العقل هذه يستطيع الإنسان أن يصل إلى درجة الخلود، ذلك أن الإنسان مكوّن من عنصرين. فهو جزئيًّا فاسد آني وهو جزئيًّا خالد غير فان. فكل ما هو مادي وما هو قائم على المادة فاسد آني، في حين أن الموجودات العقلية وحدها خالدة دائمة. وابن باجة يعبر عن وجهة نظره هذه بوضوح تام حيث يقول: "والنظر من هذه الجهة هو الحياة الآخرة".
وأَبو بكر لا يكتفي بالحديث عن طريقة واحدة يصل بها الإنسان، فهو يذكر طريقة أخرى بالإضافة إلى الأولى وهي مرتبطة بها متوقفة عليها، فالإنسان يحقق ضربًا من الخلود إذا ترك وراءه ما يذكر به الناس).
من أقواله: عيون الأنباء: "قال: الأشياء التي ينفع تعلمها بعد زمان طويل لا يضيع تذكرها.
وقال: حسن عملك تفز بخير من الله سبحانه" أ. هـ.
وفاته: سنة (533 هـ) ثلاث وثلاثين وخمسمائة.
من مصنفاته: "تدبير المتوحد"، و"شرح كتاب السمع الطبيعي" الأرسطو طاليس، و"كتاب اتصال العقل بالإنسان" وغيرها.





 

مصادر و المراجع :

١- الموسوعة الميسرة في تراجم أئمة التفسير والإقراء والنحو واللغة «من القرن الأول إلى المعاصرين مع دراسة لعقائدهم وشيء من طرائفهم»

تعليقات (0)

الأكثر قراءة

ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلا … ويأتيك بالأخبار من لم تزوّد
المزید
فصبرا في مجال الموت صبرا … فما نيل الخلود بمستطاع
المزید
حننت إلى ريّا ونفسك باعدت … مزارك من ريّا وشعباكما معا
المزید
أفاطم مهلا بعض هذا التدلل … وإن كنت قد أزمعت صرمي فأجملي
المزید
إنّ أباها وأبا أباها … قد بلغا في المجد غايتاها
المزید