المنشورات

مكي بن أبي طالب

النحوي، المفسر المقرئ: مكي بن أبي طالب حُموش بن محمد بن مختار الأندلسي القيسي، أبو محمَّد.
ولد: سنة (355 هـ) خمس وخمسن وثلاثمائة.
من مشايخه: أبو الحسن أحمد بن فراس العبقسي، وأبو القاسم السقطي وغيرهما.
من تلامذته: ابن عتاب، وحاتم بن محمَّد، وأبو الأصبغ بن سهل وغيرهم.
كلام العلماء فيه:
• الصلة: "كان من أهل التبحر في علوم القرآن والعربية، كثير التأليف في علوم القرآن".

وقال: "كان خيرًا فاضلًا، متواضعًا، متدنيًا، مشهورًا بالصلاح وإجابة الدعوة" أ. هـ.
• العبر: "توسع في الرواية" وبعد صيته، وقصده الناس من النواحي لعلمه ودينه" أ. هـ.
• السير: "كان من أوعية العلم مع الدين والسكينة والفهم" أ. هـ.
• تاريخ الإِسلام: "قال صاحبه أبو عمر بن مهدي المقرئ: كان رحمه الله من أهل التبحر في علوم القرآن والعربية، حسن اللهم والخلق جيد الدين والعقل، كثير التأليف في علوم القرآن، محسنًا لذلك، مجودًا للقراءات السبع، عالمًا بمعانيها" أ. هـ.
• ترتيب المدارك: "كان فقيهًا مقرئًا متفننًا راوية، وغلب عليه علم القرآن وكان من الراسخين فيه ... وكان مع رسوخه في علم القرآن وتفننه في القراءات والتفاسير والمعاني نحويًّا لغويًّا فقهيًا راوية ... " أ. هـ.
• النجوم: "شيخ الأندلس في زمانه ... وكان إمامًا عالمًا محدثًا ورعًا ... " أ. هـ.
• غاية النهاية: "إمام علامة محقق عارف أستاذ القراء والمجودين" أ. هـ.
• قلت: ننقل للقارئ الكريم، بعض التأويلات وأقواله في الصفات التي تكلم عليها مكي بن أبي طالب من كتابها العمدة في غريب القرآن" وفي البدأ قال محقق الكتاب في مقدمته: "كان رحمه الله من الأئمة المجتهدين والعلماء العاملين يشهد له بذلك علو همته وعلمه الجم الغزير ومواهبه وذكاؤه وأخلاقه الحميدة. وهو لم يخرج في أقواله عن جادة أهل السنة والجماعة وما اتفق عليه العلماء. بل يقتضي أثرهم ويقتدي بهداهم مع احترامهم، يقول في كتابه "التبصرة": وفيما قد ألفه من تقدمنا من السلف الصالح رضي الله عنهم كفاية ومقنع ونحن معترفون لهم بالفضل والتقدم لهم في العلم، رحمة الله عليهم أجمعين".
والآن وبعد ثناء المحقق عليه نورد ما تكلم عليه من غريب القرآن في الصفات:
في صفحة (72) في معنى (استوى) قال: أي عمد.
وقال المحقق في الهامش: وكل من كان يعمل عملًا فتركه بفراغ أو غير فراغ وعمد لغيره فقد استوى له، واستوى إليه انتهى غريب ابن قتيبة (ص 45).
وهذا الذي اختاره مكي رحمه الله. مع تنزيه الباري سبحانه وتعالى عن الجهة والتحيز" انتهى كلام المحقق وفي صفحة (ص 82) في معنى وجه الله قال: قبلة الله.
وفي صفحة (201) في معنى على عيني، قال: محبتي.
وفي صفحة (311) في معنى عن ساق، قال: أمر عظيم.
وفي كتاب "تفسير المشكل من غريب القرآن العظيم، صفحة (111): يكشف عن ساق: أي شدة من الأمر.
• قلت: وبعد الذي ذكرنا من تأويله لبعض الصفات من كتبه مباشرة، ننقل كلام الدكتور أحمد فرحات في معتقد مكي بن أبي طالب من كتابه "مكي بن أبي طالب وتفسير القرآن" (ص 72):
(أن مكيًّا تتلمذ لابن أبي زيد القيرواني- صاحب الرسالة. وأنه سلفي في اعتقاده على مذهب مالك بن أنس، وذلك قبل أن يدخل الجدل الكلامي إلى أتباع مالك وأنصاره، ويتضح مذهب مكي الاعتقادي من خلال تفسيره لآيات الصفات خاصة، ويقوم مذهبه على ركنين أساسيين:
أ - أن نثبت لله من الصفات ما أثبت لنفسه ونقول كما قال، ونوجب ما أوجب، ونؤمن بما في كتاب الله، ولا نتقدم بين يدي الله ولا نكيف ما لا علم عندنا منه ولا نحده".
ب - نفي الشبه بين الله ومخلوقاته، ومباينة صفاته لصفاتهم، وذلك اعتمادًا على قوله تعالى: {لَيسَ كَمِثْلِهِ شَيءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ}.
وعلى هذين الأصلين، فهو يثبت كل ما أثبته القرآن في نفس الوقت الذي ينفي كل ما يفيد مشابهة الله لمخلوقاته، لهذا فهو ينفي عن الله الجارحة، والحركة والانتقال من مكان إلى مكان لأن هذه الصفات هي من صفات المخلوقين، وفيما يلي بعض الأمثلة على ذلك:
- قال مكي في قوله تعالى: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى}: "قوله: على عرشه ارتفع وعلا.
قال أبو عبيدة: استوى: على. وقال القتبي: استقر. وقيل: معناه: استولى.
وأحسن الأقوال في هذه: علا. والذي يعتقده أهل السنة ويقولونه في هذا أن الله -جل ذكره- فوق سماواته على عرشه دون أرضه وأنه في كل مكان بعلمه، وله تعالى ذكره كرسي وسع السموات والأرض -كما قال جل ذكره- وكذلك ذكر شيخنا أبو محمّد بن أبي زيد -رحمه الله-.
وقد سأل رجل مالكًا عن هذا فقال له: كيف استوى؟ فاحمرت وجنتا مالك وطأطأ رأسه فقال: الاستواء منه غير مجهول. والكيف منه غير معقول. والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة وإني أخاف أن تكون ضالًا.
أخرجوه، فأخرج. فناداه الرجل: يا أبا عبد الله: والله الذي لا إله غيره، لقد سألت عن هذه المسألة أهل البصرة وأهل الكوفة وأهل العراق إلى أن وردت عليك، فلم أجد أحدًا وفق لما وفقت له.
- وقال مكي في معرض تفسير قوله تعالى: "ويحمل عرش ربك فوقهم يومئذ ثمانية":
... قال أبو محمد: ما جاء في القرآن والأحاديث من النزول والمجيء غير ذلك مضافًا إلى الله -جل ذكره- فلا يجب أن يتأول فيه انتقال ولا حركة على الله، إذ لا يجوز عليه ذلك، والحركة والنقلة إنما هما من صفات المخلوقين.
وكل ما جاء من هذا، فإنما هو صفة من صفات الله، لا كما هي من المخلوتين فأجرها على ما أتت، ولا تعتقد ولا تتوهم في ذلك أمرًا مما شاهدته في الخلق، إذ {لَيسَ كَمِثْلِهِ شَيءٌ}. ثم يقول:
"وقد قال جماعة من العلماء، في وصف الله -جل ذكره- بالمجيء والاتيان والتنزل، إنها أفعال يحدثها الله متى شاء، سماها بذلك فلا تقدم بين يديه، ولا تكيف ولا تشبه، وتقول كما قال، وتنفي عنه جل ذكره- التشبيه، ولا تعترض في شيء مما أتى في كتابه من ذلك، وما روي عن نبيه - صلى الله عليه وسلم -".
وحينما يعرض مكي لتفسير بعض آيات الصفات، فهو يسرد أقوال المفسرين من الصحابة والتابعين فمن بعدهم، وإذا كانت آراؤهم مختلفة ومتباينة، يختار منها الأقوى في العربية والأقرب من التنزيه البعيد من التشبيه، وذلك كما نرى في تفسيره لقوله تعالى: {يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلَا يَسْتَطِيعُونَ}.
قال مكي: أذكر يا محمد يوم يبدو أمر عظيم، وذلك يوم القيامة. قال ابن عباس: يوم يكشف: هو يوم كرب وشدة وأمر عظيم وهو يوم القيامة، وقرأ ابن عباس: يوم نكشف -بالنون- وقرأ ابن مسعود: بفتح الياء وكسر الشين - وعن ابن عباس أيضًا أنه قرأ: يوم تكشف -بالتاء- يريد القيامة تكشف عن أهوالها.
وروى مجاهد عن ابن عباس: عن ساق، قال: هي أول ساعة من القيامة وهي أفضحها وأشرها.
وقال ابن جبير: عن ساق: عن شدة الأمر.
وقال قتادة: عن ساق: عن أمر فظيع لهم جليل.
وعن ابن مسعود أنه قال: "يتمثل الله للخلق -يعني يوم القيامة- حتى يمر المسلمون فيقول: من تعبدون؟ فيقولون: نعبد الله لا نشرك به شيئًا، فينبهوهم مرتين أو ثلاثًا، فيقولون: هل تعرفون ربكم؟ فيقولون: سبحانه إذا اعترف لنا عرفناه. قال: فعند ذلك يكشف عن ساق فلا يبقى مؤمن إلا خر لله ساجدًا. ويبقى المنافقون ظهورهم طبق واحد كأنما فيها السفافيد، فيقولون: ربنا. فيقول: قد كنتم تدعون إلى السجود وأنتم سالمون".
قال أبو محمَّد: "فمعنى يكشف لهم عن ساق، أي: عن أمر عظيم وقدرة لا يقدر عليها إلا الله، فيعرفونه تعالى بما ظهر من قدرته إليهم".
ثم يقول مكي: "ولا يحل لأحد أن يتأول في هذا وما شابهه جارحة إذ ليست صفات الله كصفات الخلق، كما أنه ليس كمثله شيء، فاحذر أن يتمثل في قلبك شيء من تشبيه الله بخلقه.
فغير جائز في الحكمة والقدرة أن يكون المخلوق يشبه الخالق في شيء من الصفات. ومن شبه الخالق بالمخلوق، فقد أوجب على الخالق الحدوث وكفر وأبطل التوحيد، إذ في ذلك نفي القدم عن الخالق -تعالى الله عما يقول الظالمون علوًا كبيرًا".
ونلاحظ من هذا النص تقديمه لآراء الصحابة والتابعين من المفسرين والتي كانت تنصب في جملتها على معنى واحد، هو الذي اختاره وفسر به، ثم عرضه للقراءات في الآية والتي تبعد معنى التشبيه الذي قد يفهم من قول ابن مسعود، ثم تفسيره لقول ابن مسعود، وإنكاره لمعنى الجارحة الذي قد يتبادر إلى الأذهان.
وبالرغم من قولنا إن مكيًا كان سلفيًا في عقيدته على طريقة المالكيين قبل أن يتورطوا في الجدل الكلامي، فإننا لا نستطيع أن ننفي عنه اطلاعه على الكلام ومذاهبه، بل إن لدينا من الأدلة ما يثبت اطلاعه على ذلك كما يبدو من بعض كتاباته وعباراته حيث يستعمل ألفاظ الحدوث والعرض والقدم ويرد على أهل الفرق الكلامية كالمعتزلة والمرجئة وغيرهم، وبالرغم من ذلك لم يتورط في أساليب الجدل الكلامي، بل كان يعتمد أولًا وأخيرًا على النصوص".
ثم تكلم الدكتور أحمد فرحات أيضًا حول الآيات التي تكلم في المتكلمون أصحاب الكلام في صفات الله تعالى فقال المحقق (ص 330): (أشرنا فيما سبق أثناء كلامنا عن عقيدة مكي في الفصل الأول من الباب الأول، أنه كان سلفيًا في عقيدته على مذهب مالك، قبل أن يتأثر بالمذهب الأشعري، وأنه يميل في آيات الصفات إلى الإيمان بها كما جاءت، ولكنه في نفس الوقت ينفي عن الله الجارحة؛ لأنه يعتبرها من صفات المخلوقين.
وفيما يلي نقدم نموذجًا من تفسيره لهذا النوع من الآيات، التي كانت موضع جدل كبير لدى الفرق الإِسلامية، ومثارًا لنزاع طويل، وسببًا في انقسام المسلمين إلى مذاهب وفرق متعددة، وسنلاحظ من هذا المثال، استيعابه للأقوال المختلفة، والتأويلات القريبة والبعيدة، ثم اختياره فيها:
وقال في قوله تعالى: {وَقَالتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيدِيهِمْ}.
هذه الآية من أدل دليل على صحة نبوة محمد - صلى الله عليه وسلم - إذ أخبرهم بمكنون سرهم، وخفي اعتقادهم.
ومعنى قولهم: {يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ}: خير الله ممسك وعطاؤه محبوس، عن الاتساع عليهم، واليد -هنا-: بمنزلة قوله تعالى في تأديب نبيه - صلى الله عليه وسلم -: {وَلَا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ} أي: لا تقتر في النفقة حتى تضر بنفسك ومن معك.
ولا تبسطها كل البسط، أي: لا تسرف في الإنفاق وتبذر، فتقعد لا شيء لك، وإنما خصت اليد، إذ جعلت في موضع الإمساك والإنفاق لأن عطاء الناس وبذل معروفهم الغالب عليه باليد، فجرى استعمال الناس في وصف بعضهم بعضًا بالكرم أو بالبخل بأن أضافوه إلى اليد التي بها يكون العطاء والإمساك، فخوطبوا بما يتعارفون في كلامهم، فحكى الله سبحانه عن اليهود أنهم قالوا: يد الله مغلولة، أي أنه يبخل علينا بالعطاء كالذي يده مغلولة عن العطاء تعالى الله عما قال أعداء الله علوًا كبيرًا.
وقال بعض المفسرين: معنى الآية: نعمة الله مقبوضة عنا لأنهم كانوا إذا نزل بهم خير، قالوا: يد الله مبسوطة علينا، وإذا نزل بهم ضيق وجدب، قالوا: يد الله مقبوضة عنا، أي: نعمة الله وإفضاله.
وقد قيل في قوله: {بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ} إنهما مطر السماء ونبات الأرض؛ لأن النعم منهما وبهما تكون.
قوله: {غُلَّتْ أَيدِيهِمْ} أي عن الخير، {وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا} أي: أبعدوا من رحمه الله -عَزَّ وَجَلَّ- لقولهم ذلك. وقيل: غُلّتْ في الآخرة وهو دعاء عليهم.
ثم قال تعالى ردًّا لما حكى من قولهم {بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ} أي: بالبذل والعطاء ينفق كيف يشاء، أي يعطي: فيحرم هذا ويقتر عليه ويوسع على هذا.
قال عكرمة ومجاهد والضحاك: قولهم: يد الله مغلولة: معناه: أنه بخيل ليس بجواد، وكذلك معنى قول ابن عباس وغيره.
قوله: بل يداه مبسوطتان: قيل معناه: نعمتاه، يعني: نعمته في الدنيا ونعمته في الآخرة. والعرب تقول: لفلان عند فلان يد أي: نعمة.
وقيل: عني بذلك القوة، كقوله: {أُولِي الْأَيدِي وَالْأَبْصَارِ} أي: أصحاب القوة والبصائر في الدين.
وقد قيل في معنى قولهم: {يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ}: أي عن عذابنا، أي: يده مقبوضة عن عذابنا. ومعنى {مَبْسُوطَتَانِ}: أي: مطلقتان.
واليد: عند أهل النظر والسنة -في هذا الموضع وما كان مثله: صفة من صفات الله عَزَّ وَجَلَّ ليست بجارحة، فعلينا أن نصفه بما وصف به نفسه {لَيسَ كَمِثْلِهِ شَيءٌ} فلا يحل لأحد أن يعتقد الجوارح لله سبحانه، إذ ليس كمثله شيء، وإنما ما وقع من ذكر هذا وشبهه، وذكر المجيء، والإتيان صفات لله عَزَّ وَجَلَّ لا أن فيها انتقالا وحركة وجارحة فسبحان من ليس كمثله شيء من جميع الأشياء. فلو أنك أثبت له حركة وانتقالا أو جارحة لكنت قد جعلته كبعض الأشياء الموجودة، وقد قال: ليس كمثله شيء فاحذر أن يتصور في عقلك أن الباري -جل ذكره- يشبه شيئًا من الأشياء التي عقلت وفهمت، ومتى فعلت شيئًا من هذا فقد ألحدت.
وأهل السنة يقولون: إن يديه غير نعمته".
ويبدو لنا من استعراضنا لتفسير هذا النص:
- أنه ذكر الأقوال المتعددة في تفسيره، وعزاها إلى القائلين بها:
- نصه على اختياره بقوله:
واليد -عند أهل النظر والسنة- في هذا الموضع وما كان مثله: صفة من صفات الله عَزَّ وَجَلَّ، ليست بجارحة، فعلينا أن نصفه بما وصف به نفسه {لَيسَ كَمِثْلِهِ شَيءٌ} فلا يحل لأحد أن يعتقد الجوارح لله سبحانه، إذ ليس كمثله شيء ..
ثم يتابع الكلام ليؤكد به نفي التشبيه عن هذه الصفة وغيرها من صفات الله.
والذي يلفت انتباهنا في هذا النص قوله: واليد - عند أهل النظر والسنة يبين أن النظر لا يمكن أن يعني شيئًا مخالفًا للنصوص، بل إن النظر صحيح يكون دائمًا مع نص الكتاب والسنة، وأن الذين يلجؤون في هذا إلى تأويلات العقلية ضاربين بالنصوص عرض الحائط، حيث يحملونها على غير ما يفعل هم في نفس الوقت قد تركوا عقولهم وراءهم؛ لأنهم استعملوها في غير موضعها، وعلى خلاف ما ينبغي أن تكون عليه، فالنظر والنص عند مكي صنوان لا يفترقان.
ب - ردوده على المرجئة:
يعتقد المرجئة أن الإيمان قول بلا عمل، ويحاولون الاستدلال على هذا المذهب ببعض النصوص القرآنية، التي قد تفيد ذلك، على وجه من الوجوه. ومن هنا نرى مكيًا، يتعرض للمرجئة كل ما مر على آية يستدلون فيها على مذهبهم وينقض استدلالهم، وذلك استنادًا إلى النظر الذي يقوم على الاستدلال، بمجموع النصوص، وعدم الاكتفاء بواحد منها.
وفيما يلي أمثلة تبين استدلال المرجئة ببعض الآيات، وردود مكي عليهم: قال مكي في قوله تعالى: {لَا يَصْلَاهَا إلا الْأَشْقَى}.
أي: لا يدخلها ويصلى سعيرها إلا الأشقى الذي كذب بآيات الله أعرض عنها.
كان أبو هريرة يقول: لتدخلن الجنة إلا من أبى. قالوا: يا أبا هريرة ومن يأبى أن يدخل الجنة. قال: {الَّذِي كَذَّبَ وَتَوَلَّى}.
والمرجئة الذين يقولون: الإيمان قول بلا عمل، يتعلقون بهذه الآية: وفي تدبرها أقوال:
منها: أن المعنى لا يصلاها إلا الأشقى والذي كذب وتولى، فتكون الواو مضمرة. حكى المبرد وغيره أن العرب تقول: أكلت خبزًا لحمًا ثمرًا، فيحذفون حرف العطف، وأنشد أبو زيد:
كيف أصبحت كيف أمسيت مما ... يثبت الود في فؤاد الكريم
وإضمار الواو قبيح ليس بكثير في كلام العرب، وفيه نقض للأصول، وخروج عن الظاهر.
وقيل التقدير: لا يصلاها إلا الأشقى من الكفار والفساق، ثم أعاد ذكر الكفار خاصة تنبيهًا عليهم لأنهم أعظم ذنبًا من الفساق.
وقيل التقدير: فأنذرتكم نارًا هذه صفتها.
وقيل التقدير: لا يصلاها إلا أشقى أهل النار، وأشقاهم: الكفار، فدل هذا على أن غير الكفار يدخلون النار بذنوبهم.
وقيل المعنى: لا يخلد فيها إلا الأشقى الذي كذب وتولى، فهذا للكافر -بإجماع- خاصة.
وهذا القول أحسن الأقوال عندي.
وقال في قوله تعالى: {وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ}:
أي: وهذا الذي أمروا به، هو دين الملة المستقيمة ودين الجماعة المستقيمة لا يتم دين الإِسلام إلا بذلك.
وهذا نص واضح على أن الإيمان قول وعمل بخلاف ما قاله المرجئة، أن الإيمان قولًا لا غير، وقد قال تعالى: {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ} وبين -ما هنا- أن إقام الصلاة وإيتاء الزكاة وإخلاص العمل لله هو الدين المستقيم العادل.
وقال في قوله تعالى: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ}:
وتسمة الله -جل ذكره- الصلاة: إيمانًا في هذه الآية رد على المرجئة الذين يقولون: إن الصلاة ليست من الإيمان.
قال أشهب: وإني "ذكر بهذه الآية قول المرجئة، وعلى أن الإيمان -بهذه الآية- يراد به: الصلاة نحو بيت المقدس، وقاله البراء بن عازب ورفعه إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو قول قتادة والسدي والربيع بن أنس، وابن المسيب وزيد بن أسلم ومالك وغيرهم.
ومن خلال النصوص المتقدمة نرى:
في النص الأول:
- ذكره للأقوال المتعددة في تفسيرها، كما هي عادته دائمًا.
- إشارته إلى استدلال المرجئة على مذهبهم بهذه الآية.
- رده لقول المبرد، بقوله: وإضمار الواو قبيح ليس بكثير في كلام العرب، وفيه نقض للأصول، وخروج عن الظاهر.
- اختياره للقول الأخير، الذي يجعل الآية في الكفار خاصة حيث يقول: وهذا أحسن الأقوال عندي. 
وفي النص الثاني {وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ} يقول: وهذا نص واضح على أن الإيمان هو دين الملة المستقيمة .. وهو نص واضح على أن الإيمان قول وعمل بخلاف ما قاله المرجئة، ويستدل على ذلك يقول الله تعالى: {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ} ويبين -ها هنا- أن إقام الصلاة وإيتاء الزكاة وإخلاص العمل لله هو الدين المستقيم العادل.
وكذلك يستدل بالنص الثالث الذي يسمي الصلاة: إيمانًا، وهو قوله تعالى: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ} حيث يقول: وتسمية الله -جل ذكره- الصلاة: إيمانًا -في هذه الآية- رد على المرجئة، الذين يقولون: إن الصلاة ليست من الإيمان.
ج- ردوده على المعتزلة:
حفل تفسير مكي بالردود على المعتزلة، وذلك أثناء تفسيره للآيات التي يستدل بها المعتزلة على مذهبهم، وكان مكي يثير إلى رأيهم واستدلالهم بالآية، ثم يناقشهم في آرائهم ويفندها بالنظر الصحيح الذي يعتمد على النصوص والعربية، وفيما يلي تقدم نماذج من ردود مكي على المعتزلة ونقاشه لآرائهم.
عدم إرادة الله كفر الكافر:
قال مكي في معرض تفسير قوله تعالى:
{وَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيئًا}: هو تسلية للنبي - صلى الله عليه وسلم - ألا يحزن على مسارعة من أسرع إلى الكفر من المنافقين واليهود.
وفتنته: ضلاله.
{فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيئًا} لا اهتداء له أبدًا.
{أُولَئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ} أي: ذل وصغار، وأداء الجزية عن يد. {وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ}.
وزعمت المعتزلة والقدرية أن الله عَزَّ وَجَلَّ لم يرد كفر أحد من خلقه، وأراد أن يكون جميع الخلق مؤمنين، فكان ما لم يرد، ولم يكن ما أراد -تعالى الله عن ذلك- وقد قال:
لم يرد الله أن يطهر قلوبهم. وقال {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدَى} وقال {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا وَلَكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ}، وقال: {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ}، وقال: {وَلَوْ شِئْنَا لآتَينَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا وَلَكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي} -الآية- وقال: {وَمَا تَشَاءُونَ إلا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} وقال: {وَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيئًا}.
وقال: {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا}.
وقال: {أَنْ لَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لَهَدَى النَّاسَ جَمِيعًا}.
وقال: {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ}.
وفي كتاب الله عَزَّ وَجَلَّ من هذا كثير لا يحصى.
يخبر -تعالى- في جميعه أنه أراد جميع ما كان وما يكون، وأن جميع الحوادث كانت عن إرادته ومشيئته، وأنه لو شاء لأحدثها على خلاف ما حدثت فيجعل الناس كلهم مؤمنين. فعندت المعتزلة -عليها لعنة الله تعالى- قولهم عن ذلك، وخالفت وقالت: حدث كفر الكافر على غير إرادة من الله -سبحانه وتعالى علوًا كبيرًا- وعلى  إرادة من الشيطان.
وقد أجمع المسلمون على قولهم: ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن، وقالت المعتزلة: يكون ما لا يشاء الله -جلت قدرته وعظمته- وهو كفر الكافر، معاندة لإجماع الأمة. وقد حملت المعتزلة في قولها على أنه ليس لله تعالى ذكره على إبليس مزية؛ لأن إبليس شاء أن لا يؤمن أحد، فآمن المؤمنون، فكان خلاف ما شاء، لا فرق بينهما على قولهم، تعالى ربنا عما قالت المعتزلة علوًا كبيرًا، بل كل عن مشيئة كان، يفعل ما يشاء، يوفق من يشاء فيؤمن، ويخذل من يشاء فيكفر لا معقب لحكمه ولاراد لمشيئته، خلق من يشاء للسعادة فوفقه لعلمها، وخلق من يشاء للشقاء وخذله عن العمل بغير عمل أهل الشقاء، كل ميسر لما خلق له هذا هو الصراط المستقيم. أعاذنا الله من الزيغ عن الحق.
وقال مكي في تفسير قوله تعالى: {سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا}:
والمعنى: سيقول المشركون من قريش وغيرهم الذين تقدم ذكرهم إذا تبين لهم أنهم على باطل، قالوا: لو شاء الله ما فعلنا ذلك.
ثم أخبرنا الله أن قولهم هذا قال به من كان قبلهم حتى نزلت فيهم العقوبة وهو قوله: {كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ حَتَّى ذَاقُوا بَأْسَنَا}: أي نزلت بهم عقوبة فعلهم.
وقد تعلقت المعتزلة بهذه الآية، فقالوا: إن الله لم يشأ شرك المشركين لأن الله لم يذكر هذه الآية إلا على جهة الذم لهم في قولهم: إن الله لو شاء ما أشركوا، فأضافوا ما هم عليه من الشرك أنه عن مشيئته كان. ولو أن قولهم صحيح ما ذمهم عليه.
قالوا: فدل ذلك على أن الله تبارك وتعالى لم يشأ شرك المشرك. وفي قوله تعالى -بعد هذه الآية-.
{فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا} ما يدل على بطلان ذلك، بل الله المقدر لكل أمر من شرك وغيره.
ومعنى {لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا} و {آبَاؤُنَا} أي لو شاء لأرسل إلى آبائنا رسولًا يردهم عن الشرك فيتبعوه على ذلك.
وقيل: إنما قالوا هذا على جهة الهزء واللعب والاستخفاف، ولو قالوه على يقين وحق لما رد عليهم ذلك.
وتلاحظ على هذين النصين:
- نقله لقول المعتزلة بعدم إرادة الله كفر الكافر.
- كثرة النصوص القرآنية التي يستشهد بها لإثبات المشيئة الإلهية وتفسيرها بقوله: أراد الله جميع ما كان ويكون، وأن جميع الحوادث كانت عن إرادته ومشيئته، وإنه لو شاء لأحدثها على خلاف ما حدثت فيجعل الناس كلهم مؤمنين، ثم يبين انحراف المعتزلة في فهمها.
ويستدل عليهم بعد ذلك بإجماع الأمة على قولها: "ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن" ومخالفتهم لهذا الإجماع.
ثم يستدل من لازم كلامهم على أنهم لم يجعلوا لله -جل ذكره- على إبليس مزية؛ لأن إبليس شاء أن لا يؤمن أحد فآمن المؤمنون، فكان خلاف ما شاء، فلا فرق بينهما.
وفي النص ينقل استدلالهم بالآية أيضًا، ويرد  قولهم بالآية التي بعدها التي تظهر فساد تفسيرهم، وهي قوله: {فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا} ثم يشرح الآية على وجهها الصحيح الذي يراه قائلًا: ومعنى {لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلَا آبَاؤُنَا}: أي لو شاء لأرسل إلى آبائنا رسولًا يردهم عن الشرك فيتبعوه على ذلك.
وقيل: إنما قالوا هذا، على جهة الهزء واللعب والاستخفاف، ولو قالوه على يقين وحق لما رد عليهم ذلك.
ومن كل ما تقدم يتبين استحضاره للنصوص التي تؤيد ما ذهب إليه وتنقض ما فهمه المعتزلة، وتخطئته لهم في الفهم بقطع الآيات عن سياقها ثم شرح هذه النصوص على الوجه الذي يتناسب مع السياق والآيات الأخرى).
وقال تحت عنوان: خلق القرآن: وقال في قوله تعالى: {مَا جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلَا سَائِبَةٍ}:
(أي: ما حرم الله ذلك، وقيل المعنى: ما بحر الله بحيرة، ولا وصل وصيلة ولا سيب سائبة، ولا حمى حاميًا، ولكن الكافرين اخترقوا ذلك.
وقد تعلق قوم من الجهلة القائلين بخلق القرآن بقوله: {إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا} إنه بمعنى فعلناه، أي: خلقناه.
وهذه الآية تظهر جهلهم، وهي قوله: {مَا جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ} فإن كان "جعلنا" بمعنى "خلقنا"، فقد نفى عن نفسه -هنا- الجعل، فمن خلقهم؟ آثم خالق غير الله؟ .
ويدل على فساد قولهم قوله تعالى: {وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ} فإن كان "جعل" بمعنى "خلق". فلم يكن القوم إذًا موجودين، وقد أخبر عنهم أنهم استضعفوا في الأرض.
وقال: {إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا} فيجب على قولهم أن يكون إبراهيم غير مخلوق في ذلك الوقت.
وقال: {وَيَجْعَلَ الْخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلَى بَعْضٍ فَيَرْكُمَهُ جَمِيعًا فَيَجْعَلَهُ فِي جَهَنَّمَ} فواجب على قولهم أن يكون قد ميز الخبيث من الطيب، وهو غير موجود.
وقال: {وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ الْبَنَاتِ}: -حكاية عن الكفار- أتراهم أيه الجهلة والقدرية خلقوهم، إنما سموهم.
ويلزمهم أن يكون القرآن خلق مرتين، لقوله: {الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ}، وقوله: {جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا} وهذا أكثر من أن يحصى والجعل: يكون بمعنى "التصيير" و"الوصف" و "التسمية"، وقد يكون بمعنى الخلق بدلالة تدل عليه، نحو قوله تعالى: {وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا} أي "وخلق". لكن إذا كانت (جعل) بمعنى (خلق) لم يتعد إلا إلى مفعول واحد.
وقال مكي في تفسير سورة "الزخرف":
حم الزخرف: مكية.
قوله تعالى: {حم (1) وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ (2) إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (3) وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتَابِ لَدَينَا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ (4) أَفَنَضْرِبُ عَنْكُمُ الذِّكْرَ صَفْحًا أَنْ كُنْتُمْ قَوْمًا مُسْرِفِينَ (5) وَكَمْ أَرْسَلْنَا مِنْ نَبِيٍّ فِي الْأَوَّلِينَ (6) وَمَا يَأْتِيهِمْ مِنْ نَبِيٍّ إلا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (7) فَأَهْلَكْنَا أَشَدَّ مِنْهُمْ بَطْشًا وَمَضَى مَثَلُ الْأَوَّلِينَ}. قد تقدم ذكر حم.
وقوله والكتاب المبين: قسم، أي: المبين لمن  تدبره، وفكر في عبره وعظاته ثم قال تعالى:
{إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا}: أي أنزلناه بلسان العرب، إذ كنتم أيها المنذرون به من العرب، وجعلناه -هنا-: يتعدى إلى مفعولين، فالهاء: الأول، وقرآنا: الثاني.
وهذا مما يدل على نقض قول أهل البدع أنه بمعنى "خلفنا" إذ لو كان المعنى "خلقنا" لم يتعد إلا إلى مفعول واحد.
ومثله قوله تعالى: {الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ}، فلو كان معنى "خلق" لصار المعنى: أنهم خلقوا القرآن، وهذا محال، ولم يلقهم في هذا الخطأ العظيم.
وجهل الظاهر إلا قلة علمهم بتصاريف اللغة وضعفهم في معرفة الإعراب. ونلاحظ على هذين النصين اللذين يرد فيهما على المعتزلة قولهم بخلق القرآن: أن ادعاءهم أن "جعل" بمعنى خلق دائمًا يوقعهم في محالات كثيرة لا يقولون بها، ومن ثم لا بد لهم من أن يسلموا أن تلك الآيات التي ذكرها مكي لا يمكن أن تكون فيها "جعل" بمعنى خلق وإنما هي بمعنى "صير".
ثم يبين لهم أن "جعل" قد تأتي بمعنى "خلق" ويضع ضابطًا نحويًّا للتفريق بين "جعل" بمعنى: خلق، وجعل بمعنى: صير، قائلًا:
وقد يكون "الجعل" بمعنى "الخلق، بدلالة تدل عليه، نحو قوله تعالى: {وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا}. ثم يقول:
لكن إذا كانت "جعل" بمعنى: "خلق" لم يتعد إلا إلى مفعول واحد.
قول مكي عند قوله تعالى: {إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا}.
"وجعلناه" -هنا- يتعدى إلى مفعولين، فالهاء: الأول. وقرآنًا: الثاني.
ثم يقول: وهذا مما يدل على نقض قول أهل البدع أنه بمعنى: "خلقناه" إذ لو كان بمعنى خلقنا، لم يتعد إلا إلى مفعول واحد. ثم يقول: .. ولم يلقهم -أي المعتزلة- في هذا الخطأ العظيم والجهل الظاهر إلا قلة علمهم بتصاريف اللغة وضعفهم في معرفة الإعراب.
ومما تقدم يتبين لنا استنتاجه الضوابط النحوية التي تفرق بين المعاني المختلفة للكلمة الواحدة. وصحة تطبيقها. والحجج القوية التي يرد بها على المعتزلة.
- رؤية الله يوم القيامة:
قال مكي في تفسير قوله تعالى: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ (22) إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ}.
قال تعالى: جل ذكره-: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ}.
أي: حسنة ناعمة جميلة من السرور والغبطة.
هذا قول جميع أهل التفسير ثم قال تعالى: {إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} أي: تنظر إلى ربها.
قال عكرمة: تنظر إلى ربها نظرًا.
قال الحسن: وجوه يومئذ ناضرة، أي: حسنة: إلى ربها ناظرة، قال: تنظر إلى الخالق وحق لها أن تنضر وهي تنظر إلى الخالق.
وقال عطية العوفي: هي تنظر إلى الله -جل ذكره- لا تحيط أبصارهم به من عظمته، ويحيط بهم، لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار.
وقال بعض أهل البدع: إنه بمعنى: منتظرة إلى ثواب ربها، وهذا خطأ في العربية، قال: لا يقال:
نظرت إليه: بمعنى: انتظرته وإنما يقال: نظرته بمعنى انتظرته، وأيضًا فإنه لا يجوز انتظرت زيدًا بمعنى: عطاءه أو غلامه، أو ثوابه، أو نحوه؛ لأن فيه تغيير المعاني وإبطال الخطاب، وأيضًا فإن النظر إنما يضاف إلى الوجه، والانتظار إنما يضاف إلى القلوب، فلا يجوز أن يقال: وجه منتظر لك، فلما أتى النص بإضافة النظر إلى الوجوه، لم يجز أن يتأول فيه معنى الانتظار.
ولو قال: قلوب يومئذ ناضرة إلى ربها ناظرة، لحسن كونها بمعنى الانتظار لإضافته إلى القلوب.
قال الحسن في الآية: نظرت إلى الله فنضرت من نوره، أي: نعمت.
وقد روى عبادة بن الصامت أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال:
"إني حدثتكم عن المسيح الدجال، أنه قصير أفحج، أعور مطموس العين اليسرى، ليست بناتئة ولا حجزاء، فإن التبس عليكم، فاعلموا أن ربكم -جل وعز- ليس بأعور، وأنكم لن تروا ربكم -جل ذكره- حتى تموتوا" (1).
وقد استدل من أنكر النظر بإضافة النظر إلى الوجه، قال: والعين لا تسمى وجهًا، وقد أضاف النظر إلى الوجه.
وهذا غلط ظاهر؛ لأن العرب من لغتها أن تسمي الشيء بالشيء إذا قرب منه وجاوره، وقد قال الله تعالى: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاعِمَةٌ (8) لِسَعْيِهَا رَاضِيَةٌ} والسعي للأقدام. وقد أضاف السعي للوجه، وهو أبعد من الأقدام من العين إلى الوجه.
فإذا جاز أن يضاف سعي الأبدان والأقدام إلى الوجه لالتباس الوجوه بها، كان إضافة النظر إلى الوجوه يراد به العين أجوز وأحسن؛ لأن العين في الوجه، وهي من جملة الوجه. وهذا سائغ جائز في اللغة وفي كثير من القرآن.
وأما أحاديث تصحيح النظر إلى الله -جل ذكره- في الآخرة فكثيرة أشهر من أن نذكرها هنا. ويدل على تصحيح جواز ذلك من القرآن والنظر قوله تعالى حكاية عن موسى عليه السلام: قال: {رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيكَ} وفي سؤاله النظر دليل على جوازه؛ لأن موسى لا يمكن أن يسأل ما لا يجوز وما يستحيل فأعلمه الله أنه لا يراه في الدنيا أحد.
فأما قوله تعالى: لا تدركه الأبصار فمعناه: لا تحيط به، ومن قال: إن معناه: لا تراه، فقد غلط، لأنه يلزم أن يكون معنى "حتى إذا أدركه الغرق:
إذا رآه" وذلك محال. إنما معناه: إذا أحاط به.
وكذلك يلزمه أن يكون معنى {إِنَّا لَمُدْرَكُونَ}: انا "لمرئيون" ولم يخافوا أن يراهم قوم فرعون إنما خافوا أن يحيطوا بهم، فالمعنى: إنا لمحاط بنا.
وكذلك يلزمهم أن يكون معنى: {لَا تَخَافُ دَرَكًا}. لا تخاف رؤية. وهذا محال، لم يؤمنه الله من رؤية آل فرعون، إنما أمنه من إحاطتهم به وبمن معه واستعلائهم عليهم.
فالمعنى في الآية: لا تحيط به الأبصار في الدنيا ولا في الآخرة.
ومعنى: لن تراني، أي لن تراني في الدنيا، فالإحاطة، منفية. . والرؤية له في الآخرة غير منفية.
كما أن قوله: ولا يحيطون بشيء من علمه إلا بما شاء، لا يكون نفيا عن أن يعلموه. فكما كانت الإحاطة لا تدل على نفي العلم، كذلك نفي الإدراك لا يدل على نفي الرؤية، وكما جاز أن يعلم الخلق أشياء ولا يحيطون به علما، كذلك جاز أن يروا ربهم ولا تحيط به أبصارهم.
فمعنى الرؤية غير معنى الإدراك، فلذلك لا يجوز أن يكون معنى: {لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ}: لا تراه.
وقيل: معنى: لا تدركه الأبصار في الدنيا، على أن يكون "تدركه" بمعنى تراه، وتدركه في الآخرة، أي تراه بدلالة قوله: {إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} وبدلالة قوله: {كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ}.
وهذا من أدل ما يكون من النص على جواز الرؤية، لأن المؤمنين لا بد أن يكونوا في الآخرة إما محجوبين أو غير محجوبين، فلا فرق بينهم وبين الكفار الذين حكى الله عنهم أنهم محجوبون في الآخرة، ولا فائدة في إعلام الله لنا أن الكفار محجوبون عنه إذ الكل محجوبون فلا بد أن يكون المؤمنون غير محجوبين عن رؤيته بخلاف حال الكفار.
وقيل معنى: {لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ}، أي: بالنهاية والإحاطة فأما الرؤية: فنعم.
وقيل معنى: {لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ} كإدراك خلقه، لأن أبصارهم ضعيفة.
وقيل معنى: لا تدركه الأبصار في الدنيا ولا في الآخرة، أي أبصار الخلق التي خلقها الله فيهم، لا يرونه بها، ولكن يحدث لهم تعالى في الآخرة حاسة يرونه بها، وهذه دعوى لا دليل يصحبها من أثر ولا نظر، والله قادر على كل شيء.
وقد روى جماعة من الصحابة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: إنكم ترون ربكم يوم القيامة، كما ترون هذا، يعني: القمر، لا تضامون في رؤيته، وفي بعض الروايات: لا تضارون في رؤيته. وفي بعضها: كما ترون الشمس في غير سحاب. وفي بعضها: كما ترون الشمس نصف النهار، وليس في السماء سحابة، وفي بعضها: كما ترون القمر ليلة البدر وليس في السماء سحابة (1).
وقد ذكر النحاس في "تضارون" و"تضامون" واختلاف ألفاظهما ومعانيهما ثمانية أوجه:
تضارون وتضامون -مضموم الأول مخففا- قال ويجوز في تضارون وتضامون -مضموم الأول مشددا-، قال: ويجوز "تضامون" -مفتوح الأول مشددا- إذ أصله "تتضامون" ثم حذفت إحدى التاءين كتفرقوا، وتساءلون. قال: ويجوز تضامون- مفتوح الأول مشدد الضاد والميم على أن تدغم التاء الثانية في الضاد، كما قال، تظاهرون.
وكذلك يجوز تضامون وتضارون على ذلك التقدير في الحذف والإدغام والرواية فيهما بالتخفيف. ومعناه: لا ينالكم عند ربكم ضرر ولا ضيم، ومن رواه مشددا مضموم الأول فمعناه: لا يضار بعضكم بعضًا في الرؤية ولا يضام بعضكم بعضًا كما تفعلون في رؤية الهلال في الدنيا إذا ازدحمتم لرؤيته.
ومن تفسير مكي لهذا النص نرى:
- ذكره للأقوال المتعددة في نفسيره حسب الظاهر.
- ذكره لقول المعتزلة بتأويل النص إلى معنى "الانتظار" بدلا من النظر.
- تخطئته للمعتزلة فيما ذهبوا إليه، لأنه -لو كان من الانتظار لعدى بـ "إلى" وكونه لم يعد بـ "إلى" يدل على أنه من "النظر".
وأيضًا فإن "النظر" إنما يضاف إلى الوجوه، والانتظار إنما يضاف إلى القلوب.
ثم يستدل بحديث عبادة على الرؤية بعد الموت.
ثم ينقل حجة من أنكر النظر بإضافة النظر إلى الوجه.
ثم رد عليه بقوله: وهذا غلط ظاهر، لأن العرب من لغتها أن تسمي الشيء بالشيء إذا قرب منه وجاوره، ويستدل مكي على صحة هذا الكلام بقوله: وقد قال الله تعالى: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاعِمَةٌ (8) لِسَعْيِهَا رَاضِيَةٌ (9)}. ويعلق مكي على الآية قائلًا:
والسعي للأقدام، وقد أضاف السعي للوجه، وهو أبعد من الأقدام، من العين إلى الوجه.
ثم يقول: فإذا جاز أن يضاف سعي الأبدان والأقدام إلى الوجه لالتباس الوجوه بها، كان إضافة "النظر" إلى الوجوه يراد به العين أجوز وأحسن، لأن العين في الوجه، وهي من جملة "الوجه" وهذا سائغ جائز في اللغة وفي كثير من القرآن.
ثم ينتقل إلى تصحيح جواز رؤية الله تعالى يوم القيامة بالقرآن والنظر، ويذكر طلب موسى رؤية ربه وأنه لو لم يكن ممكنًا ما طبه، لأن موسى لا يمكن أن يسأل ما لا يجوز، فأعلمه الله أنه لا يراه في الدنيا أحد.
ثم ينتقل إلى الآية التي يستشهد بها المعتزلة على عدم الرؤية {لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ} وينفي أن يكون "الإدراك -هنا- بمعنى: النظر بل هو بمعنى "الإحاطة"، ويستدل لذلك بقوله تعالى: {حَتَّى إِذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ}، أي: أحاط به، وكذلك قوله: {إِنَّا لَمُدْرَكُونَ} أي: محاط بنا.
ثم يقول: فمعنى الرؤية غير معنى الإدراك.
ثم يقول: لو سلمنا أنه بمعنى الرؤية، لكان ذلك للرؤية في الدنيا فقط بدليل قوله في الكافرين: {كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ} معنى ذلك أن المؤمنين غير محجوبين. ثم يستشهد بالأحاديث الصحيحة التي تبين إمكانية الرؤية وأنها جاءت بروايات متعددة تؤكد هذا المعنى.
ومن كل ما تقدم تظهر لنا قوة مكي في النظر والاحتجاج، ودقته في الفهم، والاستنباط، واعتداده بالعربية وتعمقه في إدراك لطائفها وأسرارها، واستخدامه ذلك كله في النظر السليم الذي يؤدي إلى الفهم الدقيق والتفسير الصحيح) أ. هـ.
قلت: وبعد أن ذكر ما قاله الدكتور فرحات، نختم البحث بقول شيخ الإسلام ابن تيمية، قال شيخ الإسلام في مجموع الفتاوى عند كلامه حول نزول الله سبحانه وتعالى وقوله: {لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَار}: (وقد قال تعالى: {لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَار} قال ابن أبي حَاتِم في "تفسيره": حدثنا أبو زرعة، ثنا منجاب بن الحارث، ثنا بشر بن عمارة عن أبي روق، عن عطية العوفي، عن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه -، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في قوله سبحانه وتعالى: {وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَار} قال: "لو أن الجن والإنس، والشياطين والملائكة، منذ خلقوا إلى أن فنوا صفّوا صفًّا واحدا ما أحاطوا بالله أبدا"- فمن هذه عظمته، كيف يحصره مخلوق من المخلوقات، سماء أو غير سماء! ؟ حتى يفال: إنه إذا أنزل إلى السماء الدنيا صار العرش فوقه. أو يصير شيء من المخلوقات يحصره ويحيط به سبحانه وتعالى.
فإذا قال القائل: هو قادر على ما يشاء؟ قيل: فقل: هو قادر على أن ينزل سبحانه وتعالى وهو فوق عرشه، وإذا استدللت بمطلق القدرة والعظمة من غير تمييز، فما كان أبلغ في القدرة والعظمة، فهو أولى بأن يوصف به مما ليس كذلك؛ فإن من توهم العظيم الذي لا أعظم منه يقدر على أن يصغر حتى يحيط به مخلوقه الصغير، وجعل هذا من باب القدرة والعظمة، فقوله: إنه ينزل مع بقاء عظمته وعلوه على العرش، أبلغ في القدرة والعظمة، وهو الذي فيه موافقة الشرع والعقل.
وهذا كما قد يقوله طائفة "منهم أبو طالب المكي، قال: إن شاء وسعه أدنى شيء، وإن شاء لم يسعه شيء وإن أراد عرفه كل شيء، وإن لم يرد لم يعرفه شيء، إن أحب وجد عند كل شيء، وإن لم يحب لم يوجد عند شيء، وقد جاوز الحد والمعيار، وسبق القيل والأقدار. ذو صفات لا تحصى، وقدر لا يتناهى، ليس محبوسًا في سورة، ولا موقوفًا بصفة، ولا محكومًا عليه بكلم، ولا يتجلى بوصف مرتين، ولا يظهر في صورة لاثنين، ولا يرد منه بمعنى واحد كلمتان، بل لكل تجل منه صورة، ولكل عبد عند ظهوره صفة، وعن كل نظرة كلام، وبكل كلمة إفهام، ولا نهاية لتجليه، ولا غاية لأوصافه.
قلت -أي شيخ الإسلام-: أبو طالب رحمه الله هو وأصحابه (السالمية) -أتباع الشيخ أبي الحسن بن سالم صاحب سهل بن عبد الله التستري- لهم من المعرفة والعبادة والزهد واتباع السنة والجماعة في عامة المسائل المشهورة لأهل السنة ما هم معروفون به، وهم منتسبون إلى إمامين عظيمين في السنة: الإمام أحمد بن حنبل، وسهل بن عبد الله التستري، ومنهم من تفقه على مذهب مالك بن أنس كبيت الشيخ أبي محمد وغيرهم، وفيهم من هو على مذهب الشافعي.

فالذين ينتسبون إليهم، أو يعظمونهم، ويقصدون متابعتهم أئمة هدى رضوان الله عليهم أجمعين، وهم في ذلك كأمثالهم من أهل السنة والجماعة.
وقل طائفة من المتأخرين إلا وقع في كلامها نوع غلط لكثرة ما وقع من شبه أهل البدع، ولهذا يوجد في كثير من المصنفات في أصول الفقه، وأصول الدين، والفقه، والزهد، والتفسير، والحديث، من يذكر في الأصل العظيم عدة أقوال، ويحكي من مقالات الناس ألوانًا، والقول الذي بعث الله به رسوله لا يذكره، لعدم علمه به، لا لكراهته لما عليه الرسول.
وهؤلاء وقع في كلامهم أشياء أنكروا بعض ما وقع من كلام أبي طالب في الصفات -من نحو الحلول وغيره- أنكرها عليهم أئمة العلم والدين ونسبوهم إلى الحلول من أجلها؛ ولهذا تكلم أبو القاسم بن عساكر في أبي علي الأهوازي لما صنف هذا مثالب أبي الحسن الأشعري، وهذا مناقبه، وكان أبو علي الأهوازي من السالمية فنسبهم طائفة إلى الحلول. والقاضي أبو يعلى له كتاب صنفه في الرد على السالمية.
وهم فيما ينازعهم المنازعون فيه -كالقاضي أبي يعلى وغيره، وكأصحاب الأشعري، وغيرهم من ينازعهم- من جنس تنازع الناس، تارة يرد عليهم حق وباطل؛ وتارة يرد عليهم حق من حقهم، وتارة يرد باطل بباطل، وتارة يرد باطل محق.
وكذلك ذكر الخطيب البغدادي في "تاريخه" أن جماعة من العلماء أنكروا بعض ما وقع في كلام أبي طالب في الصفات. وما وقع في كلام أبي طالب من الحلول سرى بعضه إلى غيره من الشيوخ الذين أخذوا عنه كابي الحكم بن برجان ونحوه.
وأما أبو إسماعيل الأنصاري صاحب "منازل السائرين" فليس في كلامه شيء من الحلول العام لكن في كلامه شيء من الحلول الخاص في حق العبد العارف الواصل إلى ما سماه هو: "مقام التوحيد" وقد باح منه بما لم يبح به أبو طالب، لكن كنى عنه.
وأما "الحلول العام" ففي كلام أبي طالب قطعة كبيرة منه؛ مع تبريه من لفظ الحلول، فإنه ذكر كلاما كثيرًا حسنًا في التوحيد كقوله: عالم لا يجهل، قادر لا يعجز، حي لا يموت، قيوم لا يغفل، حليم لا يسفه، سميع بصير، ملك لا يزول ملكه، قديم بغير وقت، آخر بغير حد، كائن لم يزل، إلى أن قال: كأنه أمام كل شيء، ووراء كل شيء وفوق كل شيء، ومع كل شيء، ويسمع كل شيء، وأقرب إلى كل شيء من ذلك الشيء، لأنه مع ذلك غير محل للأشياء، لان الأشياء ليست محلا له، كأنه على العرش استوى كيف شاء بلا تكييف ولا تشبيه، وإنه بكل شيء عليم، وعلى كل شيء قدير، وبكل شيء محيط.
وذكر كلاما آخر يتعلق بالمخلوقات وإحاطة بعضها ببعض بحسب ما رآه، ثم قال: والله جل جلاله وعظم شأنه هو ذات منفرد بنفسه. متوحد بأوصافه، بائن من جميع خلقه، لا يحل الأجسام ولا تحله الأعراض، ليس في ذاته سواه، ولا في سواه من ذاته شيء، ليس في الخلق إلا الخلق ولا  في الذات إلا الخالق.
قلت: وهذا ينفي الحلول كما نفاه أولًا) أ. هـ.
وفاته: سنة (437 هـ) سبع وثلاثين وأربعمائة.
من مصنفاته: "مشكل إعراب القرآن"، و"الموجز" في القراءات، و"شرح كلا وبلا ونعم" وغيرها كثير.






مصادر و المراجع :

١- الموسوعة الميسرة في تراجم أئمة التفسير والإقراء والنحو واللغة «من القرن الأول إلى المعاصرين مع دراسة لعقائدهم وشيء من طرائفهم»

تعليقات (0)

الأكثر قراءة

ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلا … ويأتيك بالأخبار من لم تزوّد
المزید
فصبرا في مجال الموت صبرا … فما نيل الخلود بمستطاع
المزید
حننت إلى ريّا ونفسك باعدت … مزارك من ريّا وشعباكما معا
المزید
أفاطم مهلا بعض هذا التدلل … وإن كنت قد أزمعت صرمي فأجملي
المزید
إنّ أباها وأبا أباها … قد بلغا في المجد غايتاها
المزید