المنشورات

أبو حنيفة النعمان

النعمان (1) بن ثابت بن زَوْطي، أبو حنيفة الكوفي، مولى بني تميم الله بن ثعلبة.
ولد: سنة (80 هـ) ثمانين للهجرة.
من مشايخه: عطاء بن أبي رباح، وعطية العوفي، ونافع وغيرهم.
من تلامذته: أبو يوسف، وسفيان الثوري، وزائدة، وشَريك وخلق كثير.
كلام العلماء فيه:
• التاريخ الكبير للبخاري: "كان مرجئًا، سكتوا عنه، وعن رأيه، وعن حديثه" أ. هـ.
• الجرح والتعديل: "نا عبد الرحمن أنا إبراهيم بن يعقوب الجوزجاني، فيما كتب إليّ عن أبي عبد الرحمن المقرئ قال: كان أبو حنيفة يحدثنا فإذا فرغ من الحديث قال: هذا الذي سمعتم كله ريح وباطل .. ".
وقال: " ... ذُكر أبو حنيفة عند أحمد بن حنبل فقال: رأيه مذموم، وبدنه لا يذكر -حدثنا عبد الرحمن ثنا حجاج بن حمزة قال نا عبدان بن عثمان قال سمعت ابن المبارك يقول: كان أبو حنيفة مسكينًا في الحديث " أ. هـ.
• الكامل لابن عدي: "وأبو حنيفة له أحاديث صالحة، وعامة ما يرويه غلط وتصاحيف، وزيادات في أسانيدها، ومتونها، وتصاحيف في الرجال، وكافة ما يرويه كذلك، لم يصح له في جميع ما يرويه إلا بضعة عشر حديثًا، وقد روى من الحديث لعله أرجح من ثلاثمائة حديث من مشاهير وغرائب، وكله على هذه الصورة، لأنه ليس هو من أهل الحديث، ولا يحمل علمًا من تكون هذه صورته في الحديث" أ. هـ.
• تاريخ بغداد: "إمام أصحاب الرأي، وفقيه أهل العراق، ورأى أنس بن مالك - رضي الله عنه -" أ. هـ.
قلت: وسوف نذكر بعد قليل ما قاله الخطيب في أمر عقيدة الإمام أبي حنيفة وفي ذلك تفصيل ... والله تعالى الموفق.
• السير: "الإمام، فقيه الملة، عالم العراق". ثم قال: "قال محمّد بن سعد العَوْفي: سمعت يحيى بن معين يقول: كان أبو حنيفة ثقة لا يُحدث بالحديث إلا بما يحفظه، ولا يحدث بما لا يحفظ.
وقال صالح بن محمد: سمعت يحيى بن معين يقول: كان أبو حنيفة ثقة في الحديث، وروى أحمد بن محمّد بن القاسم بن محرز، عن ابن معين: كان أبو حنيفة لا بأس به، وقال مرة: هو عندنا من أهل الصدق، ولم يتهم بالكذب. ولقد ضربه ابن هبيرة على القضاء، فأبى أن يكون قاضيًا.
أخبرنا ابن علان كتابة، أنبأنا الكندي، أنبأنا القزاز، أنبأنا الخطيب، أنبأنا الخلال، أنبأنا علي بن عمرو الحريري، حدثنا علي بن محمّد بن كاسٍ النخعي، حدثنا محمّد بن محمود الصيدناني، حدثنا محمّد بن شجاع بن الثلجي، حدثنا الحسن بن أبي مالك، عن أبي يوسف قال: قال أبو حنيفة: لما أردت طلب العلم، جعلت أتخيَّر العلوم وأسأل عن عواقبها. فقيل: تعلم القرآن. فقلت: إذا حفظته فما يكون آخره؟ قالوا: تجلس في المسجد فيقرأ عليك الصبيان والأحداث، ثم لا يلبث أن يخرج فيهم من هو أحفظ منك أو مساويك، فتذهب رئاستك.
قلت: من طلب العلم للرئاسة قد يفكر في هذا، وإلا فقد ثبت قول المصطفى صلوات الله عليه (أفضلكم من تعلم القرآن وعلمه) (1)، يا سبحان الله! وهل محل أفضل من المسجد؟ وهل نشر لعلم يُقارب تعليم القرآن؟ كلا والله. وهل طلبة خير من الصبيان الذين لم يعملوا الذنوب؟ وأحسب هذه الحكاية موضوعة .. ففي إسنادها من ليس بثقة.
تتمة الحكاية: قال: قلت: فإن سمعت الحديث وكتبته حتى لم يكن في الدنيا أحفظ مني؟ قالوا: إذا كبرت وضعفت، حدثت واجتمع عليك هؤلاء الأحداث والصبيان. ثم لم تأمن أن تغلط، فيرموك بالكذب، فيصير عارًا عليك في عقبك. فقلت: لا حاجة لي في هذا.
قلت: الآن كما جزمت بأنها حكاية مختلقة، فإن الإمام أبا حنيفة طلب الحديث وأكثر منه في سنة مئة وبعدها ولم يكن إذ ذاك يسمع الحديث الصبيان، هذا اصطلاح وجد بعد ثلاث مئة سنة، بل كان يطلبه كبار العلماء، بل لم يكن للفقهاء علم بعد القرآن سواه ولا كانت قد دونت كتب الفقه أصلًا.
ثم قال: قلت: أتعلم النحو. فقلت: إذا حفظت النحو والعربية، ما يكون آخر أمري؟ قالوا: تقعد معلمًا فأكثر رزقك ديناران إلى ثلاثة. قلت: وهذا لا عاقبة له. قلت: فإن نظرت في الشعر فلم يكن أحد أشعر مني؟ قالوا: تمدح هذا فيهب لك، أو يخلع عليك، وإن حرمك هجوته. قلت: لا حاجة فيه.
قلت: فإن نظرت في الكلام، ما يكون آخر أمره؟ قالوا: لا يسلم من نظر في الكلام من مشنعات الكلام، فيُرمى بالزندقة، فيُقتل، أو يسلم مذمومًا.
قلت: قاتل الله من وضع هذه الخرافة، وهل كان في ذلك الوقت وجد علم الكلام؟ ! .
قال: قلت: فإن تعلمت الفقه؟ قالوا: تُسأل وتُفتي الناس، وتُطلب للقضاء، وإن كنت شابًّا. قلت: ليس في العلوم شيء أنفع من هذا، فلزمت الفقه وتعلمته (2). وبه إلى ابن كاس، حدثني جعفر بن محمّد بن خازم، حدثنا الوليد بن حماد، عن الحسن بن زياد، عن زفر بن الهذيل، سمعت أبا حنيفة يقول: كنت أنظر في الكلام حتى بلغت فيه مبلغًا يشار إلي فيه بالأصابع، وكنا نجلس بالقرب من حلقة حماد بن أبي سليمان، فجاءتني امرأة يومًا فقالت لي: رجل له امرأة أمة، أراد أن يطلقها للسنة، كم يطلقها؟ فلم أدر ما أقول. فأمرتها أن تسأل حمادًا، ثم ترجع تخبرني. فسألته، فقال: يطلقها وهي طاهر من الحيض والجماع تطليقة، ثم يتركها حتى تحيض حيضتين، فإذا اغتسلت فقد حلت للأزواج. فرجعت، فأخبرتني، فقلت: لا حاجة لي في الكلام، وأخذت نعلي فجلست إلى حماد، فكنت أسمع مسائله، فأحفظ قوله، ثم يعيدها من الغد فأحفظها، ويخطئ أصحابه. فقال: لا يجلس في صدر الحلقة بحذائي غير أبي حنيفة. فصحبته عشر سنين. ثم نازعتني نفسي الطلب للرئاسة، فأحببت أن أعتزله وأجلس في حلقة لنفسي. فخرجت يومًا بالعشي، وعزمي أن أفعل، فلما رأيته لم تطب نفسي أن أعتزله. فجاءه تلك الليلة نَعْي قرابة له قد مات بالبصرة، وترك مالًا، وليس له وارث غيره. فأمرني أن أجلس مكانه، فما هو إلا أن خرج حتى وردت علي مسائل لم أسمعها منه، فكنت أجيب وأكتب جوابي، فغاب شهرين ثم قدم، فعرضت عليه المسائل، وكانت نحوًا من ستين مسألة، فوافقني في أربعين، وخالفني في عشرين فآليت على نفسي ألا أفارقه حتى يموت.
وهذه أيضًا الله أعلم بصحتها، وما علمنا أن الكلام في ذلك الوقت كان له وجود، والله أعلم".
ثم قال: "وعن حماد بن أبي حنيفة قال: كان أبي جميلًا، تعلوه سمرة، حسن الهيئة، كثير التعطر، هيوبًا، لا يتكلم إلا جوابًا، ولا يخوض -رحمه الله- فيما لا يعنيه.
وعن ابن المبارك. قال: ما رأيت رجلًا أوقر في مجلسه، ولا أحسن سمتًا وحلمًا من أبي حنيفة".
وقال: "وقد روي من غير وجه أن الإمام أبا حنيفة ضرب غير مرة، على أن يلي القضاء فلم يجب.
قال يزيد بن هارون: ما رأيت أحدًا أحلم من أبي حنيفة.
وعن الحسن بن زياد اللؤلؤي قال: قال أبو حنيفة: إذا ارتشى القاضي، فهو معزول، وإن لم يُعزل. وروى نوح الجامع، عن أبي حيفة أنه قال: ما جاء عن الرسول - صلى الله عليه وسلم -، فعلى الرأس والعين، وما جاء عن الصحابة اخترنا، وما كان من غير ذلك، فهم رجال ونحن رجال.
قال وكيع: سمعت أبا حنيفة يقول: البولُ في المسجد أحسن من بعض القياس.
وقال أبو يوسف: قال أبو حنيفة: لا ينبغي للرجل أن يُحدث إلا بما يحفظُه من وقت ما سمعه.
وعن أبي معاوية الضرير قال: حُبُّ أبي حنيفة من السنة.
قال إسحاق بن إبراهيم الزهري، عن بشر بن الوليد قال: طلب المنصور أبا حنيفة فأراده على القضاء، وحلف ليلين فأبى، وحلف: إني لا أفعل. فقال الربيع الحاجب: ترى أمير المؤمنين يحلف، وأنت تحلف؟ قال: أمير المؤمنين على كفارة يمينه أقدَرُ مني، فأمر به إلى السجن، فمات فيه ببغداد.
وقال الفقيه أبو عبد الله الصيمري: لم يقبل العهد بالقضاء، فضرب وحبس، ومات في السجن، وروى حيان بن موسى المروزي، قال: سئل ابن المبارك: مالك أفقه، أو أبو حنيفة؟ قال: أبو حنيفة. وقال الخريبي: ما يقع في أبي حنيفة إلا حاسد أو جاهل.
وقال يحيى بن سعيد القطان: لا نكذب الله، ما سمعنا أحسن من رأي أبي حنيفة، وقد أخذنا بأكثر أقواله.
وقال علي بن عاصم: لو وزن علم الإمام أبي حنيفة بعلم أهل زمانه، لرجح عليهم.
وقال حفص بن غياث: كلام أبي حنيفة في الفقه، أدق من الشعر، لا يعيبه إلا جاهل.
وروي عن الأعمش أنه سئل عن مسألة، فقال: إنما يحسن هذا النعمان بن ثابت الخزاز، وأظنه بورك له في علمه.
وقال جرير: قال لي مغيرة، جالس أبا حنيفة تفقه، فإن إبراهيم النخعي لو كان حيًّا لجالسه.
وقال ابن المبارك: أبو حنيفة أفقه الناس.
وقال الشافعي: الناس في الفقه عيال على أبي حنيفة. قلت: الإمامة في الفقه ودقائقه مسلمة إلى هذا الإمام. وهذا أمر لا شك فيه.
وليس يصح في الأذهان شيء ... إذا احتاج النهار إلى دليل
وسيرته تحتمل أن تفرد في مجلدين - رضي الله عنه -، ورحمه.
توفي شهيدًا مسقيًا في سنة خمسين ومئة" أ. هـ.
• الجواهر المضية: "وقال أبو يوسف القاضي: ما رأيت أعلم بتفسير الحديث من أبي حنيفة.
وقال يونس بن عبد الأعلى: سمعت الشافعي يقول: ما طلب أحد الفقه إلا كان عيالًا على أبي حنيفة.
وقال الإمام مالك، وقد سئل عنه: رأيت رجلًا لو كلمك في هذه السارية أن يجعلها ذهبًا، لقام بحُجَّتِه.
وكان الإمام أحمد بن حنبل كثيرًا ما يذكره، ويترحم عليه، ويبكي في زمن محنته، ويتسلى بضرب أبي حنيفة على القضاء.
وقال ابن عبد البر في كتاب "الانتقاء في فضائل الأئمة الثلاثة الفقهاء، أبي حنيفة ومالك والشافعي": سئل يحيى بن معين، وعبد الله بن أحمد الدورقي يسمع عن أبي حنيفة؟ فقال يحيى بن معين: هو ثقة، ما سمعت أحدًا ضعفه، هذا شعبة بن الحجاج يكتب إليه أن يحدث، بأمره، وشعبةُ شعبةُ! !
قال: وكذا عليُّ بن المديني أثنى عليه.
وقال ابن عبد البر أيضًا في كتاب "بيان جامع العلم": وقيل ليحيى بن معين: يا أبا زكريا، أبو حنيفة كان يصْدُقُ في الحديث؟ فقال: نعم، صدوق.
قال: وقال شبابة بن سوار: كان شعبة حسن الرأي في أبي حنيفة.
قلت: وشعبة أول مَن تَكَلَّم في الرجال.
وقال يزيد بن هارون: أدركت ألف رجل، وكتبت عن أكثرهم، ما رأيت فيهم أفقه، ولا أورع، ولا أعلم، من خمسة؛ أولهم أبو حنيفة.
وقال أبو يوسف: كان أبو حنيفة، رحمه الله، يختم القرآن في كل ليلة، في ركعة. وفي رواية: ويكون ذلك وتره.
قال ابن عبد البر: وقال علي بن المديني: أبو حنيفة ثقة، لا بأس به.
قال ابن عبد البر: الذين روَوْا عن أبي حنيفة، ووثقوه، وأثنوا عليه، أكثر من الذين تكلموا فيه، والذين تكلموا فيه من أهل الحديث أكثر ما عابوا الإغراق في الرأي والقياس.
قال: وكان يقال: يستدل على نباهة الرجل من الماضين، بتباين الناس فيه.
قالوا: ألا ترى إلى علي بن أبي طالب، أنه هلك فيه فئتان، محب أفرط، ومبغض أفرط، وقد جاء في الحديث: (إنه يهلك فيه رجلان، مُحِبٌّ مُطْرٍ، ومُبْغِضٌ مفتر).
قال: وهذه صفة أهل النباهة، ومن بلغ في الفضل والدين الغاية.
قال ابن عبد البر: قال أبو داود السجستاني: إن أبا حنيفة كان إمامًا، وإن مالكًا كان إمامًا، وإن الشافعي كان إمامًا، وكلام الأئمة بعضهم في بعض يجب ألا يُلتفت إليه، ولا يعرج عليه، في من صحت إمامته وعظمت في العلم غايته.
ولقد أكثر ابن عبد البر في تصانيفه، ولا سيما في هذا الكتاب، النقل عن الأئمة بثنائهم على الإمام أبي حنيفة. وكذا غيره من الأئمة المعتبرين من أهل الحديث والفقه.
قال ابن عبد البر: أبو حنيفة أقْعد الناس بحماد بن أبي سليمان.
اعلم أن الإمام أبا حنيفة قد قُبِلَ قولُه في الجَرْح والتعديل، وتلقوه عنه علماء هذا الفن وعملوا به، كتلقيهم عن الإمام أحمد والبخاري وابن معين وابن المديني، وغيرهم من شيوخ الصنعة، وهذا يَدُلُّك على عظمته وشأنه، وسعة علمه وسيادته.
فمن ذلك ما رواه الترمذي في كتاب العلل من "الجامع الكبير": حدثنا محمود بن غيلان، عن وهب بن جرير، عن أبي يحيى الحِمَّاني: سمعت أبا حنيفة يقول: ما رأيت أكذب من جابر الجُعْفِيّ، ولا أفضل من عطاء بن أبي رباح.
وروينا في "المدخل لمعرفة دلائل النبوة" للبيهقي الحافظ، بسنده، عن عبد الحميد الحماني، سمعت أبا سعد الصنعاني، وقام إلى أبي حنيفة، فقال: يا أبا حنيفة، ما تقول في الأخذ عن الثوري؟ فقال: اكتب عنه، فإنه ثقة، ما خلا أحاديث أبي إسحاق عن الحارث، وحديث جابر الجُعْفِيّ.
وقال أبو حنيفة: طَلْقُ بن حبيب كان يرى القَدَر.
وقال أبو حنيفة: زيد بن عياش ضعيف.
وقال سُوَيد بن سعيد: عن سفيان بن عيينة، قال أول من أقعدني للحديث أبو حنيفة، قدمت الكوفة، فقال أبو حنيفة: إن هذا أعلم بحديث عمرو بن دينار. فاجتمعوا عليَّ فحدثثهم".
ثم قال: "وقال أبو حنيفة: لعن الله عمرو بن عبيد، فإنه فتح للناس بابا إلى علم الكلام.
وقال أبو حنيفة: قاتل الله جهم بن صفوان، ومقاتل بن سليمان، هذا أفرط في النفي، وهذا أفرط في التشبيه.
قال الطحاوي: حدثنا سليمان بن شعيب، حدثنا أبي، قال: أمْلَى علينا أبو يوسف، قال: قال أبو حنيفة: لا ينبغي للرجل أن يحدث من الحديث إلا ما حفظه من يوم سمعه إلى يوم يحدث به.
قلت: سمعت شيخنا العلامة الحجة زين الدين بن الكتناني، في درس الحديث بالقبة المنصورية، وكان أحد سلاطين العلماء، ينصر هذا القول، وسمعته يقول في هذا المجلس: لا يحل لي أن أروي إلا قوله - عليه السلام -: "أنا النبي لا كذب، أنا ابن عبد المطلب" فإني حفظته من حين سمعته إلى الآن.
قلت: ولكن أكثر الناس على خلاف هذا، ولهذا قلَّت رواية أبي حنيفة لهذه العلة، لا لعلة أخرى زعمها المتحملون عليه.
وقال أبو عاصم: سمعت أبا حنيفة يقول: القراءة جائزة. يعني عرض الكتب.
قال: وسمعت ابن جريج يقول: هي جائزة. يعني عرض الكتب" أ. هـ.
• تقريب التهذيب: "فقيه مشهور" أ. هـ.
• قلت: لقد تكلم في الإمام أبي حنيفة حول عقيدته الإمام عبد الله بن أحمد بن حنبل، وابن حبان، وابن عدي، والخطيب البغدادي، وذكروا ما جاء عنه في الإرجاء وغيره من القول في الإيمان والخروج عن السلطان وغير ذلك، مع ضعفه بالحديث كما أسلفنا القول عن ابن أبي حاتم، وابن عدي، وغيرهما، وفي ذلك تفصيل وسعة لمعرفة الأمور السابقة حول هذا الإمام العلم إمام مذهب الحنفية والفقيه المنتهى إليه في عصره، وعليه ليس لنا إلا ما سنذكره حول قول العلماء، وبعض البحوث التي عرضها أصحاب الدراسات والتحقيق في عصرنا، فالله تعالى المستعان وهو الموفق إلى خير السبيل.
وسوف نورد الآن البحث في كلام الخطيب وغيره من خلال المقدمة لكتاب "تبييض الصحيفة" للسيوطي بقلم محمّد عاشق حيث نقد فيه الدكتور محمود الطحان كلام الخطيب في الإمام أبي حنيفة، قوله بنصه مع حواشيه:
"لقد أورد الخطيب تلك المطاعن والمثالب، ضمن ترجمة أبي حنيفة في كتابه: تاريخ بغداد، الجزء الثالث عشر من النسخة المطبوعة، حيث ترجم لأبي حنيفة بما يزيد على المائة صفحة، وذلك من صفحة: (323)، إلى صفحة: (454).
وهي أطول ترجمة في الكتاب إطلاقًا.
وابتدأ الترجمة بكلام طيب، وثناء جميل على أبي حنيفة، ثم عقد فصلًا لمناقبه، وصاق فيه من الروايات المسندة عن الأئمة، في مدح أبي حنيفة والثناء عليه الشيء الكثير. كما عقد فصولًا فيما قبل في فقهه وعبادته وورعه، وجوده ووفور عقله وفطنته، وأتى فيه بالشيء الحسن العجيب، واستغرق ذلك حوالي ستًّا وأربعين صفحة، أي إلى صفحة (369).
وفجأة يقلب لأبي حنيفة ظهر المِجَنِّ، ويطمس تلك المحاسن والمناقب التي ساقها كلها بكلمة واحدة، فيقول:
"وقد سقنا عن أيوب السختياني، وسفيان بن عيينة، وأبي بكر بن عياش، وغيرهم من الأئمة، أخبارًا كثيرة، تتضمن تقريظ أبي حنيفة، والمدح له، والثناء عليه والمحفوظ عند نقلة الحديث عن الأئمة المتقدمين -وهؤلاء المذكورون منهم- في أبي حنيفة خلاف ذلك. وكلامهم فيه كثير، لأمور شنيعة حفظت عليه. متعلق بعضها بأصول الديانات، وبعضها بالفروع، نحن ذاكروها بمشيئة الله، ومعتذرون إلى من وقف عليها، وكره سماعها، بأن أبا حنيفة عندنا، مع جلالة قدره، أسوى بغيره من العلماء الذين دوّنا ذكرهم في هذا الكتاب، وأوردنا أخبارهم، وحكينا أقوال الناس فيهم على تباينها، والله الموفق للصواب" (1).
ثم شرع في إيراد تلك المطاعن والمثالب، على شكل روايات تاريخية، يسوقها بالسند منه إلى قائليها، ويستتر وراءها، متظاهرًا بأنه ليس له فيها إلا روايتها وجمعها. واستمر في سرد تلك الروايات التي تحمل المطاعن والاتهامات لأبي حنيفة، بإسهاب وإطناب غريب على مئات الروايات، واستغرقت ما يزيد على الثمانين صفحة (2).
مجمل تلك المطاعن وأنواعها:
لقد ساق الخطيب تلك المطاعن مقسمة إلى فصول، يتعلق بعضها بأصول الديانات، وبعضها بالفروع، والبعض الآخر بِمُسْتَشْنَعَات الألفاظ، وغير ذلك.
وسأجملها في النقاط الرئيسية التالية، ثم أذكر في كل نقطة، المسائل المتفرعة عنها، ثم أنقد تلك الروايات من جهة السند والمعقول إجمالًا.
والنقاط الرئيسية للمثالب التي ذكرها الخطيب هي:
أ. كثرة العلماء الذين ردوا على أبي حنيفة.
ب. ما حكي عن أبي حنيفة في الإيمان.
جـ. ما حكي عنه من القول بخلق القرآن.
د. ما نسب إليه من رأيه في الخروج على السلطان.
هـ. ما حكي عنه من مستشنعات الألفاظ والأفعال.
و. ما قاله العلماء في ذم رأيه والتحذير منه، وما يتعلق بذلك من أخباره.
تنبيهان:
وقبل الدخول في تفاصيل تلك المثالب ومناقشتها، أود أن ألفت النظر، وأنبه إلى أمرين مهمين، لعل في ذكرهما إلقاء الضوء على الموضوع قبل مناقشته.
هذان الأمران هما:
أ- كيف يصف الخطيب المثالب بـ "المحفوظ"، وفي أسانيد تلك الروايات رجال تكلم الخطيب نفسه عليهم بالجرح والتضعيف، في كتاب التاريخ ذاته! ؟ ..
ب- إن بين النسخ المخطوطة لتاريخ بغداد، اختلافًا كبيرًا في كمية المثالب الواردة في ترجمة أبي حنيفة، فما هو السبب؟
أما الأمر الأول: فيستغرب أن يصدر عن الخطيب بهذه الصراحة، التي يكون فيها مجالًا للنقد، حتى بين تلامذته الذين كان يملي عليهم التاريخ. فالذي يتكلم على رجال في الكتاب نفسه -تاريخ بغداد- ويصفهم بالضعف والكذب، ثم يروي روايات مسندة عنهم، ثم يصف هذه الروايات بأنها المحفوظة عند المحدثين، يجعل نفسه هدفًا لسهام الناقدين له، والطاعنين عليه، وما أظن الخطيب يفعل هذا، وإنما هذا -والله أعلم- من زيادة بعض المشايخ المغرضين، دسه على لسان الخطيب.
وأما الأمر الثاني: وهو مسألة اختلاف النسخ المخطوطة في مقدار روايات المثالب، في ترجمة أبي حنيفة، فهو شيء يلفت النظر، ويدعو للتأمل والبحث في سبب هذا الاختلاف في هذا المكان الخطير، كما أنه يدعم ما ذكرت آنفًا، من أن التاريخ قد زيد فيه أشياء بعد وفاة الخطيب.
فقد جاء في النسخة المطبوعة، في الجزء الذي طبع أولًا، وصودرت كثر نسخه، ثم أعيد طبعه، جاء في الجزء الثالث عشر في ص: (377) تعليق في أسفل الصفحة هذا نصه:
"من هنا سقط في نسخة الكوبريلي، إلى آخر ترجمة أبي حنيفة، وأكملنا بقية الترجمة من نسخة الصميصاطية".
ونسخة الكوبريلي هذه، هي النسخة المصورة في دار الكتب المصرية، عن نسخة مخطوطة في تركيا.
ومن هذا التعليق، الذي كتبه الناشر للكتاب، يتبين أن المثالب التي في نسخة الكوبريلي، لا يتجاوز حجمها الثماني صفحات فقط، من الجزء المُصَادَر، وهي بين ص (369 - 377). فتكون نسبة الموجود في هذه النسخة من المثالب، إلى النسخة الأخرى -وهي الموجودة في دار الكتب المصرية- السدس أو أقل. أي أن الموجود من المثالب في النسخة الثانية، يزيد ست مرات أو أكثر على ما في النسخة الأولى -الكوبريلي-، من المثالب، وهو فرق كبير جدًّا، فليس الفرق بين النسختين زيادة سطر أو سطرين، أو إيراد خبر أو خبرين، وإنما الفرق بشكل يدعو للاستغراب، وخصوصًا في مثل هذا الموقف الحساس! .
وبعد هذا العرض للتنبيهين، نبدأ بذكر النقاط الرئيسية للمثالب التي ذكرها الخطيب، واحدة واحدة، مع مناقشة كل نقطة، وبيان ما يظهر لي فيها من الحق. والله المعين على ذلك.
أ- فأما النقطة الأولى:
وهي كثرة العلماء الذين ردوا على أبي حنيفة، فهي عبارة عن فصل صغير، ساقه الخطيب كرواية تاريخية وصلت إليه، فيها أسماء خمسة وثلاثين شخصًا من العلماء والأئمة، يقول ناقلها إنهم جميعًا ردوا على أبي حنيفة. وهذا نص تلك الرواية كما ساقها الخطيب حيث قال: "أخبرنا محمّد بن أحمد بن رزق، أخبرنا أبو يكر أحمد بن جعفر بن محمّد بن مسلم الختلي، قال: أملى علينا أبو العباس أحمد بن علي بن مسلم الأبار، في شهر جمادى الآخرة، من سنة ثمان وثمانين ومائتين، قال: ذكر القوم الذين ردوا على أبي حنيفة: أيوب السختياني، وجرير بن حازم، وهمام بن يحيى، وحماد بن سلمة، وحماد بن زيد، وأبو عوانة، وعبد الوارث، وسوار العنبري القاضي، ويزيد بن زريع، وعلي بن عاصم، ومالك بن أنس، وجعفر بن محمد، وعمر بن قيس، وأبو عبد الرحمن المقريء، وسعيد بن عبد العزيز، والأوزاعي، وعبد الله بن المبارك، وأبو إسحاق الفزاري، ويوسف بن أسباط، ومحمد بن جابر، وسفيان الثوري، وسفيان بن عيينة، وحماد بن أبي سليمان .. وابن أبي ليلى، وحفص بن غياث، وأبو بكر بن عياش، وشريك بن عبد الله، ووكيع بن الجراح، ورتبة بن مصقله، والفضل بن موسى، وعيسى بن يونس، والحجاج بن أرطاة، ومالك بن مغول، والقاسم بن حبيب، وابن شبرمة" (1).
قلت: ومعلوم أن رد العلماء على إمام من الأئمة، لا ينقص من قدره، ولا يعتبر مطعنًا فيه، بل هو أمر طبيعي معروف، جرى عليه العلماء من لدن الصحابة الكرام، إلى يومنا هذا.
ومَن مِن العلماء والأئمة، من لم يرد عليه في المسائل الاجتهادية التي قال بها؟
وقديمًا قال الإمام مالك: "ما منا إلا رَدَّ وَرُدّ عليه، إلا صاحب هذا القبر". يشير بذلك إلى أن كل الأئمة معرضون للرد، حاشا رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، لأنه المعصوم، الذي لا ينطق عن الهوى، إن هو إلا وحي يوحى.
ثم إن تعداد أسماء جماعة من العلماء، ووصفهم بأنهم ردوا على أبي حنيفة، بدون تعيين المسائل التي ردوا عليه فيها، وبدون معرفة هل كان الحق بجانبهم، أو بجانبه، أمر مبهم لا يفيد سوى قصد التهويل من كثرة الأشخاص الذين ردوا عليه.
ومع ذلك، فإن كانت المسألة مسألة كثرة، فهذا ابن عبد البر يقول في كتابه: "جامع بيان العلم": "الذين رووا عن أبي حنيفة، ووثقوه، وأثنوا عليه، أكثر من الذين تكلموا فيه".
ثم قال: "والذين تكلموا فيه أهل الحديث، أكثر ما عابوا عليه الإغراق في الرأي، والقياس والإرجاء وكان مما يقال: يستدل على نباهة الرجل من المعارضين، بتباين الناس فيه، قالوا: ألا ترى إلى علي بن أبي طالب، هلك فيه فريقان محب مفرط، ومبغض أفرط. وقد جاء في الحديث: أنه يهلك فيه رجلان: محب مُطْرٍ، ومبغض مفتر، وهذا صفة أهل النباهة، ومن بلغ في الدين والفضل الغاية، والله أعلم" (1).
وقد عقد الحافظ ابن عبد البر في كتابه "الانتقاء" بابا في ذكر من أثنى على أبي حنيفة من العلماء وفضله، فقال: "باب ذكر ما انتهى إلينا من ثناء العلماء، على أبي حنيفة، وتفضيلهم له" (2). ثم أخذ يذكر اسم العالم الذي أثنى عليه، ويتبعه بذكر القول الذي مدحه به، مرويًّا بالسند من ابن عبد البر، إلى قائله، فذكر ستة وعشرين شخصًا من العلماء والأئمة، وهم: أبو جعفر محمّد بن علي بن حسن، وعماد. بن أبي سليمان، ومِسْعَر بن كِدَام، وأيوب السختياني، والأعمش، وشعبة بن الحجاج، وسفيان الثوري، والمغيرة بن مِقْسَم الضبي، والحسن بن صالح بن حي، وسفيان بن عيينة، وسعيد بن أبي عروبة، وحماد بن يزيد، وشريك القاضي، وابن شبرمة، ويحيى بن سعيد القطان، وعبد الله بن المبارك، والقاسم بن معن، وحجر بن عبد الجبار، وزهير بن معاوية، وابن جريج، وعبد الرزاق، والشافعي، ووكيع، وخلد الواسطي، والفضل بن موسى السيناني، وعيسى بن يونس.
وقد استغرقت أقوالهم التي رواها في الثناء على أبي حنيفة حوالي ثلاث عشرة صفحة، من ص (124 إلى ص 132).
ثم عقب على ذلك، بذكر بقية العلماء الذين أثنوا عليه، بدون ذكر الأقوال التي قالوها، اختصارًا، فقال: "وممن انتهى ثناؤه على أبي حنيفة، ومدحه له، عبد الحميد بن يحيى الحماني، ومعمر بن راشد، والنضر بن محمد، ويونس بن أبي إسحاق، وإسرائيل بن يونس، وزفر بن الهذيل، وعثمان البتي، وجرير بن عبد الحميد، وأبو مقاتل حفص بن مسلم، وأبو يوسف القاضي، وسلم بن سالم، ويحيى بن آدم، ويزيد بن هارون، وابن أبي رزمة وسعيد بن سالم القداح وشداد بن حكيم وخارجة بن مصعب وخلف بن أيوب، وأبو عبد الرحمن المقرئ، ومحمد بن السائب الكلبي، والحسن بن عمارة وأبو نعيم الفضل بن دكين والحكم بن هشام، ويزيد بن زريع، وعبد الله بن داود الخريبي ومحمد بن فضيل، وزكريا بن أبي زائدة، وابنه يحيى بن زكريا بن أبي زائدة، وزائدة بن قدامة، ويحيى بن معين، ومالك بن مغول، وأبو بكر بن عياش، وأبو خالد الأحمر، وقيس بن الربيع، وأبو عاصم النبيل، وعبد الله بن موسى، ومحمد بن جابر الأصمعي، وشقيق البلخي، وعلي بن عاصم، ويحيى بن نصر. كل هؤلاء أثنوا عليه، ومدحوه بألفاظ مختلفة، ذكر ذلك كله أبو يعقوب يوسف بن أحمد بن يوسف المكي، في كتابه الذي جمعه في فضائل أبي حنيفة وأخباره، حدثنا به حكم بن منذر رحمه الله" (1).
وتقول لجنة علماء الأزهر، التي تولت التعليق على المثالب الموجودة في ترجمة أبي حيفة، من "تاريخ بغداد"، في أول ذكر المثالب عند قول الخطيب: "وقد سقنا عن أيوب السختياني .. والمحفوظ .. الخ" تقول في أول تعليق لها ما يلي:
"ستجد فيما يجيء من الروايات إسرافًا في النيل من الإمام أبي حيفة، وقد تتبعناها جميعها، فوجدناها روايات واهية الإسناد، متضاربة المعنى. ولا شك أن للعصبية المذهبية شأنًا وأي شأن، فيما نقله الخطيب، وكم من إمام جليل وعالم نبيل أنصف الحقيقة فأوفى الثناء على الإمام الأعظم - رضي الله عنه - ولكثير من العلماء الأثبات، كلام يهدم ما زعمه الخطيب محفوظًا، وإذا أردت معرفة قيمة الروايات، فدونك كتاب الانتقاء، للحافظ ابن عبد البر، وجامع المسانيد، للخوارزمي، المتوفى سنة (675 هـ) وتذكرة الحفاظ للذهبي، والسهم المصيب للملك المعظم، والجواهر المنيفة، للسيد مرتضى الزبيدي، ومثل هذه الكتب.
وإن جلالة قدر أبي حنيفة، ومنزلته من الزهد والورع والعلم، وجودة القريحة وقوة تمسكه بكتاب الله، وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم -، لا يحيد عنها متى صحت عنده، لما اشتهر أمره، ونقل إلينا نقلًا مستفيضًا، عن جلة العلماء من أصحابه وغيرهم، فلا يقدح فيه روايات كهذه التي ساقها الخطيب. وانظر نقل ابن عبد البر، في الانتقاء، عن سفيان الثوري - رضي الله عنه - في أبي حنيفة، قال: "كان أبو حنيفة شديد الأخذ للعلم، ذابًا عن حرم الله أن تستحل، يأخذ بما صح عنده من الأحاديث، التي كان يحملها الثقات، وبالآخر من فعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وبما أدرك عليه علماء الكوفة، ثم شنع عليه  قوم، يغفر الله لنا ولهم" (1).
ب- وأما النقطة الثانية:
وهي: -ما حكي عن أبي حنيفة في الإيمان- فقد ساق فيها الخطيب ثلاثة وثلاثين خبرًا. الخبر الأول منها يتعلق بمسالة الاستثناء في الإيمان، وأن أبا حنيفة يعتبر من لا يجزم بأنه مؤمن هنا، وعند الله حقًّا، شاكًّا في إيمانه، وأن وكيعًا اعتبر قول أبي حنيفة هذا جرأة.
وهذا نص الرواية كما ساقها الخطيب، فقال: "أخبرنا الحسين بن محمّد بن الحسن، أخو الخلال، أخبرنا جبريل بن محمّد بن المعدل -بهمذان-، حدثنا محمّد بن حيويه النخاس، حدثنا محمود بن غيلان، حدثنا وكيع، قال: سمعت الثوري يقول: نحن المؤمنون، وأهل القبلة عندنا مؤمنون، في المناكحة والمواريث، والصلاة والإقرار ولنا ذنوب، ولا ندري ما حالنا عند الله؟ قال وكيع: وقال أبو حنيفة: "من قال بقول سفيان هذا، فهو عندنا شاك، نحن المؤمنون هنا، وعند الله حقًّا". قال وكيع: "ونحن نقول بقول سفيان، وقول أبي حنيفة عندنا جرأة" (2).
وفي هذه الرواية، محمّد بن حيويه، وهو أبو العباس الخزاز، قال فيه الخطيب نفسه في رقم: (1139) و"كان متساهلًا فيما يرويه يحدث عن كتاب ليس عليه سماعه".
وتقول لجنة التعليق على الترجمة:
"نعم، إن أبا حنيفة قد نقل عنه هذا الذي رواه الخطيب من طريق صحيحة، ومعنى كلامه - رضي الله عنه -، أنه مصدق بالله ورسله وكتبه، تصديقًا جازمًا لا يعتريه في ذلك، تردد، ويجب على كل إنسان أن يكون مصدقًا على هذا النحو، لأنه لا معنى للإيمان مع الشك، ومن وقف على ما قاله العلماء المتكلمون، وغيرهم، في مسألة الاستثناء في الإيمان، يجد ما قاله أبو حنيفة - رضي الله عنه - أبعد عن التهمة، ودخول الشك في الإيمان، وأنه إنما ذهب إلى ما ذهب من حظر الاستثناء في الإيمان، خشية اعتياد النفس التردد فيه. وفي ذلك من مفسدة الخروج منه ما لا يخفى، كما قرر ذلك شارحو كلامه: ولم ينفرد أبو حنيفة بهذا، بل هو قول كثير من العلماء من أصحابه وغيرهم. وأجاز كثير دخول الاستثناء في الإيمان، ويجب حمل تجويزهم على إيمان الموافاة، وهو بقاء الإيمان إلى الوفاة، لأنه المعتبر في النجاة ويحمل عليه كلام سفيان الثوري. ومن هنا تعلم أن كلام أبي حنيفة، لا يعد جرأة. على أنه قد نقل الخوارزمي في جامع المسانيد، رجوع الثوري إلى قول أبي حنيفة في هذه المسألة" (3).
وأما الأخبار الثاني والثالث والخامس والسادس، فتتعلق كلها بمسألة واحدة وهي: هل يشترط معرفة مكان الكعبة، وقبر النبي - صلى الله عليه وسلم - في الإيمان؟ والروايات الأربع المذكورة، تفيد أن أبا حنيفة، لما سئل عن ذلك أجاب بأنه لا يشترط معرفة ذلك، وعلى ذلك، فمن جهل مكان الكعبة، وقبر النبي - صلى الله عليه وسلم - فهو مؤمن، -على حد تعبير تلك الأخبار.
والأخبار الثلاثة الأولى مدارها على الحارث بن عمير، وقد قال الذهبي عنه في الميزان: "كذبه ابن خزيمة" وقال الحاكم عنه: "روى عن حميد وجعفر الصادق أحاديث موضوعة". وقال ابن حبان: "كان يروي الموضوعات عن الأثبات" كما أن الخبر الثالث فيه محمّد بن محمّد الباغندي، وقد قال الدارقطني عنه: "كان كثير التدليس، يحدث بما لم يسمع، وربما سرق حديث غيره". وقال إبراهيم الأصبهاني: "كذاب". وذكر نحو ذلك الخطيب نفسه رقم: (1285).
والخبر الأخير فيه عبّاد بن كثير. قال عنه الذهبي: "ليس بثقة وليس بشيء". هكذا يكون المحفوظ؟
وفي السند كذابون وغير ثقات.
وشواهد الحال تكذب الخبر. وكيف يتصور أن ينطق أبو حنيفة بمثل ذلك الكفر الصراح، في المسجد الحرام، بدون أن يروي ذلك عنه إلا كذاب واحد؟ .
وقد ساق ابن أبي العوام، بسنده إلى الحسن بن أبي مالك، عن أبي يوسف، عن أبي حنيفة أنه قال: "لو أن رجلًا صلى، يريد بصلاته إلى غير الكعبة، فوافق الكعبة على الخطأ منه، إنه بذلك كافر، وما رأيت أحدًا منهم ينكر ذلك".
وأما الخبر الرابع فيتعلق بمسألة فرعية من مسائل الطلاق، وشهادة الزور عند القاضي وفي الرواية كذلك الحارث بن عمير، وقد سبق بيان حاله قريبًا.
وأما الخبران السابع والثاني عشر، فيتعلقان بمسألة مفادها: "لو أن رجلًا عبد نعلًا يتقرب بها إلى الله، فهو مؤمن عند أبي حنيفة".
وفي الخبر السابع، عبد الله بن جعفر بن درستويه، حكى الخطيب نفسه فيه عن البرقاني تضعيفه، وفي الخبر الثاني عشر، القاسم بن حبيب. قال ابن أبي حاتم، قال ابن معين: لا شيء على أن هذا القول غير معقول صدوره من مثل أبي حنيفة، المشهور بعلمه وتقواه، بل غير معقول أن يصدر عن أبي مسلم. ثم هل يوجد في الدنيا من يعبد النعل. حتى يسأل أبو حنيفة عنه فيقره؟ اللهم هذا بهتان عظيم.
والخبر الثامن يتعلق بمسالة، هل يزيد الإيمان وينقص أو لا؟ وهل الصلاة وبقية الأعمال تعتبر جزءًا من الإيمان؟
وأنا أسوق الخبر بنصه، حتى يكون القارئ على بينة من تفاصيل الخبر.
قال الخطيب: "أخبرنا أبو سعيد، الحسن بن محمّد بن حسنويه الكاتب، -بأصبهان-. أخبرنا عبد الله بن محمّد بن عيسى بن مزيد الخشاب، حدثنا أحمد بن مهدي بن محمّد بن رستم، حدثنا أحمد بن إبراهيم، حدثني عبد السلام -يعني ابن عبد الرحمن- قال: حدثني إسماعيل بن عيسى بن علي. قال: قال لي شريك: كفر أبو حنيفة بآيتين من كتاب الله تعالى. قال الله تعالى: {وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ}. قال تعالى: {لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَعَ إِيمَانِهِمْ}. وزعم أبو حنيفة الإيمان لا يزيد ولا ينقص، وزعم أن  الصلاة ليست من دين الله" (1).
وفي هذه الرواية، عبد السلام بن عبد الرحمن الوابصي، وهو غير مأمون. فقد حكى الخطيب نفسه في تاريخه رقم: (5729)، أن يحيى بن أكثم، قاضي قضاة المتوكل، صرف عبد السلام هذا عن القضاء، لأمور، أهونها ضعفه في الفقه.
وفي الرواية أيضًا شريك بن عبد الله، تكلم فيه العلماء كثيرًا جدًّا، حتى قال يحيى بن سعيد: "لو كان بين يدي ما سألته عن شيء". وضعف حديثه جدًّا. انظر تاريخ الخطيب رقم (4838).
وقول شريك الراوي: "زعم أن الصلاة ليست من دين الله" تحريف للقول عن موضعه، أو عدم تفريق بين مدلولي الدين والإيمان. وأصلها: "أن الصلاة ليست من اللإيمان". أي أنها ليست جزءًا من حقيقته، بحيث لو أدخل بها الإنسان، خرج من الإيمان، وإن كانت عنده - رضي الله عنه -، من أكبر شرائع الإيمان وأعلاها.
وأما الخبران التاسع والعاشر ففيهما أن أبا حنيفة، يجعل إيمان أبي بكر الصديق، وإيمان آدم، كإيمان إبليس ...
وفي الخبر الأول: محبوب بن موسى الأنطاكي، له حكايات تالفة عن الفزاري وغيره، قال: أبو داود لا يلتفت إلى حكاياته إلَّا من كتاب. وفي الخبرين معًا أبو إسحاق الفزاري، وهو منكر الحديث.
وتشبيه إيمان آدم وأبي بكر، بإيمان إبليس، الذي نص القرآن الكريم على أنه: {أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ}. لا يعقل أن يصدر من أبي حنيفة، الذي يقرر مذهبه، أن أي استخفاف بأي حكم من أحكام الدين كفر.
وأما الخبر الحادي عشر، وهو قصة تفيد أن أبا حنيفة مر بسكران يبول قائمًا، فقال أبو حنيفة له: "لو بلت جالسًا" وأن السكران قال له: "ألا تمر يا مرجئ؟ ". وأن أبا حنيفة قال له: "هذا جزائي منك، حيث صيرت إيمانك كإيمان جبريل".
وفي الخبر، معبد بن جمعة الروياني، كذبه أبو زرعة الكشي، وصيغة القاسم بن عثمان صيغة انقطاع، ويقول عنه العُقيلي: "لا يتابع على حديثه".
وقد أخرج الحافظ أبو بشر الدولابي، عن إبراهيم بن جنيد، عن داود بن أمية المروزي، قال: "سمعت عبد المجيد بن عبد العزيز بن أبي رواد يقول: جاء رجل إلى أبي حنيفة، وهو سكران فقال له يا مرجئ. فقال له أبو حنيفة: لولا أني أثبت لمثلك الإيمان نسبتني إلى الإرجاء، ولولا أن الإرجاء بدعة ما باليت أن أنسب إليه وأين هذه الرواية من تلك.
وأما الخبر الثالث عشر، فمفاده أنه اجتمع الثوري، وشريك، والحسن بن صالح، وابن أبي ليلى، ودعوا أبا حنيفة، وسألوه عن رجل قتل أباه ونكح أمه، وشرب الخمر في رأس أبيه، فقال: هو مؤمن، وأن الأربعة استنكروا قوله، وردوا عليه بكلام قبيح.
وفي الخبر، محمّد بن جعفر الأدمي، عن أحمد بن عبيد، قال ابن أبي الفوارس: "خَلَّطَ فيما حدث، وشيخه يروي المناكير". وقال الذهبي: "غير  عمدة".
على أن قول أبي حنيفة في ذاته صحيح، فإن مذهب أهل السنة، أن مرتكب الكبيرة لا يكفر بارتكابها، ومخالفو أبي حنيفة من أهل السنة، وإن ذهبوا إلى أن الإيمان قول وعمل لكنهم لم يخرجوا مرتكب الكبيرة عن الإيمان ولم يخرج مرتكب الكبيرة من الإيمان إلا الخوراج، الذين يكفرون مرتكب الكبيرة، والمعتزلة، القائلون بالمنزلة بين المنزلتين، أي الواسطة بين المؤمن والكافر. ومن أجل هذا نرى أن هذه الرواية يجب القطع بكذب نسبتها إلى هؤلاء العلماء.
وفي الأخبار، من رقم: (14 إلى 19)، من هذه النقطة، والأخيار رقم: (7 و 8 و 9)، من النقطة الرابعة (د)، نسبة أبي حنيفة إلى الإرجاء، وفي إسناد كل خبر من هذه الأخبار، رجل أو أكثر مطعون فيه، كما سأذكر بعضهم بعد قليل.
وأبدأ الآن بذكر بعض الرجال، أحمد بن كامل القاضي، قال الدارقطني: كان متساهلًا ربما حدث من حفظه بما ليس عنده، وأهلكه العجب. وذكر ذلك الخطيب نفسه في تاريخه رقم (2209). وفي الخبر محمّد بن موسى البربري، قال الدارقطني: ليس بالقوي، وقال الخطيب في تاريخه رقم: (1326)، كان لا يحفظ إلا حديثين، أحدهما حديث الطير، وهو موضوع بإجماع المحدثين.
وأما الخبر الخامس عشر، فمفاده، أن أبا مسهر كان يقول: "كان أبو حنيفة رأس المرجئة".
وأما الخبر السادس عشر، ففيه الحسن بن الحسين بن دوما النعالي. قال الخطيب نفسه في تاريخ بغداد رقم: (3812): "أفسد أمره. بأن ألحق لنفسه السماع في أشياء لم يكن عليها سماعه". قال الذهبي في الميزان: "يعني زَوَّرَ".
والخبر السابع عشر بمعناه تمامًا وأما الخبر الثامن عشر، ففيه ابن درستويه، وقد مر ما فيه من الضعف.
وأما الأخبار رقم: (19، 20، 22)، من هذه النقطة، والخبر التاسع من النقطة الرابعة (د)، فتشتمل على نسبة أبي حنيفة إلى القول، بمقالة جهم بن صفوان.
وإسناد هذه الروايات لا يخلو من مقال، وقد أورد الخطيب نفسه هذه الأخبار بالأخبار رقم: (23، 24، 31)، من هذه النقطة.
وأسوق خبرًا من الأخبار التي تنسب إلى أبي حنيفة، القول بمقالة جهم بن صفوان. وهذا الخبر رقم (19) كما ساقه الخطيب فقال "وأخبرنا ابن الفضل. أخبرنا عبد الله بن جعفر، حدثنا يعقوب بن سفيان، حدثنا أحمد بن الخليل، حدثنا عبدة، قال: سمعت ابن المبارك، -وذكر أبا حنيفة- فقال رجل: هل كان فيه من الهوى شيء؟ قال نعم، الإرجاء. وقال يعقوب، حدثنا أبو جزى عمرو بن سعيد بن سالم، قال: سمعت جدي، قال: قلت لأبي يوسف: كان أبو حنيفة مرجئًا؟ قال نعم. قلت: كان جهميًا؟ قال: نعم، قلت: فأين أنت منه؟ قال: إنما كان أبو حنيفة مدرسًا، فما كان من قوله حسنًا قبلناه، وما كان قبيحًا تركناه عليه".
وفي الخبر، عبد الله بن درستويه، وقد مر وصف حاله، وفيه أحمد بن الخليل البغدادي، المعروف بـ (جور)، توفي سنة ستين ومائتين، قال الدارقطني:
النعالي، المزَوِّر السابق ذكره.
وأما الأخبار رقم: (25، 26، 27، 28، 29، 30، 31، 32، 33)، فكلها تفيد نفي الإرجاء، ونفي القول بخلق القرآن عن أبي حنيفة.
ومن هذه الأخبار، أسوق الخبر رقم: (28) قال الخطيب:
"أخبرنا محمّد بن أحمد بن رزق، حدثنا علي بن أحمد بن محمّد القزويني، حدثنا أبو عبد الله محمّد بن شيبان الرازي العطار، -بالري-، قال: سمعت أحمد بن الحسن البزمقي، قال: سمعت الحكم بن بشير يقول: سمعت سفيان بن سعيد الثوري، والنعمان بن ثابت يقولان: القرآن كلام الله غير مخلوق" (1).
جـ - وأما النقطة الثالثة:
وهي: -ما حكي عن أبي حنيفة من القول بخلق القرآن-، فقد ساق الخطيب فيها ثلاثة وثلاثين خبرًا أيضًا. فالأخبار رقم: (1 إلى 10 و 13 و 14 و 17)، تتعلق كلها بأن أبا حنيفة يقول بخلق القرآن. وفي بعضها ذكر استتابته من ذلك. مع أنه تقدم في النقطة الثانية، (ب)، في الأخبار من رقم: (28 إلى 33)، رد الخطيب نفسه تلك الأخبار هذه التهمة عن أبي حنيفة، أضف إلى ذلك أن هذه الأخبار لا تخلو من رجال متكلم فيهم، وسنورد الكلام في بعضهم.
أبو حنيفة ومسألة القول بخلق القرآن:
والمشهور عن أبي حنيفة أنه يقول: إن القرآن غير مخلوق. ولفظنا بالقرآن مخلوق. وهذا القول هو ما جرى عليه أهل الحق من علماء الكلام وغيرهم. ولينظر الذي يريد التثبت والمزيد من الإيضاح كتاب "الفقه الأكبر" لأبي حنيفة، وكتاب "العقيدة الطحاوية".
هذا، والروايات عن أبي حنيفة في هذا الموضوع متضاربة، حتى فيما ساقه الخطيب نفسه -كما تقدم-. فإذا اعتبرنا جميع الروايات في هذا الموضوع مقبولة. لم يكن بُدٌّ من حمل الروايات بالقول بخلق القرآن، على لفظنا به، والروايات بأنه غير مخلوق على القرآن نفسه.
وهذا ابن عبد البر الحافظ، يقول في كتابه "الانتقاء" في "باب مذهب أبي حنيفة فيما يعتقده أهل السنة وما عليه أئمة الجماعة": "قال: ونا محمّد بن حزام الفقيه، قال: نا أبي، قال: نا محمّد بن شجاع، قال: سمعت الحسن بن أبي ملك يقول: سمعت أبا يوسف يقول: جاء رجل إلى مسجد الكوفة يوم الجمعة، فدار على الحِلق يسألهم عن القرآن، وأبو حنيفة غائب بمكة، فاختلف الناس في ذلك، -والله ما أحسبه إلا شيطانًا تصور في صورة الإنس-، حتى انتهى إلى حلقتنا فسألنا عنها، وسأل بعضنا بعضًا، وأمسكنا عن الجواب، وقلنا ليس شيخنا حاضرًا، ونكره أن نتقدم بكلام حتى يكون هو المبتديء بالكلام. فلما قدم أبو حنيفة، تلقيناه بالقادسية، فسألنا عن الأهل والبلد فأجبناه، ثم قلنا له بعد أن تمكنا منه: رضي الله عنك، وقعت مسألة فما قولك فيها، فكأنه كان في قلوبنا، وأنكرنا وجهه، وظن أنه وقعت مسألة معنتة، وإنا قد تكلمنا فيها بشيء، فقال: ما هي؟ قلنا كذا وكذا، فأمسك ساكتًا ساعة ثم قال: فما كان جوابكم فيها؟ قلنا: لم نتكلم فيها بشيء، وخشينا أن نتكلم بشيء فتنكره، فسري عنه وقال: جزاكم الله خيرًا، احفظوا عني وصيتي، لا تكلموا فيها ولا تسألوا عنها أبدًا، انتهوا إلى أنه كلام الله عزَّ وجلَّ بلا زيادة حرف واحد، ما أحسب هذه المسألة تنتهي حتى توقع أهل الإسلام في أمر لا يقومون له ولا يقعدون، أعاذنا الله وإياكم من الشيطان الرجيم" (1).
وجاء في الخبر الثاني من هذه الأخبار، أن أبا مُسْهر قال: "قال سلمة بن عمرو القاضي -على المنبر-، لا رحم الله أبا حنيفة، فإنه أول من زعم أن القرآن مخلوق".
أقول: ولفظ ابن عساكر في تاريخه "لا رحم الله أبا فلان، فإنه أول من زعم أن القرآن مخلوق"، ففي الخبر المسوق هنا تغيير (أبي فلان) إلى (أبي حنيفة). ومن أين علمنا أن أبا فلان في الرواية هو أبو حنيفة؟ مع تضافر الروايات على أن أول من قال بذلك، الجعد بن درهم.
هذا وكتب النحل مجمعة على أن أول من قال بأن القرآن مخلوق، هو الجعد بن درهم، ثم جهم بن صفوان، ثم بشر بن غياث، كما يظهر ذلك من كتاب "الرد على الجهمية" لابن أبي حاتم، وكتاب "شرح السنة" للحافظ اللالكائي. فقد جاء فيه: "ولا خلاف بين الأمة أن أول من قال: القرآن مخلوق، الجعد بن درهم، في سنة نيف وعشرين ومائة".
وأما من جهة السند، ففي الخبر الأول: محمّد بن العباس الخزاز، وقد تقدم بيان حاله، وفيه إسحاق بن عبد الرحمن، وهو مجهول.
والخبر الثاني: تقدم أن الرواية قد بدل فيها لفظ "أبي فلان"، بلفظ "أبي حنيفة".
والخبر الثالث: فيه أبو القاسم البغوي، قال ابن عدي عنه: "وجدت الناس، أهل العلم، والمشايخ مجمعين على ضعفه".
وفي الخبر الرابع: عمر بن الحسن الأشناني القاضي، متكلم فيه، وقد ضعفه الدارقطني، وكذبه الحاكم. وفيه أيضًا، عبد الملك بن قريب الأصمعي، كذبه أبو زيد الأنصاري.
وفي الخبر الخامس: قطن بن إبراهيم النيسابوري، رماه ابن عدي بسرقة الحديث، وفيه يحيى بن عبد الحميد، متكلم فيه، حتى قيل فيه: إنه كذاب.
وفي الخبر السادس: الحسن بن عبد الأول، قال أبو زرعة: "لا أحدث عنه" وقال أبو حاتم: "تكلم الناس فيه"، وقال الذهبي: "كذبه ابن معين".
وفي الخبر السابع: عمر بن الحسن الأشناني القاضي، ضعفه الدارقطني، وكذبه الحاكم -كما سبق-.
وفي الخبر الثامن: انقطاع في السند، كما أن فيه مجهولًا وهو (أبو محمد).
وفي الخبر التاسع: سفيان بن وكيع بن الجراح. ذكر الخطيب في التاريخ، والذهبي في الميزان، أن البخاري قال: "يتكلمون فيه بأشياء لقَّنوها إياها). وقال أبو زرعة: "يتهم بالكذب"، وقال ابن أبي حاتم: "أشار أبي عليه أن يغير ورَّاقه، فإنه أفسد حديثه فقال: سأفعل، ثم تمادى، فسقط من رتبه الاحتجاج عند النقاد".
ومفاد هذا الخبر، ابن أبي ليلى، هدّد أبا حنيفة بأنه إن لم يرجع عن قوله بخلق القرآن، فسيفعل به ما يفعل، وأن أبا حنيفة رجع عن قوله، ولما سأله ابنه حماد، كيف رجعت، فقال يا بني، خفت أن يقدم علي، فأعطيته التقية. أقول: ولو كان أبو حنيفة ممن يعطي التقية، لما ضربه ابن هبيرة، ولا امتحنه والي الكوفة، ولا ضربه المنصور إلى أن مات، وهو محبوس، فَمَنْ ابن أبي ليلى، حتى يعطيه أبو حنيفة التقية؟
فقد ذكر ابن عبد البر في الانتقاء في "باب جامع في فضائل أبي حنيفة وأخباره"، فقال: "نا عبد الوارث بن سفيان قال: نا قاسم بن أصبغ، قال: نا أحمد بن زهير بن حرب، قال: نا سليمان بن أبي شيخ، قال نا الربيع بن عاصم مولى لفزارة قال: أرسلني يزيد بن عمر بن هبيرة، فقدمت بأبي حنيفة عليه، فأراده على بيت المال فأبى، فضربه أسواطًا عشرين.
ونا عبد الوارث قال: نا قاسم، قال: نا أحمد بن زهير بن حرب، قال: نا صليمان بن أبي شيخ، قال: نا عبد الله بن صالح بن مسلم العجلي، قال: قال رجل بالشام للحكم بن هشام الثقفي: أخبرني عن أبي حنيفة؟ قال: كان من أعظم الناس أمانة، وأراده السلطان على أن يتولى مفاتيح خزانته، أو يُضْرَب ظهره، فاختار عذابهم على عذاب الله. فقال: ما رأيت أحدًا يصف أبا حنيفة بمثل ما وصفته. قال: هو والله كما قلت لك" (1).
بل لقد عقد الخطيب نفسه في أوائل ترجمة أبي حنيفة فصلًا سماه: "ذكر إرادة ابن هبيرة أبا حنيفة، على ولاية القضاء، وامتناع أبي حنيفة من ذلك" وساق تحت هذا الفصل عددًا من الأخبار تفيد أن ابن هبيرة استدعى أبا حنيفة مرة ليلي القضاء، ومرة ليلي بيت المال، فأبى أبو حنيفة، فضرب أسواطًا. وفي بعض الروايات، أنه ضربه مائة سوط وعشرة أسواط، في كل يوم عشرة أسواط، حتى لقد بكى في بعض الأيام التي أخرج فيها تلك الأسواط، فلما أطلق، قال: "لقد كان غم والدتي أشد علي من الضرب. وهدا بعض ما ساقه الخطيب في ذلك".
قال الخطيب: "أخبرنا الخلال"، أخبرنا الحريري، أن النخعي حدثهم قال: حدثنا محمّد بن علي بن عفان، حدثنا يحيى بن عبد الحميد عن أبيه قال: كان أبو حنيفة يخرج كل يوم -أو قال بين الأيام- فيضرب ليدخل في القضاء فأبى، ولقد بكى في بعض الأيام، فلما أطلق قال لي: كان غم والدتي عليّ أشد من الضرب". وقال النخعي: "حدثنا إبراهيم بن مخلد البلخي، ثنا محمّد بن سهل، أن أبا منصور المروزي، قال: حدثني محمّد بن النضر، قال: سمعت إسماعيل بن سالم البغدادي، يقول:

ضُربِ أبو حنيفة على الدخول في القضاء، فلم يقبل القضاء. قال: وكان أحمد بن حنبل إذا ذكر بكى، وترحم على أبي حنيفة، وذلك بعد أن ضُرِب أحمد" (1) ومن أراد زيادة من الروايات في ذلك، فليرجع إلى تاريخ الخطيب، وليقرأ الفصل بتمامه. فإذا كان أبو حنيفة يفعل به هذا، ولم يعط التقية، أفيصدق عاقل أن يعطي التقية لابن أبي ليلى؟
وفي الخبر العاشر: عمر بن محمّد بن عيسى السذابي الجوهري.
قال الذهبي: في حديثه بعض النكرة، انفرد برواية ذلك الحديث الموضوع (القرآن كلامي، ومني خرج).
وفي الخبرين الثالث عشر والرابع عشر: ضرار بن صُرد قال ابن أبي حاتم: كان يحيى بن معين يكذبه، وقال البخاري والنسائي متروك، وفيهما سليم بن عيسى المقرئ، قال ابن معين: ضعيف ليس بشيء، وقال النسائي: ليس بثقة، وقد ذكره الذهبي في الميزان: وذكر له خبرًا باطلًا.
وفي الخبر السابع عشر: ابن درستويه، وقد سبق بيان ضعفه، وفيه محمّد بن فليح المدني، عن أخيه سليمان، قال ابن معين: ليس بثقة، أخوه سليمان مجهول، قال أبو زرعة: لا أعرفه، ولا أعرف لفليح ولدًا غير محمّد ويحيى.
ثم إن الأخبار من رقم: (16 إلى 33) كلها، تفيد نسبة استتابة أبي حنيفة. وبعض هذه الأخبار أبهم ما استتيب منه، وبعضها أنه استتيب من الدهر، أو الزندقة، أو الكفر. وكل هذه الروايات واهية الإسناد، وسأذكر البعض منها اختصارًا.
وحقيقة القصة، أن الخوارج لما ظهروا على الكوفة، أخذوا أبا حنيفة -وكانوا يعتقدون كفر من خالفهم- فقالوا له: تب من الكفر، فقال أنا تائب إلى الله من كل كفر، فتركوه، فلَبْس خصوم أبي حنيفة على الناس في الرواية، وقالوا: إن أبا حنيفة استتيب من الكفر.
وقد ذكرت اللجنة الأزهرية في تعليقها على هذه الأخبار، جلاء لقصة استتابة أبي حنيفة من الكفر مرتين، فقالت:
"وقد ذكر ركن الدين أبو الفضل الكرماني، عن الإمام أبي بكر عتيق بن داود اليماني، أن الخوارج لما ظهروا على الكوفة، أخذوا أبا حنيفة، فقيل لهم هذا شيخهم -والخوراج يعتقدون كفر من خالفهم- فقالوا: تب يا شيخ من الكفر، فقال: أنا تائب إلى الله من كل كفر، فخلوا عنه، فلما ولى عنهم قيل لهم: إنه تاب من الكفر، وإنما يعني ما أنتم عليه، فردّوه فقال رأسهم: يا شيخ، إنما تبت من الكفر، وتعني به ما نحن عليه، فقال أبو حنيفة: أبظن تقول هذا أم بعِلْم؟ فقال: بل بظن. فقال أبو حنيفة: إن الله يقول {إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ}. وهذه خطيئة منك، وكل خطيئة عندك كفر. فتب أنت أولًا من الكفر. فقال: صدقت، أنا تائب من الكفر. فتب أنت أيضًا من الكفر، فقال أبو حنيفة رحمه الله: أنا تائب إلى الله من كل كفر, فخلوا عنه. فلهذا قال خصماؤه: استتيب أبو حنيفة من الكفر مرتين، فلَبْسوا على الناس، وإنما يعنون استتابة الخوارج إياه. أ. هـ.، وقد حكى هذه القصة أيضًا الخوارزمي، في جامع المسانيد" (1).
ومما يدل على أن خصوم أبي حنيفة، قد لبَّسوا على الناس قصة استتابته، ما ذكره ابن عبد البر في كتابه "الانتقاء"، حيث قال: "حدثنا حكم بن منذر، قال: نا أبو يعقوب يوسف بن أحمد، قال: نا أبو محمد عبد الرحمن بن أسد الفقيه، قال: نا هلال بن العلاء الرقي، قال: نا أبي، قال: نا عبيد الله بن عمرو الرقي، قال: ضُربِ أبو حنيفة على القضاء فلم يفعل، ففرح بذلك أعداؤه وقالوا: استتابه.
قال أبو يعقوب: ونا أبو قتيبة سلم بن الفضل، نا محمّد بن يونس الكديمي، قال: سمعت عبد الله بن داود الخريبي يومًا، وقيل له: يا أبا عبد الرحمن، إن معاذًا يروي عن سفيان الثوري أنه قال: استتيب أبو حنيفة مرتين، فقال عبد الله بن داود: هذا والله كذب، قد كان بالكوفة علي والحسن ابنا صالح بن حي، وهما من الورع بالمكان الذي لم يكن مثله، وأبو حنيفة يفتي بحضرتهما, ولو كان من هذا شيء ما رضيا به، وقد كنت بالكوفة دهرًا فما سمعت بهذا" (2).
وأذكر ما في بعض الأسانيد من الكلام على رجالها، وأترك البعض اختصارًا، مع التنبيه إلى أن جميع أسانيد تلك الروايات فيها كلام كثير، فمن أحب مزيدًا من الكلام، فليرجع إلى كتاب التأنيب وإلى رد الملك المعظم، وإلى تعليقات اللجنة الأزهرية، التي تولت بيان ضعف كثير من رجال تلك الأسانيد.
أقول: إن في الخبر: (18)، علي بن إسحاق بن زاطيًا، ذكره الخطيب نفسه، وقال: لم يكن بالمحمود وكان يقال: إنه كذاب. كما فيه الحجاج بن الأعور، قال عنه الخطيب: خلط. وفيه ضعفاء آخرون.
وفي الأخبار من: (19 إلى 22)، رجال ضعفاء مر الكلام عليهم في أخبار سابقة.
وفي الخبر (23): نعيم بن حماد الخزاعي. ذكره الخطيب في التاريخ رقم: (7285) (3)، وقال فيه أقوالًا كثيرة منها، أن الدارقطني قال عنه: "إمام في السنة كثير الوهم". وقال الخطيب عنه: وكان نعيم يحدث من حفظه، وعنده مناكير كثيرة لا يتابع عليها" (4). ومنها، أن النسائي قال: "أبو عبد الله نعيم بن حماد -مروي سكن مصر- ليس بثقة" (5) إلى آخر ما ذكر عنه.
وفي الخبر (32): محمد بن عبد الله بن أبان الهيتمي قال الخطيب نفسه: "كان مغفلًا مع خلوه من علم الحديث".
وفي الخبر (33): وهو الأخير في هذا الفصل، عبد الله بن سليمان بن الأشعث. قال ابن صاعد: "إن أباه كفانا أمره، فقال: إن ابني هذا كذاب، فلا تأخذوا عنه" وقال إبراهيم الأصبهاني: "ابن أبي داود كذاب" ومن أراد مزيدًا من معرفته  فليرجع إلى الميزان للذهبي، وإلى تاريخ الخطيب نفسه.
وأما النقطة الرابعة: وهي ما نُسِبَ إليه من رأيه في الخروج على السلطان. فقد ساق فيها الخطيب تسعة أخبار، كلها واهية الإسناد، ومفادها أن أبا حنيفة يرى الخروج على السلطان، ويرى السيف في أمة محمَّد. وفي ضمن بعضها أنه جهمي مُرْجئ.
وأكثر متون هذه الأخبار، منسوبة إلى الأوزاعي، وابن المبارك، وسفيان الثوري، وأبي إسحاق إبراهيم بن محمّد الفزاري.
ومدار ترويج هذه القصص وتلبيسها وتلفيقها على أبي إسحاق الفزاري، الذي تقدم في النقطة الثانية، فروى هناك خبرين مفادهما، أن إيمان جبريل وأبي بكر الصديق، وإيمان إبليس واحد. وقد تقدم معنا أن أبا إسحاق الفزاري هذا، منكر الحديث، فلا يلتفت إلى أخباره ولا يعتمد عليها.
والفزاري هذا، كان يُطْلِقُ لسانه في أبي حنيفة كثيرًا، ويعاديه في جميع المجالس، ويتقرب إلى الخلفاء بدمه، ونسبته إلى القول بالخروج على الخلفاء العباسيين. وسبب ذلك -على ما قيل- أن أبا حنيفة كان أفتى أخاه الفزاري، بمؤازرة إبراهيم بن عبد الله الطالبي، الذي خرج بالبصرة على أبي جعفر المنصور، فقُتِل أخوه في الحرب مع إبراهيم، فطار صوابه حزنًا على مقتل أخيه، واعتبر أبا حنيفة هو السبب في قتله، فأطلق لسانه بجهل عظيم على شيخه أبي حنيفة، كما هو مذكور في مقدمة "الجرح والتعديل" لابن أبي حاتم (1). وإذا تأملنا في متون هذه الأخبار، وجدنا أنه يؤكد ما قلت. لقد قال لأبي حنيفة عندما سأله عن فتيا أخيه بالخروج، وأجابه أبو حنيفة بنعم، قال له: "لا جزاك الله خيرًا". وهذا نص تلك الأخبار، أسوقه لينجلي للقارئ الأمر:
قال الخطيب: "وقال الأبار: حدثنا منصور بن أبي مزاحم، حدثني يزيد بن يوسف، قال: قال لي أبو إسحاق الفزاري، جاءني نُعْيُ أخي من العراق -وخرج مع إبراهيم بن عبد الله الطالبي- فقدمت الكوفة، فأخبروني أنه قتل، وأنه قد استشار سفيان الثوري وأبا حنيفة، فأتيت سفيان أنبئه مصيبتي بأخي، وأخبرت أنه استفتاك. قال: نعم، قد جاءني فاستفتاني، فقلت: ماذا أفتيته؟ قال: قلت: لا آمرك بالخروج ولا أنهاك، قال: فأتيت أبا حنيفة فقلت له: بلغني أن أخي أتاك فاستفتاك؟ قال: قد أتاني واستفتاني، قال: قلت فَبمَ أفتيته؟ قال: أفتيته بالخروج. قال: فأقبلت عليه فقلت: لا جزاك الله خيرًا. قال هذا رأيي، قال فحدثته عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في الرد لهذا، فقال: هذه خرافة -يعني حديث النبي - صلى الله عليه وسلم -" (2).
فمن هذه القصة، ندرك سبب كلامه وبغضه لأبي حنيفة. ومعروف أن قول الشخص في الذي بينه وبينه بغضاء لا يقبل، فقدله: فحدثته بحديث الخ ... غير مقبول منه، ثم لمَ لمْ يذكر الحديث النبوي الذي حدثه به، وتركه هكذا مبهمًا؟ ثم إن أبا حنيفة، لو كان يعني حديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بقوله: "هذه خرافة"، لقال هذا خرافة بالتذكير،  إشارة للحديث، ولكن الظاهر أن الفزاري جاءه بقصة أو حكاية، لرد فتواه، فقال هذه خرافة، أي قصتك أو حكايتك.
ثم إن الفزاري هذا، هو الذي كان يتنقل في الأقطار، ويفْهِم الناس والعلماء والأئمة، بأن ابا حنيفة كان يرى الخروج على الخلفاء، وأنه يرى القلاقل بين المسلمين، وأنْ يضرب بعضُهم رقاب بعض. فها هو يذهب إلى الشام، ويقص على الأوزاعي قصة أخيه، وفتوى أبي حنيفة له، ليدخل في نفسه أن أبا حنيفة يرى السيف في أمة محمّد، فقد قال الخطيب:
"أخبرنا ابن الفضل، أخبرنا ابن درستويه، حدثنا يعقوب، قال: حدثني صفوان بن صالح الدمشقي، حدثني عمر بن عبد الواحد السلمي، قال: سمعت إبراهيم بن محمد الفزاري يحدث الأوزاعي، قال: قتل أخي مع إبراهيم الفاطمي بالبصرة. فركبت لأنظر في تركته، فلقيت أبا حنيفة، فقال لي: من أين أقبلت وأين أردت؟ فأخبرته أني أقبلت من المصيصة، وأردت أخًا لي قتل مع إبراهيم. فقال: لو أنك قُتِلْتَ مع أخيك كان خيرًا لك من المكان الذي جئت منه، قلت: فما يمنعك أنت من ذاك؟ قال: لولا ودائع كانت عندي، وأشياء للناس ما أستأنيتُ في ذلك" (1).
وقد اقتنع الأوزاعي بعد ذلك، بأن أبا حنيفة كان يرى السيف في أمة محمَّد، وكان يحذر منه كثيرًا، ويوصي كل من يقدم عليه من العراق، أو من خراسان، بأن يبتعد عن أبي حنيفة, لأن كان يرى السيف في أمة محمّد -كما فهم عنه بدون أن يراه، أو يستطلع رأيه عن قرب.
وقد ساق الخطيب هنا بسنده إلى ابن المبارك، أنه قال: "كنت عند الأوزاعي، فذكرت أبا حنيفة فلما كان عند الودائع، قلت أوصني، قال: "قد أردت ذلك، ولو لم تسألني، سمعتك تُطْرِي رجلًا يرى السيف في الأمة. قال فقلت: ألا أخبرتني" (2).
ولكن الأوزاعي، ما كان ليبقى على هذا الاعتقاد في أبي حنيفة, لأنه لا غرض له فيما كان يعتقد، وإنما هكذا كان يظن، فلما رأى الحقيقة خلاف ذلك، عرف أن الظن لا يغني من الحق شيئًا، فَغيَّر رأيه فيه، وعاد فأوصى ابن المبارك، بأن يلتزم أبا حنيفة ويستكثر منه.
فقد قال عبد الله بن المبارك: "قدمت الشام على الأوزاعي فرأيته ببيروت، فقال لي: يا خراساني. من هذا المبتدع الذي خرج بالكوفة، يكنى أبا حنيفة؟ فرجعت إلى بيتي، فأقبلت على كتب أبي حنيفة، فأخرجت منها مسائل من جياد المسائل، وبقيت في ذلك ثلاثة أيام، فجئت يوم الثالثة، وهو مؤذن مسجدهم وإمامهم، والكتاب في يدي فقال: أي شيء في الكتاب؟ فناولته، فنظر في مسألة منها ... فما زال قائمًا بعد ما أذن، حتى قرأ قدرًا من الكتاب، ثم وضع الكتاب في كمه، ثم قام وصلى، ثم أخرج الكتاب، حتى أتى عليها. ثم قال لي: يا خراساني، من النعمان بن ثابت هذا؟ قلت: شيخ لقيته بالعراق. فقال: هذا نبيل من المشايخ اذهب فاستكثر منه. قلت: هذا أبو حنيفة الذي نهيت عنه" (1).
فلما اجتمعا بمكة، جاراه في تلك المسائل، فكشفها له أبو حنيفة بكثر مما كتبها عنه ابن المبارك، ولما افترقا، قال الأوزاعي لابن المبارك: "غبطت الرجل بكثرة علمه ووفورة عقله. وأستغفر الله تعالى. لقد كنت في غلط ظاهر. الْزم ارجل، فإنه بخلاف ما بلغني عنه".
أقول: رحم الله الأوزاعي، فلقد كان منصفًا رجاعًا إلى الحق، وهذا والله شأن العلماء المخلصين.
هذا، وإن العنوان الذي عنون به الخطيب لهذه الأخبار وهو: "ذكر ما حكي عن أبي حنيفة من رأيه في الخروج على السلطان"، فيه تهويل ومبالغة، وتعميم وإبهام فليس في الأخبار التي ساقها تحت هذا العنوان، ما يفيد أن أبا حنيفة كان يدعو للثورة على الخلفاء، أو أنه أعلن هذا، وجُلُّ ما في هذه الأخبار، أن أبا إسحاق الفزاري، ادعى أن أبا حنيفة أفتى أخاه في الخروج لمؤازرة إبراهيم بن عبد الله الطالبي عندما استفتاه في ذلك.
وباقي الأخبار تفيد أن الأوزاعي كان يقول عن أبي حنيفة: "إنه كان يرى السيف في أمة محمَّد"، بعد أن جاءه الفزاري وأقنعه بأن أبا حنيفة كذلك -كما مر ولكن الأوزاعي تراجع عن ذلك لما رأى مسائل أبي حنيفة عند ابن المبارك، ثم لما اجتمع بأبي حنيفة في مكة المكرمة، وقد مر ذلك بنا مفصلًا.
والأخبار -كما ذكرت- كلها واهية الإسناد. ففي الخبر الأول، ابن درستويه، وأحمد بن عبيد بن ناصح، وغيرهما، وفي الثاني، أبو شيخ الأصبهاني، وهو عبد الله بن محمّد بن جعفر، وبقية الأخبار التي تتعلق بمقتل أخيه، وسخطه على أبي حنيفة بسبب فتياه إياه بالخروج.
وإن الناقد المنصف، لو سمع نص الخبر الثامن في هذا الفصل، لرأى عجبًا. إذ يدعي فيه صاحبنا الفزاري، أنه سمع سفيان الثوري والأوزاعي يقولان عن أبي حنيفة، إنه ما ولد في الإِسلام مولود أشام على هذه الأمة منه، ويزيد المرء عجبًا حينما يرى الفزاري يكمل الخبر من عنده، فيقول: وكان أبو حنيفة مرجئًا ويرى السيف، ثم يذكر قصة أخيه.
وأنا أسوق الخبر بتمامه، حتى يكون القارئ على بينة من ملابساته وتفصيلاته، قال الخطيب: "أخبرني علي بن أحمد الرزاز، أخبرنا علي بن محمد بن سعيد الموصلي، قال: حدثنا الحسن بن الوضاح المؤدب، حدثنا مسلم بن أبي مسلم الحرقي، حدثنا أبو إسحاق الفزاري قال: سمعت سفيان الثوري والأوزاعي يقولان: ما وُلدَ في الإِسلام مولود أشأم على هذه الأمة من أبي حنيفة، وكان أبو حنيفة مرجئًا يرى السيف. قال لي يومًا: يا أبا إسحاق أين تسكن؟ قلت: المصيصة، قال: لو ذهبت حيث ذهب أخوك كان خيرًا. قال: وكان أخو أبي إسحاق خرج مع المبيضة على المسودة، فقتل" (1).
فقد وصل الأمر بالفزاري أن يستعين بالأئمة، ليطعن في أبي حنيفة، فينسب إليهم القول، ثم يكلمه من عنده، وهل يعقل أن يصدر مثل هذا القول من إمامين جليلين، وقد ورد: "لا شؤم في الإِسلام". كما ورد: "لا شؤم إلا في ثلاث" وأبو حنيفة ليس من تلك الثلاث. وعلى فرض أن الشؤم يوجد في غير تلك الثلاث الواردة في الحديث، وأن أبا حنيفة مشؤوم، فمن أين الأوزاعي والثوري معرفة أنه في أعلى درجات الشؤم؟ ومعرفة أشأم المشؤومين في هذه الأمة لا تكون إلا بوحي، وقد انقطع زمن الوحي! .
وكلمة أخيرة في هذا الفصل، وهي أن الذي يرجع إلى كتب الفقه الحنفي في هذا الباب، وإلى ما ذكره الإِمام أبو جعفر الطحاوي الحنفي المتوفى سنة (321 هـ)، يرى خلاف ما نقله الخطيب عن أبي حنيفة، في هذه الأخبار التالفة.
فهذا أبو جعفر الطحاوي يقول في عقيدته، التي ذكر فيها عن أبي حنيفة وأصحابه ما كانوا يعتقدونه من أصول الدين، ويدينون به رب العالمين ما نصه: "ولا نرى الخروج على أئمتنا وولاة أمورنا، وإن جاروا. ولا ندعو عليهم، ولا ننزع يدًا من طاعتهم، ونرى طاعتهم من طاعة الله عَزَّ وَجَلَّ فريضة، ما لم يأمروا بمعصية، وندعو لهم بالصلاح والمعافاة".
ثم لو علم أبو جعفر المنصور، بأن أبا حنيفة يدعو الناس ويفتيهم بالخروج عليه، لما تلكأ لحظة في القبض عليه وقتله، ولما أمهله، ولقد قتل ابن هبيرة وولده، قبل أن يجف مداد العهد الذي كتب بينهما، كما غدر بأبي مسلم الخراساني وقتله، لمجرد التخوف أن تسول له نفسه بشيء، من الثورة في المستقبل، حتى إنه لم يتورع عن قتل عمه عبد الله بن علي، الذي ثار عليه، ثم هزم واحتمى بأخيه سليمان بن علي بالبصرة، وأعطاه المنصور الأمان حتى سلمه أخوه إياه، فحبسه وقتله بطريقة مريبة.
حتى إنه لما عرض الأمان على محمد بن عبد الله، جمع هذا مخازي أماناته، وكتب إليه: "أما أمانك الذي عرضت، فأي الأمانات هو؟ أامان ابن هبيرة؟ أم أمان عمك عبد الله بن علي؟ أم أمان أبي مسلم؟ والسلام".
فقد ظهر كذب ما جاء في تلك الأخبار في هذا الفصل، من ضعف أسانيدها ومخالفتها للمعقول والمنقول في كتب مذهب أبي حنيفة، وحوادث التاريخ المشهورة.
وأما النقطة الخامسة: وهي -ما حكي عن أبي حنيفة من مستشنعات الألفاظ والأفعال- فقد أورد فيها الخطيب ثلاثة وثلاثين خبرًا، بأسانيد ضعيفة واهية.
أما الخبران الأول والثاني: فيتعلقان بموضوع أن أبا حنيفة يقول: إن الجنة والنار تفنيان، وفي سند الخبر الأول، الخزاز، وفي الثاني، ابن الرماح، وخبرهما غير مقبول.
وأما الخبر الثالث: ففيه أمر لا يخطر بالبال أن يقوله مسلم، وهو أن أبا حنيفة قال: "لو أدركني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأدركته، لأخذ بكثير من قولي".
وهذا نص الخبر الذي ساقه الخطيب: "أخبرنا ابن رزق، أخبرنا أحمد بن جعفر بن سلم، حدثنا أحمد بن علي الأبار، حدثنا إبراهيم بن سعيد، حدثنا محبوب بن موسى، قال: سمعت يوسف بن أسباط يقول: قال أبو حنيفة: لو أدركني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأدركته، لأخذ بكثير من قولي".
وفي الخبر: إبراهيم بن سعيد الجوهري، الذي كان يتلقى وهو نائم، وفيه محبوب بن موسى هو أبو صالح الفراء، وقد قال عنه أبو داود: لا يلتفت إلى حكاياته إلا من كتاب، وفيه يوسف بن أسباط، قال عنه أبو حاتم: لا يحتج به، وقال البخاري: كان قد دفن كتبه، فكان لا يجيء بحديثه كما ينبغي.
فيا سبحان الله! هل يصدق مسلم أن يأتي إمام من أئمة المسلمين، ليقول: إن الرسول لو أدركني لأخذ بكثير من أقوالي؟ ... وهل يأخذ الرسول الأحكام من غير الوحي، أم يدعي أبو حنيفة أن أقواله أحسن من الوحي؟ .. سبحانك ربنا، هذا بهتان عظيم.
وباقي روايات هذا الفصل، يتعلق بأن أبا حنيفة كان يرد الأحاديث، وبألفاظ شنيعة بشعة، منها أنه حين يقال له: إن هذه المسألة يروى فيها عن النبي - صلى الله عليه وسلم - كذا وكذا، كان يقول: "دعنا من هذا". وأحيانًا يقول: "حك هذا بذنب خنزير"، أو "هذا خرافة"، أو "هذا هذيان"، أو "هذا سجع" إلى آخر ما هناك من الألفاظ الشنيعة، التي كان يرد بها حديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، على ذمة تلك الأخبار.
وفي بعض الأحيان، ربما كان يضرب الأمثلة المستهجنة، إذا ذكر أمامه حديث يخالف رأيه، كقوله في معرض رده لحديث: "إذا كان الماء قلتين لم ينجس": "من أصحابي من يبول قلتين". وكقوله لما سأله ابن المبارك عن رفع اليدين في الركوع: "يريد أن يطير فيرفع يديه"؟ فقال له ابن المبارك: إن كان طار في الأولى، فإنه يطير في الثانية، وغير ذلك مما يستهجن ويستقبح - إن صح عنه -رحمه الله.
ومدار أكثر هذه الروايات على أبي إسحاق الفزاري، الذي تقدم في البحث السابق، وهو صاحب الافتراءات في قصة اتهام أبي حنيفة بالخروج على السلطان.
وفي كل رواية كباقي الروايات، رجل أو أكثر ضعيف أو واهٍ، أو متهم بالكذب، ويضيق مثل بحثنا هذا عن سرد جميع ما قيل في رواة أسانيد تلك الروايات، لكثرتها. فمن أحب زيادة البيان، فليرجع إلى تعليقات اللجنة الأزهرية على تلك الأخبار، في تاريخ بغداد، وإلى كتب الجرح والتعديل وكتب "الضعفاء" ليرى الشيء الكثير.
ولا يعقل أن يتفوّه أبو حنيفة بمثل تلك الألفاظ في جانب أحاديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ومعروف أن رد حديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، يكون ببيان علته، أو ضعف رجاله أو نسخه، أما أن يرد: لا لعدم صحته، وبمثل تلك الألفاظ، فهذا كفر واضح، واستهزاء بالرسالة والرسول، وما جاء به عن الله تعالى، فهل يتصور أن يقول هذا إمام من أئمة المسلمين؟
هذا، وقد نقل الأئمة الثقات عن أبي حنيفة، أنه كان يأخذ بحديث رسول الله، فإن لم يجد، فيأخذ بقول الصحابة أو بعضهم، ولا يخرج عن قولهم جميعًا.
فهذا ابن عبد البر ينقل في الانتقاء عن أبي حنيفة ما يلي:
قال ابن عبد البر: "قال أبو يعقوب: ونا محمد بن موسى المروزي، قال: نا محمّد بن عيسى البياض، قال: نا محمود بن خداش، قال: نا علي بن الحسن بن شقيق، قال: سمعت أبا حمزة السكري يقول: سمعت أبا حنيفة يقول: إذا جاء الحديث الصحيح الإسناد عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أخذنا به ولم نَعْدُهُ، وإذا جاء عن الصحابة تخيرنا، وإن جاء عن التابعين زاحمناهم، ولم نخرج عن أقوالهم" (1).
وقد ساق بمعنى الرواية عددًا من الأخبار المتقاربة الألفاظ، المختلفة الأسانيد (2)، نعم، لقد كان أبو حنيفة متشددًا في قبول الأخبار، حذرًا من قبول الأخبار من أي راو، وهو معذور في هذا، وقد كثر الوضاعون في العراق، من أهل البدع والفرق السياسية والمجاهيل والمغفلين، فكان لا يقبل الخبر عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، حتى يتثبت من صحة سنده ومعرفة أحوال رجاله، ومن هذا التشدد في قبول الأخبار، طعن فيه كثير من أهل الحديث، وشنعوا عليه، وفي هذا المعنى يقول ابن عبد البر في "الانتقاء":
"كثير من أهل الحديث استجازوا الطعن علي أبي حنيفة، لرده كثيرًا من أخبار الآحاد العدول، لأنه كان يذهب في ذلك إلى عرضها على ما اجتمع عليه من الأحاديث ومعاني القرآن فما شذ عن ذلك رده وسماه شاذًا، وكان مع ذلك أيضًا يقول: الطاعات من الصلاة وغيرها لا تسمى إيمانًا، وكل من قال من أهل السنة: الإيمان قول وعمل، ينكرون قوله ويبدعونه بذلك، وكان مع ذلك محسودًا عليه لفهمه وفطنته" (3).
والأمر العجيب، أن ترى الإنكار الكثير على أبي حنيفة, لأنه رد بعض الأحاديث -لسبب من الأسباب التي تتعارض مع الأصول التي أصلها وبنى عليها اجتهاده- مع أن جميع أئمة المذاهب المتبوعة، وغيرهم من المجتهدين، ردوا بعض الأحاديث التي صحت عند غيرهم، بل ربما صحت عندهم، فقد قال ابن عبد البر في "جامع بيان العلم":
"أفرط أصحاب الحديث في ذم أبي حنيفة، وتجاوزوا الحد في ذلك، والسبب الموجب لذلك عندهم، إدخاله الرأي والقياس على الآثار واعتبارهما. وأكثر أهل العلم يقولون: إذا صح الأثر بطل القياس والنظر". ثم يقول مدافعًا عنه وعن وجهة نظره.
"وكان رده لما رد من أخبار الآحاد، بتأويل محتمل، وكثير منه قد تقدمه إليه غيره، وتابعه عليه مثله، ممن قال بالرأي. وجُل ما يوجد له من ذلك، ما كان منه اتباعًا لأهل بلده، كإبراهيم  النخعي، وأصحاب ابن مسعود. إلَّا أنه أغرق وأفرط في تنزيل النوازل، هو وأصحابه، والجواب فيها برأيهم واستحسانهم. فأتى منه من ذلك خلاف كبير للسلف، وشنع هي عند مخالفيهم بدع. وما أعلم أحدًا من أهل العلم إلا وله تأويل في آية، أو مذهب في سنة، رد من أجل ذلك المذهب سنة أخرى، بتأويل سائغ أو ادعاء نسخ: إلَّا أن لأبي حنيفة من ذلك كثيرًا، وهو يوجد لغيره قليل" (1).
أقول: إي والله، صدق ابن عبد البر، فقد أفرط أصحاب الحديث في ذم أبي حنيفة، وتجاوزوا الحد في ذلك، فهذا الليث بن سعد يحيى على الإِمام مالك سبعين مسألة، كلها مخالفة لسنة النبي - صلى الله عليه وسلم -، حتى إنه كتب إليه في ذلك؛ روى ذلك عنه ابن عبد البر المالكي في كتابه "جامع بيان العلم" فقال:
"وقد ذكر يحيى بن سلام قال: سمعت عبد الله بن غانم في مجلس إبراهيم بن الأغلب، يحدث عن الليث بن سعد أنه قال: أحصيت على مالك بن أنس سبعين مسألة، كلها مخالفة لسنة النبي - صلى الله عليه وسلم -، مما قال مالك فيها برأيه. قال: ولقد كتبت إليه في ذلك" (2).
ثم قال ابن عبد البر، معقبًا على رواية الليث هذه وعلى ما ذكر عن أبي حنيفة من ردهما لبعض الأحاديث، أو مخالفتهما لبعض أحاديث وردت في السنة:
"وليس لأحد من علماء الأمة، يثبت حديثًا عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، ثم يرده، دون ادعاء نسخ عليه بأثر مثله، أو إجماع، أو يعمل يجب على أصله الانقياد إليه، أو طعن في سنده". ثم قال:
"ولو فعل ذلك أحد، سقطت عدالته، فضلًا عن أن يتخذ إمامًا، ولزمه إثم الفسق" (3). ثم قال ابن عبد البر: "ونقموا أيضًا على أبي حنيفة، الإرجاء، ومن أهل العلم من ينسب إلى الإرجاء كثر، لم يُغْنَ أحد بنقل تبيح ما قيل فيه، كما عنوا بذلك في أبي حنيفة لإمامته. وكان أيضًا مع هذا يحسد وينسب إليه ما ليس فيه، ويختلق عليه ما لا يليق، وقد أثنى عليه جماعة من العلماء وفضلوه. ولعلنا، إن وجدنا نشطة أن نجمع من فضائله وفضائل مالك أيضًا، والشافعي، والثوري، والأوزاعي، كتابًا أملنا جمعه قديمًا في أخبار أئمة الأمصار إن شاء الله" (4).
ونقل ابن عبد البر بسنده إلى أبي حنيفة، فقال: "قيل لأبي حنيفة: المحرم لا يجد الإزار، يلبس السراويل قال لا, ولكن يلبس الإزار. قيل له: ليس له إزار، قال: يبيع السراويل ويشتري بها إزارًا، قيل له: فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - خطب وقال: "المحرم يلبس السراويل إذا لم يجد الإزار". فقال أبو حنيفة: لم يصح في هذا عندي عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فأفتي به، وينتهي كل امريء إلى ما سمع، وقد صح عندنا أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: (لا يلبس المحرم  السراويل)، فننتهي إلى ما سمعنا قيل له: أتخالف النبي - صلى الله عليه وسلم -؟ فقال: لعن الله من يخالف رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، به أكرمنا الله، وبه استنقذنا" (1).
وأما النقطة السادسة: وهي: ما قاله العلماء في ذم رأي أبي حنيفة، والتحذير منه، وما يتعلق بذلك من أخباره-، فقد أطال الخطيب في هذه النقطة، فساق فيها مائة وسبعة وأربعين خبرًا، لا يحتج بها لضعف أسانيد أكثرها, ولمخالفة بعضها صريح القرآن، وما هو مجمع عليه في الدين، واستهلها بأخبار مسندة لعروة بن الزبير، تفيد أن الأمر في بني إسرائيل كان مستقيمًا، حتى نشأ فيهم أبناء سبايا الأمم، فقالوا بالرأي، فهلكوا وأهلكوا. ومراده بسوق هذه الأخبار التعريض بأبي حنيفة، وأنه من سبايا الأمم، ولا أريد الآن البحث في نسب أبي حنيفة، وما يتعلق به، وإنما أذكر القول الفصل في ذلك، وهو قول ربنا سبحانه في كتابه العزيز، الذي أنزله حكمًا بيننا فقال: {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ}.
ثم هذا الحسن البصري، وابن سيرين، وعطاء بن أبي رباح، وسعيد بن جبير، -وكلهم من الموالي-، ومن يُنْكِر فضلهم على المسلمين، في العلم والفتوى والإرشاد والتدريس؟ ثم أعقبها بأخبار تفيد أن رأي أبي حنيفة دخل كل البلاد، إلا المدينة، وذلك لأن المدينة لا يدخلها الطاعون ولا الدجال، وأن أبا حنيفة دجال من الدجاجلة.
وهذا نص الخبر:
قال الخطيب: "أخبرنا ابن الفضل، حدثنا علي بن إبراهيم بن شعيب المغازي، حدثنا محمّد بن إسماعيل البخاري، حدثنا صاحب لنا عن حمدويه، قال قلت لمحمد بن مسلمة: ما لِرَأي النعمان دخل البلدان كلها، إلا المدينة قال: "إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: (لا يدخلها الدجال ولا الطاعون)، وهو دجال من الدجاجلة".
وفي سند هذا الخبر: مجهول يسقط الاحتجاج به، وهو (صاحب لنا)، وإن كان نص الحديث قد صح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - من وجه آخر.
على أن أبا حنيفة، دخل المدينة المنورة، وجالس الإِمام مالكًا وناقشه، فإن كان أبو حنيفة دجالًا، أفيدخل الدجال المدينة، ولا يدخل رأيه إليها؟ .
واعجبًا للتناقض المكشوف!
ثم ساق أخبارًا فيها أقوال لبعض الأئمة، في ذم أبي حنيفة ورأيه، منها: أن مالك بن أنس قال: "كانت فتنة أبي حنيفة، أكبر على هذه الأمة من فتنة إبليس في الوجهين جميعًا: في الإرجاء، وما وضع من نقض السنن".
وفي هذا الخبر: حبيب بن رزق، قال أبو داود عنه: "من أكذب الناس". وقال ابن عدي: "أحاديثه كلها موضوعة".
ومنها قول لعبد الرحمن بن مهدي: "ما أعلم فتنة بعد فتنة الدجال أعظم من رأي أبي حنيفة".
ومنها قول لشريك: "لأن يكون في كل حي من الأحياء خمار، خير من أن يكون فيه رجل من أصحاب أبي حنيفة".
ومنها قول لسفيان الثوري: "حين نَعْيُ أبي حنيفة: الحمد لله الذي أراح المسلمين منه. لقد كان ينقض عُرَى الإِسلام عروة عروة. ما ولد في  الإِسلام مولود أشأم على أهل الإِسلام منه".
وفي هذا الخبر: جرير بن عبد الحميد. قال الخطيب عنه: "كان يروي الموضوعات ويفسد أحاديث الناس" (1). ومنها أقوال كثيرة منسوبة لبعض العلماء، فيها الطعن الشديد على أبي حنيفة وآرائه، لكنها بأسانيد واهية لا تثبت أمام النقد العلمي.
ثم لو فرض صحة هذه الأخبار أو بعضها إلى قائليها. فغايتها أنها أقوال لأقرانه ومعاصريه، الذين حسدوه لذكائه وفطنته، ولما أعطاه الله من حسن الاستنباط والفقه في المسائل، التي جعلت الناس يلتفون حوله، ويستفتونه، ويأخذون برأيه، حتى ذاعت سمعته، وطارت في الآفاق شهرته، ندب في قلوب البعض، داء الأمم السابقة: الحسد والبغضاء، فحسدوه وأبغضوه، وربما قالوا فيه وقت الغضب كلمات تلقفها المغرضون والجهلة، فزادوا فيها ونقصوا، وصَحَّفُوا فيها وحرفوا، ونقلوها إلى المؤرخين والأخباريين، فدونوها وسجلوها على أنها أخبار وصلت إليهم، لا على أنها حقائق لا يتطرق إليها الشك.
وقد تقرر في علم المصطلح، أن قول الأقران في بعضهم لا يقبل، ولو كان كل منهم إمامًا ثقة ثبتًا، يقبل قوله وحديثه، كما أن قول المخالف في المذهب أو الاعقاد، لا يقبل فيمن خالفه، وكذلك قول من يكون بينهم بغضاء أو عداوة، لسبب من الأسباب.
وبناءً على هذا، فلم يقبل الأئمة قول: مالك في محمّد بن إسحاق، إنه دجال الدجاجلة ولا قول ابن معين في الشافعي: إنه ليس بثقة، ولا قول عكرمة في سعيد ابن المسيب، ولا كلام ابن أبي ذئب في الإمام مالك، ولا كلام أهل المدينة في أهل العراق جملة.
وقد عقد ابن عبد البر في جامع بيان العلم، بابًا جيدًا جدًّا في هذا الموضوع، سماه "باب حكم قول العلماء بعضهم في بعض"، استهله بحديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "دب إليكم داء الأمم قبلكم، الحسد والبغضاء هي الحالقة، لا أقول تحلق الشعر، تحلق الدين ... " (2).
ثم نقل كلام ابن عباس: "استمعوا علم العلماء، ولا تصدقوا بعضهم على بعض، فوالذي نفسي بيده، لهم أشد تغايرًا من التيوس في زربها".
ثم عقب على ذلك بكلام جامع طيب له فقال: "هذا باب قد غلط فيه كثير من الناس، وضلت به نابتة جاهلة لا تدري ما عليها في ذلك، والصحيح في هذا الباب، أن من صحت عدالته، وثبتت في العلم إمامته، وبانت ثقته وعنايته بالعلم، لم يلتفت فيه إلى قول أحد، إلا أن يأتي في جرحته ببينة عادلة، تصح بها جرحته على طريق الشهادات، والعمل فيها من المشاهدة والمعاينة لذلك بما يوجب قوله من جهة الفقه والنظر. وأما من لم تثبت إمامته، ولا عرفت عدالته، ولا صحت لعدم الحفظ والإتقان روايته، فإنه ينظر  فيه إلى ما اتفق أهل العلم عليه، ويجتهد في قبول ما جاء به، على حسب ما يؤدي النظر إليه والدليل".
ثم يقول: "على أنه لا يُقبل فيمن اتخذه جمهور من جماهير المسلمين، إمامًا في الدين، قول أحد من الطاعنين" (1). ثم ذكر أقوال السلف بعضهم في بعض، وذكر أنها لا تقبل, لأنها قيلت في وقت الغضب غالبًا، أو لسبب كان بينهم لا نعرف خفاياه.
ثم ختم الباب بقول أسنده إلى أبي داود السجستاني، صاحب السنن, وهو: "رحم الله مالكًا، كان إمامًا، رحم الله الشافعي، كان إمامًا، رحم الله أبا حنيفة، كان إمامًا".
فأبو حنيفة، الذي ثبتت في الدين إمامته، واشتهرت بين المسلمين عدالته وأمانته، وانتشر في أقطار المسلمين علمه ونزاهته، واتبع فقهه أكثر المسلمين على مدى القرون إلى هذا اليوم، لا يقبل فيه قول أحد من الطاعنين، ولا يلتفت فيه إلى حسد الحاسدين".
ثم ذكر محمود الطحان: نقدًا للخطيب فيما أورده من مثالب أبي حنيفة حيث قال:
"إنه قال مما لا شك فيه، أن الخطيب -رحمه الله- مؤرخ في كتابه الذي ترجم فيه لأبي حنيفة وغيره، ولا لوم عليه، أن يذكر كل ما بلغه عن الأشخاص الذين ترجم لهم في تاريخه من أقوال الناس فيهم، من المناقب والمثالب.
ولقد أشار إلى ذلك -قبل إيراده مثالب أبي حنيفة- معتذرًا إلى من وقف عليها وكره سماعها، بأن أبا حنيفة أسوة غيره من العلماء الذين ترجم لهم، وذكر أقوال الناس فيهم على تباينها.
لكني ألاحظ على الخطيب في ذلك بعض الملاحظات وهي:
أ- ترجيحه لصحة مثالب أبي حنيفة على مناقبه، على غير عادته في باقي التراجم.
فإنه بعد أن سرد مناقب أبي حنيفة، عقب عليها بقوله: "وقد سقنا عن أيوب السختياني، وسفيان الثوري، وسفيان بن عيينة، وأبي بكر بن عياش، وغيرهم من الأئمة، أخبارًا كثيرة، تتضمن تقريظ أبي حنيفة، والمدح له، والثناء عليه. والمحفوظ، عند نقلة الحديث من الأئمة المتقدمين-، وهؤلاء المذكورون منهم-، في أبي حنيفة، خلاف ذلك وكلامهم فيه كثير لأمور شنيعة حفظت عليه، متعلق بعضها بأصول الديانات، وبعضها بالفروع، نحن ذاكروها بمشيئة الله، ومعتذرون إلى من وقف عليها وكره سماعها، بأن أبا حنيفة عندنا، مع جلالة قدره، أسوة غيره من العلماء الذين دونا ذكرهم في هذا الكتاب وأوردنا أخبارهم، وحكينا أقوال الناس فيهم على تباينها، والله الموفق للصواب" (2). ومعلوم أن المحفوظ عند أهل العلم بالحديث يقابله الشاذ. وأن الشاذ مردود في مقابل المحفوظ، فتكون مناقب أبي حنيفة التي ساقها، مردودة سلفًا-، في حكم الخطيب-، كما أن مثالبه مقبولة سلفًا. وهو أمر  غير صحيح كما مر.
ب- عدم التزامه بما ذكره من نقل أقوال الناس على تباينها في كل التراجم:
فعلى سبيل المثال، عندما ترجم للإمامين الشافعي وأحمد بن حنبل رضي الله عنهما، لم يذكر في ترجمتهما إلا المناقب فقط-، وهو الواجب واللائق بهما وبأمثالهما- ولم يذكر ما قاله العلماء فيهما من الطعن، ولو كان غير صحيح (1)، فلم يلتزم بقوله: "إن أبا حنيفة، أسوة غيره من العلماء، في ذكر أقوال الناس فيهم على تباينها".
جـ - بيانه ضعف الحديث وعلته، فيما يتعلق بتقريظ أبي حنيفة فقط:
فعندما كان يسرد مناقب أبي حنيفة، أورد حديثًا عن أبي هريرة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: (إن في أمتي رجلًا -وفي حديث القصري- يكون في أمتي رجل اسمه النعمان، وكنيته أبو حنيفة، هو سراج أمتي، هو سراج أمتي، هو سراج أمتي) (2).
ثم عقب عليه بقوله: "قلت: وهو حديث موضوع تفرد بروايته البورقي، وقد شرحنا فيما تقدم أمره، وبينا حاله".
مع أن أورد أخبارًا موضوعة في مثالبه، ولم يشر إلى وضعها بل عنون لها بأنها من المحفوظ. وعندما ساق سؤال يحيى بن معين: "هل حدث سفيان عن أبي حنيفة؟ قال: "نعم، كان أبو حنيفة ثقة صدوقًا في الحديث والفقه، مأمونًا على دين الله". ثم علق الخطيب على ذلك بقول: "قلت: أحمد بن أبي الصلت، هو أحمد بن عطية، وكان غير ثقة، وهكذا فعل في عدد من المواضع، فحينما يكون في الرواية ما يشير إلى تبرئة أبي حنيفة، من تهمة أو عيب شائن، كان يبين علة الخبر، ويضعفه ليرد الخبر ولا يقبل.
د- ختمه ترجمة أبي حنيفة بخاتمة سيئة جدًّا:
فقد ختم ترجمة أبي حنيفة، بإيراد رؤيا لبعض الناس، أنه رأى في المنام جنازة عليها ثوب أسود، وحولها قسيسون، وعندما سأل النائم عن صاحب تلك الجنازة، قيل له: إنها جنازة أبي حنيفة.
وأسوق نص القصة كما أوردها الخطيب، ليطلع القارئ على شناعة هذه الرؤيا، التي سطرها الخطيب في تاريخه، وجعل الناس على اختلاف طبقانهم يقرأون مثل هذه الرؤيا السيئة، في خاتمة ترجمة أبي حنيفة.
قال الخطيب: "أخبرنا ابن الفضل، أخبرنا عبد الله بن جعفر، حدثنا يعقوب بن سفيان، حدثنا عبد الرحمن، قال: سمعت علي بن المديني، قال: قال لي بشر بن أبي الأزهر النيسابوري، رأيت في المنام جنازة عليها ثوب أسود، وحولها قسيسون، فقلت: جنازة من هذه؟ فقالوا: جنازة أبي حنيفة، حدثت أبا يوسف فقال: لا تحدث به أحدًا" (3). فهل قلّت روايات المثالب في ترجمة أبي حنيفة -وهي زهاء ستين صفحة، حتى اضطر أن  يكمل المثالب بإيراد الأحلام والرُّؤى الشيطانية!
وقد جاء في الحديث، الأمر بإفشاء الرؤيا الحسنة، وعدم إفشاء الرؤيا السيئة بين الناس، والاقتصار على الاستعاذة بالله من الشيطان، والتفل ثلاث مرات عن الشمال، حتى لا تضره تلك الرؤيا.
فإذا كان الرائي خالف الحديث، وقصها على الناس-، على فرض صحتها-، فما بال الخطيب يعينه على نشرها وإفشائها، بتسطيرها مسندة في تاريخه الذي سيقرأه الناس على مر الأجيال؟ لعل الخطيب اعتبرها رؤيا حسنة-، في جانب أبي حنيفة، الذي ما ولد في الإِسلام أشأم منه-، فأراد تثبيتها ونشرها، ابتغاء وجه الله واتباعًا للسنة! .
وختامًا لهذا البحث، أود أن ألفت النظر إلى أن فضيلة الأستاذ الشيخ محمّد أبو زهو، قد بحث في كتابه: "الحديث والمحدثون"، بحثًا قيمًا يتعلق بما أورده بعض الناس، من الشبه في حق أبي حنيفة، من جهة قلة بضاعته في الحديث أو من جهة عدم إخراج أصحاب الصحيحين له شيئًا في صحيحيهما، ومن نواح أخرى. وأجاب عنها بكلام جيد مقنع. فمن أحب المزيد من الإيضاح فليرجع إلى الكتاب المذكور) أ. هـ.
* قلت: ولقد نقلناه بنصه من أجل الفائدة ولعلنا أيضًا سوف ننقل ما قاله أحد الباحثين من خلال رسالته في الدكتوراه بنصه، وليس ذلك للإطالة وإنما لتنوع المصادر والباحثين على مختلف أزمانهم وبحوثهم، وللمقارنة التي بينهم والتقارب لوجوه النقد عندهم، فالتطويل في دفع أمر الشبهات عند الخطيب وغيره عن الإِمام أبي حنيفة هو أحد أهدافنا في الذود عن هذا العلم الشامخ .. والله تعالى المستعان.
والآن نذكر بحث (مكانة الإِمام أبي حنيفة بين المحدثين) للدكتور محمّد قاسم عبد الحارثي، وأخذ الأمر في نقده لروايات الخطيب وبقية الأئمة، وسوف ننقله بنصه للفائدة وزيادة العلم حيث قال الدكتور محمّد الحارثي:
"سوف نلتزم بادئ ذي بدء بنقل كل ما قيل في تجريح أبي حنيفة رحمه الله ولكن سوف نقف بعض الشيء عند كلام الأئمة المعتبرين في هذا الشأن حتى يكون للكلام قيمة.
هذا وقبل أن ننقل كلام الأئمة لا بد أن نسوق الأقوال التي ذكرها الخطيب في تاريخه والتي أثارت جدلًا كبيرًا بين العلماء وسوف نرد على كل قول تفصيلًا من ناحية الإسناد والمتن ثم نرجى المناقشة الإجمالية للفصل الذي يليه.
قال الخطيب:
أخبرنا الحسين بن محمّد بن الحسن أخو الخلال أخبرنا جبريل بن محمّد بن المعدل -بهمذان- حدثنا محمّد بن حيويه النخاس حدثنا محمود بن غيلان حدثنا وكيع قال الثوري يقول: نحن المؤمنون وأهل القبلة عندنا مؤمنون في المناكحة والمواريث والصلاة والإقرار، ولنا ذنوب ولا ندري ما حالنا عند الله؟ قال وكيع: وقال أبو حنيفة: من قال بقول سفيان هذا فهو عندنا شاك، نحن المؤمنون هنا وعند الله حقًّا. قال وكيع: ونحن نقول بقَوْل سفيان وقول أبي حنيفة  عندنا جرأة (1).
أما من ناحية الإسناد فلا داعي لمناقشته لأن القضية نفسها مختلف فيها بين العلماء وموافقو أبي حنيفة كثيرون والقضية معروفة في كتب العقائد بمسألة الاستثناء، والمثير للسخرية في جعل هذه القضية مطعنًا على أبي حنيفة أنهم لا يدرون أن سفيان الثوري نفسه رجع عن قوله وأخذ بقول أبي حنيفة.
قال الخطيب:
أخبرنا علي بن محمّد بن عبد الله المعدل أخبرنا محمد بن عمرو بن البختري الرزاز حدثنا حنبل بن إسحاق حدثنا الحميدي حدثنا حمزة بن الحارث بن عمير عن أبيه قال: سمعت رجلًا يسأل أبا حنيفة في المسجد الحرام عن رجل قال: أشهد أن الكعبة حق ولكن لا أدري هي هذه التي بمكة, أم لا؟ فقال: مؤمن حقًّا، وسأله عن رجل قال أشهد أن محمّد بن عبد الله بني ولكن لا أدري هذا الذي بالمدينة؟ فقال مؤمن حقًّا، قال الحميدي: ومن قال هذا فقد كفر (2).
وهذه الرواية باطلة من أصلها فلا أبو حنيفة قالها ولا الحميدي كفر قائلها لأنها من انتحال ووضع الحارث بن عمير، فهو من الوضاعين الكذابين قال الذهبي: كذبه ابن خزيمة وقال الحاكم: روى عن الحميدي أحاديث موضوعة، وقال ابن حبان: يروي الموضوعات عن الأثبات.
فهؤلاء أئمة الجرح يكذبونه بل ينصون على أنه يكذب على الحميدي ويضع الأخبار على لسانه.
وهذا كاف لرد الرواية وإسقاطها حتى من استحقاق المناقشة.
ولكن الخطيب مؤاخذ في إيراد هذه القضية لأنه كان يجب أن ينبه إلى كذب الحارث لأنه كذبه في تاريخه (3).
قال الخطيب:
وقال الحارث بن عمير: وسمعته يقول: لو أن شاهدين شهدا عند قاض أن فلان بن فلان طلق امرأته وعلما جميعًا أنهما شهدا بالزور ففرق القاضي بينهما، ثم لقيها أحد الشاهدين فله أن يتزوج بها؟ قال: نعم، قال: ثم على القاضي بعد، أله أن يفرق بينهما؟ قال: لا.
وهذه الرواية من رواية الحارث الكذاب أيضًا، ولو سلمنا أن الرواية صحيحة فهذا رأي فقهي مستند إلى دليل مشهور في كتب الفقه، أخذه أبو حنيفة عن عمر وعلي رضي الله عنهما. ووجهة النظر أن طلاق القاضي وتفريقه وقع ونفذ لأن القاضي لم يعلم بالواقع، والإثم على الشهود، والشاهد تزوجها بعد حصول التفريق -وإن كان باطلًا في نظره- لكنها طلقت، وأبو حنيفة متابع هنا ويشترك مع غيره كالشعبي، والكل متفقون أن الشهود آثمون مرتكبون أكبر الكبائر. فالتشهير في هذه المسألة واضح فيه الحقد الدفين من هذا الكذاب الحقود الحسود، الذي لم يجد شيئًا يشين به هذا الإمام إلا ما رآه بنظره الأخرق أنه على غير صواب.

قال الخطيب:
أخبرنا محمد بن الحسين بن الفضل القطان أخبرنا عبد الله بن جعفر بن درستويه حدثنا يعقوب بن سفيان حدثنا علي بن عثمان بن نفيل حدثنا أبو مسهر حدثنا يحيى بن حمزة وسعيد يسمع أن أبا حنيفة قال: لو أن رجلًا عبد هذه النعل يتقرب بها إلى الله لم أر بذلك بأسًا. فقال سعيد: هذا الكفر صراحًا (1).
ورواها مرة أخرى فقال: حدثنا ابن رزق أخبرنا أحمد بن جعفر بن سلم حدثنا أحمد بن علي بن الأبار حدثنا عبد الأعلى بن واصل حدثنا أبي حدثنا ابن فضيل بن القاسم بن حبيب قال: وضعت نعلي في الحصى ثم قلت لأبي حنيفة: أرأيت رجلًا صلى لهذه النعل حتى مات إلا أنه يعرف الله بقلبه؟ فقال: مؤمن، فقلت: لا أكلمك أبدًا.
وهاتان الروايتان المضطربتان تنطقان بالكذب الواضح والافتراء الذي لا يخشى الله ففي الأولى عبد الله بن جعفر بن درستويه النحوي، ضعفه اللالكائي وقال البرقاني: ضعفوه (2). وعلي بن عثمان بن نفيل مجهول لم أجد من ترجم له. ولعله خبط في السند خبط عشواء أو ألصق هكذا. ثم إن يحيى بن حمزة إن كان القاضي المشهور فهو دمشقي، ولم يثبت أن أبا حنيفة رحل إلى الشام ولم يدخل يحيى الكوفة. ولم يلتق بأبي حنيفة وإن كانا متعاصرين (3). وإن كان غيره فهو مجهول أيضًا. وفي الرواية الثانية: القاسم بن حبيب قال عنه ابن معين: لا شيء وضعفه الذهبي وابن الجوزي عن كثير من العلماء.
وأما من ناحية المتن فإننا نحيل أن يصدر مثل هذا عن أبي حنيفة بل نحيل أن يصدر مثل هذا عن أصغر عالم من علماء المسلمين فما لنا عن عالم شهدت له الدنيا بالعلم والعقل فما هذا إلا من التعصب المذهبي قاتل الله دعاته.
قال الخطيب:
أخبرنا أبو سعيد الحسن بن محمد بن حسنويه الكاتب -بأصبهان- أخبرنا عبد الله بن محمد بن عيسى بن مزيد الخشاب حدثنا أحمد بن مهدي بن محمد حدثنا أحمد ابن إبراهيم حدثني عبد السلام -يعني ابن عبد الرحمن- قال حدثني إسماعيل بن عيسى بن علي قال: قال لي شريك: كفر أبو حنيفة بآيتين من كتاب الله تعالى؛ قال الله تعال: {وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ} [البينة: 5] وقال الله تعالى: {لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَعَ إِيمَانِهِمْ} [الفتح: 4] وزعم أبو حنيفة أن الإيمان لا يزيد ولا ينقص، وزعم أن الصلاة ليست من دين الله. (4)
وهذا كلام باطل سندًا ومتنًا، أما من ناحية الإسناد فهذا إسناد مظلم فيه ضعاف: أولهم عبد السلام بن عبد الرحمن الوابصي فهو متكلم فيه وفي فقهه، والحسد وارد في مثل هذه المواطن (1).
وأحمد بن إبراهيم مجهول ليس في الرواة عن عبد السلام كما لم أجده في شيوخ أحمد بن مهدي.
وفيه أيضًا شريك -صاحب المقالة- وهو شريك بن عبد الله بن أبي نمر القرشي، وليس النخعي، وإيراد الخطيب له هكذا يوحى بأنه شريك النخعي حتى يصدم القارئ فيظن أن شريكا يكفر أبا حنيفة. والواقع أنه شريك بن أبي نمر وهو من أقران أبي حنيفة في السن وإن كان هذا استقر في المدينة المنورة، ولكنه كان ضعيفًا عند جمهور العلماء فقد ضعفه ابن أبي حاتم وابن عدي وابن الجوزي والذهبي (2) وهو في نفس الوقت لا يقبل جرحه ولا تعديله لأن الأقران غالبًا ما يعودهم الحسد إلى الخروج عن الاعتدال.
وأما من ناحية المتن فإن قضية زيادة الإيمان ونقصانه وهل ينقص أم لا فهي مسألة خلافية، فقال الأشاعرة وأكثر الماتريدية إن الإيمان لا يزيد ولا ينقص، وقال المحدثون والمعتزلة والشيعة: إنه يزيد وينقص، وهي مسألة قديمة وسوف نتكلم عنها في الفصل التالي الذي سنعقده خصيصًا للرد على مثل هذه الأمور.
وأما قوله: إنه القائل: إن الصلاة ليست من دين فهذا تزوير فالقضية أنها ليست من الإيمان كما سيأتي.
قال الخطيب:
"أخبرنا أبو القاسم عبد الرحمن بن محمد بن عبد الله السراج -بنيسابور- أخبرنا أبو الحسن أحمد بن محمد بن عبدوس الطرائفي حدثنا عثمان بن سعيد الدارمي حدثنا محمود بن موسى الأنطاكي قال: سمعت أبا إسحاق الفزاري يقول: سمعت أبا حنيفة يقول: إيمان أبي بكر وإيمان إبليس واحد، قال إبليس: يا رب، وقال أبو بكر الصديق يا رب، ومن كان من المرجئة لم يقل فانكسر عليه قوله (3).
وهذا الكلام باطل سندًا ومتنًا، أما السند ففيه محبوب بن موسى الأنطاكي قال عنه أبو داود: لا يلتفت إلى حكاياته التالفة. وقال الدارقطني: صويلح ليس بالقوي (4)، وفيه أبو إسحاق الفزاري إبراهيم بن محمّد بن الحارث قال عنه ابن سعد: كان كثير الخطأ وهو ثقة (5). ولكنه لم يسلم من حسد الأقران فلا يقبل منه هذا الكلام إن صح. وأما من ناحية المتن فكيف يجوز أن يصدر هذا الكلام من مسلم بغض النظر عن كونه إمامًا من الأئمة؟ وكيف يستبيح لنفسه مسلم أن ينسب هذا لأحد من الأئمة العظماء؟ .
قال الخطيب:
"أخبرني الخلال حدثنا علي بن عمر بن محمد المشتري حدثنا محمّد بن جعفر الأدمي حدثنا أحمد بن عبيد حدثنا طاهر حدثنا وكيع قال: اجتمع سفيان الثوري وشريك والحسن بن صالح وابن أبي ليلى فبعثوا إلى أبي حنيفة قال فأتاهم فقالوا له: ما تقول في رجل قتل أباه ونكح أمه وشرب الخمر في رأس أبيه؟ فقال: مؤمن، فقال له ابن أبي ليلى: لا قبلت لك شهادة أبدًا، وقال له سفيان الثوري: لا كلمتك أبدًا، وقال له شريك: لو كان لي من الأمر شيء لضربت عنقك وقال له الحسن بن صالح: وجهي من وجهك حرام أن أنظر إلى وجهك أبدًا" (1).
وهذا الكلام -وإن كانت تلوح عليه علامات الوضع والاختلاق فإن كل من دون وكيع ضعفاء ومجهولون- إلا أننا ننظر في الكلام هل هو مثار شبهة أو بدعة أو كفر؟ إن أهل السنة والجماعة مجمعون على أن مرتكب الكبائر مؤمن ليس بكافر.
وهل يجوز التشنيع عليه في هذا؟ لا شك أن المقصود هو التمحك فقط لا غير.
والأولى أن نقول: إنها حكايته مختلقة. فقد تقدم ثناء الثوري على الإِمام وكذلك وكيع.
قال الخطيب:
أخبرنا أبو القاسم إبراهيم بن محمّد بن سليمان المؤدب -بأصبهان- أخبرنا أبو بكر بن المقريء قال حدثنا سلامة بن محمود القيسي -بعسقلان- حدثنا عبد الله بن محمّد بن عمرو قال: سمعت أبا مسهر يقول: كان أبو حنيفة رأس المرجئة (2).
وقد روى الخطيب اتهام أبي حنيفة بالإرجاء كثيرًا، وهذا سوف نتعرض له في فصل مستقل إن شاء الله.
قال الخطيب:
أخبرنا أبو بكر محمّد بن عمر بن بكير المقرئ أخبرنا عثمان بن أحمد بن سمعان الرزاز حدثنا هيثم بن خلف الدوري حدثنا محمود بن غيلان حدثنا محمد بن سعد عن أبيه قال: كنت مع أمير المؤمنين -موسى بجرجان- ومعنا أبو يوسف، فسألته عن أبي حنيفة فقال: وما تصنع به وقد مات جهميًا (3). وكذلك يروي روايات أخرى أن أبا حنيفة كان جهميًا وسيأتي الرد على هذه الفرية في مبحث مستقل إن شاء الله.
قال الخطيب:
أخبرنا البرقاني حدثني بن العباس الخزاز حدثنا جعفر بن محمد الصندلي حدثنا إسحاق بن إبراهيم -ابن عم ابن منيع- حدثنا إسحاق بن عبد الرحمن حدثنا حسن بن أبي مالك عن أبي يوسف قال: أول من قال القرآن مخلوق أبو حنيفة (4).
وهذه الرواية وكثير من الروايات التي ساقها الخطيب ناطقة بالكذب والافتراء فما كان أبو حنيفة ليقول هذا وما كان أبو يوسف ليشهد بهذه الشهادة وإنما هذا من اختلاق جعفر بن محمّد الصندلي فهو ضعيف شديد الضعف (1).
وإسحاق ابن عم ابن منع مجهول أيضًا والحسن بن أبي مالك أيضًا مجهول.
وسوف يأتي الحديث عن رد قول من زعم أن أبا حنيفة يقول بخلق القرآن.
قال الخطيب:
أخبرنا محمد بن عبيد الله الحنائي أخبرنا محمّد بن عبد الله بن إبراهيم الشافعي حدثني عمر بن الهيثم البزاز أخبرنا عبد الله بن سعد- بقصر ابن (؟ ؟ ) حدثني أبي أن أباه أخبره أن ابن أبي ليلى كان يتمثل بهذه الأبيات:
إلى شنآن المرجئين ورأيهم ... عمر بن ذر وابن قيس أعاصر
وعتيبة الدباب لا نرضى به ... وأبو حنيفة شيخ سوء كافر (2)
انتهى نقل الخطيب ولم يرض الخطيب ومن في إسناده إلا أن يرموا أبا حنيفة بالكفر وهذا منزلق خطير جدًّا وصل إليه من رضي أن ينقل مثل هذا الكلام وأن يضعه في كتاب تقرأه الأجيال من بعده فإنا لله وإنا إليه راجعون.
ثم إن الرواية فيها مجاهيل، حيث لم أعثر على ترجمة لعمر بن الهيثم كما لم أعثر على ترجمة عبد الله بن سعيد الذي يروي عن أبيه عن جده، وظاهر من السند أن الحكاية مختلقة لا أساس لها وهي تدور على الخطيب نفسه الذي يسأل عن إيراد مثل هذه الحكاية. وللأسف فقد أورد ثلاث روايات تتهم أبا حنيفة بالشرك والكفر دون تعليق مع أنه قد علق على الأحاديث التي فيها ذكر أبي حنيفة، أو صفة من صفاته مع أن الرواية المذكورة تحت رقم (46 - 47) فيها كذاب مشهور فلم يعلق عليه حيث يقول: أخبرنا محمّد بن عبد الله الشافعي حدثنا محمّد بن يونس حدثنا ضرار بن ورد قال حدثني سليم المقرئ حدثنا سفيان الثوري قال: "قال لي حماد بن أبي سليمان: أبلغ عني أبا حنيفة المشرك أني بريء منه حتى يرجع عن قوله في القرآن" (3).
وضرار بن ورد كذبه يحيى بن معين وتركه البخاري والنسائي، وقال النسائي: ليس بثقة، وضعفه الدارقطني وقال حسين بن محمد القباني: تركوه، وقال الساجي: عنده مناكير (4).
وإن كان الكذب متهمًا به ضرار بن ورد إلا أن الملامة نقع على الخطيب، كيف يروي مثل هذه الرواية؟ وكيف يسكت إذا رواها, لقد لاحظنا أن أي رواية ترفع من قدر أبي حنيفة فنرى أن الخطيب يسكت ولا يشير، مع شهرة الكذابين في الأسانيد التي يسوقها وهذا مسلك مريب يلقى بظلال من الشكوك الثقيلة حول دوافع الخطيب من إيراد مثل هذه الحكايات -مع العلم أنه قد ذكر الخطيب تكذيب هؤلاء في تاريخه- حتى ولو أسندها وتبرأ من عهدتها فهي  لاصقة به وبكتابه، ولذا نستطيع أن نقول: إن الكوثري مصيب في معظم ردوده على الخطيب في كتابه الذي ألفه خصيصًا للرد على الخطيب في إيراد المثالب التي قيلت في أبي حنيفة. وقد سبق إلى رد هذه الافتراءات ابن عبد البر حيث قال: قيل لعبد الله بن داود الخريبي يومًا: يا أبا عبد الرحمن إن معاذًا يروي عن سفيان الثوري أنه قال: استتيب أبو حنيفة مرتين، فقال عبد الله بن داود: هذا والله كذب، قد كان بالكوفة عليّ والحسن ابنا صالح بن حي وهما من الورع بالمكان الذي لم يكن مثله وأبو حنيفة يفتي بحضرتهما, ولو كان من هذا شيء ما رضيا به، وقد كنت بالكوفة دهرًا فما سمعت بهذا (1).
فهذا نص واضح في اختلاق هذه الحكايات من قبل أعداء أبي حنيفة وتصريح من الثوري بأن ما يثار حول أبي حنيفة لم يكن شيء منه زمن أبي حنيفة، وإنما اخترعه المتعصبون الذين جاءوا من بعدهم أو من الحساد الحاقدين الكاذبين الذين عاصروا الإِمام أبا حنيفة، وأثاروا حوله هذه الشبهة، وسيأتي رد هذه الشبه في فصل مستقل إن شاء الله تعالى.
قال الخطيب:
"أخبرنا ابن الفضل أخبرنا عبد الله بن جعفر بن درستويه حدثنا يعقوب بن سفيان حدثني صفوان بن صالح حدثنا عمر بن عبد الواحد قال سمعت الأوزاعي يقول: أتاني شعيب بن إسحاق وابن أبي. مالك وابن علاق وابن ناصح فقالوا: قد أخذنا عن أبي حنيفة شيئًا فانظر فيه، فلم يبرح بي وبهم حتى رأيتهم، فمما جاؤوني به عنه أنه أحل لهم الخروج على الأئمة (2).
ومثل هذه أيضًا روى الخطيب منها تسعة آثار كلها واهية الإسناد يريد منها الخطيب أن يثبت ويلصق هذه الحكايات بأبي حنيفة زورًا وبهتانًا مع أنه يعلم قبل غيره أنها باطلة وأسانيدها واهية. فابن الفضيل مجهول وابن درستويه تقدم ضعفه الشديد. وما جاء في هذه الروايات جميعًا يخالف رأي أبي حنيفة نفسه، ويخالف قواعد فقهه المأخوذ عنه. وسيأتي تفصيل ذلك في فصل مستقل إن شاء الله.
قال الخطيب:
أخبرنا أبو سعيد الحسن بن محمّد بن عبد الله بن حسنويه الأصبهاني أخبرنا عبد الله بن محمّد بن عيسى الخشاب حدثنا أحمد بن مهدي حدثنا أحمد بن إبراهيم حدثنا عبد السلام بن عبد الرحمن حدثني إسماعيل بن عيسى بن علي الهاشمي قال حدثني أبو إسحاق الفزاري قال: كنت آتي أبا حنيفة أسأله عن الشيء من أمر الغزو فسألته فأجاب فيها، فقلت له: إنه يُرْوَى فيها عن النبي - صلى الله عليه وسلم - كذا وكذا؟ قال: دعنا من هذا.
قال وسألته يومًا آخر عن مسألة قال: فأجاب فيها، فقلت له: إن هذا يروى عن النبي - صلى الله عليه وسلم - فيه كذا وكذا، فقال: حك هذا بذنب خنزير (3).
وهذه طامة تنضم إلى الطامات السابقة، فإلى جانب ضعف الراوي -عبد السلام ابن عبد الرحمن الذي تقدم- فإن شيخه إسماعيل بن عيسى بن علي الهاشمي مجهول الحال. وقد حاول الشيخ الألباني أن ينفي عنه الجهالة فلم يأت له بتوثيق أو تعديل وإنما طعن علي الكوثري عدم معرفته، على حين هو لم يأت له بتعريف (1).
ثم إن المتن نفسه مرفوض سواء صح السند أو لا، فهل يعقل أن يصدر مثل هذا الكلام عن إمام شهد الأئمة بحسن أدبه مع الناس ثم هو يتردى في مثل هذه المهاوي؟ ثم لماذا لم يذكر الفزاري تلك الأحاديث التي خالفها أبو حنيفة ولم يمتثل الانصياع إليها، ألا يحتمل أن تكون أحاديث باطلة؟ ألا يحتمل أن تكون المسألة كلها مختلقة وليدة ساعتها فلم يستطع المسؤول عن هذه الرواية أن يرتب المسألة ويرتب الحديث، ولكنه بدهاء ومكر لم يحدد المسألة ولم يحدد الحديث حتى يصرف الأنظار عن مناقشته إلى التفكير في مخالفة أبي حنيفة للحديث، وما يزعمه من قلة أدبه مع الحديث. وهذا كلام حتى لو صح سنده إلى الفزاري فلا يجوز أخذه ولا الاعتبار به, لأن كبار الأئمة أثنوا على أبي حنيفة فلا يعقل صدور مثل هذا منه ولا شك أن المتن واضح البطلان، وفيه إفراط في الحقد والتعصب، واجتراء على إلصاق الضلال بالمخالفين، وهذا ليس من عمل العلماء على الإطلاق.
قال الخطيب:
حدثنا محمَّد بن علي بن مخلد الوراق -لفظا- قال في كتابي عن أبي بكر محمَّد بن عبد الله بن صالح الأسدي الفقيه المالكي قال سمعت أبا بكر بن أبي داود السجستاني يوما وهو يقول لأصحابه: "ما نقول في مسألة اتفق عليها مالك وأصحابه والشافعي وأصحابه، والأوزاعي وأصحابه، والحسن بن صالح وأصحابه وسفيان الثوري وأصحابه وأحمد بن حنبل وأصحابه فقالوا له: يا أبا بكر لا تكون مسألة أصح من هذه فقال: هؤلاء كلهم اتفقوا على تضليل أبي حنيفة" (2).
وهذه الرواية أيضًا باطلة سندًا ومتنا. وأما من ناحية الإسناد فصاحبها والمسؤول عنها ابن أبي داود وهو عبد الله بن سليمان بن الأشعث السجستاني وأبوه أبو داود صاحب السنن المشهور، قال عنه أبوه: ابني عبد الله هذا كذاب، وقال ابن صاعد: كفانا ما قال أبوه فيه. وقال إبراهيم الأصبهاني: أبو بكر بن أبي داود كذاب (3).
وقد حاول الكثيرون أن ينفوا الكذب عن ابن أبي داود فمنهم من قال إن أباه كذبه في أول طلبه ولكنه كبر وساد وأصبح إماما، ومنهم من  قال: تفرد أبوه بتكذيبه فلا يقبل، وأكثرهم اعتمد على رد ابن عدي حيث أشار إلى اعتداله ولكنه قال أخيرًا: لا أدري أي شيء تبين له منه. وبعد هذا يأتي الشيخ الألباني (1)، يحاول بشتى أنواع المحاولات وشتى أنواع الطرق لكي ينفى عنه الكذب لكنه لم يستطع أن ينفيه عنه أول شبابه وعليه فنقول: حسنًا نحن نريد هذا فهو إمام بعد ما كبر وكذاب في شبابه وعليه نحن نقول: إن هذه الكلمة صدرت منه في شبابه لأننا لا نتصور إمامًا حافظًا لسنة رسول الله يفترى مثل هذا الافتراء الواضح. فكل هؤلاء الأئمة الذين ذكرهم ابن أبي داود أثنوا على الإمام أبي حنيفة كما تقدم مثل الإمام مالك والثوري.
ثم إني أستغرب أشد الغرابة من مسلك الشيخ الألباني في التنكيل يصارع بكل ما أوتي من قوة لإثبات كلام ابن أبي داود وتوثيقه ولم يحاول محاولة واحدة لرد هذا الافتراء وهو واضح جدًّا يريد (2) أن يسقط إمامًا دانت له الدنيا وعمل بمذهبه المسلمون ألف عام أو يزيد، ولا يريد أن تشك ابن أبي داود شوكة من أجل فرية قالها في شبابه.
وماذا يحصل لو رددنا كلام ابن أبي داود وجعلناه من قبيل التعصب أو من قبيل السقطات المعدودات التي لا تنال من الرجل، ونكون ساعتها حفظنا مقام الإِمام أبي حنيفة، ووقفنا عند حد معقول أمام ابن أبي داود خاصة وأن أقرب الناس إليه وأعرف الناس به لم يكن يرضى عنه، فهل هذا هو الإنصاف؟ وهل هذه هي طريقة العلماء المحققين؟ لا شك أنه جانب الصواب، وبعد عن الحق بعدًا كبيرًا.
وخلاصة القول: إننا نرفض مثل هذا الافتراء على أبي حنيفة، وأكثر ما نستطيع أن نوجهه إلى ابن أبي داود أن نقول له: سامحك الله، ولا نريد أن ننزلق إلى أي كلمات من كلمات التكذيب، بل نقول إن هذه الكلمات لم تغض من مقام أبي حنيفة. ولم ترفع من مقام ابن أبي داود، وإنما هي سقطة من السقطات المعدودة التي تؤخذ على أي عالم، وسبحان الذي تنزه عن العيب والنقصان.
قال الخطيب:
"أخبرنا ابن دوما أخبرنا ابن سليم حدثنا الأبار حدثنا الحسن بن علي الحلوانى حدثنا أبو صالح -يعني الفراء- حدثنا أبو إسحاق الفزاري قال: حدثت أبا حنيفة حديثًا في رد السيف، فقال: هذا حديث خرافة" (3).
ثم أورد الخطيب عدة روايات أشنع من هذه ومدارها كلها إن أبا حنيفة يرد الحديث أو يستهزئ به، كل هذا باطل لا أساس له. وفي هذه الرواية ابن دوما -الحسن بن الحسين بن دوما النعالي- قال الذهبي: بغدادي ضعيف ألحق نفسه في طباق أي كان يدعي سماع من لم يسمع منهم ثم قال وهذا تزوير (4).
ويتمادى الخطيب حتى يروي لنا بإسناده أن أبا حنيفة رد أربعمائة حديث وأورد منها "للفرس سهمان وللراجل" وحديث "البيعان بالخيار ما لم  يتفرقا" و"أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أقرع بين نسائه" والباحث في فقه أبي حنيفة يجد أن هذه الأحاديث مأخوذ بها في مذهبه ولا يحاسب الإنسان إلا على ما دون واعتقد دون ما يشك في نسبته إليه. وهذه الروايات جميعها لا تسلم من مطعن وإذا سلم الطريق فإن صاحب الرواية إما حاسد أو جاهل كما قال الأئمة كما تقدم، فالحاسد قد يعذر، والجاهل لا يلتفت إلى كلامه.
قال الخطيب:
"أخبرنا أبو نعيم الحافظ حدثنا محمد بن أحمد بن الحسن الصواف حدثنا بشر بن موسى حدثنا الحميدي حدثنا سفيان عن هشام بن عروة عن أبيه قال: لم يزل أمر بني إسرائيل معتدلًا حتى ظهر فيهم المولدون أبناء سبايا الأمم فقالوا فيهم بالرأي، فضلوا وأضلوا. قال سفيان: ولم يزل أمر الناس معتدلًا حتى غير ذلك أبو حنيفة -بالكوفة، وعثمان البتي بالبصرة، وربيعة الرأي بالمدينة فنظرنا فوجدناهم من أبناء سبايا الأمم" (1).
وهذه الرواية -مع ما تقدم من رأى ابن عيينة في أبي حنيفة- تنطق بالانتحال والوضع على لسان سفيان بن عيينة، فسفيان بن عيينة رحمه الله أول مقر بفضل أبي حنيفة ورأيه وعلمه وأخبر الناس به عن قرب، كما أن ابن عيينة أجل قدرًا من أن يفوه بمثل هذا الكلام الذي لا يجري إلا على لسان جاهل أو من فقد خوف الله من قلبه.
وسيأتي رد هذه الافتراءات كلها في الفصل التالي.
قال الخطيب:
أخبرنا الفضل حدثنا علي بن إبراهيم بن شعيب الفازي حدثنا محمّد بن إسماعيل البخاري حدثنا صاحب لنا عن حمدويه قال: قلت لمحمد بن مسلمة: ما لرأي النعمان دخل البلدان كلها إلا المدينة؟ قال: إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "لا يدخلها الدجال ولا الطاعون" "هو دجال من الدجاجلة" (2) وكذلك يروى روايات كثيرة بهذا المعنى.
وهذه الرواية وإن كان فيها البخاري رحمه الله إلا أن شيخه مجهول لم يسم، ومع ذلك لو سمى فلن يزيد في الأمر شيئًا فالحكاية من أصلها موضوعة منتحلة يتطاير منها شرر الحسد والبغضاء والتعصب، والرواية نفسها ترد على من افتراها إذ أن فقه أبي حنيفة دخل المدينة والحجاز في عهد أبي حنيفة وفيما بعده بل قد ظل يحكم بمذهب أبي حنيفة من أواخر أيام هارون الرشيد إلى أن سقطت الدولة العثمانية فأي ورطة أوقع الرواة أنفسهم فيها -وإن كان هناك رواة- فإما أن لا يصدقه الحديث وإما أن يكذبوهم، وحاشا الحديث الصحيح أن يتخلف قيد أنملة عما حدث به النبي - صلى الله عليه وسلم -، ولم يبق إلا كذب الرواة واختلاقهم هذا الكلام عن محمّد بن مسلمة أو عن غيره من الأئمة.
بل إن كثيرًا من أهل المدينة الآن يتمذهبون بمذهب أبي حنيفة ويعملون بموجبه، وخاصة الجالية التي نزحت في مطلع القرن الحالي عندما ذبح الملايين من المسلمين في الجمهوريات الإِسلامية في روسيا، وكل من كان يذهب إلى المدينة المنورة قبل خمسين سنة كان يرى بعينه أربعة مشايخ تدرس المذاهب الأربعة أولهم شيخ الحنفية، وما زالت بقاياه حتى الآن وإن لم يكن بتكليف رسمي.
فهل يصح الحسد إلى هذه الدرجة من إنكار الأشياء أو المغالطات المتعمدة؟ .
قال الخطيب:
"أخبرنا ابن الفضل أخبرنا عبيد الله بن جعفر بن درستويه حدثنا يعقوب بن سفيان حدثني الحسن بن الصباح حدثنا إسحاق بن إبراهيم الحنيني قال: قال مالك: ما ولد في الإِسلام مولود أضر على أهل الإِسلام من أبي حنيفة.
قال: وكان يصيب الرأي ويقول: قبض رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقد تم هذا الأمر واستكمل فإنما ينبغي أن نتبع آثار رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه ولا نتبع الرأي، وإنه متى اتبع الرأي جاء رجل آخر أقوى منك فاتبعته، فأنت كلما جاء رجل غلبك اتبعته، أرى هذا الأمر لا يتم".
وهذه الرواية باطلة من ناحية السند لأن فيها ضعيفًا وهو إسحاق بن إبراهيم الحنيني، قال عنه ابن أبي حاتم: سمعت أبي يقول: رأيت أحمد بن صالح لا يرضى الحنيني، وقال البخاري: في حديثه نظر، وقال النسائي: ليس بثقة، وقال أبو الفتح الأزدي: أخطأ في الحديث، وضعفه العقيلي، وابن حبان، وابن الجوزي والذهبي وكثيرون (1).
وأما من ناحية المتن فهو ضعيف من وجهين لا وجه واحد:
الوجه الأول:
أن هذا كلام نابع من قرين أو مقارب لأبي حنيفة، وجرح الأقران لا يعتمده العلماء.
الوجه الثاني:
أنه معارض بما روى عن مالك من أوجه كثيرة وطرق متعددة أنه كان يثنى على أبي حنيفة ورأيه؟ وقد تقدم كثير من هذا.
فهذا افتراء على مالك وافتراء على أبي حنيفة رحمهما الله، ولله در الحسد ما أعدله بدأ بصاحبه فقتله. وسيأتي المزيد من البيان لهذه الافتراءات في مبحث خاص إن شاء الله.
قال الخطيب:
"أخبرنا ابن رزق أخبرنا عثمان بن أحمد بن حنبل حدثنا الحميدي حدثنا وكيع حدثنا أبو حنيفة أنه سمع عطاء - إن كان سمعه - (2).
ومعنى هذا أنه يشكك في سماع أبي حنيفة من عطاء، وبناء عليه فأحاديثه عنه منقطعة. وهذه الرواية لا داعي أن ننظر في إسنادها -وإن كان الخطيب وشيخه ضعيفين- إلا أننا سوف نفترض أن وكيعًا رحمه الله قال ذلك أو شكك في سماع أبي حنيفة من عطاء، لكن تقدم معنا أن وكيعًا روى عن أبي حنيفة وأثنى عليه، وأن المصادر جميعًا اتفقت على سماع أبي جنيفة من عطاء بن أبي رباح، ومعظم المصادر تقول (1): إن عطاء توفي سنة أربع عشرة ومائة ومنها من يقول أكثر، والمعروف أن أبا حنيفة أقام بمكة كثيرًا وحج كثيرًا وعطاء مكي وكان مفتي مكة ومفتي الحجيج الرسمي، فأي حاج في تلك السنوات يستطيع أن يسمع عطاء دون مشقة، فأي مانع من سماعه؟ وما الدليل على عدمه؟ .
قال الخطيب:
"أخبرنا البرقاني أخبرنا أبو بكر الحبابي الخوارزمي -بها- قال سمعت أبا محمّد عبد الله بن أبي القاضي يقول سمعت محمّد بن حماد يقول: رأيت النبي - صلى الله عليه وسلم - في المنام فقلت: يا رسول الله ما تقول في النظر في كلام أبي حنيفة وأصحابه! ! ! انظر فيها وأعمل عليها؟ قال: لا. لا. لا.-ثلاث مرات- قلت: فما تقول في النظر في حديثك وحديث أصحابك انظر فيها وأعمل عليها؟ قال: نعم. نعم. نعم. -ثلاث مرات- ثم قلت: يا رسول الله علمني دعاء أدعو به فعلمني دعاء وقاله لي ثلاث مرات فلما استيقظت نسيته" (2).
وهذه رواية يصل بها الخطيب إلى ذروة أدلته في تجريح أبي حنيفة ورفض مذهبه فقد استدل بنص قاطع على النهي عن تقليد مذهب أبي حنيفة والعمل بمذهبه، وهذا كلام مرفوض مردود لعدة وجوه:
أولًا: من ناحية إسناده فيه مجاهيل البرقاني شيخ الخطيب وعبد الله ابن أبي القاضي، وأما محمد بن حماد فإن كان الحافظ فالسند إليه غير صحيح وإن كان غيره فضعيف لأن هناك عشرة لهم هذا الاسم كلهم ضعاف ما عدا الرازي ومهما يكن من أمر فالسند غير صحيح.
ثانيًا: من ناحية المتن فهذا كلام متناقض لا يقوله رجل يخاف الله ولا يتفوه به عاقل، إذ كيف يحفظ المتحدث لا من النبي - صلى الله عليه وسلم - كم مرة، وينسى دعاء علمه إياه الرسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثلاث مرات! ! !
أليس هذا دليلًا على التناقض والغفلة؟ ؟ ومثل هذا لا يؤبه بكلامه.
ثم كيف ينهاه النبي - صلى الله عليه وسلم - عن العمل بمذهب أبي حنيفة وقد انتشر في الآفاق وأصبح مذهب الدولة الرسمي حيث إن أبا يوسف من أصحاب أبي حنيفة الذين شملتهم الرؤيا وشملهم المنع، وأبو يوسف آنذاك قاضي القضاة يحكم ويفتي بمذهب أبي حنيفة وآرائه. وقد ظل قاضي القضاة زمنًا، وقضاته معظمهم من أصحاب أبي حنيفة وأتباعه. وجمهور الأمة يعمل بمذهبهم ويحتكم إليه، ثم كيف يكون هذا والنبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: لا تجتمع أمتي على ضلالة وجمهور الأمة يعمل برأي أبي حنيفة الذي يزعم الرائي -والله أعلم من يكون- أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهاه نهيًا أكيدًا عن اتباعه والعمل به؟ ؟ .
أليست رائحة التعصب الصادرة من هذه الرواية تزكم الأنوف وتثير الدهشة والحيرة، ألم ير الراوي غير رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ليلصق به هذه الفرية؟ ألم يجد شيئًا آخر ينفس به عن الحسد الذي يغلي بداخله وثورة التعصب التي تتأجج؟ ألا فليتق الله كل مسلم، وعلى الأخص كل عالم، فليس كل ما يسمع يقال وليس كل ما يقال يكتب ويسطر، فمثل هذا يعتبر سبة على جبين صاحبه لا يمحوها الدهر.
قال الخطيب:
"أخبرنا محمد بن عبد الله الحنائي أخبرنا محمّد بن عبد الله الشافعي حدثنا محمّد بن إسماعيل السلمي حدثنا أبو توبة الربيع بن نافع حدثنا عبد الله بن المبارك قال: من نظر في كتاب الحيل لأبي حنيفة أحل ما حرم الله وحرم ما أحل الله" (1).
"وبإسناد آخر عن النضر بن شميل يقول: في كتاب الحيل كذا وكذا مسألة كلها كفر" (2).
وبإسناد آخر عن ابن المبارك -وما أكثر الزعم عن ابن المبارك- قال: من كان عنده حيل أبي حنيفة يستعمله أو يفتي به فقد بطل حجه وبانت منه امرأته، فقال مولى ابن المبارك: يا أبا عبد الرحمن ما أدري وضع كتاب الحيل إلا شيطان، فقال ابن المبارك: الذي وضع كتاب الحيل أشر من الشيطان (3).
ثم يذكر الخطيب بعد ذلك روايات كثيرة تدور حول نسبة هذا الكتاب -كتاب الحيل- لأبي حنيفة، ثم الحديث عما في كتاب الحيل من الكفر والأباطيل، ونحن إذا أردنا أن نتحدث عن كتاب هذه صفته نجد أنفسنا في كنى عن مناقشته أو الحديث عنه, لأن الموضوع كله ينصب في نسبة هذا الكتاب له، وبغض النظر عن رجال هذه الآثار والطرق الموصلة إليهم.
وبادئ ذي بدء نقول: إن الكتاب كتاب وهمي اخترعه واخترع ما فيه أحد هؤلاء الرواة ثم ألصقه بأبي حنيفة ليرضي تعصبه دونما نظر لرض الله سبحانه وتعالى ودونما مراعاة لحق مسلم اللهم إلا إذا استحلوا أن يكفروا مؤمنًا فعند ذلك لا حاجة للمناقشة ولا سبيل إلى الحديث عنهم أو معهم لأنه سيكون في أي حال من الأحوال تنابز بالكفر وتشاتم وتسابب نهى عنه الإِسلام ولا يجوز أن نتكلم به ونحن نعيب التعصب ونطلب من الناس الإنصاف.
والذي يجعلنا نرفض إلصاق هذا الكتاب بالإمام أبي حنيفة رحمه الله أنه لم يذكر أحد من أصحاب التراجم -وهم عشرات- هذا الكتاب من مصنفات أبي حنيفة وأصحاب التراجم هؤلاء منهم الشافعي والحنبلي والمالكي ومع هذا فلم يذكروا كتابًا مثل هذا له، ولم يذكره سوى الخطيب، وكل من ذكره بعده فإنما هو ناقل عن الخطيب.
والذي ذكروه من كتب الحيل الشرعية فإنما نسب إلى أبي بكر -أحمد ابن عمر- الحصاف الحنفي المتوفى سنة (261 هـ) وأبي بكر الصيرفي محمّد بن محمّد الشافعي البغدادي. والمتوفي سنة (330 هـ) وأبي حاتم القزويني وأبي عبد الله  اليزيدي النحوي -محمَّد بن عباس- المتوفى سنة (313 هـ) ولابن دريد اللغوي -محمَّد بن الحسن- المتوفى سنة (321 هـ).
ولم يقل أحد إن أبا حنيفة ألف في الحيل، أو له كتاب في الحيل، فمن أين جاؤوا بهذا الكتاب وكيف ساغ لهم إلصاقه به، اللهم إلا إرادة التشهير وإثارة الفتن، وكأنهم كما قال الشاعر:
رموني بالعيوب ملفقات ... وقد علموا بأني لا أعاب
وأني لا تدنسني المخازي .. وأني لا يروعني السباب
ولما لم يلاقوا فيَّ عيبا ... كسوني من عيوبهم وعابوا (1)
وقد تصدى له للرد على هذه الروايات الإمام ابن تيمية رحمه الله -كما نعرفه بأنه أكثر الناس دفاعًا عن مذاهب السلف وأصولهم وقواعدهم- فقال: "ولا يجوز أن ينسب الأمر بهذه الحيل التي هي محرمة بالاتفاق أو هي كفر إلى أحد الأئمة، ومن ينسب ذلك إلى أحد منهم فهو جاهل بأصول الفقهاء" (2).
وقال أيضًا: "وإنما عرضنا هنا أن هذه الحيلة التي هي محرمة في نفسها لا يجوز أن ينسب إلى إمام أنه أمر بها فإن ذلك قدح في إمامته وذلك قدح في الأمة حيث ائتموا بمن لا يصلح للإمامة، وفي ذلك نسبة بعض الأئمة إلى تكفير أو تفسيق، وهو غير جائز" (3).
والإمام ابن تيمية يريد أن يقول لمثل هؤلاء: إن الحق أحق أن يتبع فلا يجوز الطعن في إمام من الأئمة المتبوعين، فمن فعل ذلك فهو جاهل بأصول الفقهاء، لا غير. وهو فوق ذلك يرتكب محرمًا من المحرمات لا يسوغها أي ظرف ولا يجيزها أي عالم.
فمن الذي يستحل المحرمات إذن؟ هل الذي اتهم ولم تثبت تهمته ولم يقل إلا ما أداه إليه اجتهاده فيما لا نص فيه؟ أم الذي يتهجم على العلماء دون دليل، ولا يتهجم فحسب! ! بل يكفر من يقول: لا إله إلا الله ومن دانت له الدنيا وأقرت له بالعلم وشهدت له بالإيمان والإمامة؟ فمن يا ترى يحل ما حرم الله ويحرم ما أحل ولماذا لم يقيموا لنا دليلًا واحدًا على نسبة هذا الكتاب إلى الإمام الأعظم؟ ؟ ولو كان لديهم دليل ما تأخروا لحظة ولا توانوا برهة, لأنهم حاولوا جاهدين البحث عن خطأ أو زلل فلما أعياهم ذلك لفقوا التهم واختلقوا الحكايات.
وإذا كانوا يرون أن أبا حنيفة خرج عن مسيرة المحدثين، فهل يجوز لمحدث أن يختلق أن يتهم دون دليل؟ وهل يجيز الحديث للمحدثين تكفير الناس؟ نقول بملء الفم: لا، فهذا ليس من شيم المحدثين، وإنما المحدثون الحقيقيون الذين قالوا عندما سئلوا عن الإِمام أبي حنيفة: لا نكذب الله ما رأينا شيئًا. فهذا هو الإنصاف أنه لا يريد أن يمدح ولا يثني ولكنه لم يجد ذمًا فخاف الله أن يتقول على إنسان بما ليس فيه وذلك هو البهتان العظيم.
وإلى هنا نكتفي بالقدر الذي نقلناه عن الخطيب في تجريح الإِمام أبي حنيفة والذي سوف نرد عليه بعد تصنيف ذلك الكلام. والرد على هذه الشبهة شبهة ولم يبق إلا أن نورد ألفاظ التجريح المصطلحية التي ذكرها بعض العلماء المشهورين بالجرح والتعديل. وسوف أوردها أولًا مع ذكر مصادرها، ثم أعود فأصنفها ثم نرد عليها واحدة واحدة من أقوال العلماء والأئمة الآخرين، والاستشهاد بالأدلة والقرائن التي تنفي صحة ما نقله هؤلاء الأئمة.
أولًا: قول البخاري:
قال البخاري في التاريخ الكبير: كان مرجئًا. سكتوا عنه.
وقال في التاريخ الصغير (1): سمعت إسماعيل بن عرعرة يقول: قال أبو حنيفة: جاءت امرأة جهم إلينا ها هنا فأدبت نساءنا.
وقال: "سمعت الحميدي يقول: قال أبو حنيفة: قدمت مكة فأخذت من الحجام ثلاث سنن: لما قعدت بين يديه قال لي استقبل القبلة، وبدأ بشق رأسي الأيمن، وبلغ إلى العظمين" قال الحميدي: فرجل ليس عنده سنن عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولا أصحابه في المناسك وغيرها كيف يقلد أحكام الله في المواريث والفرائض والزكاة والصلاة وأمور الإسلام (2).
أما قوله في التاريخ الكبير: سكتوا عنه فهذه تحسب لأبي حنيفة من حيث اصطلاح البخاري، لأنه إذا قال عن فلان مسكوت عنه فإنه يعني عنده أنه مقبول.
كما قال الدارقطني (3)، وإن كنا في الواقع نأبى على البخاري أن يصدر منه هذا الحكم إلا أننا لا نستطيع مناقشته لأنه نقله عن شيخه الحميدي، والحميدي إنما ضعفه لأجل ما بلغه من أنه كان مرجئًا، وهذه قضية سوف نفرد لها مبحثًا خاصًّا مع الشبه التي أثيرت حول الإِمام. والمسؤول عنها الحميدي لأنه رواها بلا إسناد وعلق عليها بكلامه يطعن بعلم أبي حنيفة وفقهه، وهو ليس من أقران أبي حنيفة (4) -أقصد الحميدي عبد الله بن الزبير- ولم يذكر لنا عمن روى هذه الحكاية وأنه أخذ سنن المناسك من حجام، ولنفرض أنه صح منه هذا الكلام فلعلها كانت أول حجة حجها وقد كان سنه فيها صغيرًا لم يطلب العلم بعد، وهل يعقل أن يقول هذا بعد أن صار إمامًا يعلم الأمة مناسكها وحلالها وحرامها ثم هو يجهل كيف يحلق شعره على السنة؟ كنا نود ألا ينزلق الإِمام الحميدي إلى مثل هذا -والكلام لاصق به لا محالة- وما كنا نود أن تخرج هذه الكلمات من أئمة الحديث, لأنهم أوقعونا في حرج بالغ، ومع هذا فإن اتهام الحميدي لأبي  حنيفة بالإرجاء أمر مرفوض. وله مبحث خاص إن شاء الله.
ثانيًا: قول ابن أبي حاتم:
قال ابن أبي حاتم: أخبرنا صالح بن أحمد بن حنبل أخبرنا علي بن المدني قال: سمعت يحيى بن سعيد يقول: مر بي أبو حنيفة وأنا في سوق الكوفة فلم أسأله عن شيء، وكان جاري بالكوفة فما قربته ولا سألته عن شيء (1).
وهذه الرواية -وإن كانت ذكرت على سبيل الطعن- إلا أنها لا تجوز أن تعتبر جرحًا في الإِمام وأن يحيى بن سعيد تركه, لأن عدم سؤاله في العلم ليس معنى ذلك تركه في الحديث، فابن القطان كان إمامًا وعنده علم بأمور دينه فلم يسأل عنها غيره؟ وقد سأل قبل ذلك ورحل وتجول في الآفاق، وأما عدم قربه له فلعله لما بين المحدثين والفقهاء أصحاب الرأي من التجافي بعض الشيء كما هو معروف، ولو صح السند إلى يحيى بن سعيد وصح قصد جرحه فإننا لا نقبله أيضًا لأن جرح الأقران غير مأخوذ به خاصة إذا كان مبنيًّا على التعصب كما سيأتي.
وقال ابن أبي حاتم: إن ابن المبارك ترك الرواية عن أبي حنيفة بآخره سمعت أبي يقول ذلك (2).
ولكنه لم يذكر عمن نقل هذا الكلام والمعروف أن أبا حاتم لم يلق ابن المبارك ولا عاصره, لأن أبا حاتم -محمد بن إدريس بن المنذر الرازي- ولد سنة (195 هـ)، وتوفي سنة (277 هـ) (3) بينما عبد الله بن المبارك توفي سنة (181 هـ)، ونحن لا نقبل كلام أبي حاتم أيضًا لأنه قد اتفق المحدثون على أن ابن المبارك روى عن أبي حنيفة وكان من أخص تلاميذه فهذا ما جاء أحد يقول بخلاف ذلك فإننا نطالبه بالدليل، ولم يذكر لنا أبو حاتم ما دليله على ذلك؟ أليس هذا هو الحق؟ ألا ترى أننا لو ذكرنا شيئًا لأبي حاتم بسند منقطع لسارع إلى رفضه وعدم قبوله، إذن فنحن لا نقبله إلا بدليل، ولم يأت به.
وقال ابن أبي حاتم أيضًا: أخبرنا إبراهيم بن يعقوب الجوزجاني -فيما كتب إلى- عن أبي عبد الرحمن المقريء قال: كان أبو حنيفة يحدثنا فإذا فرغ من الحديث قال: هذا الذي سمعتم كله ريح وباطل (4).
وهذا كلام مردود سندًا ومتنًا، أما من ناحية السند فإبراهيم بن يعقوب الجوزجاني دمشقي توفي سنة (259 هـ) (5) وأبو عبد الرحمن المقرى كوفي توفي سنة (185 هـ) (6)، فالانقطاع ظاهر بينهما فلا يصح السند، علاوة على أن ابن أبي حاتم يروي ذلك عنه مكاتبة وقد تكلم العلماء في الوجادة  والمكاتبة حتى إن منهم من ردها، بالإضافة إلى ضعف الجوزجاني فقد ضعفه ابن حبان وتابعه الذهبي (1)، ولكن يكفينا الانقطاع الذي عليه وبه نرد الخبر من أساسه.
وأما من ناحية المتن فغير معقول أن يجلس إمام في مسجد ثم يحدث الناس ثم بعد انتهاء كلامه يقول: إن كل ما حدثتكم به ريح وباطل، من هذا الذي يقول ذلك، هل من المعقول أن يقولها رجل شهد له بالذكاء والعقل وبديهة الحجة فطاحل العلماء، ثم إذا حدث الناس قال لهم لا تصدقوا كل ما قلته لكم فكلامي ريح وباطل! ! ماذا حصل؟ هل وصلت الخصومة إلى هذه الدرجة اتهام بالجنون تارة واتهام بالكفر والضلال تارة أخرى؟ .
وروى عن إبراهيم بن يعقوب الجوزجاني أيضًا -كتابه أيضًا- حدثني إسحاق بن راهويه قال: سمعت جريرًا يقول: قال جرير بن محمّد اليمامي: سرق أبو حنيفة كتب حماد مني (2).
وهذا الكلام مردود سندًا ومتنًا، أما من ناحية الإسناد فإن الراوي العمدة هنا ضعيف لا يحتج به -أقصد محمّد بن جابر اليمامي- فقد ضعفه ابن أبي حاتم نفسه وقال عنه: ضعيف كثير الوهم (3). وضعفه النسائي والعقيلي وابن حبان وابن عدي والذهبي وابن الجوزي وأكثر العلماء (4).
وأما من ناحية المتن فغير مقبول أيضًا من اليمامي هذا الكلام، فماذا يفعل أبو حنيفة بسرقة كتب حماد منه؟ هل سيجد فيها ما لم يسمعه من شيخه حماد الذي لازمه أكثر من عشرين سنة؟ أم سيزداد رفعة عند الناس بادعائه سماعات حماد كلها؟ وهل كانت الصلة الوطيدة بين أبي حنيفة وحماد تمنع أن يعطيه كتبه كلها أو يقرأها عليه، وهل كان أبو حنيفة الغني جدًّا يعدم وسيلة في الحصول على كتب حماد الذي كان أبو حنيفة نفسه يعينه على قضاء حوائجه الدنيوية كما تقدم. وهذا وهم ولا شك صادر من رجل كثير الأوهام كهذا الشيخ الذي يدعي لأن إمامًا كبيرًا أقر له الأكابر بالتقوى والورع، رحم الله اليمامي ما كان أعناه من مثل هذا الادعاء الذي ينال منه قبل أن ينال من أبي حنيفة ولكنه الحسد الذي يعمى ويصم.
ثالثًا: قول النسائي:
قال النسائي في الضعفاء: "أبو حنيفة النعمان بن ثابت ليس بالقوي في الحديث" (5).
وهذا الكلام نقله عنه الذهبي في ميزان الاعتدال (6)، وكذلك نقله عنه ابن الجوزي إلا أنه زاد وأربى وغير وبدل في كلام الأئمة المنقول في كتبهم (7).
وكلام النسائي هذا لا يعتبر جرحًا:
أولًا: لأن كلمة "ليس بالقوي" ليس معناها ضعيف، وإنما هي إشارة إلى وجود أشياء عنده، وإذا قبلنا قول النسائي هذا ليس معناه أنه ضعيف ولكننا في الحقيقة لا نقبله لأنه لم يفسر هذا الجرح -إن اعتبرناه جرحًا- وقد تقدم توثيق العلماء له وثناؤهم على حفظه.
ثانيًا: لأن الجرح إذا لم يكن مفسرًا لا يقبل حتى من إمام معاصر إذا عرف وجود تنافس بين الأقران، ومعلوم أن التنافس بين المحدثين وأهل الرأي كان على أشده.
ثالثًا: إذا تعارض الجرح الذي لم يفسر مع التعديل المفسر وكان المعدل عارفًا بما قيل فيه فلا شك أننا تقدم التعديل على التجريح دون تردد.
وهذا أمر يسري على كل التجريح الذي ذكرناه والذي سنذكره.
رابعًا: قول ابن حبان:
قال ابن حبان: "حدثنا زكريا بن يحيى الساجي بالبصرة قال: حدثنا بندار ومحمد بن علي المقدمي قال: حدثنا معاذ بن معاذ العنبري قال: سمعت سفيان الثوري يقول: استتيب أبو حنيفة من الكفر مرتين (1).
وهذا نص إذا نظر الخبير فيه قال: ليس بعد هذا كلام فهو منقول عن إمام جليل بسند كلهم ثقات. ولكن الأمر ليس على وجهه فهو غير مقبول من ثلاثة وجوه:
الوجه الأول: في الخبر إبهام وإيهام أما الإبهام فإن ابن حبان أو الثوري لم يذكرا من الذي استتاب أبا حنيفة من الكفر وهذه مسؤولية ابن حبان لأنه تبنى تضعيف أبي حنيفة وأصر على ذكر روايات تصل به إلى حد الكفر، ولكنه كان أذكى من الخطيب وأكثر دربة منه على إلقاء الأسانيد والإيقاع بالخصوم وأما الثوري فالمسؤولية تقع عليه إن صح السند إليه، وإن كنت أميل إلى ما مال ابن عبد البر الذي سأنقل كلامه قريبًا.
وأما الإيهام فإن ابن حبان ذكر إسنادًا رجاله ثقات، ثم ذكر الأمر مبهما دون تعقيب أو توضيح ليوهم القارئ أن أبا حنيفة كفر واستتيب من الكفر مرتين.
ثالثًا: الوهم وقع من ابن حبان في القضية المثارة حيث عمى عليه التصحيف أو تعامى عنه أو لم يشأ أن يرده إلى أصله لحاجة في نفس يعقوب وهي ليست خافية على المطلع على ما بين المحدثين وأصحاب الرأي.
ونحن لا يجوز لنا أن نرد على مثل هؤلاء الثقات وإنما يرد عليهم من هو مثلهم أو فوقهم، ولذا يروى لنا ابن عبد البر في الانتقاء قال: قيل لعبد الله بن داود الخريبي يومًا: يا أبا عبد الرحمن إن معاذًا يروي عن سفيان الثوري أنه قال: استتيب أبو حنيفة من الكفر مرتين؟ ؟ فقال عبد الله بن داود: هذا والله كذب، قد كان والله بالكوفة علي والحسن ابنا صالح بن حي -وهما من الورع بالمكان الذي لم يكن مثله- وأبو حنبفة يفتي بحضرتهما, ولو كان من هذا شيء ما رضيا به، وقد كنت بالكوفة دهرًا فما سمعت بهذا (1).
أقول فجزى الله الخريبي عنا وعن أبي حنيفة خيرًا فقد كفانا مؤونة الرد على مثل هؤلاء (2).
وأما قضية الاستتابة هذه وحقيقتها فإن الكرماني يوضحها تمامًا ويزيل كل غموض فيها فيقول: عن الإمام أبي بكر عتيق بن داود اليماني أن الخوارج لما ظهروا على الكوفة أخذوا أبا حنيفة فقيل لهم: هذا شيخهم -والخوارج يعتقدون كفر من خالفهم- فقالوا: تب يا شيخ من الكفر، فقال: أنا تائب إلى الله من كل كفر، فخلَّوا عنه، فلما ولى قيل لهم: إنه تاب من الكفر وإنما يعني ما أنتم عليه، فردوه، فقال رأسهم: يا شيخ إنما تبت من الكفر وتعني به ما نحن عليه فقال أبو حنيفة: أبظن تقول هذا أم بعلم؟ فقال: بل بظن، فقال أبو حنيفة: إن الله يقول: {إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ} (3) وهذه خطيئة منك، وكل خطيئة عندك كفر فتب أولًا أنت من الكفر، فقال: صدقت أنا تائب من السفر، فتب أنت أيضًا من الكفر، فقال أبو حنيفة رحمه الله: أنا تائب إلى الله من الكفر.
هكذا كان يجب على من يدعي الأمانة والاستيثاق ألا ينقل إلا ما يتأكد منه، ولا يلقى الكلام على عواهنه فكل مسجل علينا.
وليس هذا انتقاصًا للعلماء الذين رووا هذا وإنما هذا تنبيه لكل من يريد نبش ما دفنه أسلافنا من تطاحن في الآراء وشدة تعصب للمذاهب فما صدقنا أن مثل هذا يدفن وينسى، ولكننا ما لبثنا أن رأينا كثيرًا من الناس من يصدق هذا الكلام وما أن يلتقط واحدة من هذه الهفوات حتى يرفعها على الملأ، ويذيعها بين الجاهلين وهو جاهل فيصدق كلامه ويسري ذلك بين الجهلة كما تسري النار في الهشيم، يظنون بفعلهم هذا خيرًا ولكنهم كما قال تعالى: {قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا (103) الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا (104) أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَلِقَائِهِ فَحَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَلَا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْنًا} وصدق الله العظيم، ومن لم يكن له وزن في الآخرة فلا وزن له في الدنيا.
قال ابن حبان: "أخبرنا أحمد بن علي بن المثنى بالموصل قال حدثنا أبو مشيط محمّد بن هارون قال حدثنا محبوب بن موسى عن يوسف بن أسباط قال: قال أبو حنيفة: لو أدركني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لأخذ بكثير من قولي، وهل الدين إلا الرأي الحسن" (4).
وهذا كلام مرفوض سندًا ومتنًا وموضوعًا.
أما من ناحية السند فيوسف بن أسباط كان يغلط في الحديث كثيرًا كما قال الخطيب، وقال البخاري: لا يجيء بحديثه كما ينبغي، كما ضعفه العقيلي وابن عدي والذهبي وابن الجوزي (5).
وإن كان قد وثقه ابن معين وابن حبان (1)، فقد نقبل حديثه إن لم يكن هناك تهمة، أما هنا فالتهمة قائمة وهي طعن الأقران، والخلاف المذهبي. ومن هنا فنرد روايته هنا، وإن كانت مقبولة في موضوع آخر.
وأما من ناحية المتن فإن ما نقل عن ورع أبي حنيفة وتقواه وشدة ديانته تأبى أن يصدر منه مثل هذا، وهل يتجرأ أحد من الأئمة على هذا الكلام؟ لا شك أن الحسد والخلاف دعا إلى مثل هذا الانزلاق.
وأما من ناحية الموضوع فإن التهجم على أهل الرأي واضح وهذا معهود عند المحدثين غير الفقهاء, لأنهم يجهلون غالبًا أصول الرأي وقواعده عند أهل الرأي من أهل السنة، أما فقهاؤهم الذين يعرفون للاجتهاد قيمة وللرأي مقامه فلا ينكرون عليهم، فهذا الإمام أحمد بن حنبل يقول: "ما زلنا نلعن أهل الرأي ويلعنوننا حتى جالسنا الشافعي" وقال أيضًا: "اعلموا رحمكم الله أن الرجل من أهل العلم إذا منحه الله شيئًا من العلم وحرمه قرناؤه وأشكاله حسدوه فرموه بما ليس فيه، وبئست الخصلة في أهل العلم" (2).
فالقضية إذن قضية حسد أقران وهذا اتفق العلماء على أن جرح الأقران وطعنهم غير مقبول، وكذلك إذا كان الجرح مبنيًّا على أساس خلاف مذهبي فإنه غير مقبول أيضًا كما سيأتي في موضعه إن شاء الله).
ثم قال ابن حبان نقله الدكتور الحارثي: (كان رجلًا جدلًا ظاهر الورع لم يكن الحديث صناعته، حدث بمائة وثلاثين حديثًا مسانيد ماله حديث في الدنيا غيرها أخطأ منها في مائة وعشرين حديثًا، أمّا أن يكون أقلب إسناده أو غير متنه من حيث لا يعلم، فلما غلب خطأه على صوابه استحق ترك الاحتجاج به في الأخبار.
ومن جهة أخرى لا يجوز الاحتجاج به لأنه كان داعيًا إلى الإرجاء، والداعية إلى البدع لا يجوز أن يحتج به عند أئمتنا قاطبة لا أعلم بينهم خلافًا، على أن أئمة المسلمين وأهل الورع في الدين في جميع الأمصار وسائر الأقطار جرحوه وأطلقوا عليه القدح إلا الواحد بعد الواحد.
قد ذكرنا ما روى فيه من ذلك في كتاب "التنبيه على التمويه" فأغنى ذلك عن تكرارها في هذا الكتاب، غير أني أذكر منها جملًا يستدل بها على ما وراءها" (3).
هذا كلام ابن حبان وهو المسؤول عنه مسؤولية كاملة لأنه يلخص أولًا ما اعتقد وجوده في أبي حنيفة ويدعى ادعاءات كلها مرفوضة وسوف نفصلها واحدة واحدة، ونرد عليها إن شاء الله.
أولًا: إن قوله أن أبا حنيفة كان ظاهر الورع، فهذا تعريض برياء أبي حنيفة، ونفاقه، وقد أثبت الأثبات والأئمة أنه لم يكن أورع من أبي حنيفة بالكوفة كما قال ذلك مسعر بن كدام كما تقدم وأثنى الكثيرون من الأئمة على ورعه.
ثانيًا: وأما قوله: "لم يكن الحديث صناعته" فهذا خلاف ما هو المتعارف عليه عند جميع الأئمة أن الفقيه لا يكون فقيهًا إلا إذا أخذ الكتاب والسنة وتفقه فيهما وعلم أصول ذلك تمامًا وغلا فلا يصلح أن يكون فقيهًا، وكيف يسلم الناس له بالفقه وهو لا يعرف صناعة الحديث؟ .
وكيف يقول الشافعي -فيما ثبت عنه- الناس عيال في الفقه على أبي حنيفة، وأبو حنيفة لا علم له بالحديث؟ هذا كلام متناقض مرفوض.
ثالثًا: قوله حدث بمائة وثلاثين حديثًا مسانيد ما له حديث في الدنيا غيرها فهذا خطأ لا يجوز أن يصدر من محدث كابن حبان، فكلامه هذا إما أنه لم يطلع على مسند أبي حنيفة، وإما أنه يتعمد هذا الغض من مكانة أبي حنيفة في علم الحديث، ونحن بمجرد نظرنا فيما طبع فقط من مسند أبي حنيفة نجد أنه أكثر من خمسمائة حديث، كما سنعرض لها في فصل خاص إن شاء الله.
رابعًا: قوله: "ما له حديث في الدنيا غيرها" فهذا أيضًا قول باطل يخالفه الواقع المشهور والملموس.
خامسًا: قوله: "أخطأ منها في مائة وعشرين حديثًا" هذا أيضًا تهجم بلا دليل وكلام مجمل لا يقبل، فلماذا لم يضع ابن حبان أيدينا على عشرة من هذه الأحاديث التي أخطأ فيها؟ أليس هذا تعمد للتجريح بلا دليل؟ أليس هذا خروجًا عن طريق السلف الذين لا يتهمون إلا بدليل ولا يجرحون إلا من يستحق الجرح؟ وسوف نفصل الرد على هذا في بابه أيضًا إن شاء الله.
سادسًا: أما قوله "إما أن يكون قلب إسناده أو غير متنه من حيث لا يعلم" فهذا كلام يستحيي أن يرد عليه لأنه صادر من مثل ابن حبان، ولكن الحق يعلو ولا يعلى عليه، فكيف يقلب أبو حنيفة الأسانيد وهو لم يرو إلا عن تابعي عن صحابي، فهل من المعقول أن يروي أبو حنيفة عن ابن عباس عن عكرمة أو عن أنس عن قتادة أو عن النخعي عن ابن مسعود؟ من يتصور هذا من عامي أو مبتدئ في علم الحديث لا من إمام من الأئمة؟ لا حول ولا قوة إلا بالله ألم يجدوا غير هذا؟ ولكن هكذا شاءت إرادة الله أن تكون الشبهات حول هذا الإِمام كلها واهية لا يصدقها منصف أبدًا.
ثم إنه كيف وهو الفقيه يغير متن الحديث من حيث لا يعلم، هل يحصل هذا من إمام؟ وما هو الدليل على ذلك؟ لماذا لم يذكر لنا ابن حبان حديثًا واحدًا مثالًا على ذلك؟ هذا اتهام خطير دون دليل، بل لا يقوى أحد على إيجاد الدليل.
سابعًا: قوله "فلما غلب خطؤه على صوابه استحق الترك والاحتجاج به في الأخبار" هذا مبني على ما تقدم من كلامه وقد بطل كل ما قاله وما بني على باطل فهو باطل.
ثامنًا: وقوله: "ومن جهة أخرى لا يجوز الاحتجاج به لأنه كان داعيًا إلى الإرجاء" هذا تمويه وتضليل فكأن الأمر قد ثبت ولصق بأبي حنيفة فهو يقرر حقيقة ثابتة لا تحتمل الخلاف، هل يجوز هذا وهو أول إمام من أئمة أهل السنة الذين اقتدت بهم الأمة الإِسلامية. وسوف يأتي رد المزاعم التي تزعم أن أبا حنيفة كان مرجئًا أو جهميًا مع أنه كان يكفر الجهمية.
تاسعًا: وقوله: "والداعية إلى البدع لا يجوز أن يحتج به عن أئمتنا قاطبة لا أعلم بينهم خلافًا" هذا أيضًا تمويه وتضليل، نعم إنهم اتفقوا على ذلك ولكن هل ابن حبان على يقين أن هذا ثابت عن أبي حنيفة وهو الذي قرأ كتبه، وإن لم يكن قرأها فقد حكم على مسلم وهو جاهل وكلا الأمرين مر كما قال الشاعر:
إن كنت لا تدري فتلك مصيبة ... أو كنت تدري فالمصيبة أعظم
عاشرًا: وأما قوله: "على أن أئمة المسلمين وأهل الورع في الدين في جميع الأمصار وسائر الأقطار جرحوه وأطلقوا عليه القدح إلا الواحد بعد الواحد" فهذا كلام غير مسلم فقد ذهب المنصفون من أهل عصره إلى الثناء عليه وعلى دينه وورعه وعلمه وإمامته فكيف يدعى هذا؟ لا شك أن ابن حبان قد أخذ به التعصب مأخذه حين كتب هذا, ولم يراجع نفسه ولو مرة واحدة، ولم ينظر فيما قاله غيره إلا من نحا نحوه. نسأل الله السلامة.
حادي عشر: يبدو أن ابن حبان مصر جدًّا على قوله هذا كله دون اعتذار بل إنه أخيرًا يريد منا أن نقرأ أكثر من هذا فيدلنا على كتاب ألفه خصيصًا لجرح أبي حنيفة فيطلب منا أن نقرأ كتابه "التنبيه على التمويه" وقد رأينا أن ادعاءاته كلها تمويه تحتاج إلى ألف تنبيه. ثم بعد هذا يسرد ابن حبان أحاديث خالفها الإمام أبو حنيفة، ولكنه يسردها بحكايات تزعم قلة أدب أبي حنيفة مع النبي - صلى الله عليه وسلم -، كقوله لما ذكر حديث عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: "هذا حديث خرافة" (1) وقوله: "هذا هذيان" (2) وقوله: "لا يسوى شيئًا" (3) وأسوأ من هذا يزعمون أن أبا حنيفة حدثه الأعمش بحديث عن النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: "بل على هذا". ونحن نستغفر الله من هذا النقل، ونستغفر الله لذكره، في هذا الكتاب، ولكن ذكرته لأنبه على تطرف النقلة وتعصبهم ضد أبي حنيفة الذين هم ينقلون عنه أنه كان ورعًا تقيًّا يقوم الليل أربعين سنة، ثم يقول كلمة لا يقولها طفل مسلم ولا يجرأ عليها مهما جهل، حتى الأحاديث الموضوعة لا نجرأ أن نقول عليها هكذا لأننا لا ندري فلعل الكاذب يصدق (4). فهل كان أبو حنيفة في هذه الدرجة من قلة الأدب -أستغفر الله- هذا لا يجوز بأي حال من الأحوال وما أشك لحظة واحدة في عدم صحة هذا الخبر عنه ولو كان الرواة ثقات علمًا بأن الرواية هذه ليست بصحيحة فإن فيها يحيى بن عبد الله بن ماهان قال عنه الأزدي: لا يحتج له ولا يروى عن أحد إلا عن شيخه محمّد بن سعيد الكريزي وهو متروك أيضًا واتهمه ابن عدي بالكذب، وإنما تعرضت لشيخه لأنه لم يدرك ابن عيينة (5).
أترى يعرف ابن حبان ضعف هذا الرجل واتهامه أو اتهام شيخه أم لا يعرف؟ لا شك أنه يعرف ولكنه أصر على هذه الرواية.
وقال ابن حبان:
"أخبرنا الحسين بن إدريس الأنصاري قال: حدثنا محمَّد بن علي الثقيفي قال: سمعت إبراهيم بن شماس يقول: ترك ابن المبارك أبا حنيفة آخر أمره" (1).
وهذا ادعاء لا يصح ولا يقاوم ما تقدم من توثيق ابن المبارك له والدفاع عنه، وأما هذه الرواية فإن فيها من لا يحتج به ويرى الأباطيل، قال ابن أبي حاتم كتب إلى بحزء من حديثه فأول حديث باطل والثاني باطل والثالث ذكرته لعلي بن الجنيد فقال: أحلف إنه حديث باطل وليس له أصل (2).
كما ضعفه الهيثمي أيضًا (3). ولم يوثقه إلا ابن حبان وذكره في الثقات (4) والمعروف عند علماء الجرح والتعديل أن ابن حبان لا يؤخذ قوله في هذا لأنه متساهل في التعديل والتجريح كما سيأتي.
وقال ابن حبان:
"أخبرني محمّد بن المنذر قال حدثنا عثمان بن سعيد قال حدثنا أبو الربيع الزهراني قال سمعت حماد بن زيد يقول: سمعت أبا حنيفة يقول: لم أكد ألقى شيخًا إلا أدخلت عليه ما ليس من حديثه إلا هشام بن عروة" (5).
ويظن ابن حبان أن هذا اعتراف من أبي حنيفة بالكذب في الحديث والتدليس الخطير وتحريف الكلم عن مواضعه.
ولكنه يدري أن هذا الإسناد مظلم أظلم من الظلمات الثلاث، ولا ندري لماذا أوردها وهو يعلم أن كتابه هذا لا يتناوله إلا أهل التخصص في الرجال والرجوع إلى رجال الإسناد أول أمر يقوم به الباحث المنصف المتخصص ولذا فإنك تجد في هذا الإسناد ضعفاء ولكنهم ليسوا مثل أبي الربيع الراوي عن حماد بن زيد فهو ليس ضعيفًا فحسب، وإنما هو متهم بالبواطيل والكذب على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فإن يكذب على حماد بن زيد فهذا ليس بشيء.
وبناء على ذلك فإن ابن حبان لا تقوم له حجة مطلقًا في كل ما ذكره من جرح أبي حنيفة وإلصاق التهم الخطيرة به ونسبة الطامات إليه بل إننا نرى أبا حنيفة يظل شامخ الرأس لا تناله حجارة المتعصبين ولا يؤثر فيه الأفاكون المتحللون.
خامسًا: قول إمام الحرمين الجويني:
وكلام إمام الحرمين في أبي حنيفة من نوع آخر، وفي حماس مختلف عما نقلناه عن أهل الحديث فقد يحرج المحدث أن يقول كلمة في قرينه خشية أن يفهم منها أنه حسود أو متهجم، وأما الذي يتعصب لمذهب ما فإنه يجد لنفسه مندوحة في التهجم تسترًا وراء نصرته للحق والدليل والبرهان.
ومن هنا فإن الجويني اشتد في التعصب المذهبي حتى خرج عن حد الاعتدال فقال في كتابه "مغيث الخلق" (1) مثله في كتابه البرهان (2):
"بل أصول أبي حنيفة أبعد عن الوفاء من أصول الشافعي - رضي الله عنه - فإن المذاهب تمتحن بسياقها في قيادها وله يتبين صحتها من فسادها، وكذا المذاهب تمتحن بأصولها فإن الفروع تستند إليها وتشتد باشتدادها" ثم يقول أيضًا: "وأن أبا حنيفة - رضي الله عنه - كان بضاعته في الحديث مزجاة، والذي يدل عليه أن أصحاب الحديث شددوا النكير عليه قالوا: إن أقوامًا أعوزهم حفظ أحاديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فاستعملوا الرأي فضلوا وأضلوا" إلى أن يأتي بطامة فيقول في البرهان: وأبو حنيفة لا يعرف القياس أصلًا، ولا دراية له بالأصول.
سادسًا: قول ابن عدي:
قال ابن عدي: أخبرنا عبد الله بن محمّد بن حبان بن مقير أخبرنا محمود بن غيلان ثنا مؤمل قال: كنت مع سفيان الثوري في الحجر فجاء رجل فسأله عن مسألة فأجاب، فقال الرجل: إن أبا حنيفة قال هذا وكذا فأخذ سفيان نعليه حتى خرق الطواف ثم قال: لا ثقة ولا مأمون (3).
وابن عدي رحمه الله يبتدئ ترجمة أبي حنيفة بهذا الخبر على طريقة ابن حبان، ولكنه في الصفحة التي بعدها يذكر رواية تنقض كل ما رواه عن سفيان الثوري - إن صح الكلام عنه - وإن لم يصح فنحن في غنى عن ترجمة رجال الإسناد.
فقد قال ابن عدي: حدثنا محمّد بن القاسم سمعت الخليل بن خالد -يعرف بأبي هند- يقول: سمعت عبد الصمد بن حسان يقول: كان بين سفيان والثوري وأبي حنيفة شيء فكان أبو حنيفة أكفهما لسانًا (4).
أليست هذه الرواية تضع لنا كل ما روى عن سفيان الثوري وصح عنه في زاوية واحدة، وهي طعن الأقران وأن ذلك مصدره التنافس، فالطبيعة البشرية لا بد أن تظهر هنا ولا بد أن تؤثر إلا على من عصمه الله.
وهكذا نقول في كل الروايات التي ساقها ابن عدي، ولكن الثوري رحمه الله يوقع نفسه في حرج بالغ، فإنه لما قال هذا قاله أثناء التنافس ولكنه لما تصدر للعلم روى عن أبي حنيفة دون أن يذكره، فهو وإن أنف من ذكر أبي حنيفة في إسناده حيث أرسل عنه لما ذهب إلى اليمن (5) فكيف يدعى أن حديث المرتدة لا يروى عن ثقة ثم هو يرسله عن عاصم الذي يروي عنه أبو حنيفة ولا يرويه عنه غيره. أليس هذا دليل على حكم الثوري بصحة الحديث، وإن لم يعتقد صحته فكيف يروي حديثًا ليس صحيحًا فهو وقع بين أمرين لا مفر منهما والنتيجة الظاهرة أنه يصحح الحديث ويثق بأبي حنيفة إلا أن التنافس دفعه إلى ذلك. وإن لم نأخذ بهذه النتيجة وقعنا في تجريح الثوري وهذا ما لا نريد الذهاب إليه ولا القول به مطلقًا وأنى ذلك؟ .
وقال ابن عدي:
وقال عمرو بن علي: أبو حنيفة صاحب الرأي واسمه النعمان بن ثابت ليس بالحافظ مضطرب كالحديث واهي الحديث (1).
وهذا خبر مقطوع بين ابن عدي وعمرو بن علي وبين عمرو بن علي ومن عاصر أبا حنيفة. لأن الجرح لا يقبل إلا ممن عاصر الرجل ولا يقبل إلا مفسرًا. وبطريق صحيح، فإذا كان غير ذلك لا نقبله ولا نأخذ به.
وقال ابن عدي:
حدثنا ابن أبي داود ثنا الربيع بن سليمان الحيري عن الحارث بن مسكين عن ابن القاسم قال: قال مالك: الداء العضال الهلاك في الدين وأبو حنيفة من الداء العضال.
وهذه رواية فيها ابن أبي داود وقد تقدم تضعيفه أول هذا الفصل وحاشا لإمام دار الهجرة أن ينزلق إلى مثل هذا القول، وإنما اندفع ابن أبي داود اندفاعًا لا يجوز أن يفعله.
وقال ابن عدي أيضًا:
حدثنا أحمد بن حفص عن عمرو بن علي حدثني أبو غادر الفلسطيني أخبرني رجل أنه رأى النبي - صلى الله عليه وسلم - في المنام فقلت: يا رسول الله حدثنا هذا عمن نأخذه؟ فقال - صلى الله عليه وسلم -: عن سفيان الثوري فقلت: فأبو حنيفة؟ قال - صلى الله عليه وسلم -: ليس هناك يعني ليس في موضع الأخذ منه (2).
وهنا يكرر ابن عدي ما ذكره ابن حبان من الضرب على وتر الرؤيا عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عندما يريدون إقناع القارئ ويظنون -بتعصبهم- أن قارئ علم الرجال قارئ عادي يأخذ كل ما يقولون، والأمر بعكس ما يتصورون فالباحث عن عدالة رجل أو جرحه لا يكتفي بكتاب واحد، ولا يجوز له ذلك لأن الحكم على رجل معناه رفض حديث، ورفض الحديث معناه رفض مادة من الدين لا ترفض إلا بعد يقين أنها ليست من الدين.
والسند هنا فيه من هو منكر الحديث وهو أحمد بن حفص شيخ ابن عدي كذا قال ابن الجوزي في الموضوعات (3).
وفيه مجهولان اثنان أبو غادر الفلسطيني والرجل الذي يروي عنه، حيث لم يذكر أحد من هو أبو غادر ولو ذكر لم يذكر لنا أبو غادر من هذا الرجل الذي رأى النبي - صلى الله عليه وسلم -، وهل الأحكام الشرعية وتجريح الرجال يجوز أن يصدر من خلال الرؤى والأحلام. ما هكذا عودنا ابن عدي في موضوعته وتقصيه أن ينزلق مثل هذا المنزلق وأن يسكت مثل هذا السكوت فقد وثق رجالًا لا يساوون في ميزان الرجال نقيرًا بالنسبة لأبي حنيفة فهل ضاقت عليه الدنيا أو لم يسعفه القلم أن يذكر كلمة إنصاف ينصف بها هذا الإِمام المظلوم المفترى عليه؟ .
وقال ابن عدي:
حدثنا أحمد بن حفص ثنا أحمد بن سعيد الدارمي قال: سمعت النضر بن شميل يقول: كان أبو حنيفة متروك الحديث ليس بثقة (1).
أيضًا هذه الرواية فيها أحمد بن حفص وهو منكر الحديث، فكيف يؤخذ بكلامه للشهادة على إمام كبير له حساده ومخالفوه.
وهكذا يستمر ابن عدي في سياقة ما قاله ابن حبان ولكنه يختتم جولته وصولته بكلام يضرب بكل كلامه عرض الحائط فيقول: حدثنا أحمد بن محمد بن عبيدة ثنا المزني إسماعيل بن يحيى ثنا علي بن معين عن عبيد الله بن عمر الخرزي قال: قال الأعمش: يا أبا النعمان يعني أبا حنيفة ما تقول في كذا؟ قال: كذا، قال: من أين قلت؟ قال: أنت حدثتني عن فلان عنه، فقال الأعمش: يا معشر الفقهاء أنتم الأطباء ونحن الصيادلة" (2).
وهذه شهادة نصرخ بها في وجه هؤلاء الذين يدعون الحديث ويضعفون أبا حنيفة ونقول لهم: يا معشر الصيادلة لا تتعدوا حدودكم فلا عمل لكم لولا الأطباء ولا ثقة بكم لولا الأطباء فماذا يفعل الناس بالقمح لولا الخبازون وما يفعل الناس بالحجارة لولا البناؤون.
وهذا مثل ما روى أن الشافعي كان بحضرة عمرو بن علي فقام رجل فقال: ما رأيك فيمن يرد حديث رسول الله فقال: لا فقه له، فقال الشافعي: يا عمرو بن علي: ما صناعتك؟ قال: الحديث، قال: فلا تتكلم في غيره (3).
وهذه كلمة حق يغفل عنها كثيرون فيجب أن توضع على رؤوس صفحات كتب الحديث كلها حتى لا يفتر أحد بكل ما قيل في الفقهاء الأئمة وخاصة أبا حنيفة.
فالكلام في الحديث لا يقتصر إلا على الحديث ولا يجوز التعدي إلى غيره إلا لمن أتقن أدوات الاجتهاد وملك ناصية العلوم فتأبطها فإن لم يكن كذلك فلا يجوز له أن يصدر الأحكام من متن الحديث ولا الآية أيضًا لأنه لا يجوز إصدار الأحكام إلا من فقيه مجتهد، وما سوى ذلك فلينظر لنفسه أولى من أن يتهجم على العلماء كما قال الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله.
وإلى هنا بإمكاننا أن نقفل باب التجريح الذي فتحه بعض هؤلاء وعلى رأسهم ابن حبان وابن عدي والخطيب، ونقول إنه بعد كل هذا النقاش لم يثبت من كلامهم شيء).
ثم ذكر الدكتور محمد الحارثي في بحث له بعد ذلك حصر ألفاظ التجريح وردها، أي في الأصول التي يعتمد عليها في الجرح والنقول بين العلماء على أساس التعصب المذهبي وجرح الأقران وما يجب الاعتماد عليه وما ليس بالإمكان، لكي يوجه قول العلماء في أبي حنيفة الذين عاصروه وقال فيه الكلام على مختلف الجرح فيه ... فقال في آخر بحثه هذا: (أخيرًا فإننا إذا نظرنا إلى كلام من جرحوه وجدناه كلامًا عامًا مجملًا غير مفسر كما أنه نابع من التعصب أو تنافس الأقران، بينما نجد الأئمة الكبار وثقوه وأثنوا عليه، بل يكفي ثناء المخالفين له كابن عبد البر وابن السبكي والسيوطي وغيرهم من الأئمة المنصفين وكفى بذلك ردًّا على هؤلاء).
ثم حصر بقية الشبهات المثارة حول الإمام أبي حنيفة ونقدها موضوعيًا، من ناحية الإيمان, والإرجاء، والجهمية، وقوله بخلق القرآن، واتهامه بالتهجم على الحديث ورده، وتجويز الخروج على السلطان، نذكر قول الدكتور الحارثي بنصه:
(أولًا: اتهامه في قضايا الإيمان:
تقدم معنا النقل عن الخطيب أنه روى عن الثوري قال: نحن المؤمنون وأهل القبلة عندنا مؤمنون في الأنكحة والمواريث والصلاة والإقرار، ولنا ذنوب ولا ندري ما حالنا عند الله، ثم قال وقال أبو حنيفة من قال بقول سفيان فهو شاك، نحن المؤمنون وعند الله حقًّا، قال وكيع ونحن نقول بقول سفيان وقول أبي حنيفة عندنا جرأة".
ولرد هذه الشبهة المثارة -وإن لم تكن شبهة في الواقع إلا أن الخطيب أراد أن يثيرها زوبعة للتكثير من الثرثرة، على قاعدة: قد قيل- نقول: إن هذه مسألة خلافية لم يقل بها أبو حنيفة وحده وإنما سبقه إلى ذلك ابن مسعود - رضي الله عنه - وكثير من التابعين وتابعهم من السلف الصالح رضوان الله عليهم أجمعين، وهؤلاء يقولون: إن الإيمان هو التصديق ولا يكون تصديق إلا بالمعرفة والمعرفة لا تكون مع الشك إنما تكون مع اليقين، وإذا ثبت هذا فنحن المؤمنون هنا وعند الله, لأن المعرفة لا تختلف لأن من عرف هنا كان عارفًا عند الله لأن المعرفة ترفع الجهل" (1) (2).
أقول: والمسألة الخلاف فيها لفظي، فالثوري لا ينكر كونه مؤمنًا، كما أن أبا حنيفة لا ينفي عنه الإيمان, وغاية ما هنالك أن أبا حنيفة يريد تقرير الأحكام التي تبنى عليها القواعد وذلك يحتاج إلى تعيين. ومع هذا فقد أثبت العلماء كون الخلاف لفظيًّا منذ الخطيب وقبل الخطيب ولا شك أن الخطيب يعرف هذا، ومع هذا أراد أن يثير هذه الزوبعة، ولكن يذكر إسنادًا لكي يبرأ من العهدة، وما هو ببريء حيث إن كل الذين ردوا عليه أو درسوا أقواله يلزمونه قضية هامة وهي أنه يكذب الرجل أثناء ترجمته ثم هو ينقل تلك الأقوال وفيها ذلك الكذاب مع علمه بذاك؟ فما الذي جرحه هناك وعدله هنا, ولماذا لم ينبه على الإسناد إذا كان مظلمًا أو فيه ضعيف كما فعل في النقول التي تثنى على أبي حنيفة؟ وكلامنا هذا ينطبق على كل الشبهات التي أثارها الخطيب سامحه الله.
ثم إن هذه القضية مرفوضة من أساسها، حيث إنه أجمعت الأمة على أن مذهب أبي حنيفة أحد وأول المذاهب الأربعة التي يعمل بها أهل السنة والجماعة، وأهل السنة والجماعة هم الفرقة الناجية بإذن الله حيث ليس لهم مخالفة لكتاب أو  سنة، وأهل السنة والجماعة هم أهل الحق من جميع الملل بلا ريب، فلا يجوز لنا أن نختلف في شيء لأجل التعصب أو الأهواء أو لمجرد نزعات شخصية فالإسلام غير هذا قطعًا.
ومن القضايا التي تتعلق بالإيمان أيضًا، ما ذكره الخطيب عن الحسن بن محمّد الخلال بإسناده إلى محمّد الباغندي حدثنا أبي قال: كنت عند عبد الله بن الزبير فأتاه كتاب أحمد بن حنبل: اكتب إلي بأشنع مسألة عن أبي حنيفة، فكتب إليه حدثني الحارث بن عجير قال سمعت أبا حنيفة -وسئل-: لو أن رجلًا قال أعرف أن لله بيتًا ولا أدري هو الذي بمكة أو غيره أو مؤمن هو؟ قال نعم! ولو أن رجلًا قال أعلم أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قد مات ولا أدري دفن بالمدينة أو غيرها؟ أمؤمن هو؟ قال: نعم. ثم ينقل الخطيب قول الحميدي ليزيد الأمر شناعة فيقول: قال الحميدي: من قال بهذا فقد كفر، قال: وكان سفيان يحدث به عن حمزة بن الحارث. انتهى.
قال الملك ابن المظفر: "فهذا القول لم ينقله أحد من أصحاب أبي حنيفة ولا رووا عنه هذا فلو كان صحيحًا لنقل كما نقلت جميع مسائله، ولكني أقول: ما تقول في اليهود أصحاب موسى لما جهلوا قبر موسى - عليه السلام - أضرهم ذلك؟ لا. لأنهم عرفوا أن موسى نبي حقًّا فأما جهالة القبر لا تضر بدليل أن من لم يزر المدينة ولم يحج لا يعرف القبر ولا البيت ومع ذلك لم يقدح في إيمانه، ومن زار المدينة فالحجرة الشريفة حائلة بينه وبين مكان القبر حقيقة من جهة التربيع فمن ذهب إلى قول الحميدي وسفيان احتاج أن يعرف بيوت مكة والمدينة وصقاعها وحدائقها على ما كانا عليه في زمن النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى اليوم" (1).
أقول: وإلى جانب ما قال الملك أبو المظفر وغيره فإن الإسناد إلى سفيان مظلم ومنقطع كما تقدم. وكذلك فإنهم ذموا في الإمام أحمد من حيث لا يشعرون لأنهم نسبوا إليه البحث عن عيوب الأئمة، ونحن نجزم جزمًا قاطعًا بأن الإمام أحمد لم يقل بهذا لاعتقادنا الجازم بديانة هذا الإِمام وتقواه وورعه الشديدين أن يبحث عن مسألة شنيعة من مسائل أبي حنيفة وهو الذي يعتقد إمامة أبي حنيفة وشموخه في العلم ورسوخه في الفتوى، ولو أن ابن حنبل رحمه الله سأل عن أدق مسألة أو أعجب مسألة لصدقنا وآمنا، أما أن يسأل عن أشنع مسألة فهذا بعيد كل البعد عن أخلاق الإمام أحمد وتقواه وورعه.
ومنها أيضًا قول الخطيب فيما ينقله عن محمد بن الحسين بن الفضل بن القطان إلى يحيى بن حمزة أن أبا حنيفة قال: لو أن رجلًا عبد هذه النعل يتقرب بها إلى الله لم أرَ بذلك بأسًا.
قال الملك أبو المظفر: "فهذا لم ينقله أحد من أصحاب أبي حنيفة، واعلم أن أصحاب الإنسان أعرف به من الأجنبي، ثم اعلم أن مذهب أبي حنيفة له أصول وقواعد وشروط لا يخرج عنها، فأما أصول مذهبه - رضي الله عنه - فإنه يرى الأخذ بالقرآن والآثار ما وجد إلى ذلك سبيلًا، وقواعده ألا يفرق بين الخبرين أو الآية والخبر مهما أمكن الجمع بينهما إلا إن ثبت ناسخًا أو منسوخًا وشروطه أن لا يعدل عنهما إلا أن يجد فيهما  شيئًا فيعدل إلى أقوال الصحابة الملائمة للقرآن والسنة وإن اختلفوا تخير ما كان أقرب إلى الكتابة والسنة، فهذا عليه إجماع أصحاب أبي حنيفة وهم إن أعددت المدرسين منهم في عصر واحد وجدتهم أكثر من إسناد الخطيب منه إلى أبي حنيفة رحمه الله، واعلم أن أخبار الآحاد المروية عن النبي - صلى الله عليه وسلم - توجب العمل لأجل الاحتياط في الدين ولا توجب العلم، وأخبار التواتر توجب العمل والعلم معًا، فكيف بك عن أخبار الخطيب هذه التي لا تكاد تنفك عن قائل يقول فيها، فإذا نازلنا الأمر وساوينا قلنا أخباره أخبار آحاد وأخبار أصحاب أبي حنيفة متواترة والعمل بالمتواتر أولى، وقد ثبت مذهب أبي حنيفة وأصوله وقواعده، فهذا ثبت أن هذه أصول أبي حنيفة فكيف يسوغ له أن يقول هذا مع علمه بقوله تعالى: {مَا نَعْبُدُهُمْ إلا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} [الزمر: 3] فهذا لا يصح عن أبي حنيفة رحمه الله (1).
وليس بعد هذا التعليق من تعليق إلا أن نقول: إن الإسناد لم يصح أيضًا كما تقدم وليس معنى كلام أبي المظفر التسليم بصحة الإسناد، ولكنه يفرض ذلك جدلًا مع التزام بالأدب.
ومما له علاقة بقضايا الإيمان أيضًا أنهم اتهموه بأنه شهد بالإيمان لمن فعل أكبر المعاصي. فقد مر معنا نقل الخطيب بإسناده إلى وكيع قال: اجتمع سفيان الثوري وشريك والحسن بن صالح وابن أبي ليلى فبعثوا إلى أبي حنيفة فأتاهم فقالوا له: ما تقول في رجل قتل أباه ونكح أمه وشرب الخمر في رأس أبيه؟ قال: مؤمن، فقال له ابن أبي ليلى: لا قبلت لك شهادة أبدًا، وقال له سفيان: لا كلمتك أبدًا، وقال له شريك: لو كان لي من الأمر شيء لضربت عنقك، وقال له الحسن بن صالح: وجهي من وجهك حرام أن أنظر إليه أبدًا".
فبالإضافة إلى تعليقنا على هذه القضية وإبطال إسنادها وعدم صحته، فإن الخطيب مسؤول مسؤولية كاملة عن هذه الحكاية، علمًا بأن الفرق بين المسلمين والخوارج هو تكفير أهل المعاصي.
ولذا أجاب على هذه القضية الخوارزمي وأبو المظفر وغيرهما: فقالوا: إن المتفق عليه بين العلماء أن المعصية لا تكفر ولا تخرج الإنسان من الإيمان وهذه المعاصي من أكبر الكبائر لا يكفر فاعلها، وهل نزل قرآن بعدم قبول توبة هذا الفاعل؟ العكس هو الصحيح فإن الله تعالى قال: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ} ولا شك أن هذه المعاصي دون الشرك (2).
وأما تعليقنا على ما نقله الخطيب زيادة على ما تقدم، فإن الخطيب نفسه يعارض هذا النقل فهو شافعي، والشافعية مثل الحنفية أصولهم تقتضي ألا يكفر أهل المعاصي، فلماذا التشنيع؟ ولماذا إيراد مثل هذه الأقوال؟ أليس في ذلك شك في نوايا الخطيب؟ أليس ذلك تصريح ولو ضمنيًا بأنه يريد التعريض دون شك، ولا نريد إثبات قول قيل؟ .
ثم إن هذه الحكاية إذا صحت فإنها تعرض بهؤلاء الأئمة أيضًا وهذا ما لم ينتبه إليه الخطيب، فمعنى الحكاية أن هؤلاء الأئمة يكفرون أهل المعاصي، وهذا مخالف لما عليه أهل السنة والجماعة. بل هو مخالف لما عليه هؤلاء الأئمة أنفسهم فسفيان الثوري وابن عيينة وشريك لا يكفرون أهل المعاصي، فقد روى البخاري عنهم أحاديث كثيرة تؤيد رأي أهل السنة في أنه لا يكفر العاصي ما لم يشرك باللهِ أو يفعل فعلًا يخرج الإنسان عن ربقة الدين كتمزيق المصحف وسب النبي - صلى الله عليه وسلم - (1).
ثانيًا: اتهامه بالإرجاء:
مر معنا كثير من النقول عن الخطيب تقول إن بعض العلماء قالوا عن أبي حنيفة إنه مرجئ، وأن امرأة يهم فقهت نساء أهل أبي حنيفة. كما مر معنا قول البخاري: إنه اتهم بالإرجاء.
فما معنى الإرجاء، قالوا: الإرجاء له معنيان:
إما أن لا نحكم لصاحب الكبيرة بحكم أي لا نعلم كونه من أهل النار أو من أهل الجنة؟ وإما لأنهم يقولون: لا يضر مع الإيمان معصية ولا ينفع مع الكفر طاعة (2).
وللرد على هذه التهمة قالوا: هذا لا يصح بل العكس أن أبا حنيفة كان لا يجيز أو لا يرى الصلاة خلف المرجئ والجهمي ولا صاحب بدعة ولا هوى فكيف يكون منهم؟ وهذا القول في جميع كتب أصحاب أبي حنيفة محفوظة كما يحفظ الكتاب العزيز، أفيكون هذا متروكًا، ويكون المحفوظ ما جاء به آحاد الناس (3).
أي أننا نحاسب العالم على ما كتبه في كتبه ودونه العلماء عنه، ولا نلتفت إلى غير ما دون، ولا نعتمد إلا على ما دون، ولا داعي لأكثر من هذا الكلام لأنه لا طائل من ورائه.
ثالثًا: اتهامه بأنه جهمي:
لا بد أن نذكر معنى الجهمي ومن هم الجهمية؟ فالجهمية هم أصحاب جهم بن صفوان وهو جبري خالص، أي يزعمون أن الإنسان لا قيمة لفعله فالطاعات من الله وكذا المعاصي ويوافقون المعتزلة في نفي الصفات الأزلية (4) وهذه أيضًا تهمة باطلة، فإلى جانب ما نقلناه آنفًا عن أبي حنيفة أنه لا يجيز الصلاة خلف المرجئ والجهمي، فإن أبا حنيفة يصرح ببدعة جهم ويكاد أن يخرجه من ربقة الإِسلام، حيث قال: قاتل الله جهم بن صفوان ومقاتل بن سليمان هذا أفرط في النفي وهذا أفرط في التشبيه.
فبأي الأقوال نأخذ لو كان عندنا شيء من الإنصاف؟ نأخذ بقول لم يصح بإسناده أو صح ولكنه تحامل من البعض، أم نأخذ بقول تواتر عنه ونقل عنه ضده؟
لا شك أن الذي يؤخذ من الإنسان ما اعترف به وشهد به على نفسه ودان الله به، فإن كان مخالفًا لذلك فلا بد من صحة الاتهام أو اشتهار ذلك عنه، حتى نصدق الاتهام ونكذب المتهم.
وقد رأينا أن شيئًا من ذلك لم يثبت.
رابعًا: اتهامه بالقول بخلق القرآن:
تقدم نقل الخطيب أنه قال: إنه قال بخلق القرآن وهو أول من قال به، ثم قال وقيل: إنه لم يكن يذهب والمشهور عنه أنه كان يقوله واستتيب منه.
وللرد على هذا بقول الملك أبو المظفر: "وهذا دليل على كذب الخطيب, لأن المشهور عنه ما نفى الجهل عن عامة الناس. والمروي عن أبي حنيفة من كل عصر وهم أكثر من أن يحصوا وكلهم يروي عن أبي حنيفة أنه لا يصلي خلف من يقول: بخلق القرآن، فترى أي شهرة أوجبت له ما ذكر" ثم يقول: ولا شك أن أبا حنيفة ناظر المعتزلة في خلق أفعال العباد حيث قال لمناظره: إن كان فعلك بأمرك فأخرج البول من موضع الغائط والغائط من موضع البول، فانقطع، فضحك أبو حنيفة فقال المعتزلي: أتناظرني في العلم وتضحك والله لا كلمتك بعد اليوم فلم ير أبو حنيفة بعد ذلك اليوم ضاحكًا، وهذه المسألة أخذها أبو حنيفة من قول الله تعالى: {فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ} والمعتزلي إنما اعتزل حلقة الحسن البصري فكيف لقائل أن يقول إن أبا حنيفة أول من تكلم بهذا" (1) وهكذا نرى أن هذه التهمة هي مجرد إلصاق تهمة لأجل التشنيع والخطيب أول من يعلم براءة أبي حنيفة منها.
خامسًا: اتهامه بالتهجم على الحديث النبوي ورده:
مر معنا في الفصل السابق أن الخطيب في نقله يتهم أبا حنيفة برد الأحاديث النبوية أو يتهجم على الحديث، وخاصة ما نقله عن الفزاري أنه قال: سألت أبا حنيفة عن مسألة فأجاب فقلت: روى عن النبي - صلى الله عليه وسلم - كذا وكذا في هذا؟ فقال له أبو حنيفة: حك هذا بذنب خنزير. ومسائل أخرى يزعم الخطيب أن أبا حنيفة رد الحديث عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. وسبق الجواب عنها مفصلًا وعلى أسانيدها أيضًا.
وقد ذهب العلماء جميعًا أنه كلام باطل لا يجاب عنه إلا إذا ذكر المسألة وذكر الحديث حتى نعلم ما الذي رده أبو حنيفة، ولكنا بينا -في حينه- بطلان الإسناد في هذه الأخبار كلها، كما هي الطريقة عند أهل الحديث، حيث لا بد من صحة السند أولًا، ثم بيان الموضوع المتهم فيه حتى لا يصدر الحكم، وإلا فيعد هذيان لا يصح، فالبينة لا بد من ذكرها وإيضاحها، والاتهام لا بد أن يعين، فهل يجوز الادعاء بمجهول، هذا لا يفعله عاقل، كما لا يصدقه عاقل (2)، وقد رأينا عشرات الأخبار يتهم فيها الخطيب أبا حنيفة برد الأحاديث ولا يذكرها، وقد اشتهر من أصول أبي حنيفة أنه لا يقدم شيئًا على الكتاب والسنة ثم قول الصحابي وأما ما خالف من بعض الأحاديث فإنها ولا شك منسوخة أو لم تثبت عنده وثبت عنده ما يخالفها عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أيضًا.
وأما قوله عن حديث: "البيعان بالخيار ما لم يتفرقا" إنه رجز فكلمة إنه رجز لم تصح عن أبي حنيفة ويتهم فيها الخطيب ومن في إسناده. وهم اغتنموا فرصة عدم عمل أبي حنيفة بهذا الحديث، وإنما أبو حنيفة متأول ومستضعف أي تأول المعنى وضعف السند، أما التأويل فإنه اعتبر "البيعان" مجازيًا أي الخيار ثابت للبيعين قبل عقد الصفقة وإنما سماها في الحديث بيعين على حد تسمية العنب بالخمر أي في قوله تعالى {إِنِّي أَرَانِي أَعْصِرُ خَمْرًا}. وأما السند فإنه ضعيف من وجهة نظر أبي حنيفة ولعله لم يصل إليه بإسناد صحيح (1). وتجد فعل هذا كثير من الأئمة فضعفوا أحاديث صحيحة لأنها وصلت إليهم بإسناد ضعيف، فلم يحاسب أبو حنيفة وحده؟ ألا يعذر الإنسان في هذا؟ ألم يقل أهل العلم إن الإنسان يحاسب على حسب علمه، فالحديث إذن ضعيف عنده صحيح عند غيره. وهذا لا شيء فيه.
سادسًا: تجويزه الخروج على السلطان:
روى الخطيب بإسناد مظلم أن سفيان الثوري حكي عنه جواز الخروج على السلطان وكذلك حكي عن الأوزاعي. وقد تقدم الكلام على أسانيد هذه الأخبار، وأنها لا تصح إلى أبي حنيفة، بل العكس هو الذي صح عن أبي حنيفة فقد امتلأت كتب الحنفية بقول الإِمام أبي حنيفة: ولا نرى الخروج على أئمتنا وولاة أمورنا وإن جاروا علينا وندعو لهم (2). وقال أبو حنيفة أيضًا: وإذا سمع الإمام أن قومًا يدعون إلى الخروج فعليه أن ينبذ إليهم ويمسكهم حتى يظهروا توبة، فإذا صار لهم فئة يرجعون إليهم يقتل مقاتلهم ويجهز على جريحهم ويقتل أسراهم كما يقتل الكفار فمن يكون هذا رأيه كيف يرى الخروج على الأئمة (3).
وأشنع من هذا ينقل لنا الخطيب أن أبا يوسف يوافق على تهمة أبي حنيفة بالإرجاء والجهمية ويرى السيف. فقد روى عن محمّد بن علي بن سعيد بن سالم. أنه قال: قلت لقاضي القضاة أبي يوسف سمعت أهل خراسان يقولون إن أبا حنيفة جهمي مرجئ فقال لي: صدقوا ويرى السيف أيضًا! ! قال قلت له: وأين أنت منه؟ قال: إنما كنا نأتيه يدرسنا الفقه، ولم نكن نقلده ديننا.
لكن العلماء يقولون: إن المشهور عن أبي يوسف خلاف هذا حيث إن المشهور عنه أنه لما حج قال: اللهم إنك تعلم أنني لم أعمل إلا بما عرفته من كتابك وسنة نبيك، وما لم أعرفه منهما جعلت بيني وبينك أبا حنيفة لعلمي به، كما روى عنه أنه قال هذا عند الموت، فمن يكون هذا قوله أما يكون قد قلده في دينه (1).
أخيرًا وبعد عرض الاتهامات والرد عليها سندًا ومتنًا نجدها قد تلاشت ولم يصمد منها شيء أمام البحث والتمحيص ويبقى الإمام أبو حنيفة جبلًا راسخًا لا تزعزعه العواصف ولا تنال منه المعاول وما مثله إلا كما قال الشاعر:
كناطح صخرة يوما ليوهنها ... فما وهنها وأوهى قرنه الوعل
أو كما قال الشاعر:
يا ناطح الجبل العالي ليكلمه ... أشفق على الرأس لا تشفق على الجبل).
ثم لخص القول في توثيق أبي حنيفة قائلًا:
(بعد أن ذكرنا فيما تقدم أقوال المجرحين والمعدلين، ورأينا أن الذين جرحوا أبا حنيفة إما متعصب أو حاسد وأن الذين عدلوه أئمة كبار في هذا الشأن، وهم عالمون كما قيل في أبي حنيفة من جرح ولا شك هم عالمون ومطلعون على نوع الجرح الذي فاه به أولئك، فلم يعتبره جرحًا ولم يكترثوا له.
والدليل على ذلك أن الإِمام يحيى بن معين لما عدله قال: "هو ثقة لا أعلم أحدًا جرحه" (2).
فابن معين وهو من هو في إمامته وعلمه هل يخفى عليه ما قاله هؤلاء الطاعنون في أبي حنيفة؟ كلا إنه يعلم علم اليقين ما قاله أقرانه المحدثون وما قاله خصومه من المذاهب الأخرى ولكن العلماء يعلمون تمامًا أن مثل هذا الجرح لا يؤثر ولا يغض من مقام أبي حنيفة لا في الحديث ولا في الفقه ولا في القياس، بل هو إمام في الحديث، إمام في الفقه والقياس لا يشق له غبار وإنما قال فيه من قال, لأنهم لم يبلغوا شأوه. ولم يترك لهم حجة فحسدوه والبشر لا يخلو من حسد، وقد تمثل كل من دافع عن أبي حنيفة -حتى من الشافعية كابن السبكي والسيوطي أو من المالكية كابن عبد البر- يقول الشاعر:
حسدوا الفتى إذ لم ينالوا سعيه ... فالكل أعداء له وخصوم
أخيرًا بعد أن تهاوت تلك الأقوال وسقطت تلك الطعون في مجاري الغفران والتسامح فالقول الفصل الذي لا محيد عنه ولا يجوز القول بغيره أن أبا حنيفة ثقة إمام في الحديث والفقه والأصول وعلوم القرآن حيث إنه ما دمنا سلمنا لأبي حنيفة في الفقه وألقينا إليه لواء الإمامة فهذا معناه تسليم له بالإمامة في الحديث وعلوم القرآن لأن الفقه لا يصدر إلا عن كتاب أو سنة أو إجماع والقياس لا يقاس إلا على كتاب أو سنة أو إجماع وهذا هو المعمول به في علم الأصول.
إذن فهل الذين جرحوا أبا حنيفة أخطأوا وهل يجوز للعلماء أن يذنبوا مثل هذا الذنب؟ أقول: كل ابن آدم خطاء وخير الخطائين التوابون، إلا أنه قد تقدم معنا أن معظم ما نقلوه باطل لا يصح إسناده وما بقي من شيء يسير فقد رجع عنه أصحابه أو صدر منهم خلاف ما نقل عنهم، فأكثر ما يعتد من تلك الأقوال تجريح سفيان الثوري وابن عيينة، وهؤلاء صدر منهم في آخر حياتهم ما يفيد الرجوع عن كل ما قالوه فالعلماء هم أولى الناس بالرجوع إلى الحق، والخطيب نفسه يورد لنا ما يفيد من رجوع سفيان عن قوله حيث يقول:
"أخبرنا الصيمري قال قرأنا على الحسين بن عارون عن ابن سعيد قال حدثنا عبد الله بن إبراهيم بن قتيبة حدثنا ابن نمير حدثني إبراهيم بن البصير عن إسماعيل بن حماد عن أبي بكر بن عياش قال: مات سعيد أخو سفيان فأتينا نعزيه فإذا المجلس غاص بأهله وفيهم عبد الله بن إدريس إذ أقبل أبو حنيفة في جماعة معه، فلما رآه سفيان من مجلسه ثم قام فاعتنقه وأجلسه في موضعه وقعد بين يديه، قال أبو بكر: فاغتظت عليه، وقال ابن إدريس ويحك ألا ترى؟ فجلسنا حتى تفرق الناس فقلت لعبد الله بن إدريس: لا تقم حتى نعلم ما عنده في هذا، فقلت يا أبا عبد الله رأيتك اليوم فعلت شيئًا أنكرته وأنكره أصحابنا عليك! ! قال: وما هو؟ قلت: جاءك أبو حنيفة فقمت له وأجلسته في مجلسك وصنعت به صنيعًا بليغًا. وهذا عند أصحابنا منكر، فقال: وما أنكرت من ذاك هذا رجل من العلم بمكان، فإن لم أقم لعلمه قمت لسنه وإن لم أقم لسنه قمت لفقهه وإن لم أقم لفقهه قمت لورعه. فأحجمني فلم يكن عندي جواب (1).
فقوله: "إن لم أقم لعلمه قمت لسنه" دليل على أن أبا حنيفة بلغ من الكبر عتيًا حتى يعتبر سفيان ذلك ويضع في اعتباره أثناء قيامه له. أي أنه طرح التحاسد جانبًا وعرف للرجل مقامه على رؤوس الأشهاد.
وكذلك يروي لنا الخطيب مثل هذا عن الأعمش. وتسليمه له بالعلم والفطانة وحسن الرأي وأخذ الفقه من جوابه (2).
وكذلك ما قاله الجوزجاني عن حماد بن زيد قال: أردت الحج فأتيت أيوب أودعه، فقال: بلغني أن الرجل الصالح فقيه أهل الكوفة يعني أبا حنيفة يحج العام فإذا لقيته فأقرئه مني السلام (3).
وهذه كلمة تفقأ عين المعاند الذي يدعي أن العلماء مصرون على تجريح أبي حنيفة بل العكس هو الصحيح، فالمنقول عنهم هو رجوعهم إلى الحق وإلى توثيق أبي حنيفة واستغفارهم من ذنبهم إذ اغتابوه دون وجه حق) أ. هـ.
هكذا انتهى البحث في رسالة الدكتوراه للدكتور محمّد الحارثي، وهو في ذلك يقترب كثيرًا للنتائج التي خرج بها قبله الدكتور محمود الطحان في مقدمة كتاب "تبيض الصحيفة".
ولكن الآن نذكر أقوالًا أخرى لعلماء معتمدين في الوقت الحاضر والذي قبله في أمر عقيدة وكلام العلماء في أبي حنيفة.
أولًا: نذكر قول ابن الوزير في تعليقه والذبِّ عن الأئمة الأربعة في كتابه "الروض الباسم" حيث قال: "وَهِمَ هذا المعترض أن يمكنه التشكيك في علم أبي حنيفة - رضي الله عنه -، واعتمد في ذلك بأنه قد رمي بالقصور في علمي العربية والحديث، أما اللغة فلقوله: يا أبا قبيص، وأما الحديث، فلأنه كان يروى عن المضعفين، وما ذلك إلا لقلة علمه بالحديث ... " أ. هـ.
ولقد ذبّ الوزير اليماني عن الإِمام أبي حنيفة والأئمة الثلاث البقية بما اتهموا لدى المتهمين بمسالك، وهي جديرة بالقراءة لمن أراد المزيد والتتبع مع مراجعة كتاب "جامع بيان العلم وفضله" لابن عبد البر وقد نقلنا قوله من خلال المباحث السابقة.
ثانيًا: قول الشيخ الدكتور الفاضل (سفر الحوالي) في كتابه "ظاهرة الإرجاء" وقد تكلم حول الإرجاء وظهوره ونشأته، وقد ذكر ما اتهم به الإِمام أبو حنيفة في الإرجاء، في كلامه على مرجئة الفقهاء حيث قال (2/ 412):
"بعد أن استقرت الأمة على التمذهب بالمذاهب الأربعة المشهورة، استقر مذهب المرجئة الفقهاء ضمن مذهب أبي حنيفة رحمه الله، ولهذا أصبح يسمى مذهب الحنفية.
وأبو حنيفة رحمه الله تضاربت الأقوال في حقيقة مذهبه وموقفه من أعمال القلوب خاصة أهي داخلة في الإيمان أم لا؟
ولم يثبت لدي فيما بعثت أي نص من كلام الإِمام نفسه، إلا أنني لا أستبعد أنه رحمه الله رجع عن قوله ووافق السلف في أن الأعمال من الإيمان, وهذا هو المظنون به. أما المشهور المتداول عنه فهو مذهب المرجئة الفقهاء -أي إن الإيمان يشمل ركنين؛ تصديق القلب وإقرار اللسان، وأنه لا يزيد ولا ينقص ولا يستثني فيه، وأن الفاسق يسمى مؤمنًا؛ إذ الإيمان شيء واحد ينتفي كله أو يبقى كله حسب الأصل المذكور سابقًا".
ثم قال الشيخ في الهامش معلقًا على حقيقة الأقوال:
"فأما رسالة العالم والمتعلم، فإن الكوثري على تعصبه الشديد طعن في سندها (وكذا رسالة الفقه الأكبر)، وقد أثبت ذلك المحققان في مقدمتها، وأما الأشعري في المقالات فقد قال عن أبي حنيفة ما لا نستطيع إثباته، وهو قوله: "الفرقة التاسعة من المرجئة أبو حنيفة وأصحابه؛ يزعمون أن الإيمان المعرفة بالله. والإقرار بالله، والمعرفة بالرسول، والإقرار بما جاء من عند الله في الجملة دون التفسير، وذكر أبو عثمان الآدمي أنه اجتمع أبو حنيفة وعمر بن أبي عثمان الشمري بمكة، وسأله عمر فقال له: أخبرني عمن زعم أن الله سبحانه، حرم أكل الخنزير غير أنه لا يدري أن لحم الخنزير الذي حرمه الله ليس هذه العين، فقال: مؤمن! ! فقال له عمر: فإنه قد زعم أن الله فرض الحج إلى الكعبة غير أنه لا يدري أنها كعبة غير هذه في مكان كذا؟ فقال: مؤمن! ! قال: فإن قال: أعلم أن الله بعث محمّدًا غير أنه لا يدري لعله هو الزنجي؟ قال: هذا مؤمن! ! ولم يجعل أبو حنيفة شيئًا من الدين مستخرجًا إيمانًا، وزعم أن الإيمان لا يتبعض، ولا يزيد ولا ينقص، ولا يتفاضل الناس فيه" المقالات ص (139).
ويلاحظ أن الشهرستاني نسب هذا لغسان. وكذبه في نسبته لأبي حنيفة، ولم يتعرض لنقد الأشعري مع أنه إنما ينقل عنه غالبًا. نظر: الملل والنحل (1/ 141) تحقيق: الكيلاني.
ثم قال الشيخ سفر الحوالي في هامش آخر عن رجوع أبي حنيفة عن القول بالإيمان والمظنون به:
"روى الإِمام ابن عبد البر بسنده أن حماد بن زيد ناظر أبا حنيفة في الإيمان, وذكر له حديث "أي الإِسلام أفضل، وفيه ذكر أن الجهاد والهجرة من الإيمان" فسكت أبو حنيفة، فقال بعض أصحابه: ألا تجيبه؟ قال: لا -أو بم- أجيبه وهو يحدثني عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟ " أ. هـ. التمهيد (9/ 247)، ونسبها ابن أبي العز للطحاوي (331").
* قلت: وبعد هذا كله فمن الملاحظ أن الإمام المزي والذهبي وابن حجر وغيرهم من أئمة الجرح والتعديل تحاشوا عن ذكر قول الخطيب أو ابن عدي وابن حبان أو غيرهم، أو فصلوا أو علقوا عليه كعادتهم في كتبهم الذي ذكروا فيها رجال العلم والرواية والفقه وغيره، ولم يذكروا عقيدة الإمام أبي حنيفة في الإرجاء والإيمان كما ذكره الخطيب وغيره. سوى ما قاله الذهبي في "ميزان الاعتدال": "ترجم له الخطيب في فصلين من تاريخه، واستوفى كلام الفريقين معدليه ومضعفيه" أ. هـ.
ولعل الروايات المختلفة على ضعف بعضها أو وضعها على الإمام أو الواهية منها في نسبة سوء الاعتقاد في القول بالإيمان، أو خلق القرآن أو غيرها من المسائل الاعتقادية خاصة، جعلت هؤلاء الأئمة يكفون ويتحاشون ذكرها والخوض فيها ... لعل ما ذكره العلامة المحدث محمد عبد الرشيد النعماني في كتابه "مكانة الإمام أبي حنيفة في الحديث" عن الذهبي في كتابه "الموقظة في حكم ومصطلح الحديث" (ص 79): أن الذهبي قد أثنى على شيخه الإمام المزي؛ لأنه لم يذكر المثالب التي طعن بها أبو حنيفة في كتابه "تهذيب الكمال" انتهى. بتصرف.
ولعل هذا واضح في تحاشي هؤلاء الأعلام ما كتب عن الإمام أبي حنيفة.
نقول: ملخص الأمر سوف نذكر ما قاله الدكتور محمد بن سعيد القحطاني في مقدمته لكتاب "السنة" للإمام عبد الله بن أحمد بن حنل، وما قاله هذا الإمام وغيره في أبي حنيفة، وهو آخر هذا البحث المطول وملخصه والله تعالى الموفق:
قال الدكتور محمّد القحطاني (1/ 75):
"شاء الله تبارك وتعالى أن لا تكون هناك عصمة لبشر إلا من عصمه الله تبارك وتعالى فالبشر من طبيعتهم الخطأ والصواب، وكل بني آدم خطاء وخير الخطائين التوابون ومهما بلغ الإنسان من العلم والتقوى فإنه عرضة للأخطاء. ولكن قد قيل في الحكم كفي بالمرء شرفًا أن تعد معايبه.
وكل يؤخذ من كلامه ويرد عليه إلا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كما قال الإمام مالك لهذا وذاك أدخل في نقد هذا الكتاب نقدًا لا أهدف من ورائه إلى تجريح عبد الله ولكن من باب بيان الخطأ والمآخذ وأقول ما قاله الصالحون من سلفنا. عبد الله بن أحمد حبيب إليّ والحق حبيب إليّ ولا بد من تقديم محبة الحق على محبة المصنف. لأن الحق أحق أن يتبع.
ومن هنا أقول: إن أول ما يؤخذ على عبد الله رحمه الله في كتاب السنة هو إدراج الكلام في أبي حنيفة في كتاب من أهم وأول كتب العقيدة السلفية إذ من المقطوع به عقلًا أن شتم أبي حنيفة أو مدحه ليس من أمور العقيدة الأساسية في شيء.
وقد عقد عبد الله رحمه الله لهذا الموضوع بابًا بعنوان: ما حفظت عن أبي والمشايخ في أبي حنيفة من فقرة (227 - 410).
ومن البدهيات أنه لا بد أن يكون لأبي حنيفة أخطاء كما أن لعبد الله أخطاء، ولكن لن تصل أخطاء أبي حنيفة إلى الحد الذي ذكر في بعض نصوص هذا الموضوع، والتي منها أنه ينقض عرى الإِسلام عروة عروة! ! أقول هذا ليس تبريرًا لأخطاء أبي حنيفة فله أخطاء لا نقره عليها ولكن من باب الإنصاف أن كلا له وعليه.
وقد حصرت الفقرات التي لم تصح في هذه المثالب بل غالبها مروي عن طريق مجاهيل أو ضعفاء أو مقدوح فيهم بما ذكره علماء الجرح والتعديل فوجدت عدد هذه الفقرات 86 فقرة".
فذكر صفحات تلك الفقرات من كتاب "السنة"، ثم قال الدكتور محمد القحطاني:
"والدليل إذا تطرق إليه الاحتمال سقط به الاستدلال، فمن باب أولى أنه إذا لم يصح سند هذه الروايات فلا يصح متنها لما سأبينه.
ومن الملاحظ في هذا الأمر أن عبد الله بن أحمد لم ينفرد بهذا الأمر في نقد أبي حنيفة، بل شاركه علماء كبار أمثال ابن حبان في المجروحين وقبله البخاري وابن قتيبة في (تأويل مختلف الحديث) وابن أبي شيبة في مصنفه وبعدهم الخطيب البغدادي في (تاريخ بغداد). واللالكائي في بعض فقرات كتابه (شرح أصول السنة).
وعلى النقيض من هؤلاء نجد أن هناك علماء ذكروا -فقط- محاسن أبي حنيفة ومدحه مثل المزي في تهذيبه وكذلك من كتبوا في فضائله من علماء الحنفية.
لذلك كله آثرت أن أنقل هنا ما كتبه علامة المغرب الحافظ ابن عبد البر حتى يكون مرتكزًا من المرتكزات ينبي عليها، ما بعدها لأن ابن عبد البر قد عرف بالتحقيق والإنصاف.
فقد قال رحمه الله في كتابه (جامع بيان العلم وفضله) (1) (2/ 181) ما نصه:
"أفرط أصحاب الحديث في ذم أبي حنيفة وتجاوزوا الحد في ذلك، والسبب الموجب لذلك عندهم إدخال الرأي والقياس على الآثار واعتبارهما، وأكثر أهل العلم يقولون: إذا صح الأثر بطل القياس والنظر. وكان رده لما رد من أخبار الآحاد بتأويل محتمل، وكثير منه قد تقدمه إليه غيره وتابعه عليه مثله ممن قال بالرأي وجل ما يوجد له من ذلك ما كان منه اتباعًا لأهل بلده كإبراهيم النخعي وأصحاب ابن مسعود، إلا أنه أغرق وأفرط في تنزيل النوازل هو وأصحابه والجواب فيها برأيهم واستحسانهم، فأتى منه من ذلك خلاف كبير للسلف، وشنع هي عند مخالفيهم بدع، وما أعلم أحدًا من أهل العلم إلا وله تأويل في آية أو مذهب في سنة رد من أجل ذلك المذهب سنة أخرى بتأويل سائغ أو ادعاء نسخ إلا أن لأبي حنيفة من ذلك كثير وهو يوجد لغيره قليل". انتهى.
وقال أيضًا في نفس المصدر (2: 183) "الذين رووا عن أبي حنيفة ووثقوه وأثنوا عليه أكثر من الذين تكلموا فيه، والذين تكلموا فيه من أهل الحديث أكثر ما عابوا عليه الإغراق في الرأي والقياس والإرجاء. وكان يقال: يستدل على نباهة الرجل من الماضين بتباين الناس فيه، قالوا: ألا ترى إلى عليّ ابن أبي طالب أنه هلك فيه فتيان: محب مفرط، ومبغض أفرط". انتهى.
لذلك أقول في هذه الفقرات ما قاله العلامة ابن عبد البر نفسه "إن جلة العلماء عند الغضب يحصل بينهم كلام أكثر من هذا، ولكن أهل الفهم والميز لا يلتفتون إلى ذلك لأنهم بشر يغضبون ويرضون والقول في الرضا غير القول في الغضب، ولقد أحسن القائل.
"لا يعرف الحلم إلا ساعة الغضب" (1).
وأما ما كانت أسانيده صحيحة أو حسنة فهي خمس وسبعون فقرة.
ويمكن تلخيص مضمونها في النقاط التالية:
1 - الإرجاء: وهذا صحيح في أبي حنيفة ولكنه إرجاء الفقهاء وليس إرجاء الفرقة المبتدعة التي تقول لا يضر مع الإيمان معصية كما لا ينفع مع الكفر طاعة. وقد ذكر أهل العلم أن إرجاء أبي حنيفة هو قوله أن الإيمان تصديق القلب وقول اللسان فقط (2) ولم يدخل العمل في مسمى الإيمان ولا شك أن هذا خلاف مذهب السلف في أن الإيمان إقرار بالقلب ونطق باللسان وعمل بالأركان كما هو مبسوط في كتب العقيدة فهذا مأخذ على أبي حنيفة.
2 - الخروج على أئمة الجور وقد ثبت هذا عن أبي حنيفه وقد علقت في النص بذكر آراء العلماء في هذه القضية وأن مذهب الجمهور عدم الخروج على المسلم الجائر.
3 - الغلو في القياس وقد عرفت كلام ابن عبد البر في هذا. ولا شك أن الغلو في القياس الذي يترتب عليه رد الآثار أمر مرفوض ولكن وصف أبي حنيفة بأنه يرد الأثر فهذا أمر فيه إجمال يحتاج إلى تفصيل فإنه مثلًا قطع يد السارق آخذًا بظاهر حديث رافع بن خديج "لا قطع في ثمر ولا أكثر" كما في فقرة (380).
وقد قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله "من ظن بأبي حنيفة أو غيره من أئمة المسلمين أنهم يتعمدون مخالفة الحديث الصحيح لقياس أو غيره فقد أخطأ عليهم وتكلم إما بظن وإما بهوى" (3).
وتوسع ابن تيمية رحمه الله في الاعتذار للأئمة عن هذا في رسالته القيمة رفع الملام عن الأئمة الأعلام وذكرت ذلك في فقرة (251) (1).
وذكر ابن عبد البر أنه قيل لأبي حنيفة: أتخالف النبي - صلى الله عليه وسلم -؟ فقال: لعن الله من يخالف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - به أكرمنا الله وبه استنقذنا (2).
4 - وصف أبي حنيفة بأنه كالجرب وأنه ثقيل على النفس وأنه شؤم ونبطيًا استنبط الأمور برأيه. فهذه وإن صحت أسانيدها إلى قائليها إلا أنها في ميزان المذهب السلفي ساقطة من الحسبان ذلك أن العبرة بالصلاح والتقوى وليس بالنعرة الجاهلية الممثلة في العرق والدم {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} والشؤم أمر مخالف للعقيدة فرسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يعجبه الفأل ولا يتشاءم.
5 - أن أبا حنيفة استتيب من الكفر مرتين:
أقول ما هو المراد بالكفر هنا إذا كان قائلو هذا الكلام يقصدون أنه يقول بخلق القرآن فنقول قد ورد بسند صحيح عند اللالكائي فقرة (470) نفي هذه التهمة عن أبي حنيفة وكذلك عند البيهقي في الأسماء والصفات ص (251) وورد في تاريخ بغداد للخطيب (13: 384) عن الإمام أحمد قوله: "لم يصح عندنا أن أبا حنيفة كان يقول القرآن مخلوق".
وأما أن يكون المراد بذلك ما ذكره سفيان في فقرة (356) (3) أن أبا حنيفة تكلم بكلام فقال أصحابه هذا كفر فقال أتوب. فإذا صح هذا فهو جائز أن يقول الإنسان قولًا ولا يعلم خطورته فإذا نبه لذلك تاب إلى الله ورجع عنه.
6 - وأما وصفه بأنه ينقض عرى الإسلام عروة عروة ولعنه فهذا ما لا يحل لمسلم أن يقوله إذ نقض الإسلام لا يأتي من مسلم عادي فضلًا عن إمام متبوع وإنما ينقض الإسلام الكافر والمنافق. واللعن إطلاقه على المسلم ولعل هذا من كلام الأنداد وهو معروف بأنه لا يقبل قدح الند في نده والله أعلم" أ. هـ.
هذا ملخص لما يمكن الوصول إليه من الكلام في الإمام الأعظم أبي حنيفة النعمان، الذي ما زال مذهبه سيِّطًا في بلاد المسلمين، ولولا قبول الله تعالى لمذاهب هؤلاء الأئمة الأربعة الأعلام، لما زال فقههم وأصولهم تدرس ويتخذها الناس مذاهبًا في معاملاتهم وأمورهم الشرعية، ولاندرست كما اندرست وتضاءلت مذاهب أخرى كمذهب الإمام الطبري صاحب التفسير، وأبي داود الظاهري، وأصحاب الظاهر وغيرهم ولكن الله تعالى رضي عنهم وأبقى فقههم ومدارسهم إلى يومنا هذا وإلى يوم القيامة ... والحمد لله رب العالمين" أ. هـ.
وفاته: سنة (150 هـ) خمسين ومائة








مصادر و المراجع :

١- الموسوعة الميسرة في تراجم أئمة التفسير والإقراء والنحو واللغة «من القرن الأول إلى المعاصرين مع دراسة لعقائدهم وشيء من طرائفهم»

تعليقات (0)

الأكثر قراءة

ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلا … ويأتيك بالأخبار من لم تزوّد
المزید
فصبرا في مجال الموت صبرا … فما نيل الخلود بمستطاع
المزید
حننت إلى ريّا ونفسك باعدت … مزارك من ريّا وشعباكما معا
المزید
أفاطم مهلا بعض هذا التدلل … وإن كنت قد أزمعت صرمي فأجملي
المزید
إنّ أباها وأبا أباها … قد بلغا في المجد غايتاها
المزید