المنشورات
ابن عبد البر
اللغوي، المقرئ: يوسف بن عبد الله بن محمّد بن عبد البر النمري، أبو عمر.
ولد: سنة (362 هـ) اثنتين وستين وثلاثمائة.
من مشايخه: أبو القاسم خلف بن القاسم الحافظ، وعبد الوارث بن سفيان وغيرهما.
من تلامذته: طاهر بن مفوز، وأبو بحر سفيان بن العاصي وغيرهما.
كلام العلماء فيه:
* جذوة المقتبس: "فقيه حافظ مكثر، عالم بالقراءات وبالخلاف في الفقه وبعلوم الحديث والرجال، قديم السماع" أ. هـ.
* السير: "وقال أبو عليّ الغساني: لم يكن أحد ببلدنا في الحديث مثل قاسم بن محمد، وأحمد بن خالد الجبّاب، ثم قال أبو علي: ولم يكن ابن عبد البر بدونهما، ولا متخلفًا عنهما، وكان من النَّمِرِ بن قاسط، طلب وتقدم، ولزم أبا عمر أحمد بن عبد الملك الفقيه، ولزم أبا الوليد بن الفرضي، ودأب في طلب الحديث، وافْتَنَّ به، وبرع براعة فاق بها من تقدمه من رجال الأندلس، وكان مع تقدمه في علم الأثر وبصره بالفقه والمعاني له بسطة كبيرة في علم النسب والأخبار، جلا عن وطنه، فكان في الغرب مدة، ثم تحول إلى شرق الأندلس، فسكن دانية، وبلنسية، وشاطبة، وبها توفي قلت: -أي الذهبي- كان إمامًا دينًا، ثقة، متفننًا، علامة، متبحرًا، صاحب سنة واتباع، وكان أولًا أثريًا ظاهريًا فيما قيل، ثم تحول مالكيًا مع ميل بَيِّنٍ إلى فقه الشافعي في مسائل، ولا ينكر له ذلك، فإنه ممن بلغ رتبة الأئمة المجتهدين، ومن نظر في مصنفاته، بان له منزلته من سعة العلم، وقوة الفهم، وسيلان الذهن، وكل أحد يؤخذ من قوله ويترك إلا رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ولكن إذا أخطأ إمام في اجتهاده، لا ينبغي لنا أن ننسى محاسنه، ونغطي معارفه، بل نستغفر له، ونعتذر عنه.
قال ابن حزم: لا أعلم في الكلام على فقه الحديث مثله فكيف أحسن منه؟
قال شيخنا أبو عبد الله بن أبي الفتح: كان أبو عمر أعلم من بالأندلس في السنن والآثار واختلاف علماء الأمصار.
قال: وكان في أول زمانه ظاهري المذهب مدة طويلة، ثم رجع إلى القول بالقياس من غير تقليد أحد، إلا أنه كان كثيرًا ما يميل إلى مذهب الشافعي، كذا قال. وإنما المعروف أنه مالكي.
قلت: -أي الذهبي- كان في أصول الديانة على مذهب السلف، لم يدخل في علم الكلام، بل قفا آثار مشايخه رحمهم الله".
* العبر: "ليس لأهل المغرب أحفظ منه، مع الثقة والدين والنزاهة والتبحر في الفقه والعربية والأخبار" أ. هـ.
* قلت: هذه بعض المواضع المنقولة من كتاب (عقيدة الإمام ابن عبد البر في التوحيد والإيمان) (1) تبين عقيدته حيث قال مؤلف الكتاب ص (70): (يؤكد ابن عبد البر أن هذا الباب -أعني باب العقائد- إنما يؤخذ من كتاب الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - وكذلك ما أجمعت عليه الأمة.
يقول -رحمه الله-:
"واتفق أهل الإسلام، أن الدين تكون معرفته على ثلاثة أقسام: أولها معرفة خاصة الإيمان والإسلام، وذلك معرفة التوحيد والإخلاص، ولا يوصل إلى علم ذلك إلا بالنبي - صلى الله عليه وسلم -، فهو المؤدي عن الله، والمبين لمراده، وبما في القرآن من الأمر بالاعتبار في خلق الله بالدلائل من آثار صنعته في بريته على توحيده، وأزليته سبحانه، والإقرار والتصديق بكل ما في القرآن، وبملائكة الله، وكتبه، ورسله" (2).
ويقول في موطن آخر:
"ليس في الاعتقاد كله في صفات الله وأسمائه إلا ما جاء منصوصًا في كتاب الله، أو صح عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، أو اجتمعت عليه الأمة، وما جاء من أخبار الآحاد في ذلك كله، أو نحوه يسلّم له، ولا يناظر فيه" (3).
موقف ابن عبد البر من الأقوال المرجوحة:
وأما الأقوال المرجوحة، سواء في باب العقائد، أو غيره، فإن ابن عبد البر -رحمه الله- يردها، كائنًا من كان قائلها، فنراه يرد على أبي حنيفة (4)، ومالك (5)، والشافعي (6)، بل يصرح بأن القول المخالف للسنة يرد، ولو كان قول صحابي، فيقول:
"ليس أحد من خلق الله إلا وهو يؤخذ من قوله ويترك، إلا النبي - صلى الله عليه وسلم - فإنه لا يترك من قوله إلا ما تركه هو ونسخه قولًا أو عملًا، والحجة فيما قال - صلى الله عليه وسلم - وليس في قول غيره حجة، ومن ترك قول ... [وذكر أقوالًا لبعض الصحابة انفردوا بها -رضي الله عنهم أجمعين- ثم قال] كيف يتوحش من مفارقة واحد منهم -ومعه السنة الثابتة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وهي الملجأ عند الاختلاف، وغير نكير أن يخفى على الصاحب والصاحبين والثلاثة السنة المأثورة عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ... " (7)
موقف ابن عبد البر مما ورد عن مجاهد في تفسير المقام المحمود:
ومن الأمثلة التي يمكن أن يستدل بها على رد ابن عبد البر للأقوال المخالفة للكتاب والسنة ما كرره في كتبه، من حكاية قول مجاهد -رحمه الله- في تفسير المقام المحمود، المذكور في قوله تعالى:
{وَمِنَ اللَّيلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا}.
فقد ورد عن مجاهد في تفسير ذلك قال: "يجلسه معه على عرشه" (1).
وقد رد هذا القول ابن عبد البر -رحمه الله- في مواضع كثيرة من كتبه، ففي إحدى المواطن، ذكر تفسير مجاهد لقوله تعالى: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ (*) إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} قال -يعني مجاهد- حسنة إلى ربها ناظرة قال: تنظر الثواب.
ثم عقب عليه بقوله:
"ولكن قول مجاهد هذا مردود بالسنة الثابتة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وأقاويل الصحابة، وجمهور السلف، وهو قول عند أهل السنة مهجور، والذي عليه جماعتهم ما ثبت في ذلك عن نبيهم - صلى الله عليه وسلم -، ومجاهد وإن كان أحد المقدمين في العلم بتأويل القرآن، فإن له قولين في تأويل آيتين هما مهجوران عند العلماء مرغوب عنهما، أحدهما هذا، والآخر قوله في قول الله عزَّ وجلَّ: {عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا} -ثم روى بسنده عنه أنه قال- يوسع له على العرش فيجلسه معه، وهذا قول مخالف للجماعة من الصحابة ومن بعدهم. فالذي عليه العلماء في تأويل هذه الآية أن المقام المحمود: الشفاعة ... " (2).
وقد أنكر هذا التفسير في موطن آخر، واعتذر عن مجاهد بأنه قد روي عنه في تفسير هذه الآية مثل الذي عليه الجماعة:
وقد روي عن مجاهد أن المقام المحمود: أن يقعده معه يوم القيامة على العرش، وهذا -عندهم- منكر في تفسير هذه الآية، والذي عليه جماعة العلماء من الصحابة والتابعين، ومن بعدهم من الخالفين- أن المقام المحمود، هو المقام الذي يشفع فيه لأمته، وقد روي عن مجاهد مثل ما عليه الجماعة من ذلك، فصار إجماعًا في تأويل الآية من أهل العلم بالكتاب والسنة" (3).
ثم روى عدة آثار في أن المقام المحمود هو الشفاعة، عن مجاهد، وابن مسعود، وحذيفة، وقتادة، وغيرهم (4)،
والحق أن السلف -رحمهم الله- قد اختلفوا في إثبات معنى هذا الأثر، فمن السلف من أجازه، رغم ترجيحه أن المقام المحمود هو الشفاعة، كما فعل ابن جرير -رحمه الله- (5).
وقال في صفحة (124) في إيراد قول ابن عبد البر خبر الواحد: (والإمام ابن عبد البر يرى وجوب العمل بخبر الواحد في الحدود وغيرها من الأحكام، ومن ذلك قوله:
"وإذا وجب ذلك في الحدود فسائر الأحكام أحرى بذلك" (6)، بل صرح بالأخذ به في الاعتقادات فقال:
"ليس في الاعتقاد كله في صفات الله وأسمائه إلا ما جاء منصوصًا في كتاب الله أو صح عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أو أجمعت عليه الأمة، وما جاء من أخبار الآحاد في ذلك كله أو نحوه يسلم له ولا يناظر فيه .. وقد روينا عن مالك بن أنس والأوزاعي وسفيان بن سعيد، وسفيان بن عيينة، ومعمر بن راشد، في الأحاديث في الصفات أنهم كلهم قال أمروها كما جاءت نحو حديث التنزيل، وحديث إن الله خلق آدم على صورته، وأنه يدخل قدمه في جهنم وما كان مثل هذه الأحاديث" (1).
وقال في عقيدة التبرك بمجالسة الصالحين [صفحة 236]: (أما التبرك بالصالحين فيكون بمجالستهم، والاستفادة من علمهم وخلقهم ونحو ذلك، كما في حديث الملائكة الذين يطوفون يلتمسون مجالس الذكر، وفيه قوله تعالى: (أشهدكم أني قد غفرت لهم. قال يقول ملك من الملائكة: فيهم فلان ليس منهم إنما جاء لحاجة. قال: هم الجلساء لا يشقى جليسهم) وفي رواية (هم القوم لا يشقى بهم جليسهم) (2).
فهذا العبد الخطاء شملته المغفرة ببركة مجالسته للصالحين.
قال شيخ الإسلام -رحمه الله تعالى-:
"وقول القائل ببركة الشيخ قد يعني بها دعاءه، وأسرع الدعاء إجابة دعاء غائب لغائب، وقد يعني بها بركة ما أمره به وعلّمه من الخير، وقد يعني بها بركة معاونته له على الحق وموالاته في الدين ونحو ذلك، وهذه كلها معان صحيحة" (3).
رأي ابن عبد البر في التبرك بذوات الصالحين ومناقشته:
أما التبرك بذوات الصالحين أو بآثارهم كملابسهم وفضل وضوئهم ونحو ذلك، فهذا فيه خلاف بين العلماء -رحمهم الله-، فمنهم من أجازه، ومنهم من منعه.
فأما الذين جوزوا ذلك فقد قاسوه على ما ورد في ذلك من آثار في حق النبي - صلى الله عليه وسلم - كما سبق ذكر جملة منها، وقالوا إن هذه الأحاديث أصل في التبرك بآثار الصالحين (4).
واستدلوا أيضًا بفعل ابن عمر - رضي الله عنهما - في كونه يتحرى الأماكن التي صلى فيها الرسول - صلى الله عليه وسلم - فيصلي فيها كما روى البخاري -رحمه الله- بسنده عن موسى بن عقبة قال: "رأيت سالم بن عبد الله يتحرى أماكن من الطريق فيصلي فيها، ويحدث أن أباه كان يصلي فيها، وأنه رأى النبي - صلى الله عليه وسلم - في تلك الأمكنة" (5).
وقد أخذ ابن عبد البر -رحمه الله- بهذا الرأي مستدلًا بفعل ابن عمر - رضي الله عنهما - في تحريه الصلاة في المواضع التي صلى فيها الرسول - صلى الله عليه وسلم -، ثم عمم الحكم وقاس آثار الصالحين على آثار النبي - صلى الله عليه وسلم - فقد علق على ما ورد عن ابن عمر أنه تحرى الصلاة في أحد المساجد التي صلى فيها الرسول - صلى الله عليه وسلم - فقال:
"وفيه ما كان عليه ابن عمر من التبرك بحركات رسول الله - صلى الله عليه وسلم - اقتداء به وتأسيًا بحركاته، ألا ترى أنه إنما سألهم عن الموضع الذي صلى فيه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من مسجدهم ليصلي فبه تبركًا بذلك ورجاء الخير فيه" (1).
وذكر حديث عمران الأنصاري أنه قال: "عدل إليّ عبد الله بن عمر وأنا نازل تحت سرحة (2) بطريق مكة فقال: ما أنزلك تحت هذه السرحة؟ فقلت: أردت ظلها! فقال: هل غير ذلك؟ فقلت لا. ما أنزلني إلا ذلك. فقال ابن عمر: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (إذا كنت بين الأخشبين من منى -ونفخ بيده نحو الشرق- فإن هناك واديًا يقال له السِّرر به شجرة سُر تحتها سبعون نبيًّا) (3).
وقال بعد أن ذكره: "وفي هذا الحديث دليل على التبرك بمواضع الأنبياء والصالحين ومقاماتهم ومساكنهم. وإلى هذا قصد عبد الله بن عمر بحديثه هذا" (4).
وقال في موطن آخر: هذا الحديث دليل على التبرك بمواضع الأنبياء والصالحين ومساكنهم وآثارهم .. " (5)
بل نراه قد صرح بقياس التبرك بذوات الصالحين على التبرك بذات النبي - صلى الله عليه وسلم -.
فقد أورد حديث عائشة - رضي الله عنها -: "أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان إذا اشتكى يقرأ على نفسه بالمعوذات، وينفث قالت: فلما اشتد وجعه كنت أقرأ عليه وأمسح عليه بيمينه رجاء بركتها" (6)، وقال في تعليقه عليه:
"وفيه المسح باليد عند الرقية، وفي معناه المسح باليد على كل ما ترجى بركته، وشفاؤه، وخيره، مثل المسح على رأس اليتيم وشبهه. وفيه التبرك بأيمان الصالحين، قياسًا على ما صنعت عائشة بيد النبي - صلى الله عليه وسلم - " (7).
والقول الآخر في المسألة المنع من ذلك كله، وقد حملوا كل ما ورد في ذلك على الخصوصية بالرسول - صلى الله عليه وسلم - ولم يقيسوا غيره عليه.
وهذا هو الصواب في المسألة -إن شاء الله تعالى-، لأنه لم يصح عن الصحابة، رضي الله عنهم- التبرك بآثار غير النبي - صلى الله عليه وسلم - ولأن فتح هذا الباب يفضي إلى الشرك بالله تعالى (8).
وفي الصفحة (288) قال المؤلف في منهج ابن عبد البر في إثبات الأسماء والصفات: (ومنهج ابن عبد البر -رحمه الله- في ذلك هو منهج أهل السنة من حيث إثبات ما ثبت لله تعالى من الأسماء والصفات، من غير تكييف ولا تمثيل، ونفي ما نفاه عن نفسه من غير تعطيل.
وفي هذا يقول -رحمه الله-:
"لا نسميه ولا نصفه ولا نطلق عليه إلا ما سمى به نفسه، على ما تقدم ذكرنا له من وصفه لنفسه لا شريك له، ولا ندفع ما وصف به نفسه لأنه دفع للقرآن" (1).
وقال بعد أن أنكر أن يقاس الله تعالى على شيء من خلقه، أو يجري بينه وبينهم تمثيل أو تشبيه:
"لا يبلغ من وصفه إلا ما وصف به نفسه، أو وصفه به نبيه ورسوله أو اجتمعت عليه الأمة الحنيفية عنه" (2). وقال في موطن آخر: "ليس في الاعتقاد كله في صفات الله وأسمائه إلا ما جاء منصوصًا في كتاب الله أو صح عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أو اجتمعت عليه الأمة، وما جاء من أخبار الآحاد في ذلك كله أو نحوه يُسلّم له ولا يناظر فيه" (3).
وقال: "فلا يصفه ذوو العقول إلا بخبر، ولا خبر في صفات الله إلا ما وصف نفسه به في كتابه، أو على لسان رسوله - صلى الله عليه وسلم -، فلا نتعدى إلى تشبيه أو قياس أو تمثيل أو تنظير، فإنه ليس كمثله شيء وهو السميع البصير" (4).
ويقصد بالقياس هنا قياس صفات الخالق على صفات المخلوقين، ولا شك أن هذا لا يجوز في حقه تعالى، لكن يستعمل في حقه المثل الأعلى، وهو أن كل ما اتصف به المخلوق من كمال لا يلحقه نقص ولا عدم. فالخالق أولى به، وكل ما ينزه عنه المخلوق من نقص فالخالق أولى بالتنزيه عنه .. ) (5).
وقال في صفحة (318) عن عقيدة ابن عبد البر في علو الله على خلقه:
(والإمام ابن عبد البر -رحمه الله-، يرى إثبات هذه الصفة، ويدلل عليها ويرد على من نفاها ويبطل شبههم.
ومن ذلك قوله في معرض كلامه على حديث النزول:
"وفيه دليل على أن الله -عزَّ وجلَّ- في السماء على العرش من فوق سبع سموات، كما قالت الجماعة، وهو من حججهم على المعتزلة والجهمية، في قولهم إن الله -عزَّ وجلَّ- في كل مكان، وليس على العرش، والدليل على صحة ما قالوه أهل الحق في ذلك قول الله -عزَّ وجلَّ- {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} .. وقوله {إِلَيهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ} .. وقال جل ذكره {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى} وهذا من العلو ... والجهمي يزعم أنه أسفل .. وقال لعيسى: {يَاعِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ} .. وهذه الآيات كلها واضحات في إبطال قول المعتزلة" (6).
ويذكر ابن عبد البر من الأدلة على إثبات العلو:
"أن الموحدين أجمعين من العرب والعجم، إذا كربهم أمر، أو نزلت بهم شدة، رفعوا وجوههم إلى السماء يستغيثون ربهم تبارك وتعالى، وهذا أشهر وأعرف عند الخاصة والعامة من أن يحتاج فيه إلى أكثر من حكايته لأنه اضطرار لم يؤنبهم عليه أحد، ولا أنكره عليهم مسلم .. " (1) ثم أورد بعد ذلك حديث الجارية الذي سبق ذكره قريبًا.
وقال -رحمه الله-:
"ولم يزل المسلمون في كل زمان إذا داهمهم أمر وكربهم غمر يرفعون وجوههم وأيديهم إلى السماء رغبة إلى الله -عزَّ وجلَّ- في الكشف عنهم ... " (2).
وقال أيضًا:
"ولولا أن موسى - عليه السلام - قال لهم إلهي في السماء ما قال فرعون {يَاهَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحًا لَعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبَابَ (*) أَسْبَابَ السَّمَاوَاتِ فَأَطَّلِعَ إِلَى إِلَهِ مُوسَى}).
وفي الصفحة (330) تكلم المؤلف عن عقيدة ابن عبد البر في الاستواء فقال: (وقد أثبت ابن عبد البر -رحمه الله- هذه الصفة كما هو مذهب أهل السنة والجماعة وصرح بأن ذلك هو الذي عليه أهل السنة والجماعة فقال: "والذي عليه جماعة أهل السنة أنه لم يزل بصفاته وأسمائه ليس لأوليته ابتداء، ولا لآخريته انقضاء، وهو على العرش استوى" (3).
وقال في كلامه على حديث النزول:
"وفي هذا الحديث دليل على أن الله تعالى في السماء على العرش من فوق سبع سماوات وعلمه في كل مكان كما قالت الجماعة أهل السنة والفقه والأثر، وحجتهم ظواهر القرآن في قوله {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} .. " (4)
وأورد في ذلك عدة آثار، منها ما ورد عن ربيعة بن أبي عبد الرحمن أنه سئل عن قول الله تعالى: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} قال: استواؤه حق معلوم وكيفيته مجهولة (5).
ومنها ما ورد عن مالك أنه سئل عن الآية نفسها فقال: "الاستواء معلوم وكيفيته مجهولة وسؤالك عن هذا بدعة وأراك رجل سوء".
وعن ابن المبارك قال: "الرب تعالى على السماء السابعة على العرش" (6).
وفي الحقيقة إن إثبات استواء الله على عرشه يعد من أبرز الصفات التي ينفرد بإثباتها أهل السنة والجماعة عن غيرهم من الفرق المخالفة.
وقد أجمع السلف على أن الله تعالى مستو على عرشه استواء حقيقيًّا يليق بجلاله كما دل على ذلك الكتاب العزيز والسنة النبوية.
والآثار في ذلك عن السلف الصالح من الصحابة والتابعين ومن بعدهم كثيرة جدًّا).
قال المؤلف في رد ابن عبد البر على من أول استوى باستولى في الصفحة (335) ما نصه:
قال الإمام ابن عبد البر في رد تأويلهم لقوله "استوى" باستولى: "وأما ادعاؤهم المجاز في الاستواء وقولهم في تأويل استوى: استولى فلا معنى له، لأنه غير ظاهر في اللغة، ومعنى الاستيلاء في اللغة المغالبة، والله لا يغالبه ولا يعلوه أحد وهو الواحد الصمد، ومن حق الكلام أن يحمل على حقيقته، حتى تتفق الأمة أنه أريد به المجاز، إذ لا سبيل إلى اتباع ما أنزل إلينا من ربنا الأعلى ذلك، وإنما يوجه كلام الله -عز وجل- إلى الأشهر والأظهر من وجوهه، ما لم يمنع من ذلك ما يجب له التسليم، ولو ساغ ادعاء المجاز لكل مدع ما ثبت شيء من العبارات، وجل الله -عزَّ وجلَّ- أن يخاطب إلا بما تفهمه العرب في معهود مخاطباتها مما يصح معناه عند السامعين" (1).
ثم ذكر معنى الاستواء في اللغة بأنه العلو والارتفاع والاستقرار وذكر الشواهد على ذلك كقوله تعالى: {لِتَسْتَوُوا عَلَى ظُهُورِهِ} وقوله {وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ}.
وكما قال الشاعر:
فأوردتهم ماء بفيفاء قفرة ... وقد حلق النجم اليماني فاستوى
قال "وهذا لا يجوز أن يتأول فيه أحد: استولى، لأن النجم لا يستولى" (2)، ثم ذكر قصة تدل على أن الاستواء بمعنى العلو وهي "ما ذكره النضر بن شميل"، وكان ثقة مأمونًا جليلًا في علم الديانة واللغة قال حدثني الخليل -وحسبك بالخليل- قال أتيت أبا ربيعة الأعرابي -وكان من أعلم من رأيت- فإذا هو على سطح فسلمنا، فرد علينا السلام، وقال لنا: استووا فبقينا متحيرين ولم ندر ما قال: قال: فقال لنا أعرابي إلى جنبه، إنه أمركم أن ترفعوا، قال الخليل هو من قول الله -عزَّ وجلَّ-: {ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ} فصعدنا إليه" (3).
وأما عقيدة ابن عبد البر في صفة النزول:
وقد قرر الإمام ابن عبد البر عقيدة أهل السنة في هذه الصفة ورد على من خالفها، وعلى من أول الحديث على غير ظاهره، فقال -رحمه الله-: "والذي عليه جمهور أئمة أهل السنة أنهم يقولون: ينزل كما قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ويصدقون بهذا الحديث ولا يكيفون، والقول في كيفية النزول كالقول في كيفية الاستواء والمجيء والحجة في ذلك واحدة".
وروى بسنده عن سحنون بن منصور قال قلت لأحمد بن حنبل: ينزل ربنا تبارك وتعالى كل ليلة حين يبقى ثلث الليل الآخر إلى السماء الدنيا أليس نقول بهذه الأحاديث؟ ... قال أحمد: كل هذا صحيح. وقال إسحاق: كل هذا صحيح لا يدعه إلا مبتدع أو ضعيف الرأي" (4).
وروى بسنده "عن ابن وضاح سألت يحيى بن معين عن النزول؟ فقال أقر به ولا تحد فيه بقول. كل من لقيت من أهل السنة يصدق بحديث التنزل.
قال: وقال لي ابن معين: صدق به ولا تصفه" (1).
وقال المؤلف فيما تأوله من الصفات الفعلية صفحة (386)، وإليك كلامه كاملًا لإتمام الفائدة:
(عرفنا فيما سبق أن منهج ابن عبد البر في الصفات هو الإقرار بها، والإيمان بها، وحملها على الحقيقة لا على المجاز، من غير تكييف ومن غير تجاوز للنصوص الشرعية الواردة في ذلك.
فمنهجه هو منهج أهل السنة والجماعة في الجملة إلا أننا نراه عند تطبيق هذا المنهج وعند تطبيق هذا التقعيد العام، يتجاوز أحيانًا فلا يلتزم بما قرره أولًا.
ولا شك أن هذا التجاوز يعد اجتهاد منه -رحمه الله- وهو وإن كان مقصده حسنًا ونيته صالحة -كما نحسبه والله حسيبه- إلا أن هذا لا يمنع من بيان وجه الصواب في المسائل التي اجتهد فيها ابن عبد البر وكان الصواب في خلاف ما ذهب إليه.
ومن خلال تتبعي لكلام ابن عبد البر في ذلك، وجدته قد أول بعض الصفات الفعلية، وفسرها على غير ظاهرها، وبغير ما فسرها به السلف الصالح ومن ذلك ما يلي:
1 - الضحك:
من المعلوم أن من عقيدة أهل السنة والجماعة إثبات كل صفة لله تعالى ثبتت له في الكتاب أو السنة على الوجه اللائق به تعالى.
ومن ذلك صفة الضحك فأهل السنة يثبتونها لأنه ورد فيها عدة أحاديث صحيحة فيجب إثباتها على الوجه اللائق به تعالى، مع الاعتقاد الجازم بأنها لا تشبه صفة المخلوقين ولا تفسر بذلك.
ولأن "الضحك في موضعه المناسب له صفة مدح وكمال، وإذا قُدِّر حيَّان، أحدهما يضحك مما يُضحك منه، والآخر لا يضحك قط، كان الأول أكمل من الثاني" (2).
وقد علم أن كل كمال ثبت للمخلوق لا نقص فيه فالخالق أولى به.
وقد وردت أحاديث كثيرة تثبت هذه الصفة لله تعالى فمن ذلك:
1 - قوله - صلى الله عليه وسلم -: (يضحك الله إلى رجلين يقتل أحدهما الآخر يدخلان الجنة) (3).
2 - وفي حديث أبي رزين: (ضحك ربنا من قنوط عباده وقُرب غِيَرهِ، قال: قلت يا رسول الله أو يضحك الرب -عزَّ وجلَّ-؟ قال: نعم. قال: لن نعدم من رب يضحك خيرًا) (4).
فجعل الأعرابي العاقل -بصحة فطرته- ضحك ربه دليلًا على إحسانه وإنعامه، فدل على هذا الوصف مقرون بالإحسان المحمود وأنه من صفات الكمال، والشخص العبوس الذي لا يضحك قط هو مذموم بذلك، وقد قيل في اليوم الشديد العذاب إنه: {يَوْمًا عَبُوسًا قَمْطَرِيرًا} (1).
3 - وفي حديث ابن مسعود عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال:
(إن آخر من يدخل الجنة لرجل يمشي على الصراط فينكب مرة ويمشي مرة). فذكر الحديث بطوله وقال في آخر الخبر: (فيقول ربنا تبارك وتعالى ما يضرني منك أي عبدي أيرضيك أن أعطيك من الجنة مثل الدنيا ومثلها معها. قال: فيقول أتهزأ بي وأنت رب العزة؟ قال: فضحك عبد الله حتى بدت نواجذه، ثم قال: ألا تسألوني لم ضحكت، قالوا: لم ضحكت؟ قال: لضحك رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. ثم قال لنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ألا تسألوني لم ضحكت؟ ، قالوا: لم ضحكت يا رسول الله؟ قال: لضحك الرب تبارك وتعالى حين قال أتهزأ بي وأنت رب العزة) (2).
والأحاديث في ذلك كثيرة ومعلومة وقد أفرد العلماء لذكرها أبوابًا في كتبهم (3)، والمقصود أن أهل السنة يثبتون هذه الصفة كما جاءت في النصوص على الوجه اللائق بالله تعالى.
ولكن الإمام ابن عبد البر- عفا الله عنه - قد تأولها على غير ظاهرها، وفسرها بأثرها، فقال عند كلامه على حديث: (يضحك الله -عز وجل- إلى رجلين يقتل أحدهما الآخر كلاهما يدخل الجنة):
"وأما قوله: يضحك الله: فمعناه يرحم الله عبده عند ذاك، ويتلقاها بالروح والراحة والرحمة والرأفة وهذا مجاز مفهوم".
ثم قال: "وقد قال الله -عزَّ وجلَّ- في السابقين الأولين والتابعين لهم بإحسان: {رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ}، وقال في المجرمين: {فَلَمَّا آسَفُونَا انْتَقَمْنَا مِنْهُمْ}.
وأهل العلم يكرهون الخوض في مثل هذا وشبهه من التشبيه كله في الرضى والغضب، وما كان مثله من صفات المخلوقين" (4).
وبهذا نعلم أن ابن عبد البر ألحق بالضحك ما يماثله من الصفات الفعلية كالرضى والغضب فأولها لتوهمه أنها مثل صفات المخلوقين وأن في إثباتها لله تعالى تشبيهًا وتمثيلًا.
ولا شك أن ابن عبد البر -رحمه الله- قد خالف الصواب في ذلك لشبهة عرضت له كما عرضت لمن قبله.
ذلك أنهم فسروا هذه الصفات وشبهها بما هو معروف من صفات المخلوقين، ثم نفوا الصفة عن الله تعالى لاعتقادهم وتوهمهم أن في إثباتها لله تشبيهًا له بخلقه.
فقد فسروا الضحك بأنه خفة الروح، وفسروا الغضب بأنه غليان دم القلب لطلب الانتقام، كما فسروا التعجب بأنه استعظام للمتعجب منه، ونحو ذلك.
ويرد عليهم بأن القول بأن الضحك خفة الروح ليس بصحيح وإن كان ذلك قد يقارنه.
وكذلك قول القائل الغضب غليان دم القلب لطلب الانتقام، ليس بصحيح في حقنا بل الغضب قد يكون لدفع المنافي قبل وجوده فلا يكون هناك انتقام أصلًا.
وأيضًا فغليان دم القلب يقارنه الغضب، ليس مجرد الغضب هو غليان دم القلب، كما أن الحياء يقارن حمرة الوجه، والوجل يقارن صفرة الوجه، لا أنه هو.
ومثل ذلك القول بأن التعجب استعظام للمتعجب منه. فيقال نعم. وقد يكون مقرونًا بجهل بسبب التعجب، وقد يكون لما خرج عن نظائره.
ثم إننا نقول: هبوا أن معنى هذه الصفات هو ما ذكرتموه. فإن هذا إنما يصح في حق المخلوقين، أما ضحك الله تعالى وعجبه ورضاه وغضبه وغير ذلك من صفاته فلا تشبه صفاته صفات المخلوقين، كما أن ذاته لا تشبه ذوات المخلوقين (1).
أما تفسير الضحك بالرحمة فهو تفسير للشيء ببعض أثره، أما الرحمة فهي غير الضحك كما هو ظاهر.
قال الدارمي -رحمه الله- في رده على المريسي:
"وأما قولك إن ضحكه: رضاه ورحمته، فقد صدقت في بعض؛ لأنه لا يضحك لأحد إلا عن رضي فيجتمع منه الضحك والرضا ولا يصرفه إلا عن عدو، وأنت تنفي الضحك عن الله وتثبت له الرضا وحده .. " (2).
فالواجب إثبات هذه الصفات ونحوها على الوجه اللائق بالله تعالى، من غير تحريف ولا تعطيل ومن غير تشبيه ولا تمثيل.
2 - المكر والكيد والاستهزاء ونحوها:
يؤمن أهل السنة والجماعة أن الله تعالى له الصفات العليا وأن صفاته كاملة لا نقص فيها بوجه من الوجوه.
وأن من صفاته ما يطلق عليه ابتداء كالسمع والبصر والعلم ونحو ذلك.
ومنها ما لا يوصف به إلا على جهة الجزاء وذلك كصفة المكر والكيد والاستهزاء ونحوها، فهذه الصفات إنما أتت مقابلة ومجازاة، والله تعالى لم يصف نفسه بها بإطلاق، ولا ذلك داخل في أسمائه الحسنى، ولهذا غلط من عد من أسمائه الماكر والمخادع والمستهزئ والكائد ...
لأن هذه الأفعال ليست ممدوحة مطلقًا بل تمدح في موضع، وتذم في موضع، فما كان منها متضمنًا للكذب والظلم فهو مذموم وما كان منها محق وعدل ومجازاة على القبيح فهو حسن محمود.
والمقصود أن الله سبحانه لم يصف نفسه بالكيد والمكر والخداع إلا على وجه الجزاء لمن فعل ذلك بغير حق وقد علم أن المجازاة على ذلك حسنة من المخلوق فكيف من الخالق سبحانه" (1).
فأهل السنة يثبتون هذه الصفات لكن على جهة الجزاء فالله يمكر بمن يمكر به، وبمن يستحق المكر، وهكذا يقال في باقي الصفات المشابهة لهذه الصفة كالاستهزاء والكيد وغير ذلك.
ولكننا نرى ابن عبد البر ينفي عن الله تعالى الهزء والمكر والكيد ويفسر كل ذلك بالجزاء عليه، ويرى أن هذا اللفظ خرج مخرج المشاكلة اللفظية فحسب، وذلك كقوله تعالى: {وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا}، وقوله: {فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيكُمْ}.
وفي هذا يقول -رحمه الله-:
"والجزاء لا يكون سيئة، والقصاص لا يكون اعتداء، لأنه حق واجب، ومثل ذلك قول الله تبارك وتعالى: {وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيرُ الْمَاكِرِينَ}، وقوله: {إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ (*) اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ}، وقوله: {إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيدًا (*) وَأَكِيدُ كَيدًا}، وليس من الله -عزَّ وجلَّ- هزء ولا مكر ولا كيد -إنما هو جزاء لمكرهم واستهزائهم وجزاء كيدهم، فذكر الجزاء بمثل لفظ الابتداء لما وضع بحذائه" (2).
وهذا الكلام من ابن عبد البر -رحمه الله- إن كان يقصد بنفيه الكيد والمكر والاستهزاء عن الله تعالى ما يشبه ذلك عند المخلوقين، فهذا حق لأن صفات الله تعالى لا تشبه صفات المخلوقين.
وإن كان يقصد به نفي وصف الله تعالى بذلك مطلقًا، ولو على جهة الجزاء، فهذا غير صحيح لما سبق تقريره من أنه يجب وصف الله تعالى بما وصف به نفسه، من غير تحريف ولا تأويل ومن غير تعطيل ولا تمثيل، مع الاعتقاد الجازم بأنها لا تماثل صفات المخلوقين، بل هي صفات تليق به تعالى وأنه يوصف بهذه الصفات على جهة المجازاة.
وقد فسرت هذه الصفات ونحوها بتفسيرات كثيرة أكثرها لا يخلو من تأويل.
ومن ذلك أنها فسرت بالانتقام، والعقوبة، كما فسرت بأنها خرجت مخرج المشاكلة اللفظية والجواب، أي أن ذلك حاق بهم، وقيل معناه أنه يظهر لهم من أحكامه في الدنيا خلاف الذي لهم عنده في الآخرة وقيل غير ذلك (3).
ومما يشبه ذلك من الصفات التي تأولها ابن عبد البر -رحمه الله- صفة الاستحياء والإعراض فقد قال في حديث أبي واقد الليثي أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بينما هو جالس في المسجد، والناس معه، إذ أقبل ثلاثة نفر فأقبل اثنان إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وذهب واحد، فلما وقفا على رسول الله سلما، فأما أحدهما فرأى فرجة في الحلقة، فجلس فيها، وأما الآخر فجلس خلفهم وأما الثالث فأدبر ذاهبًا فلما فرغ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: (ألا أخبركم عن النفر الثلاثة؟ أما أحدهم فأوى إلى الله فآواه الله، وأما الأخير، فاستحيا، فاستحيا الله منه، وأما الآخر فأعرض فأعرض الله عنه) (4).
قال ابن عبد البر: "وأما قوله في الثاني: فاستحيى فاستحيى الله منه، فهو من اتساع كلام العرب في ألفاظهم، وفصيح كلامهم، والمعنى فيه -والله أعلم- أن الله قد غفر له لأنه من استحيا الله منه لم يعذبه بذنبه، وغفر له بل لم يعاتبه عليه فكان المعنى في الأول أن فعله أوجب له حسنة، والآخر أوجب له فعله محو سيئة عنه والله أعلم.
وأما قول الثالث فأعرض فأعرض الله عنه، فإنه -والله أعلم- أراد أعرض عن عمل البر فأعرض الله عنه بالثواب .. " (1)
ومن هذا ندرك أن ابن عبد البر قد فسر هذه الصفات -كما فسر التي قبلها- بلازمها أو بالأثر المترتب عليها. ومعلوم أن أثر الصفة غير الصفة والكلام في الرد عليه كالكلام في الصفات السابقة. والله أعلم).
وبعد ما ذكر نورد ملخص كتاب (عقيدة ابن عبد البر) بقلم مؤلفه (صفحة 551):
فإلى هنا تأتي نهاية هذا البحث، الذي حرصت فيه على التركيز وعلى إيجاز مباحثه قدر المستطاع، وقد توصلت فيه إلى نتائج جليلة وأمور كثيرة منها:
أولًا: إننا عرفنا فيه الصحيح من اسم ابن عبد البر وإنه يوسف بن عبد الله بن محمّد بن عاصم النَّمري، وكنيته: أبو عمر، وإنه ولد في قرطبة سنة (368 هـ)، ونشأ في بيت علم وصلاح وأخذ العلم عن مشايخ كثر، وأخذ عنه تلاميذ عديدون، وقد صنف مصنفات بلغت زهاء الأربعين مصنفًا، وقد توفي -رحمه الله- سنة (463 هـ).
ثانيًا: أن منهج ابن عبد البر في العقيدة هو منهج أهل السنة والجماعة وأنه يعتمد على الكتاب والسنة في ذلك، ويرد كل قول يخالفهما أيًا كان قائله. ومن ذلك رده على مجاهد في تفسيره المقام المحمود كما سبق بيانه.
ثالثًا: أن من منهجه الأخذ بظاهر النصوص وعدم تأويلها أو ادعاء المجاز فيها، لأن ذلك يفضي إلى التلاعب بنصوص الشريعة وعدم الوثوق بها.
رابعًا: أن ابن عبد البر يرى الأخذ بخبر الواحد الصحيح في العقيدة كما هو منهج أهل السنة والجماعة.
خامسًا: يرى ابن عبد البر عدم جواز القياس في باب صفات الباري جل وعلا؛ لأن الكلام في الصفات متوقف على ورود النص. فما جاء في النصوص فيثبت، وما نفي فينفى وما لم يرد فلا نتكلف في البحث عنه.
فهذه المسألة مبناها على ورود النص فحسب.
سادسًا: في مجال الجدل والخوض في مسائل العقيدة يرى -رحمه الله- عدم الخوض في ذلك لأن العقيدة مبناها على التسليم والانقياد، فلا مجال فيها للجدل فالسلامة في الكف عن ذلك، إلا إن اضطر أحد إلى ذلك ليدفع شبهة أو يرد على خصم فلا بأس حينئذ والحالة هذه.
سابعًا: لم يغفل ابن عبد البر وهو يقرر عقيدة أهل السنة والجماعة أن يعرض لبعض المبتدعة وعقائدهم ويرد عليهم، بل إنه يرى هجرهم ومجانبتهم وقطع الكلام معهم.
ثامنًا: أن ابن عبد البر نهج في توحيد العبادة منهج أهل السنة والجماعة فهو يرى تحريم اتخاذ القبور مساجد، وتحريم تجصيصها، والبناء عليها كما يرى النهي عن التشاؤم، وعن التصوير، وعن تعليق التمائم الشركية.
وفي مجال الألفاظ يرى النهي عن سب الدهر، وعن الحلف بغير الله، وعن قول: مطرنا بنوء كذا وكذا.
فهو في هذا على منهج أهل السنة إلا أن له بعض الاجتهاد الذي لا يوافق عليه ومن ذلك قوله بجواز الصلاة في المقبرة، وجواز التبرك بآثار الصالحين.
تاسعًا: اتضح لنا فيما سبق أن ابن عبد البر نهج منهج أهل السنة والجماعة في باب الأسماء والصفات.
فقد كان من منهجه إثبات الأسماء والصفات الواردة في الكتاب والسنة من غير تشبيه ولا تكييف ومن غير تأويل ولا تمثيل، بل يؤمن بها وتمر كما جاءت.
ويقرر في هذا المجال أن الجهل بالكيفية لا يلزم منه نفي الصفة، بل تثبيت الصفة على الوجه اللائق به تعالى.
وقد سبق الكلام عن بعض الصفات التي عرض لها ابن عبد البر، وقرر فيها مذهب أهل السنة والجماعة، مثل صفة: العلو، والاستواء، والنزول، والرؤية، والكلام.
وفي هذا المجال يلتزم ابن عبد البر بنصوص الكتاب والسنة، ويعرض عن طرق أهل الكلام وعباراتهم في هذا الباب، مما جعله ينفي بعض العبارات الكلامية المجملة التي تحتمل حقًّا وباطلًا، كلفظ الحركة والجسم والحد.
وقد عرفنا منهج أهل السنة في مثل هذه الألفاظ فيما سبق.
عاشرًا: أن ابن عبد البر -وإن كان على منهج أهل السنة من حيث إثبات الصفات الواردة في الكتاب والسنة، كما قرر ذلك في عدة مواطن من كتبه- إلا أنه اجتهد في بعض الصفات الخبرية، فأولها على غير ظاهرها، ولم يلتزم فيها منهجه الأثري، ومن ذلك صفة الضحك كما سبق بيانه.
حادي عشر: وفي مبحث القدر قرر ابن عبد البر عقيدة أهل السنة والجماعة فيه، ورد على القدرية والجبرية.
ثاني عشر: ومن المباحث الكبيرة في هذا الباب، والتي بسط الكلام عليها ابن عبد البر مبحث الفطرة، وقد ذكر فيها أقوال الناس وأدلتهم.
ورجح القول بأنها الخلقة التي يعرف بها المولود ربه، إذا بلغ وأنه يولد على السلامة، فليس معه كفر ولا إيمان، وقد بينت ضعف هذا القول فيما سبق.
ثالث عشر: وفي باب الإيمان قرر ابن عبد البر فيه عقيدة أهل السنة والجماعة من أنه قول وعمل. يزيد وينقص. وذكر الدلائل على ذلك، ورد على المخالفين في ذلك.
رابع عشر: قرر عقيدة أهل السنة، فيمن مات مسلمًا مصرًا على كبيرة فبين أنه تحت مشيئة الله، إن شاء عفا عنه، وإن شاء عذبه بذنبه ثم أدخله الجنة.
وذكر أن التوبة واجبة على جميع المسلمين، من جميع الذنوب، وأن الأعمال الصالحة وحدها لا تكفر الكبائر بل لا بد من التوبة بشروطها.
وبعد، فإنه يمكن القول بأن ابن عبد البر -رحمه الله- كان على مذهب أهل السنة والجماعة، وأنه من حملة العقيدة الصحيحة والمنافحين عنها في بلاد المغرب في القرن الخامس. رغم أنه اجتهد اجتهادات، خالف فيها مذهب أهل السنة والجماعة فهي اجتهادات لا تخرجه عن أهل السنة، ولا تجعله في أهل البدعة، لأننا لا نفترض في أهل السنة العصمة من الخطأ والزلل، بل كل يؤخذ من قوله ويترك، إلا رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، والمعصوم من عصمه الله، والمجتهد المصيب له أجران، والمجتهد المخطئ له أجر واحد.
فرحم الله ابن عبد البر، وعفا عنه، وجمعنا وإياه في مستقر رحمته إنه على كل شيء قدير، وبالإجابة جدير، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم أ. هـ.
* قلت: تبين من ذلك أن عقيدته على منهج السلف الصالح، وأنه يعتمد في ذلك على الكتاب والسنة، وهذا واضح خلال هذا البحث، ومن أراد زيادة التفصيل فليراجع الكتاب المذكور.
وفاته: سنة (460 هـ) ستين وأربعمائة.
من مصنفاته: ألف مما جمع تواليف نافعة ... منها: "كتاب التمهيد لما في الموطأ من المعاني والأسانيد"، و"كتاب البيان عن تلاوة القرآن".
مصادر و المراجع :
١- الموسوعة الميسرة في تراجم أئمة التفسير
والإقراء والنحو واللغة «من القرن الأول إلى المعاصرين مع دراسة لعقائدهم وشيء من
طرائفهم»
20 سبتمبر 2023
تعليقات (0)