المنشورات

" السلطان العالم" (أورانج زايب عالَم قير)

" إن الأسى ليعتصر قلبي، وأنا أرى إخواني وأخواتي لا يعرفون هذه الشخصية، ولا يدركون عظمتها، ولم يسبروا كنهها وغورها، وهذا واللَّه يحز في نفسي، أن يغيب عن ذاكرتنا رجلٌ عظيم، جليل القدر، رفيع المكانة، غزير العلم، مثل أورانج زايب عالم قير"
(الشيخ المؤرخ: محمد الشريف)
لن أبدأ الحديث عن هذا البطل الإسلامي بالسؤال الشهير الذي أطرحه عند بداية ترجمتي لمعظم أبطال هذا العمل، فلن أسأل إن كان أحدنا يعرف شيئًا عن هذا السلطان الهندي العظيم، فأنا على يقينٍ تامٍ، أن جلَّ معلوماتنا عن الهند تقتصر على تلك الأفلام الهندية التي تنتجها هوليود الشرق "بوليود"، والتي يدمن كثير من شباب المسلمين على مشاهدتها، وفي بعض الأحيان في تقليد حركات أبطالها البهلوانية أيضًا! ولو علم شباب الإسلام أننا حكمنا تلك الأرض لما يقرب من ألف عام، رفعنا فيها راية الإسلام الخفاقة، فصدحنا بأذان اللَّه أكبر في جميع أرجائها، لما حرصوا على متابعة تلك الأفلام بقدر حرصهم على قراءة تاريخ أمتهم! ولغيَّر شبابنا بعضًا من نظريتهم العنصرية تجاه إخوتهم الهنود، فالمسلمون الهنود (وأعني هنا مسلمي القارة الهندية من بنغلادش إلى باكستان مرورًا بالهند الحالية) يمثلون ثلث عدد المسلمين بالكلية، أي أنه من بين ثلاثة مسلمين يعيشون على الكرة الأرضية هناك هندي مسلمٌ بينهم! والفضل الأكبر لإسلام هؤلاء الإخوة من الهنود يرجع أولًا وأخيرًا إلى رجالٍ من أمثال بطلنا الذي نحن في صدد الترجمة له، وليت شعري أي ترجمة يمكن لي أن ترجمها لرجلٍ بمثل عِظم قدره، وسمو مكانته، وعلو همته، وعظيم سلطانه، إلا أنني أرى أنه من الضروري لهذه الأمة، إذا ما أرادت النهوض من حالة الغثيان التي تمر بها حاليًا، أن تستذكر بعض قصص أبطالها، كي يجد الجيل القادم نبراسًا يضيئ لهم جنبات الطُرق المظلمة، لذلك رأيت ضرورة الكتابة عن هذا العملاق الإسلامي، مستعينًا بجل ما سأكتب عنه باللَّه أولًا، ثم بالأبحاث الجليلة التي قام بها الشيخ الدكتور (محمد بن موسى الشريف) جزاه اللَّه خيرًا، الداعية المشهور، وصاحب موقع التاريخ  www.altareekh.com.
وكما تعودنا في هذا الكتاب بأخذ خلفية تاريخية عن كل قصة نخوض في غمارها، أرى أن نأخذ خلفية عن قصة الإسلام في الهند، والحقيقة أنني أرى أن قصة الإسلام في الهند بدأت في وقتٍ مبكرٍ للغاية، وبالتحديد مع رسول الرحمة، وبالتحديد أكثر مع رحلة الطائف عندما رفض رسول اللَّه عرض ملك الجبال أن يدمر المشركين بإذن اللَّه، بعد أن أهانوه أشد الإهانة في الطائف، حين أجاب رسول الرحمة على عرض ملك الجبال بقوله: "بَلْ أَرْجُو أَنْ يُخْرِجَ اللَّهُ مِنْ أَصْلابِهِمْ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ وَحْدَهُ لا يُشْرِكُ بِهِ شَيْئًا". وفعلًا، مرت الأيام والسنون، فدخلت مكة كلها في الإسلام، ودخلت بعدها الطائف، وتحققت نظرة رسول اللَّه المستقبلية، فخرج من أصلاب هؤلاء من لا يكتفي فقط بأن يعبد اللَّه وحده، بل يقوم أيضًا بحمل راية لا إله إلا اللَّه إلى كل بقعة في الأرض، فمن صُلب المجرم الوليد بن المغيرة خرج خالد ابن الوليد، ومن صلب أبي جهل خرج عكرمة بن أبي جهل، ومن صلب العاص بن وائل خرج عمرو ابن العاص، ومن صلب عتبة بن ربيعة خرج أبو حذيفة بن عتبة، وبعد عشرات السنين، ومن قبيلة ثقيف في الطائف التي أهانت الرسول في جاهليتها، خرج شابٌ عمره 17 سنة، حمل راية الإسلام الأموية، ليحملها إلى شبه القارة الهندية، ليخلفه رجالٌ أشداء نشروا الإسلام في جميع أرجاء القارة شبه الهندية.
وهنا وقفة قصيرة أيضًا عن سر الانتشار السريع للإسلام في صفوف الهنود، والسبب يرجع لما وجده فقراء الهند في سماحة الإسلام وعدله، فلقد ذكرنا فيما سبق (في معرض حديثنا عن آريوس) أن الهنود كانوا يعبدون كل شيء في الطبيعة، من أول الشر وحتى الأعضاء التناسلية، ولكن أشهر الأديان في الهند كان دينًا قائمًا على فكرة الثالوث المقدس (كأغلب الأديان الوثنية)، فكان إله الهندوس ينقسم إلى ثلاثة آلهة هي:
1 - (براهما): الموجد والخالق.
2 - (فشنو): الحافظ.
3 - (سيفا): المهلك.
فكان الهنود يعتقدون أن من يعبد أحد الآلهة الثلاثة فقد عبدها جميعًا، ومن عبدها جميعًا فقد عبد أحدها! (قارن ذلك بفكرة الثالوث المقدس في المسيحية المعاصرة!). ولكن الكارثة الكبرى لم تكمن في ذلك فحسب، بل كانت أيضًا في النظام الطبقي العنصري الذي كان سائدًا في الهند قبل أن يُشرق الإسلام بنوره عليها، فمنذ أن وصلت القبائل الآرية إلى الهند إلى الهند، تشكل في الهند نظامٌ طبقي ما عرفت الأرض مثله، فقد قسم الهنود البشر إلى أربعة أقسام:
1 - (البراهمية): وهم الذين خلقهم الإله براهما من فمه: منهم المعلم والكاهن، والقاضي، ولهم يلجأ الجميع في حالات الزواج والوفاة، ولا يجوز تقديم القرابين إلا في حضرتهم.
2 - (الكاشتر): وهم الذين خلقهم الإله من ذراعيه: يتعلمون ويقدمون القرابين ويحملون السلاح للدفاع.
3 - (الويش): وهم الذين خلقهم الإله من فخذه: يزرعون ويتاجرون ويجمعون المال، وينفقون على المعاهد الدينية.
4 - (الشودر): وهم الذين خلقهم الإله من رجليه، وهم المنبوذين من عامة الشعب من الزنوج الأصليين، ويشكلون طبقة المنبوذين، وعملهم مقصور على خدمة الطوائف الثلاثة السابقة الشريفة ولا يمتهنون إلا المهن الحقيرة والقذرة! لذلك عندما جاء المسلمون إلى الهند بدين محمد بن عبد اللَّه الذي لا يفرق بين البشر، دخل عامة الشعب من المنبوذين في دين اللَّه أفواجًا، ليكون الإسلام هو الدين الرئيسي للهند لما يقرب من ألف عام. صدح فيها الأذان في جميع أرجائها.
والآن وبعد أن أخذنا صورة بسيطة للغاية عن وضع الهند المعقد، جاء الوقت لكي نأخذ نبذة مختصرة للسيرة العظيمة لبطلنا العظيم: أورانج زايب عالم قير رحمه اللَّه تعالى وأسكنه فسيح جناته.
والعجيب أن هذا السلطان العظيم كان من سلالة المجرمَيْن "جنكيز خان" و"تيمور لنك"، ولكن اللَّه شاء أن يكون من نسلهما من يرفع راية الإسلام عاليًا، فأورانج زايب عالم قير هو ابن السلطان المغولي "شاه جيهان" الذي حكم الهند في القرن السابع عشر الميلادي، ولكن هذا السلطان تحول إلى رجلٍ مجنون بعد وفاة زوجته الجميلة "ممتاز محل"، فقام هذا السلطان -كعادة أصحاب الهوى دائمًا- بتحكيم العاطفة على الشرع، فأمر ببناء ضريحٍ يخالف الشرع لزوجته الجميلة التي فارقت الحياة الدنيا، فأنفق أموال المسلمين لمدة 7 سنوات سخّر فيها جهود 20000 عامل لبناء قبر حبيبته، وفي الوقت الذي أحاط به أعداء الإسلام بدولة الهند الإسلامية من كل جانب، كان هذا المحب المجنون يبكي على حبيبته ليل نهار، وفعلًا كاد الإسلام أن يضيع بالهند بسببه، وواللَّه ما ضاع الإسلام وضعف إلا بسببٍ شبابٍ حمقى مثل هذا العاشق الولهان، والذين يحوّلون العاطفة إلى ربٍ لهم من دون اللَّه! فلقد استولى ابنه الأكبر (درشكوه) على زمام الحكم، وأصبح هو الحاكم الفعلي للإمبراطورية، ولكن الخطر كان يكمن في أن درشكوه أراد إحياء مذهب كفري اسمه "المذهب الإلهي" وهو مذهب يجمع بين جميع الأديان في دين واحد، فتحرك بطلنا نحو العاصمة "دهلي" (وليس دلهي كما يشاع) "فاستولى على الحكم ليمنع أخاه من نشر المذهب الإلهي في الهند، ثم قام بعزل أبيه الذي جن من كثر البكاء على زوجته، ووضعه في قصرٍ معزول بعد أن صنع له أضخم مرآة في العالم ينظر من خلالها على تاج محل حيث ترقد زوجته الحسناء، فظل هذا العاشق الولهان ينظر على قبر حبيبته حتى دُفن بجانبها! أما البطل الإسلامي أوارنج زايب، فكانت حياته أكبر من هذه التفاهات، فقد أحيى السنة النبوية في أرجاء الهند، وقضى على البدع، وجاهد في سبيل اللَّه في أرجاء الأرض ينشر دين التوحيد، فحارب ملوك الهندوس العنصريين، وقطع أرجل الشيعة الروافض من الدخول للهند أبدًا، بعد أن اكتشف خيانتهم وتحالفهم مع الهندوس (كالعادة!)، ليس هذا فحسب، بل كان الإمبراطور العظيم شاعرًا عظيمًا، وأديبًا رقيقًا، فكتب الأشعار في نصرة الإسلام، وأصدر كتابًا لا يزال يُدرس إلى يومنا هذا في الجامعات الإسلامية اسمه "الفتاوى العالم قيرية" وهو معروف لطلبة العلم باسم "الفتاوى الهندية"، وظل 27 سنة يجاهد الهندوس والصليبيين البرتغاليين من جهة والشيعة الرافضة من جهة أخرى، فانتشر العدل في زمانه أيّما انتشار، وزاد عدد المسلمين بشكلٍ رهيب، بعد ما رأوه من عدله وزهده، فتكونت له إمبراطورية ضخمة من جبال الهملايا إلى المحيط الهندي، ومن البنغال حتى طاجكستان. وعلى الرغم من اتساع رقعة دولته وكثرة مشاغله، اهتم السلكان أورانج زايب بالعلم، فحفظ القرآن وهو في سن الأربعين! فلم يكن السلطان ممن يقولون أنه لا وقت لديهم لحفظ القرآن، ليس ذلك فحسب، بل كان السلطان فنانًا خطاطًا لا يشق له غبار، فلقد كان يكتب القرآن بخط يده، ليعيش على ذلك، وقد كتب نسختين عظيمتين للقرآن بخط يده، أرسل إحداها إلى مكة والثانية إلى المدينة، فنشر العلم في أرجاء الهند في مدة حكمه التي استمرت 50 سنة بالتمام والكمال، ليحافظ على هذا الدين في تلك البلاد البعيدة، قبل أن تحين ساعة فراقه للدنيا، فيأمر أولاده بتكفينه بكفنٍ اشتراه بخمس روبيات جمعها بنفسه، بعد أن كان يغزل الصوف بيديه ليبيعه إلى في السوق سرًا، ليعيش على ذلك المال، ليدل أبناءه قبل موته على مكان ثروته، يوصيهم أن ينفقوها على الأيتام والأرامل، فذهب الأبناء إلى ذلك المكان الذي دلهم عليه أبوهم، ليجدوا فيه 300 روبية هي كل ثروة إمبراطور أعظم إمبراطورية هندية في التاريخ! فرحم اللَّه السلطان العظيم أورانج زايب عالِم قير.
ولكن. . . . ماذا حدث للإمبراطورية الهندية الإسلامية من بعده؟ وكيف استولى الإنجليز عليها؟ وكيف قُسِّمت الهند إلى عدة دول؟ ومن هو القائد الإسلامي العظيم الذي أسس دولة باكستان الإسلامية؟ ولماذا ركّز الغرب على (غاندي) وأهملوا ذكره، على الرغم من كونه أستاذًا لغاندي في حركة الكفاح الهندي؟!
يتبع. . . . . .




مصادر و المراجع :

١- مائة من عظماء أمة الإسلام غيروا مجرى التاريخ

المؤلف: جهاد التُرباني

تعليقات (0)

الأكثر قراءة

ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلا … ويأتيك بالأخبار من لم تزوّد
المزید
فصبرا في مجال الموت صبرا … فما نيل الخلود بمستطاع
المزید
حننت إلى ريّا ونفسك باعدت … مزارك من ريّا وشعباكما معا
المزید
أفاطم مهلا بعض هذا التدلل … وإن كنت قد أزمعت صرمي فأجملي
المزید
إنّ أباها وأبا أباها … قد بلغا في المجد غايتاها
المزید