المنشورات

" نسر تونس الخضراء" (عبد العزيز الثعالبي)

" الثعالبي هو أعظم خطيب عربي عرفه هذا القرن"
(الشاعر العراقي معروف الرصافي)
"فلِيكن الهم الأول لكل مسلم فينا هو التفكير في كيفية استرجاع مجد هذه الأمة، ثم العمل على تحقيق ذلك بالفعل"
(الثعالبي في مؤتمر القدس)
من بين بنود نظرية "الغزو التاريخي" التي فصّلناها في بداية هذا الكتاب، بندٌ يُسمى بـ "قتل الشخصية"، هذا البند ينص على تحويل البطل أو الرمز إلى عدم، وفي أحسن الظروف إلى سراب! فيقوم بذلك غزاة التاريخ بعملية تشويهٍ منظّمة مستمرة، يتحول في نهايتها البطل إلى جبان، والمناضل إلى خائن، والعالم إلى مجنون، بحيث لا تكون الشخصية نفسها هي الهدف الرئيسي من هذه العملية الخبيثة، بل يكون فيها الهدف الأول والرئيسي هو: أنا وأنت! ليسقط بعد ذلك مفهوم القدوة في أعيننا، فلا نجد بطلًا تاريخيًا نستلهم منه سُبل النصر والتمكين، وبالتالي لا يكون أمامنا في نهاية بحثنا اليائس عن البطل المنشود إلّا أن نسلّم أننا أمة بلا تاريخ، وفي بعض الأحيان أمة بتاريخٍ قذر!!! فنصغر في أعيننا شيئًا فشيئًا، حتى نتلاشى تدريجيًا، فنتحول في نهاية المطاف. . . . . إلى ذكرى منسية في التاريخ!
وبطلنا الإسلامي العظيم الذي نحن في صدد الحديث عنه يُمثل نوعًا خاصًا من تلك الفئة المنسية التي تم قتلها في التاريخ، فكم منّا سمع في حياته ولو لمرة واحدة عن هذا النسر التونسي الذي حلق عاليًا ليس فوق جبال الأطلس في تونس فحسب، بل فوق جبال الهملايا في الهند، وهضاب الأناضول في تركيا، وقمم الألب في فرنسا؟! وكأن سُحب السماء وقمم الجبال ما فتأت تعانق أجنحته، لتجعل منه بطلًا عظيمًا من عظماء أمة الإسلام المائة، فلِتخشع القلوب، ولتشخص الأبصار، ولتصمت الألسنة، فنحن في صدد الحديث عن أسطورة نسرٍ إسلامي عملاق، انطلق من سماء تونس الصافية، ليخترق بجناحيه حاجز الزمان والمكان، إننا نتكلم عن سيرة رجلٍ من أعظم العظماء، وأفصح الخطباء، وأنبل الشرفاء، إنه زعيم تونس الخضراء: القائد البطل عبد العزيز الثعالبي.
ليس عندي مثقال ذرة من خردل من شكٍ أنه لو كان في زماننا عشرة فقط من نفس طينة هذا القائد العظيم، لتغير وضع المسلمين رأسًا على عقب! فالثعالبي كان رجلًا بأمة، حمل على عاتقه مسؤولية إعادة مجد الإسلام، من دون أن ينتظر مساعدة من أي إنسان، فلقد كان الثعالبي يسافر بين قفار الأرض وبحارها وكأنه أحد الرَّعين الأول من الصحابة البواسل الذين طافوا فيافي الأرض نشرًا لدعوة رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-، فهيا بنا لنسبر معًا أغوار هذه الأسطورة الإسلامية الحية. . . . .
والبداية تبدأ في يومٍ من أيام سنة 1881 م، حينها افتقدت إحدى الأمهات التونسيات طفلَها الصغير، فأخذت تفتش عليه في شوارع مدينة "تونس" العاصمة، حتى وجدته جالسًا لوحده على الرمال الناعمة لشواطئ تونس، فما إن رأت تلك المرأة الصالحة طفلها الذي لم يتجاوز السابعة من عمره حتى هرعت إليه لتضمه إلى صدرها بلهفة الأم، ولكنها تعجبت من دموعه الغزيرة التي تبلل قسمات وجهه الصغير! عندها ظنت الأم أن أحدًا من الأطفال قام بضرب صغيرها، فسألته عن سر بكائه، فنظر الطفل الصغير إلى أمه والدموع تتساقط من عينيه ليقول لها بصوتٍ ملائكي: "يا أمي. . . لم يضربني أحد، ولكن ألا ترين الفرنسيين يدخلون إلى بلادنا؟! إنهم يحتلون تونس. . . . ولن يرحلوا عنها إلا إذا حاربناهم! ". كانت هذه اللحظة الإنسانية الفارقة في حياة هذه الطفل ذي السبع سنوات، هي لحظة ميلاد جديدة لأسطورة القائد المجاهد عبد العزيز الثعالبي، فمنذ ذلك الموقف الذي مر به في طفولته، حمل عبد العزيز همَّ تحرير تونس من الفرنسيين، ليتحول هذا الطفل الشجاع إلى شابٍ مناضل حمل راية الكفاح في بلاده ضد جنرالات فرنسا، والذين احتلوا تونس بنفس الحجة المستهلكة التي يستخدمها الغزاة في كل زمان: "نشر الحضارة والقضاء على الرجعية! " ولكن الشيء الذي لا يعرفه الكثيرون منا أن تونس في ذلك الوقت كانت بلادًا مزدهرة علميًا وحضاريًا، فقد كانت تونس في ذلك الوقت قد خطت خطوات ثابتة إلى الحضارة والعمران على يد (خير الدين التونسي) و (الشيخ محمود قابادو) وآخرين. لكن ذلك لم يدم إذ سرعان ما سقطت البلاد في قبضة الفرنسيين سنة 1881 م إثر مناوشات قبلية حدودية بين تونس والجزائر اتخذتها فرنسا ذريعة لاحتلال تونس ومن ثم إعلان الحماية عليها في الثاني عشر من مايو سنة 1882 م، وعلى إثر ذلك عينت فرنسا فرنسيًا مستعربًا يدعي (لويس ماشويل) رئيسًا لإدارة المعارف وأطلقت يده في البلد فاستولى على كل ما له علاقة بالتعليم والثقافة، ليغير نظام التعليم الإسلامي في "الجامعة الزيتونية"، ويضع قوانين تقدم الفرنسية على العربية في مناهج التدريس، فأوقف بذلك النهضة العلمية في الزيتونة التي كانت قد جمعت آنذاك بين العلوم الشرعية والعصرية. ثم قامت فرنسا بتقييد الحريات المدنية للتونسيين، وحولت الإدارة إلى النظم الفرنسية وجعلت اللغة الفرنسية هي اللغة الرسمية في البلاد، وأهملت المؤسسات التي خطت خطوات متقدمة في الطريق إلى الحضارة والعمران كـ "الزيتونة" و"مدرسة باردو الحربية" التي جمعت بين العلوم العسكرية والهندسية والرياضية، وكان غياب (خير الدين التونسي) عن تونس مؤثرًا في الروح المعنوية لأهلها، فقد استقال من الوزارة قبل الاحتلال الفرنسي لتونس وصار صدرًا أعظم -رئيسًا للوزراء- في الدولة العثمانية وبقي عندها برز إلى الساحة (الشيخ سالم بوحاجب) و (البشير بن مصطفى صفر) فأسسا معًا جمعية سموها "الحاضرة" وأصدروا جريدة أسبوعية لها الاسم نفسه، ومن ثم أسَّسا "المدرسة الخلدونية" سنة 1896 م. وفي تلك المدة برز الشيخ (عبد العزيز الثعالبي) الذي ولد سنة 1293 هـ، 1874 م في تونس، وهو من أصول جزائرية، فاهتم به جده المجاهد (عبد الرحمن الثعالبي) الذي قاوم الفرنسيين في الجزائر، فقام على تعليمه وتحفيظه القرآن ومبادئ النحو والعقيدة. ولما تألف في تونس "الحزب الوطني" الذي كان أول حزب يطالب بتحرير تونس سنة 1895 م انضم إليه الثعالبي، قبل أن يؤسس بنفسه "الحزب الوطني الإسلامي"، فأسس جريدة "سبيل الرشاد" التي استمرت عامًا قبل أن توقف، وهنا رأى الثعالبي أن تونس ضاقت عليه فقرر الخروج منها، فخرج منها إلى عاصمة الخلافة "إسطانبول" عن طريق اليونان وبلغاريا فوصلها سنة 1898 م وتحدث مع رجال الدولة العثمانية وناقشهم في القضية التونسية، ثم عاد إلى تونس فوصلها سنة 1902 م بعد أن بقي أربع سنوات خارجها، فوجد أن الفرنسيين قد شجعوا الفكر الصوفي بما يحمله من خمول ودروشة، فأخذ الشيخ الثعالبي يقاوم أفكار هذا الفكر المصطنع، ويدعو الناس إلى دعاء اللَّه وحده وترك التبرك بالقبور والأولياء الأحياء منهم والأموات، فرأت فرنسا أن ما يدعو إليه الثعالبي من الرجوع إلى القرآن والسنة يمثل خطرًا على استمرارهم في تونس، فقبضوا عليه سنة 1906 م ووضعوه في السجن بتهمة "محاربته للأولياء"! بعد أن رفع علماء الصوفية المتعاملين مع الاحتلال الفرنسي أعلامًا بيضاء عليها عبارة بالفرنسية: "اقتلوا الثعالبي الكافر!! ". ولما احتلت إيطاليا ليبيا سنة 1911 م حاول الثعالبي مساعدة المجاهدين وإرسال المساعدات لهم، فنقم عليه الفرنسيون صنيعه، فقبضوا عليه مرة أخرى سنة 1912 م وأخرجوه خارج البلاد، فأضربت البلاد وأصر الشعب على رجوعه فعاد الشيخ الثعالبي إلى تونس سنة 1914 م، ليظل يعمل في مجالات الإصلاح إلى أن اعتقل سنة 1920 م، حتى سُجن، قبل أن يخرج من البلاد سنة 1923 م، فغادر تونس إلى إيطاليا ففرنسا، ثم إلى مصر فالحجاز، ثم استقر به المقام في العراق حيث أصبح أستاذًا في جامعات بغداد منذ سنة 1925 م إلى سنة 1930 م، ولما رأى العراقيون فصاحته المنقطعة النظير، انتدبه العراق للإشراف على البعثة الطلابية العراقية إلى مصر، فمثّل العراق في "مؤتمر الخلافة" بمصر سنة 1925 م الذي دعا إليه شيخ الأزهر عقب إسقاط الخلافة. ثم ترك الثعالبي العراق إلى مصر، ومنها سافر إلى الصين وسنغافورة وبورما والهند، فأخذ يدعو الناس إلى الإسلام، فدرس حالة المنبوذين من الهندوس، فكتب في الصحف أن الحل الوحيد لمشكلتهم هي في الإسلام! فأسلم الآلاف من الهنود على يد هذا البطل التونسي، قبل أن يعود إلى تونس للمرة الأخيرة، حيث استقبل استقبالًا حافلًا من الشعب التونسي المسلم، فأخذ الشيخ الثعالبي يجاهد الفرنسيين بمقالاته وكتاباته حتى توفي رحمه اللَّه سنة 1944 م بعد حياة حافلة من النضال والكفاح، وسنينٍ من السفر والترحال بدون كللٍ أو مللٍ في سبيل رفع راية الإسلام من جديد.
وفي الوقت الذي كان الثعالبي يجاهد فيه الفرنسيين في تونس، كان هناك من يجاهد الفرنسيين والإنجليز والطليان والصهاينة في قلب العالم الإسلامي!
فمن هو ذلك المجاهد الإسلامي العظيم الذي نقش اسمه في فلسطين بحروفٍ من نور؟ وكيف دخل الصهاينة إلى هذه الأرض المقدسة؟ وهل فعلًا باع الفلسطينيون أرضهم لليهود؟!! وما قصة ثورة القسّام الكبرى؟
يتبع. . . . .




مصادر و المراجع :

١- مائة من عظماء أمة الإسلام غيروا مجرى التاريخ

المؤلف: جهاد التُرباني

تعليقات (0)

الأكثر قراءة

ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلا … ويأتيك بالأخبار من لم تزوّد
المزید
فصبرا في مجال الموت صبرا … فما نيل الخلود بمستطاع
المزید
حننت إلى ريّا ونفسك باعدت … مزارك من ريّا وشعباكما معا
المزید
أفاطم مهلا بعض هذا التدلل … وإن كنت قد أزمعت صرمي فأجملي
المزید
إنّ أباها وأبا أباها … قد بلغا في المجد غايتاها
المزید