المنشورات

(وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ (11)) .

قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: (وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ) : إِذَا فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ عَلَى الظَّرْفِ، وَالْعَامِلُ فِيهَا جَوَابُهَا، وَهُوَ قَوْلُهُ: قَالُوا، وَقَالَ قَوْمٌ: الْعَامِلُ فِيهَا قِيلَ، وَهُوَ خَطَأٌ ; لِأَنَّهُ فِي مَوْضِعِ جَرٍّ بِإِضَافَةِ إِذَا إِلَيْهِ، وَالْمُضَافُ إِلَيْهِ لَا يَعْمَلُ فِي الْمُضَافِ، وَأَصْلُ قِيلَ قُوِلَ، فَاسْتُثْقِلَتِ الْكَسْرَةُ عَلَى الْوَاوِ فَحُذِفَتْ، وَكُسِرَتِ الْقَافُ لِتَنْقَلِبَ الْوَاوُ يَاءً، كَمَا فَعَلُوا فِي أَدَلَّ وَأَحَقَّ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ نَقَلُوا كَسْرَةَ الْوَاوِ إِلَى الْقَافِ، وَهَذَا ضَعِيفٌ ; لِأَنَّكَ لَا تَنْقُلُ إِلَيْهَا الْحَرَكَةَ إِلَّا بَعْدَ تَقْدِيرِ سُكُونِهَا، فَيُحْتَاجُ فِي هَذَا إِلَى حَذْفِ ضَمَّةِ الْقَافِ، وَهَذَا عَمَلٌ كَثِيرٌ.
وَيَجُوزُ إِشْمَامُ الْقَافِ بِالضَّمَّةِ مَعَ بَقَاءِ الْيَاءِ سَاكِنَةً تَنْبِيهًا عَلَى الْأَصْلِ.
وَمِنَ الْعَرَبِ مَنْ يَقُولُ فِي مِثْلِ قِيلَ وَبِيعَ: قُولَ وَبُوعَ، وَيُسَوِّي بَيْنَ ذَوَاتِ الْوَاوِ وَالْيَاءِ، قَالُوا: وَتُخَرَّجُ عَلَى أَصْلِهَا، وَمَا هُوَ مِنَ الْيَاءِ تُقْلَبُ فِيهِ وَاوًا لِسُكُونِهَا وَانْضِمَامِ مَا قَبْلَهَا، وَلَا يُقْرَأُ بِذَلِكَ مَا لَمْ تَثْبُتْ بِهِ رِوَايَةٌ، وَالْمَفْعُولُ الْقَائِمُ مَقَامَ الْفَاعِلِ مَصْدَرٌ، وَهُوَ الْقَوْلُ، وَأُضْمِرَ ; لِأَنَّ الْجُمْلَةَ بَعْدَهُ تُفَسِّرُهُ وَالتَّقْدِيرُ: وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ قَوْلٌ هُوَ لَا تُفْسِدُوا. وَنَظِيرُهُ (ثُمَّ بَدَا لَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا رَأَوُا الْآيَاتِ لَيَسْجُنُنَّهُ) [يُوسُفَ: 35] ; أَيْ بَدَا لَهُمْ بُدَاءٌ وَرَأْيٌ. وَقِيلَ: (لَهُمْ) هُوَ الْقَائِمُ مَقَامَ الْفَاعِلِ ; لِأَنَّ الْكَلَامَ لَا يَتِمُّ بِهِ، وَمَا هُوَ تُفَسِّرُهُ الْجُمْلَةُ بَعْدَهُ.
وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ: (لَا تُفْسِدُوا) قَائِمًا مَقَامَ الْفَاعِلِ ; لِأَنَّ الْجُمْلَةَ لَا تَكُونُ فَاعِلًا، فَلَا تَقُومُ مَقَامَ الْفَاعِلِ، وَلَهُمْ فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ مَفْعُولُ قِيلَ.
قَوْلُهُ: (فِي الْأَرْضِ) الْهَمْزَةُ فِي الْأَرْضِ أَصْلٌ ; وَأَصْلُ الْكَلِمَةِ مِنْ الِاتِّسَاعِ، وَمِنْهُ قَوْلُهُمْ: أَرْضَتِ الْقُرْحَةُ إِذَا اتَّسَعَتْ. وَقَوْلُ مَنْ قَالَ: سُمِّيَتْ أَرْضًا، لِأَنَّ الْأَقْدَامَ تَرُضُّهَا لَيْسَ بِشَيْءٍ ; لِأَنَّ الْهَمْزَةَ فِيهَا أَصْلٌ، وَالرَّضُّ لَيْسَ مِنْ هَذَا.
وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ فِي الْأَرْضِ حَالًا مِنَ الضَّمِيرِ فِي تُفْسِدُوا ; لِأَنَّ ذَلِكَ لَا يُفِيدُ شَيْئًا، وَإِنَّمَا هُوَ ظَرْفٌ مُتَعَلِّقٌ بِـ (تُفْسِدُوا) .
قَوْلُهُ: (إِنَّمَا نَحْنُ) ((مَا)) هَهُنَا كَافَّةٌ لِإِنَّ عَنِ الْعَمَلِ لِأَنَّهَا هَيَّأَتْهَا لِلدُّخُولِ عَلَى الِاسْمِ تَارَةً وَعَلَى الْفِعْلِ أُخْرَى وَهِيَ إِنَّمَا عَمِلَتْ لِاخْتِصَاصِهَا بِالِاسْمِ.

وَتُفِيدُ (إِنَّمَا) حَصْرَ الْخَبَرِ فِيمَا أُسْنِدَ إِلَيْهِ الْخَبَرُ، كَقَوْلِهِ (إِنَّمَا اللَّهُ إِلَهٌ وَاحِدٌ) [النِّسَاءِ: 171] وَتُفِيدُ فِي بَعْضِ الْمَوَاضِعِ اخْتِصَاصَ الْمَذْكُورِ بِالْوَصْفِ الْمَذْكُورِ دُونَ غَيْرِهِ، كَقَوْلِكَ ((إِنَّمَا زَيْدٌ كَرِيمٌ)) ; أَيْ لَيْسَ فِيهِ مِنَ الْأَوْصَافِ الَّتِي تُنْسَبُ إِلَيْهِ سِوَى الْكَرَمِ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: (إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ) [الْكَهْفِ: 110] ; لِأَنَّهُمْ طَلَبُوا مِنْهُ مَا لَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ الْبَشَرُ ; فَأَثْبَتَ لِنَفْسِهِ صِفَةَ الْبَشَرِ، وَنَفَى عَنْهُ مَا عَدَاهَا
قَوْلُهُ: نَحْنُ: هُوَ اسْمٌ مُضْمَرٌ مُنْفَصِلٌ مَبْنِيٌّ عَلَى الضَّمِّ. وَإِنَّمَا بُنِيَتِ الضَّمَائِرُ لِافْتِقَارِهَا إِلَى الظَّوَاهِرِ الَّتِي تَرْجِعُ إِلَيْهَا، فَهِيَ كَالْحُرُوفِ فِي افْتِقَارِهَا إِلَى الْأَسْمَاءِ، وَحُرِّكَ آخِرُهَا لِئَلَّا يَجْتَمِعَ سَاكِنَانِ، وَضُمَّتِ النُّونُ ; لِأَنَّ الْكَلِمَةَ ضَمِيرٌ مَرْفُوعٌ لِلْمُتَكَلِّمِ فَأَشْبَهَتِ التَّاءَ فِي قُمْتُ. وَقِيلَ ضُمَّتْ لِأَنَّ مَوْضِعَهَا رَفْعٌ، وَقِيلَ النُّونُ تُشْبِهُ الْوَاوَ فَحُرِّكَتْ بِمَا يُجَانِسُ الْوَاوَ، وَنَحْنُ ضَمِيرُ الْمُتَكَلِّمِ وَمَنْ مَعَهُ، وَتَكُونُ لِلِاثْنَيْنِ وَالْجَمَاعَةِ، وَيَسْتَعْمِلُهُ الْمُتَكَلِّمُ الْوَاحِدُ الْعَظِيمُ، وَهُوَ فِي مَوْضِعِ رَفْعٍ بِالِابْتِدَاءِ وَ: (مُصْلِحُونَ) خَبَرُهُ.





مصادر و المراجع :

١-التبيان في إعراب القرآن

المؤلف : أبو البقاء عبد الله بن الحسين بن عبد الله العكبري (المتوفى : 616هـ)

تعليقات (0)

الأكثر قراءة

ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلا … ويأتيك بالأخبار من لم تزوّد
المزید
فصبرا في مجال الموت صبرا … فما نيل الخلود بمستطاع
المزید
حننت إلى ريّا ونفسك باعدت … مزارك من ريّا وشعباكما معا
المزید
أفاطم مهلا بعض هذا التدلل … وإن كنت قد أزمعت صرمي فأجملي
المزید
إنّ أباها وأبا أباها … قد بلغا في المجد غايتاها
المزید