المنشورات

(أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّمَاءِ فِيهِ ظُلُمَاتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ مِنَ الصَّوَاعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ وَاللَّهُ مُحِيطٌ بِالْكَافِرِينَ (19)) .

قَوْلُهُ تَعَالَى: (أَوْ كَصَيِّبٍ) : فِي «أَوْ» أَرْبَعَةُ أَوْجُهٍ: أَحَدُهَا: أَنَّهَا لِلشَّكِّ، وَهُوَ رَاجِعٌ إِلَى النَّاظِرِ فِي حَالِ الْمُنَافِقِينَ ; فَلَا يَدْرِي أَيُشَبِّهُهُمْ بِالْمُسْتَوْقِدِ، أَوْ بِأَصْحَابِ الصَّيِّبِ ; كَقَوْلِهِ: (إِلَى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ) [الصَّافَّاتِ: 147] ; أَيْ يَشُكُّ الرَّائِي لَهُمْ فِي مِقْدَارِ عَدَدِهِمْ. وَالثَّانِي: أَنَّهَا لِلتَّخْيِيرِ أَيْ شَبِّهُوهُمْ بِأَيِّ الْقَبِيلَتَيْنِ شِئْتُمْ. وَالثَّالِثُ: أَنَّهَا لِلْإِبَاحَةِ. وَالرَّابِعُ: أَنَّهَا لِلْإِبْهَامِ ; أَيْ بَعْضُ النَّاسِ يُشَبِّهُهُمْ بِالْمُسْتَوْقِدِ، وَبَعْضُهُمْ بِأَصْحَابِ الصَّيِّبِ، وَمِثْلُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: (كُونُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى) [الْبَقَرَةِ: 135] ; أَيْ قَالَتِ الْيَهُودُ: كُونُوا هُودًا، وَقَالَتِ النَّصَارَى: كُونُوا نَصَارَى، وَلَا يَجُوزُ عِنْدَ أَكْثَرِ الْبَصْرِيِّينَ أَنْ تُحْمَلَ ((أَوْ)) عَلَى الْوَاوِ، وَلَا عَلَى ((بَلْ)) ، مَا وُجِدَ فِي ذَلِكَ مَنْدُوحَةٌ، وَالْكَافُ فِي مَوْضِعِ رَفْعٍ عَطْفًا عَلَى الْكَافِ فِي قَوْلِهِ: (كَمَثَلِ الَّذِي) .
وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ خَبَرَ ابْتِدَاءٍ مَحْذُوفٍ، تَقْدِيرُهُ: أَوْ مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ صَيِّبٍ.
وَفِي الْكَلَامِ حَذْفٌ تَقْدِيرِهِ: أَوْ كَأَصْحَابِ صَيِّبٍ وَإِلَى هَذَا الْمَحْذُوفِ يَرْجِعُ الضَّمِيرُ مِنْ قَوْلِهِ: يَجْعَلُونَ. وَالْمَعْنَى عَلَى ذَلِكَ ; لِأَنَّ تَشْبِيهَ الْمُنَافِقِينَ بِقَوْمٍ أَصَابَهُمْ مَطَرٌ فِيهِ ظُلْمَةٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ لَا بِنَفْسِ الْمَطَرِ، وَأَصْلُ ((صَيِّبٍ)) صَيْوِبٌ عَلَى فَيْعِلٍ ; فَأُبْدِلَتِ الْوَاوُ يَاءً، وَأُدْغِمَتِ الْأُولَى فِيهَا، وَمِثْلُهُ: مَيِّتٌ وَهَيِّنٌ، وَقَالَ الْكُوفِيُّونَ: أَصْلُهُ صَوِيبٌ عَلَى فَعِيلٍ وَهُوَ خَطَأٌ ; لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَصَحَّتِ الْوَاوُ كَمَا صِحَّتْ فِي طَوِيلٍ وَعَوِيلٍ.
(مِنَ السَّمَاءِ) : فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ. وَ (مِنْ) : مُتَعَلِّقَةٌ بِصَيِّبٍ ; لِأَنَّ التَّقْدِيرَ: كَمَطَرٍ صَيِّبٍ مِنَ السَّمَاءِ، وَهَذَا الْوَصْفُ يَعْمَلُ عَمَلَ الْفِعْلِ، وَمِنْ لِابْتِدَاءِ الْغَايَةِ.
وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ فِي مَوْضِعِ جَرٍّ عَلَى الصِّفَةِ لِصَيِّبٍ ; فَيَتَعَلَّقُ مِنْ بِمَحْذُوفٍ أَيْ كَصَيِّبٍ كَائِنٍ مِنَ السَّمَاءِ.
وَالْهَمْزَةُ فِي السَّمَاءِ بَدَلٌ مِنْ وَاوٍ قُلِبَتْ هَمْزَةً لِوُقُوعِهَا طَرَفًا بَعْدَ أَلِفٍ زَائِدَةٍ وَنَظَائِرُهُ تُقَاسُ عَلَيْهِ. (فِيهِ ظُلُمَاتٌ) : الْهَاءُ تَعُودُ عَلَى صَيِّبٍ، وَظُلُمَاتٌ رُفِعَ بِالْجَارِّ وَالْمَجْرُورِ ;
لِأَنَّهُ قَدْ قَوِيَ بِكَوْنِهِ صِفَةً لِصَيِّبٍ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ ظُلُمَاتٌ مُبْتَدَأٌ وَفِيهِ خَبَرٌ مُقَدَّمٌ، وَفِيهِ عَلَى هَذَا ضَمِيرٌ وَالْجُمْلَةُ فِي مَوْضِعِ جَرٍّ صِفَةٌ لِصَيِّبٍ، وَالْجُمْهُورُ عَلَى ضَمِّ اللَّامِ وَقَدْ قُرِئَ بِإِسْكَانِهَا تَخْفِيفًا، وَفِيهِ لُغَةٌ أُخْرَى بِفَتْحِ اللَّامِ.
وَالرَّعْدُ: مَصْدَرُ رَعِدَ يَرْعَدُ، وَالْبَرْقُ مَصْدَرٌ أَيْضًا وَهُمَا عَلَى ذَلِكَ مُوَحَّدَتَانِ هُنَا، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الرَّعْدُ وَالْبَرْقُ بِمَعْنَى الرَّاعِدِ وَالْبَارِقِ، كَقَوْلِهِمْ: رَجُلٌ عَدْلٌ وَصَوْمٌ.
(يَجْعَلُونَ) : يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ فِي مَوْضِعِ جَرٍّ صِفَةً لِأَصْحَابِ صَيِّبٍ، وَأَنْ يَكُونَ مُسْتَأْنَفًا، وَقِيلَ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ حَالًا مِنَ الْهَاءِ فِي فِيهِ، وَالرَّاجِعُ عَلَى الْهَاءِ مَحْذُوفٌ، تَقْدِيرُهُ: مِنْ صَوَاعِقِهِ ; وَهُوَ بَعِيدٌ لِأَنَّ حَذْفَ الرَّاجِعِ عَلَى ذِي الْحَالِ كَحَذْفِهَا مِنْ خَبَرِ الْمُبْتَدَأِ، وَسِيبَوَيْهِ يَعُدُّهُ مِنَ الشُّذُوذِ. (مِنَ الصَّوَاعِقِ) : أَيْ مِنْ صَوْتِ الصَّوَاعِقِ.
(حَذَرَ الْمَوْتِ) : مَفْعُولٌ لَهُ. وَقِيلَ مَصْدَرٌ أَيْ حَذَرًا مِثْلَ حَذَرِ الْمَوْتِ.
وَالْمَصَدَرُ هُنَا مُضَافٌ إِلَى الْمَفْعُولِ بِهِ.
(مُحِيطٌ) : أَصْلُهُ مُحْوِطٌ ; لِأَنَّهُ مِنْ حَاطَ يَحُوطُ، فَنُقِلَتْ كَسْرَةُ الْوَاوِ إِلَى الْحَاءِ فَانْقَلَبَتْ يَاءً.





مصادر و المراجع :

١-التبيان في إعراب القرآن

المؤلف : أبو البقاء عبد الله بن الحسين بن عبد الله العكبري (المتوفى : 616هـ)

تعليقات (0)

الأكثر قراءة

ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلا … ويأتيك بالأخبار من لم تزوّد
المزید
فصبرا في مجال الموت صبرا … فما نيل الخلود بمستطاع
المزید
حننت إلى ريّا ونفسك باعدت … مزارك من ريّا وشعباكما معا
المزید
أفاطم مهلا بعض هذا التدلل … وإن كنت قد أزمعت صرمي فأجملي
المزید
إنّ أباها وأبا أباها … قد بلغا في المجد غايتاها
المزید