المنشورات
(وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ (30)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَإِذْ قَالَ) : هُوَ مَفْعُولٌ بِهِ، تَقْدِيرُهُ: وَاذْكُرْ إِذْ قَالَ.
وَقِيلَ: هُوَ خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ، تَقْدِيرُهُ: وَابْتِدَاءُ خَلْقِي إِذْ قَالَ رَبُّكَ. وَقِيلَ: زَائِدَةٌ وَ (لِلْمَلَائِكَةِ) : مُخْتَلَفٌ فِي وَاحِدِهَا وَأَصْلِهَا ; فَقَالَ قَوْمٌ أَحَدُهُمْ فِي الْأَصْلِ مَأْلَكٌ عَلَى مَفْعَلٍ ; لِأَنَّهُ مُشْتَقٌّ مِنَ الْأَلُوكَةِ وَهِيَ الرِّسَالَةُ، وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ:
وَغُلَامٍ أَرْسَلَتْهُ أُمُّهُ بِأَلُوكَ فَبَذَلْنَا مَا سَأَلْ.
فَالْهَمْزَةُ فَاءُ الْكَلِمَةِ، ثُمَّ أُخِّرَتْ فَجُعِلَتْ بَعْدَ اللَّامِ، فَقَالُوا: مَلَأَكٌ ; قَالَ الشَّاعِرُ:
فَلَسْتُ لِإِنْسِيٍّ وَلَكِنْ لِمَلَاكٍ تَنَزَّلَ ... مِنْ جَوِّ السَّمَاءِ يَصُوبُ.
فَوَزْنُهُ الْآنَ مُعَفَّلٌ، وَالْجَمْعُ مَلَائِكَةٌ عَلَى مَعَافِلَةٍ.
وَقَالَ آخَرُونَ: أَصْلُ الْكَلِمَةِ لَأَكٌ، فَعَيْنُ الْكَلِمَةِ هَمْزَةٌ، وَأَصْلُ مَلَكٍ مَلْأَكٌ مِنْ غَيْرِ نَقْلٍ. وَعَلَى كِلَا الْقَوْلَيْنِ أُلْقِيَتْ حَرَكَةُ الْهَمْزَةِ عَلَى اللَّامِ، وَحُذِفَتْ ; فَلَمَّا جُمِعَتْ رُدَّتْ فَوَزْنُهُ الْآنَ مَفَاعِلَةٌ.
وَقَالَ آخَرُونَ: عَيْنُ الْكَلِمَةِ وَاوٌ وَهُوَ مِنْ لَاكَ يَلُوكُ، إِذَا أَدَارَ الشَّيْءَ فِي فِيهِ ;
فَكَأَنَّ صَاحِبَ الرِّسَالَةِ يُدِيرُهَا فِي فِيهِ، فَيَكُونُ أَصْلُ مَلَكٍ: مِثْلَ مَعَادٍ، ثُمَّ حُذِفَتْ عَيْنُهُ تَخْفِيفًا ; فَيَكُونُ أَصْلُ مَلَائِكَةٍ مِثْلَ مَقَاوِلَةٍ ; فَأُبْدِلَتِ الْوَاوُ هَمْزَةً، كَمَا أُبْدِلَتْ وَاوُ مَصَائِبَ.
وَقَالَ آخَرُونَ: مَلَكَ فَعَلَ مِنَ الْمُلْكِ وَهِيَ الْقُوَّةُ، فَالْمِيمُ أَصْلٌ، وَلَا حَذْفَ فِيهِ، لَكِنَّهُ جُمِعَ عَلَى فَعَائِلَةٍ شَاذًّا: (جَاعِلٌ) : يُرَادُ بِهِ الِاسْتِقْبَالُ، فَلِذَلِكَ عَمِلَ.
وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ بِمَعْنَى خَالِقٍ، فَيَتَعَدَّى إِلَى مَفْعُولٍ وَاحِدٍ، وَأَنْ يَكُونَ بِمَعْنَى مُصَيِّرٍ، فَيَتَعَدَّى إِلَى مَفْعُولَيْنِ، وَيَكُونُ: فِي الْأَرْضِ هُوَ الثَّانِي. (خَلِيفَةً) : فَعِيلَةً بِمَعْنَى فَاعِلٍ ; أَيْ يَخْلُفُ غَيْرَهُ، وَزِيدَتِ الْهَاءُ لِلْمُبَالَغَةِ.
(أَتَجْعَلُ) : الْهَمْزَةُ لِلِاسْتِرْشَادِ ; أَيْ أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ كَمَا كَانَ فِيهَا مِنْ قَبْلُ.
وَقِيلَ: اسْتَفْهَمُوا عَنْ أَحْوَالِ أَنْفُسِهِمْ ; أَيْ أَتَجْعَلُ فِيهَا مُفْسِدًا وَنَحْنُ عَلَى طَاعَتِكَ، أَوْ نَتَغَيَّرُ. (يَسْفِكُ) : الْجُمْهُورُ عَلَى التَّخْفِيفِ وَكَسْرِ الْفَاءِ، وَقَدْ قُرِئَ بِضَمِّهَا، وَهُمَا لُغَتَانِ، وَيُقْرَأُ بِالتَّشْدِيدِ لِلتَّكْثِيرِ. وَهَمْزَةُ (الدِّمَاءَ) مُنْقَلِبَةٌ عَنْ يَاءٍ لِأَنَّ الْأَصْلَ دَمَى ; لِأَنَّهُمْ قَالُوا دَمَيَانِ.
(بِحَمْدِكَ) : فِي مَوْضِعِ الْحَالِ ; تَقْدِيرُهُ نُسَبِّحُ مُشْتَمِلِينَ بِحَمْدِكَ، أَوْ مُتَعَبِّدِينَ بِحَمْدِكَ. (وَنُقَدِّسُ لَكَ) : أَيْ لِأَجْلِكَ ; وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ اللَّامُ زَائِدَةً ; أَيْ نُقَدِّسُكَ.
وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ مُعَدِّيَةً لِلْفِعْلِ، كَتَعْدِيَةِ الْبَاءِ مِثْلَ سَجَدْتُ لِلَّهِ.
(إِنِّي أَعْلَمُ) : الْأَصْلُ إِنَّنِي، فَحُذَفِتِ النُّونُ الْوُسْطَى لَا نُونُ الْوِقَايَةِ ; هَذَا هُوَ الصَّحِيحُ. (وَأَعْلَمُ) : يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ فِعْلًا، وَيَكُونُ مَا مَفْعُولًا إِمَّا بِمَعْنَى الَّذِي، أَوْ نَكِرَةً مَوْصُوفَةً، وَالْعَائِدُ مَحْذُوفٌ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ اسْمًا مِثْلَ أَفْضَلَ، فَيَكُونُ مَا فِي مَوْضِعِ جَرٍّ بِالْإِضَافَةِ.
وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ بِأَعْلَمَ، كَقَوْلِهِمْ: هَؤُلَاءِ حَوَاجُّ بَيْتِ اللَّهِ بِالنَّصْبِ وَالْجَرِّ ; وَسَقَطَ التَّنْوِينُ، لِأَنَّ هَذَا الِاسْمَ لَا يَنْصَرِفُ. فَإِنْ قُلْتَ أَفْعَلُ لَا يَنْصِبُ مَفْعُولًا قِيلَ إِنْ كَانَتْ مِنْ مَعَهُ مُرَادَةً لَمْ يُنْصَبْ، وَأَعَلَمُ هُنَا بِمَعْنَى عَالِمٍ، وَيَجُوزُ أَنْ يُرِيدَ بِأَعْلَمَ: أَعْلَمَ مِنْكُمْ، فَيَكُونُ «مَا» فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ بِفِعْلٍ مَحْذُوفٍ دَلَّ عَلَيْهِ الِاسْمُ، وَمِثْلُهُ قَوْلُهُ: (هُوَ أَعْلَمُ مَنْ يَضِلُّ عَنْ سَبِيلِهِ) [الْأَنْعَامِ: 117] .
مصادر و المراجع :
١-التبيان في إعراب القرآن
المؤلف : أبو البقاء عبد الله بن الحسين بن عبد الله العكبري (المتوفى
: 616هـ)
10 ديسمبر 2023
تعليقات (0)