المنشورات
(أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ سَحَابٌ ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ (40)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (أَوْ كَظُلُمَاتٍ) : هُوَ مَعْطُوفٌ عَلَى «كَسَرَابٍ» ، وَفِي التَّقْدِيرِ: وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: تَقْدِيرُهُ: أَوْ كَأَعْمَالِ ذِي ظُلُمَاتٍ؛ فَيُقَدَّرُ «ذِي» لِيَعُودَ الضَّمِيرُ مِنْ قَوْلِهِ: «إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ» إِلَيْهِ، وَتُقَدَّرُ أَعْمَالٌ لِيَصِحَّ تَشْبِيهُ أَعْمَالِ الْكُفَّارِ بِأَعْمَالِ صَاحِبِ الظُّلْمَةِ؛ إِذْ لَا مَعْنَى لِتَشْبِيهِ الْعَمَلِ بِصَاحِبِ الظُّلُمَاتِ. وَالثَّانِي: لَا حَذْفَ فِيهِ؛ وَالْمَعْنَى: أَنَّهُ شَبَّهَ أَعْمَالَ الْكُفَّارِ بِالظُّلْمَةِ فِي حَيْلُولَتِهَا بَيْنَ الْقَلْبِ وَبَيْنَ مَا يَهْتَدِي إِلَيْهِ. فَأَمَّا الضَّمِيرُ فِي قَوْلِهِ: (إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ) فَيَعُودُ إِلَى مَذْكُورٍ حُذِفَ اعْتِمَادًا عَلَى الْمَعْنَى؛ تَقْدِيرُهُ: إِذَا أَخْرَجَ مَنْ فِيهَا يَدَهُ.
(فِي بَحْرٍ) : صِفَةٌ لِظُلُمَاتٍ.
وَ (لُجِّيٍّ) : نِسْبَةٌ إِلَى اللُّجِّ، وَهُوَ فِي مَعْنَى ذِي لُجَّةٍ. وَ (يَغْشَاهُ) : صِفَةٌ أُخْرَى.
وَ (مِنْ فَوْقِهِ) : صِفَةٌ لِمَوْجٍ. وَمَوْجٌ الثَّانِي مَرْفُوعٌ بِالظَّرْفِ لِأَنَّهُ قَدِ اعْتَمَدَ.
وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مُبْتَدَأً، وَالظَّرْفُ خَبَرُهُ. وَ (مِنْ فَوْقِهِ سَحَابٌ) : نَعْتٌ لِمَوْجٍ الثَّانِي. وَ (ظُلُمَاتٌ) بِالرَّفْعِ: خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ؛ أَيْ هَذِهِ ظُلُمَاتٌ.
وَيُقْرَأُ سَحَابُ ظُلُمَاتٍ بِالْإِضَافَةِ وَالْجَرِّ على جعل الموج المتراكم بِمَنْزِلَة السَّحَاب
وَيقْرَأ سَحَاب بِالرَّفْع والتنوين، وَظُلُمَاتٍ بِالْجَرِّ عَلَى أَنَّهَا بَدَلٌ مِنْ ظُلُمَاتٍ الْأُولَى.
قَوْلُهُ تَعَالَى: (لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا) : اخْتَلَفَ النَّاسُ فِي تَأْوِيلِ هَذَا الْكَلَامِ؛ وَمَنْشَأُ الِاخْتِلَافِ فِيهِ أَنَّ مَوْضِعَ «كَادَ» إِذَا نَفَيْتَ وُقُوعَ الْفِعْلِ، وَأَكْثَرُ الْمُفَسِّرِينَ عَلَى أَنَّ الْمَعْنَى أَنَّهُ لَا يَرَى يَدَهُ؛ فَعَلَى هَذَا فِي التَّقْدِيرِ ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ: أَحَدُهَا: أَنَّ التَّقْدِيرَ: لَمْ يَرَهَا وَلَمْ يَكَدْ، ذَكَرَهُ
جَمَاعَةٌ مِنَ النَّحْوِيِّينَ؛ وَهَذَا خَطَأٌ؛ لِأَنَّ قَوْلَهُ: لَمْ يَرَهَا، جَزْمٌ بِنَفْيِ الرُّؤْيَةِ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: «لَمْ يَكَدْ» إِذَا أَخْرَجَهَا عَنْ مُقْتَضَى الْبَابِ كَانَ التَّقْدِيرُ: وَلَمْ يَكَدْ يَرَاهَا، كَمَا هُوَ مُصَرَّحٌ بِهِ فِي الْآيَةِ؛ فَإِنْ أَرَادَ هَذَا الْقَائِلُ: «لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا» وَأَنَّهُ رَآهَا بَعْدَ جُهْدٍ، تَنَاقَضَ؛ لِأَنَّهُ نَفَى الرُّؤْيَةَ ثُمَّ أَثْبَتَهَا.
وَإِنْ كَانَ مَعْنَى: «لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا» لَمْ يَرَهَا أَلْبَتَّةَ عَلَى خِلَافِ الْأَكْثَرِ فِي هَذَا الْبَابِ، فَيَنْبَغِي أَنْ يُحْمَلَ عَلَيْهِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يُقَدِّرَ: لَمْ يَرَهَا.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ «كَادَ» زَائِدَةٌ، وَهُوَ بَعِيدٌ.
وَالثَّالِثُ: أَنَّ كَادَ أُخْرِجَتْ هَاهُنَا عَلَى مَعْنَى قَارَبَ. وَالْمَعْنَى: لَمْ يُقَارِبْ رُؤْيَتَهَا، وَإِذَا لَمْ يُقَارِبْهَا بَاعَدَهَا، وَعَلَيْهِ جَاءَ قَوْلُ ذِي الرُّمَّةِ:
إِذَا غَيَّرَ النَّأْيُ الْمُحِبِّينَ لَمْ يَكَدْ ... رَسِيسُ الْهَوَى مِنْ حُبِّ مَيَّةَ يَبْرَحُ
أَيْ لَمْ يُقَارِبِ الْبَرَاحَ، وَمِنْ هَاهُنَا حُكِيَ عَنْ ذِي الرُّمَّةِ أَنَّهُ رُوجِعَ فِي هَذَا الْبَيْتِ فَقَالَ: لَمْ أَجِدْ بَدَلًا مِنْ لَمْ يَكَدْ.
وَالْمَعْنَى الثَّانِي: جَهَدَ أَنَّهُ رَآهَا بَعْدُ؛ وَالتَّشْبِيهُ عَلَى هَذَا صَحِيحٌ؛ لِأَنَّهُ مَعَ شِدَّةِ الظُّلْمَةِ إِذَا أَحَدَّ نَظَرَهُ إِلَى يَدِهِ وَقَرَّبَهَا مِنْ عَيْنِهِ رَآهَا.
مصادر و المراجع :
١-التبيان في إعراب القرآن
المؤلف : أبو البقاء عبد الله بن الحسين بن عبد الله العكبري (المتوفى
: 616هـ)
15 ديسمبر 2023
تعليقات (0)