أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ طَاهِرٍ قَالَ: أَخْبَرَنَا الْحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ الْجَوْهَرِيُّ قَالَ: أَخْبَرَنَا عُمَرُ بْنُ حَيَّوَيْهِ قَالَ: أَخْبَرَنَا أَحْمَد بْن معروف قال: أخبرنا الحارث ابْنُ أَبِي أُسَامَةَ قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ قَالَ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى وَغَيْرُهُ، قَالُوا: أَخْبَرَنَا بَشِيرُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْوَاسِطِيُّ، قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ وَهْبٍ الْمَذْحِجِيُّ، عَنِ الْحُرِّ بْنِ الصَّيَّاحِ [3] ، عَنْ أَبِي مَعْبَدٍ الْخُزَاعِيِّ: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لَمَّا هَاجَرَ مِنْ مَكَّةَ إِلَى الْمَدِينَةِ هُوَ وأبو بكر وعامر بن فهيرة،وَدَلِيلُهُمْ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُرَيْقِطٍ، فَمَرُّوا بِخَيْمَتَيْ أُمِّ مَعْبَدٍ الْخُزَاعِيَّةِ، وَكَانَتِ امْرَأَةً جَلْدَةً بَرْزَةً تحتبي وتقعد بفناء الخمية. ثُمَّ تَسْقِي وَتُطْعِمُ، فَسَأَلُوهَا تَمْرًا أَوْ لَحْمًا يَشْتَرُونَ. فَلَمْ يُصِيبُوا عِنْدَهَا شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ، فَإِذَا الْقَوْمُ مُرْمِلُونَ مُسْنِتُونَ، فَقَالَتْ: وَاللَّهِ لَوْ كَانَ عِنْدَنَا شَيْءٌ مَا أَعْوَزَكُمُ الْقِرَى.
فَنَظَرَ رسول الله صلى الله عَلَيْهِ وسلم [إلى] [1] شَاةٍ فِي كِسْرِ الْخَيْمَةِ، فَقَالَ: «مَا هَذِهِ الشّاة يا أمّ معبد؟» قالت: هذه شاة خَلَّفَهَا الْجَهْدُ عَنِ الْغَنَمِ. قَالَ: «هَلْ بِهَا مِنْ لَبَنٍ؟» قَالَتْ: هِيَ أَجْهَدُ مِنْ ذَلِكَ. قَالَ: «أَتَأْذَنِينَ لِي أَنْ أَحْلِبَهَا؟» قَالَتْ: نَعَمْ بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي، إِنْ رَأَيْتَ بِهَا حَلَبًا.
فدعا رَسُول اللَّهِ صلى الله عَلَيْهِ وسلم بِالشَّاةِ، فَمَسَحَ ضَرْعَهَا وَذكر اسْمَ اللَّهِ تَعَالَى، وَقَالَ: «اللَّهمّ بَارِكْ لَهَا فِي شَاتِهَا» .
قَالَتْ: فَتَفاجَّتْ وَدَرَّتْ وَاجْتَرَّتْ وَأَحْلَبَتْ، فَدَعَا بِإِنَاءٍ لَهَا يُرْبِضُ الرَّهْطَ فَحَلَبَ فِيهِ ثَجًّا حَتَّى غَلَبَهُ الثُّمَالُ، فَسَقَاهَا فَشَرِبَتْ حَتَّى رَوِيَتْ وَسَقَى أَصْحَابَهُ حَتَّى رَوُوا، وَشَرِبَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ آخِرَهُمْ، وَقَالَ: «سَاقِي الْقَوْمِ آخِرُهُمْ شُرْبًا» [2] فَشَرِبُوا جَمِيعًا عَلَلا بَعْدَ نَهَلٍ حَتَّى أَرَاضُوا، ثُمَّ حَلَبَ فِيهِ ثَانِيًا عَوْدًا عَلَى بَدْءٍ، فَغَادَرَهُ عِنْدَهَا ثُمَّ ارْتَحَلُوا عَنْهَا، فَقَلَمَّا لَبِثَتْ أَنْ جَاءَ زَوْجُهَا أَبُو مَعْبَدٍ يَسُوقُ أعنزا حُيَّلا عِجَافًا هَزْلَى مَا تَسَاوَقُ، مُخُّهُنَّ قَلِيلٌ لا نِقْيَ بِهِنَّ، فَلَمَّا رَأَى اللَّبَنَ عَجِبَ وَقَالَ: مِنْ أَيْنَ لَكُمْ هَذَا، وَالشَّاةُ عَازِبَةٌ وَلا حَلُوبَةَ فِي الْبَيْتِ؟ قَالَتْ: لا وَاللَّهِ [إِلا] [3] أَنَّهُ مَرَّ بِنَا رَجُلٌ مُبَارَكٌ كَانَ مِنْ حَدِيثِهِ كَيْتَ وَكَيْتَ. قَالَ:
وَاللَّهِ [إِنِّي] [4] لأَرَاهُ صَاحِبَ قُرَيْشٍ الَّذِي تَطْلُبُ، صِفِيهِ لِي يَا أُمَّ مَعْبَدٍ.
قَالَتْ: رَأَيْتُ رَجُلا ظَاهِرَ الْوَضَاءَةِ مُتَبَلِّجَ الْوَجْهِ، حَسِنَ الْخَلْقِ، لَمْ تَعِبْهُ ثُجْلَةٌ، وَلَمْ تُزْرِ بِهِ صَعْلَةٌ [5] ، قَسِيمٌ وَسِيمٌ [6] ، فِي عَيْنَيْهِ دَعَجٌ، وَفِي أَشْفَارِهِ وَطَفٌ، وَفِي صوته صَحَلٌ، أَحْوَرُ أَكْحَلُ أَزَجُّ، أَقْرَنُ شَدِيدَ سَوَادِ الشَّعْرِ، فِي عُنُقِهِ سَطَعٌ، وَفِي لِحْيَتِهِ كَثَافَةٌ، إِذَا صَمَتَ فَعَلَيْهِ وَقَارٌ، وَإِذَا تَكَلَّمَ سَمَا وَعَلاهُ الْبَهَاءُ، كَأَنَّ مَنْطِقَهُ خُرْزَاتُ نَظْمٍ يَتَحَدَّرْنَ، حُلْوُ الْمَنْطِقُ، [فصل] [1] ، لا نِزْرٌ بِهِ وَلا هَذَرٌ [2] ، أَجْهَرُ النَّاسِ وَأَجْمَلُهُ مِنْ بَعِيدٍ، وَأَحْلاهُ وَأَحْسَنُهُ مِنْ قَرِيبٍ، رَبْعَةٌ لا تَشْنَؤُهُ عَيْنٌ [3] مِنْ طُولٍ، وَلا تَقْتَحِمُهُ عَيْنٌ مِنْ قِصَرٍ، غُصْنٌ بَيْنَ غُصْنَيْنِ، وَهُوَ أَنْضَرُ [4] الثَّلاثَةِ مَنْظَرًا وَأَحْسَنُهُمْ قَدْرًا [5] ، لَهُ رُفَقَاءُ يَحُفُّونَ بِهِ، إِذَا قال استمعوا لقوله، وإن أمر تبادروا لأَمْرِهِ [6] ، مَحْفُودٌ مَحْمُودٌ مَحْشُودٌ [7] ، لا عَابِسٌ وَلا مُفْنِدٍ.
قَالَ: هَذَا وَاللَّهِ صَاحِبُ قُرَيْشٍ الَّذِي ذكر لَنَا مِنْ أَمْرِهِ مَا ذكر، وَلَوْ كُنْتُ وَافَقْتُهُ [يَا أُمَّ مَعْبَدٍ] [8] لالْتَمَسْتُ أَنْ أَصْحَبَهُ، وَلأَفْعَلَنَّ إِنْ وَجَدْتُ إِلَى ذَلِكَ سَبِيلا. وَأَصْبَحَ صَوْتٌ [بِمَكَّةَ] [9] عَالِيًا بَيْنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ، يَسْمَعُونَهُ وَلا يَرَوْنَ مَنْ يَقُولُهُ، وَهُوَ يَقُولُ:
جزى الله رب الناس خير جزائه ... رفيقين حَلا خَيْمَتَيْ أُمِّ مَعْبَدِ
هُمَا نَزَلا بِالْبِرِّ وَارْتَحَلا بِهِ ... فَأَفْلَحَ مَنْ أَمْسَى رَفِيقَ مُحَمَّدِ
فَيَالَ قُصَيٍّ مَا زَوَى اللَّهُ عَنْكُمُ ... بِهِ مِنَ فِعَالٍ لا تُجَازَى وَسُؤْدُدِ
سَلُوا أُخْتَكُمْ عَنْ شَاتِهَا وَإِنَائِهَا ... فَإِنَّكُمُ إِنْ تَسْأَلُوا الشَّاةَ تَشْهَدِ
دَعَاهَا بِشَاةٍ حَائِلٍ فَتَحَلَّبَتْ ... لَهُ بِصَرِيحٍ ضرّة الشاة مزبد
فَغَادَرَهُ رَهْنًا لَدِيهَا لِحَالِبٍ ... يَدِرُّ بِهَا فِي مَصْدَرٍ ثُمَّ مَوْرِدِ
وَأَصْبَحَ الْقَوْمُ قَدْ فَقَدُوا نَبِيَّهُمْ وَأَخَذُوا [1] عَلَى خَيْمَتَيْ أُمِّ مَعْبَدٍ [حَتَّى لَحِقُوا النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ] [2] .
قَالَ [3] : فَأَجَابَهُ حَسَّانُ بْنُ ثَابِتٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَقَالَ:
لَقْد خَابَ قَوْمٌ غَابَ عَنْهُمْ نَبِيُّهُمُ ... وَقُدِّسَ مَنْ يَسْرِي إِلَيْهِ وَيَغْتَدِي
تَرَحَّلَ عَنْ قَوْمٍ فَزَالَتْ عُقُولُهُمُ ... وَحَلَّ عَلَى قَوْمٍ بِنُورٍ مُجَدَّدِ
وَهَلْ يَسْتَوِي ضُلالُ قَوْمٍ تَسَفَّهُوا ... عَمًى [وَهُدَاةٌ] [4] يَهْتَدُونَ بُمُهْتَدِ؟
نَبِيٌّ يَرَى مَا لا يَرَى النَّاسُ حَوْلَهُ ... وَيَتْلُو كِتَابَ اللَّهِ فِي كُلِّ مَشْهَدِ
وَإِنْ قَالَ فِي يَوْمٍ [5] مَقَالَةَ غَائِبٍ ... فَتَصْدِيقُهَا فِي ضَحْوَةِ الْيَوْمِ أَوْ غَدِ
لِتَهْنِ أَبَا بَكْرٍ سَعَادَةُ جَدِّهِ ... بِصُحْبَتِهِ مَنْ يُسْعِدُ اللَّهُ يَسْعَدِ
وَيَهْنِ بَنِي كَعْبٍ مَكَانَ فَتَاتِهِمْ ... وَمَقْعَدُهَا لِلْمُسْلِمِينَ بِمَرْصَدِ
[6] قَالَ مُؤَلِّفُ الْكِتَابِ:
الْبَرَزَةُ: الْكَبِيرَةُ.
وَالْمُرَمَّلُونَ: الَّذِينَ قَدْ نَفِدَ زَادُهُمْ.
وَالْمُسْنِتُونَ: مِنَ السَّنَةِ، وَهِيَ الْجَدْبُ.
وَكَسْرُ الْخَيْمَةِ: جَانِبُهَا.
وَالْجَهْدُ: الْمَشَقَّةُ.
وَتَفَاجَتْ: فَتَحَتْ مَا بَيْنَ رجليها للحلب.
وَيَرْبُضُ الرَّهْطُ: يُثْقِلُهُمْ فَيُرْبِضُوا.
وَالثُّمَالُ: الرَّغْوَةُ.
وَالْعِلَلُ: مَرَّةً بَعْدَ أُخْرَى.
وَأَرَاضُوا: أَيْ رَوُوا.
وَالْحَيْلُ: الْلاتِي لَسْنَ بِحَوَامِلَ.
وَالْعَازِبُ: الْبَعِيدُ فِي الْمَرْعَى.
وَالْمُتَبَلِّجُ: الْمُشْرِقُ.
وَالثُّجْلَةُ: عِظَمُ الْبَطْنِ وَاسْتِرْخَاءُ أَسْفَلِهِ.
والصَّعْلَةُ: صِغَرُ الرَّأْسِ.
وَالْوَسِيمُ: الْحَسَنُ وَكَذَلِكَ الْقَسِيمُ.
وَالدَّعَجُ: سَوَادُ/ الْعَيْنِ.
وَالْوَطَفُ: الطُّولُ.
وَالصَّحْلُ: كَالْبَحَّةِ.
وَالأَحْوَرُ: الشَّدِيدُ سَوَادِ أُصُولِ الأَهْدَابِ خِلْقَةً.
وَالسَّطْعُ: الطُّولُ.
وَقَوْلُهَا: إِذَا تَكَلَّمَ سَمَا: أَيْ عَلا بِرَأْسِهِ وَيَدِهِ.
وَقَوْلُهَا: لا تَقْتَحِمُهُ عَيْنٌ: أَيْ تَحْتَقِرُهُ.
[وَالْمُفَنَّدُ: الْهَرِمُ.
وَالصَّرِيحُ: الْخَالِصُ.
وَالضَّرَّةُ: لَحْمُ الضَّرْعِ] [1] .
وَأَنْبَأَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ عَبْدِ الْبَاقِي قَالَ: أَنْبَأَنَا الْجَوْهَرِيُّ قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ حَيَّوَيْهِ قَالَ:
أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ مَعْرُوفٍ قَالَ: حَدَّثَنَا الحسن بن الفهم قال: أخبرنا محمد بن سعد قال:
أخبرنا محمد بن عمر، عن حَرَامِ بْنِ هِشَامٍ [2] ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أُمِّ مَعْبَدٍ قَالَتْ: طَلَعَ عَلَيْنَا أَرْبَعَةٌ عَلَى رَاحِلَتَيْنِ فَنَزُلوا بِي، فَجِئْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِشَاةٍ أُرِيدُ أَنْ أَذْبَحَهَا، فَإِذَا هِيَ ذَاتُ دَرٍّ، فَأَدْنَيْتُهَا مِنْهُ، فَلَمَسَ ضَرْعَهَا فقال: «لا تذبحيها» فأرسلتها فَجِئْتُ بِأُخْرَى [1] فَذَبَحْتُهَا فَطَحَنْتُ لَهُمْ [2] ، فَأَكَلَ هُوَ وَأَصْحَابُهُ، فَتَغَدَّى بِهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابُهُ [3] ، وَمَلأْتُ [4] سُفْرَتَهُمْ مِنْهَا مَا وَسِعَتْ سُفْرَتُهُمْ، وَبَقِيَ عِنْدَنَا لَحْمُهَا أَوْ أَكْثَرُهُ، وَبَقِيَتِ الشَّاةُ الَّتِي لَمَسَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ضَرْعَهَا عِنْدَنَا حَتَّى كَانَ زَمَانُ الرَّمَادَةِ زَمَانَ عُمَرَ، وَهِيَ سَنَةُ ثَمَانِي عَشَرَةَ مِنَ الْهِجْرَةِ. قَالَتْ: وَكُنَّا نَحْلِبُهَا صَبُوحًا [5] وَغَبُوقًا وَمَا فِي الأَرْضِ قَلِيلٌ وَلا كَثِيرٌ. وَذَلِكَ بِبَرَكَتِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. [6]
مصادر و المراجع :
١- المنتظم في تاريخ الأمم والملوك
المؤلف: جمال الدين أبو الفرج عبد الرحمن بن علي بن محمد الجوزي
(المتوفى: 597هـ)
تعليقات (0)