المنشورات

تمرد العيارون

وتمرد العيارون في هذا الأوان وأخذوا زواريق منحدرة من الموصل ومصعدة إلى غيرها، وفتكوا بأهل السواد فتكات متواليات، وهجموا على العتابيين فحفظوا أبواب المحلة [2] ، ودخلوا إلى دور عيونها فأخذوا ما فيها وما في موازين المتعيشين، فتقدم الخليفة إلى إخراج أتراك دارية لقتالهم، فخرجوا وحاصروهم في الأجمة خمسة عشر يوما، ثم إن العيارين نزلوا في سفن وانحدروا إلى شارع دار الرقيق [3] دخلوا المحلة، وأقبلوا منها إلى الصحارى وقصد أعيانهم دار الوزير ابن صدقة بباب العامة [4] في ربيع 76/ أالأول وأظهروا/ التوبة، وخرج فريق منهم لقطع الطريق، فقتلهم أهل السواد بأوانا، وبعثوا رءوسهم إلى بغداد.
وفي ربيع الأول: ورد القاضي أبو جعفر عبد الواحد بن أحمد الثقفي قاضي الكوفة والبلاد الميزيدية، وكان دبيس الملقب بسيف الدوله نفذ به إلى الأمير إيلغازي ابن أرتق، فخطب منه ابنته فزوجه بها ونقلها إليه، فوردت صحبة أبى جعفر الحلة.
ووقعت الخصومة بين السلطان محمود وأخيه مسعود ابني محمد، وكان مسعود هو العاصي عليه فتلطفه محمود فلم يصلح، وقامت الحروب في ربيع الأول فانحاز البرسقي إلى محمود، وانهزم مسعود وعسكره، واستولى على أموالهم، وقصد مسعود جبلا بينه وبين موضع الوقعة اثنا عشر فرسخا فأخفى نفسه وأنفذ بركابي إلى المعسكر يطلب الأمان، فحضر بين يدى السلطان فقال له: يا سلطان العالم إن من السعادة أن أخاك لم يجد مهربا عنك، وقد نفذ يطلب الأمان وعاطفتك اجل متوسل به إليك، فقال له: وأيان هو؟ قال: في مكان كذا، فقال السلطان: ما نويت غير هذا، وهل إلا العفو والإحسان. واستدعى بالبرسقي، وقال له: تمضى إلى أخي وتؤمنه وتستدعيه.
واتفق بعد انفصال الركابي أنه ظفر يونس بن داود البلخي بمسعود فاحتال عليه، وقيل له: إن حملته إلى أخيه فربما أعطاك ألف دينار أو أقل، وان حملته إلى دبيس أو إلى الموصل وصلت إلى ما شئت، فعول على ذلك فجاء البرسقي فلم يره، فسار خلفه فلحقه على ثلاثين فرسخا، فأخذه وعرفه أمان أخيه له وأعاده إلى العسكر، وخرج الأعيان فاستقبلوه [1] ، ونزل عند أمه، ثم جلس السلطان محمود فدخل إليه، فقبل الأرض بين يديه، فضمه إليه وقبل بين عينيه وبكى كل واحد منهما، فكان هذا من محاسن أفعال محمود.
76/ ب ولما بلغ عصيان مسعود/ إلى سيف الدوله دبيس أخذ في أذية بغداد، وحبس مال السلطان، وورد أهل نهر عيسى ونهر الملك مجفلين إلى بغداد بأهاليهم ومواشيهم فزعا من سيف الدوله، لأنه بدأ بالنهب في أطرافهم، وعبر عنان صاحب جيشه فبدأ بالمدائن فعسكر بها [1] ، وقصد يعقوبا وحاصرها، ثم أخذها عنوة، وسبيت الذراري، وافترشت النساء.
وكان سيف الدولة يعجبه اختلاف السلاطين ويعتقد أنه ما دام الخلاف قائما بينهم فأمره منتظم، كما استقام أمر والده صدقة عند اختلاف السلاطين، فلما بلغه كسر مسعود، وخاف مجيء محمود أمر بإحراق الأتبان والغلات، وانفذ الخليفة إليه نقيب الطالبيين أبا الحسن على بن المعمر فحذره وأنذره، فلم ينفع ذلك فيه، وبعث إليه السلطان بالتسكين، وأنه قد أعفاه من وطء بساطه، فلم يهتز لذلك، وتوجه نحو بغداد في جمادى الآخرة فضرب سرادقه بازاء دار الخلافة من الجانب الغربي، وبات أهل بغداد على وجل شديد وتوفيت والدة نقيب [2] الطالبيين فقعد في الكرخ للعزاء بها، فمضى إليه سيف الدولة فنثر عليه أهل الكرخ، وتهدد دار الخلافة، وقال: انكم استدعيتم السلطان فإن أنتم صرفتموه، وإلا فعلت وفعلت، فنفذ إليه أنه لا يمكن رد السلطان بل نسعى في الصلح فانصرف دبيس، فسمع أصوات أهل باب الأزج يسبونه، فعاد وتقدم بالقبض عليهم فأخذ جماعة منهم وضربوا بباب النوبي، ثم انحدر، ثم دخل السلطان محمود في رجب وتلقاه الوزير أبو على بن صدقة، وخرج إليه أهل باب الأزج، فنثروا عليه الدنانير وفوضت شحنكية [3] بغداد إلى برنقش الزكوي.
وفي شعبان هذه السنة بعث دبيس زوجته المسماة شرف خاتون بنت عميد الدولة ابن جهير إلى السلطان/ وفي صحبتها عشرون ألف دينار وثلاثة عشر رأسا من الخيل، 77/ أفما وقع الرضا عنه وطولب بأكثر من هذا، فأصر على اللجاج، ولم يبذل شيئا آخر، فمضى السلطان إلى ناحيته فبعث يطلب الأمان مغالطة لينهزم، فلما بعث إليه خاتم الأمان دخل البرية، فدخل السلطان الحلة فبات بها ليلة.





مصادر و المراجع :

١- المنتظم في تاريخ الأمم والملوك

المؤلف: جمال الدين أبو الفرج عبد الرحمن بن علي بن محمد الجوزي (المتوفى: 597هـ)

تعليقات (0)

الأكثر قراءة

ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلا … ويأتيك بالأخبار من لم تزوّد
المزید
فصبرا في مجال الموت صبرا … فما نيل الخلود بمستطاع
المزید
حننت إلى ريّا ونفسك باعدت … مزارك من ريّا وشعباكما معا
المزید
أفاطم مهلا بعض هذا التدلل … وإن كنت قد أزمعت صرمي فأجملي
المزید
إنّ أباها وأبا أباها … قد بلغا في المجد غايتاها
المزید