المنشورات
(ذُو القرنين)
قَالَ الجاحظ فى كتاب التدوير والتربيع وَلَقَد سَأَلت عَن ذى القرنين أهوَ الْإِسْكَنْدَر وَمن أَبوهُ وَمن قيرى وَمن عيرى فَقَالَ القاضى أَبُو الْحسن على بن عبد الْعَزِيز الجرجانى فى الْجَواب عَن ذَلِك وَشَرحه قَالَ أَكثر من بحث عَن سالف الْأُمُور وتصفح مَا حدث مِنْهَا من متقادم العصور أَن التَّسْمِيَة بذى القرنين لَا تعرف فى غير هَذِه اللُّغَة وَلَا يُوجد مِنْهَا علم إِلَّا عِنْد هَذِه الْأمة وَمَتى سمعنَا غَيرهم ينْطق بهَا وَوجدنَا بعض الْأُمَم يذكرهَا فبحثنا عَن أَصْلهَا ومأخذها وسألناهم عَن مَعْنَاهَا وتأويلها اصبناها رَاجِعَة إِلَيْهِم وأحلنا فى الْإِسْنَاد عَلَيْهِم
قَالُوا وَلم نعثر على كَثْرَة التفتيش والتكشيف وَشدَّة الطّلب والتنقير من مُلُوك الْأُمَم وأولياء الدول وقادة الجيوش وساسة الْجنُود مِمَّن ارْتَفع فشهر أَو خمل فغمر بِمن لزمَه هَذَا الأسم أَو حصل لَهُ مَعْنَاهُ أَو اسْتَحَقَّه بِلَازِم خلقه أَو مستجد صفة فَأَما نَحن فقد وجدنَا فى التواريخ الْقَدِيمَة الْمَأْخُوذَة عَن السريانية واليونانية أَن ضاميرس وَهُوَ الثَّالِث من مُلُوك بابل خرج عَلَيْهِ أطر كركسى فحاربه وظفر بِهِ فَقتله وَنزع قرنى رَأسه فَجَعلهَا إكليلا يلْبسهُ فَسمى ذَا القرنين فَهَذَا كَمَا ترَاهُ تَسْمِيَة مَأْخُوذَة من الْأُمَم السالفة منقولة عَن تِلْكَ اللُّغَة إِلَى هَذِه
على أَن الْعَرَب قد سمت بهَا من مُلُوكهمْ نَفرا وخصت بهَا هَذَا الْملك السائح الذى ورد الْقُرْآن بِذكرِهِ وَاجْتمعت الْإِنْس على تفخيم قدره وَسَنذكر مَا حفظناه فى سَبَب هَذِه التَّسْمِيَة وتستوفى مَا عندنَا فى صَاحبهَا وَمَا انْتهى إِلَيْنَا فى حَقِيقَة الْمُسَمّى بهَا ونقول فِيهِ على تَفْصِيل الِاخْتِلَاف والتمييز بَين تِلْكَ الْأَقْوَال قولا إِن لم يكن شافيا فعساه أَن يكون كَافِيا وَمَا علينا إِلَّا الْجهد وَفَوق كل ذى علم عليم
قَالَ الله تَعَالَى {ويسألونك عَن ذِي القرنين قل سأتلو عَلَيْكُم مِنْهُ ذكرا} الْآيَة المتضمنة خَبره فوصف هَذِه الْجُمْلَة من أَحْوَاله فى تقلبه وانتقاله ومنتهى مسيره فى الشرق ظَاعِنًا وَغَايَة مبلغه من الغرب واغلا وَدلّ على عظم ملكه وَشدَّة وطئته وعلو كَلمته وانبساط قدرته بِمَا عد من آثاره وقص علينا من أخباره وأكد ذَلِك وحققه بقوله تَعَالَى {إِنَّا مكنا لَهُ فِي الأَرْض وَآتَيْنَاهُ من كل شَيْء سَببا}
وحسبك بِمن شهد الله لَهُ بالتمكين والاقتدار وناهيك بِمن آتَاهُ الله جَوَامِع الْأَسْبَاب ووطأ لَهُ أباعد الأقطار
وَقد روى فى تَفْسِير هَذِه الْآيَة أَن الْمُشْركين من قُرَيْش أوفدوا وَفْدًا إِلَى يهود يثرب يستمدونهم مسَائِل يمْتَحنُونَ بهَا النبى صلى الله عَلَيْهِ وَسلم واعتمدوا من الْمسَائِل على قصَص الْأَنْبِيَاء وأخبار الْمُلُوك لعلمهم بِأَنَّهُ لاحظ لِلْعَقْلِ والذكاء وحدة الفطنة وَقُوَّة الْفِكر وتمثيل الِاعْتِبَار والمقايسة وإنعام النّظر والتأمل فى اسْتِدْرَاك خبر تقدم زَمَانه بساعة بل سبق وقته بلحظة وَإِنَّمَا هى أُمُور تُؤْخَذ رِوَايَة وسماعا وتدرك قِرَاءَة وَكِتَابَة وَقد رَأَوْهُ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ولد بِمَكَّة فى أمة أُميَّة وَبَين قبائل جَاهِلِيَّة فعرفوه طفْلا رضيعا وناشئا ويافعا وشاهدوه غُلَاما ومجتمعا وكهلا ومحتنكا يدرج بَين ابياتهم ويتصرف نصب ألحاظهم وَيتَكَلَّم بِمَا عرفوه من ألفاظهم وَأَن هَذِه أَحْوَال تحجز بَينه وَبَين التُّهْمَة وتباعده عَن مواقع الظنة وَتحقّق عِنْد من لَهُ من الْعقل بلغَة وَفِيه من التَّحْصِيل مسكة أَنه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عرف ذَلِك على حَقه وَأخْبر عَمَّا علمت الروَاة من غيبه فَإِنَّمَا تَلقاهُ عَن الله وَحيا أَو أَلْقَاهُ الْملك فى ورعه نفثا وَذَلِكَ عَلامَة النُّبُوَّة الَّتِى لَا تجْهَل وأمارة الرسَالَة الَّتِى لَا تنكر فزودتهم يهود يثرب بمسائل مِنْهَا خبر رجل صَار مشرقا حَتَّى بلغ مطلع الشَّمْس حَيْثُ تبزغ وَتوجه مغربا حَتَّى بلغ مغْرِبهَا حَيْثُ تجب وَتسقط هَكَذَا ذكره الروَاة وَإِنَّمَا المُرَاد بهَا مُنْتَهى الْعِمَارَة من طرفى الأَرْض
وسألوه عَن قصَّة يُوسُف وَعَن فتية أووا إِلَى كَهْف فاميتوا ثمَّ أحيوا فَأَتَاهُ الْجَواب من قبل الله تَعَالَى فى كل ذَلِك بِمَا أَقَامَ بِهِ علم صدقه ورد الكائد بأخيب ظَنّه وَقد روى الْمُفَسِّرُونَ وَالْقصاص فى تَأْوِيل هَذِه الْآيَات أَخْبَارًا لم نجد فى نقلهَا طائلا إِذْ كَانَت النَّفس لَا تثق بخبرهم وَلَا تسكن إِلَى صِحَة نقلهم وَكَانَ اخْتلَافهمْ يدل على اختلاطهم وهى على ذَلِك مَشْهُورَة يُمكن أَخذهَا عَن قرب وَقد روى المحدثون عَن النبى صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنه قَالَ (لَا أدرى أذو القرنين كَانَ نَبيا أم لَا) \ ح \
وَرووا عَنهُ أَنه ملك الأَرْض أَرْبَعَة مُؤْمِنَانِ وَكَافِرَانِ فَأَما المؤمنان فسليمان وَذُو القرنين وَأما الكافران فنمرود وبخت نصر
وَرووا عَن على وَقد سُئِلَ عَن ذى القرنين فَقَالَ ذَلِك الْملك الأمرط بلغ قرن الشَّمْس من مطْلعهَا وقرنها من مغْرِبهَا
وَعَن عمر رضى الله عَنهُ أَنه سمع رجلا يُنَادى يَا ذَا القرنين فَقَالَ فرعتم من أَسمَاء الْأَنْبِيَاء وارتفعتم إِلَى أَسمَاء الْمَلَائِكَة فتناوله قوم وَزَعَمُوا ان ذَا القرنين كَانَ من نتاج مَا بَين الْمَلَائِكَة وَالْإِنْس وَأَن أَبَاهُ عبرى ملك أهبط إِلَى الأَرْض فسلخ جنَاحه وأعيد فى صُورَة ولد ابْن آدم فنكح امْرَأَة من الآدميات تدعى قيرى فأولدها ذَا القرنين وَقد أدعوا مثل ذَلِك فى هاروت وماروت وأبى جرهم وهى من حماقات الْعَوام غير مستنكر
وروى عَن الْحسن أَنه قَالَ كَانَ لَهُ غديرتان من شعر وَعَلَيْهِمَا سمى ذَا القرنين
وَعَن مُحَمَّد بن على بن الْحُسَيْن رضى الله عَنْهُم أَنه قَالَ الْأَنْبِيَاء الْمُلُوك أَرْبَعَة يُوسُف ملك مصر وَدَاوُد وَسليمَان ملكا مَا بَين الشَّام إِلَى إصطخر وَذُو القرنين ملك مَا بَين الْمغرب والمشرق وروى عَن ابْن عَبَّاس رضى الله عَنْهُمَا أَنه قَالَ حج ذُو القرنين فلقى إِبْرَاهِيم وَهَذَا يدل على تقادم عَهده
وَقد روى من جِهَات كَثِيرَة أَن ذَا القرنين كَانَ فى زمن إِبْرَاهِيم عَلَيْهِ السَّلَام فى عصر أفريدون وَتلك تواريخ لَا يوثق بهَا والذى نقل إِلَيْنَا فى التواريخ اليونانية والسريانية وهى أقرب إِلَى الثِّقَة يقتضى أَن بَينهمَا زَمَانا طَويلا يزِيد على ألف سنة
وروى عَن ابْن عَبَّاس رضى الله تَعَالَى عَنهُ أَن ذَا القرنين هُوَ عبد الله ابْن الضَّحَّاك وَهَذِه رِوَايَة مهجورة لَا يلْتَفت الْعُقَلَاء إِلَيْهَا ولسنا ننكر أَن عبد الله بن الضَّحَّاك هَذَا يدعى ذَا القرنين فَهُوَ اسْم مُشْتَرك ولقب مَنْقُول وَقد سمى أحد مُلُوك الْحيرَة من بنى نصر ذَا القرنين لضفيرتين من شعركانتا لَهُ وَهُوَ الْمُنْذر بن مَاء السَّمَاء وفى مُلُوك حمير ملكان كَانَا يدعى كل وَاحِد مِنْهُمَا ذَا القرنين وَإِنَّمَا ننكر أَن يكون ملكا سُلْطَانا إِذْ كُنَّا نجد أَخْبَار الْأُمَم تكذبه وَكَانَ هَذَا الْأَمر الْبَين لَا يخمل فيخفى على الْعَرَب شَأْنه وهى ألهج أمة بِحِفْظ المآثر وأحرصها على إحصاء المفاخر
وَزعم بعض الْفرس أَن ذَا القرنين هُوَ الضَّحَّاك الْمُسَمّى بيوراسف وَأَن قرنيه هما السلعتان اللَّتَان تسميهما الْعَامَّة حيتين وَكَانَت ناشزتين فى فروع كَتفيهِ وَهَذَا أبعد شئ عَن الصَّوَاب وَلَكِن الآراء والألسن واللغات وَالْفرق مطبقة على أَن ذَا القرنين هَذَا هُوَ الْإِسْكَنْدَر الرومى قَاتل دَارا وَقد نقل إِلَيْنَا من أخباره الْمُطَابقَة لما اقْتصّ الله تَعَالَى فى كِتَابه والذى يقوى هَذَا الرأى إِجْمَاع رُوَاة الْأُمَم على أَن السد الذى يدعى ردم يَأْجُوج وَمَأْجُوج من صنع الْإِسْكَنْدَر وَأَنه لم ينْقل إِلَيْنَا خبر ملك جمع بَين الإيغال فى الْمشرق والإبعاد فى الْمغرب سواهُ
وَهَذِه جملَة من سيرة مأخودة من تواريخ يونان وَفَارِس وَأما رِوَايَات الْقصاص وَأهل الْمُبْتَدَأ فمرفوضة عِنْد أهل التَّحْصِيل زعمت يونان أَنه لما ولد الْإِسْكَنْدَر عرض مولده على المنجمين فحكموا لَهُ بِمَا آل إِلَيْهِ أمره وترعرع الْإِسْكَنْدَر فهجس فى نَفسه صدق مَا حكمُوا لَهُ بِهِ وَهلك أَبوهُ فيليبس وللإسكندر عشرُون سنة فخلفه على ملكه فَركب الْبَحْر يؤم الْمغرب فوطئ أرضه حَتَّى انْتهى إِلَى الْمشرق حَتَّى قتل دَارا وَاسْتولى على ممالكه وَسَار حَتَّى أوغل فى الْمشرق فَقتل فَوْرًا ملك الْهِنْد وَأقَام ببلاده مُدَّة ثمَّ سَار حَتَّى أَتَى تبت فدان لَهُ ملكهَا وَأهْدى لَهُ شَيْئا كثيرا من الذَّهَب والمسك ثمَّ سَار حَتَّى أَتَى الصين فَتَلقاهُ ملكهَا بِالطَّاعَةِ وَأهْدى لَهُ هَدَايَا عَظِيمَة من الذَّهَب وَالْحَرِير والوبر وأنواع الْعطر وآلات الصين وَعدل إِلَى نواحى يَأْجُوج وَمَأْجُوج فَبنى السد وَدخل الظُّلُمَات من نَاحيَة القطب الشمالى فى أَرْبَعمِائَة رجل فَسَار فِيهَا ثَمَانِيَة عشر يَوْمًا وَخرج إِلَى طَرِيق خُرَاسَان وَلما انْتهى إِلَى نهر بَلخ عقد عَلَيْهِ جِسْرًا من ثلثمِائة سفينة وَبنى على غربيه قصرا فاغتاله بعض أَصْحَابه فَسَقَاهُ سما فَمَرض بقومس وتحامل حَتَّى أَتَى شهرزور وَثقل بهَا وَهلك بِبَابِل العتيقة وَكَانَ أشقر ابرش قَصِيرا حنف وابتدأ اليونانيون تَارِيخ ملكه من أول سنة سبع وَعشْرين من عمره وَهُوَ وَقت ابْتِدَاء جولانه وَكَانَت مدَّته فى ذَلِك الْوَقْت أحد عشر وثلاثمائة وَسِتَّة وَعِشْرُونَ يَوْمًا وَلم يكن يدعوا إِلَى دين وَإِنَّمَا كَانَ يَأْمر بالتناصف وَترك التظالم
إِلَى هُنَا كَلَام القاضى
وَقَالَ حَمْزَة الأصبهانى فى كِتَابه تواريخ الْأُمَم وَمِمَّا وَلَده الْقصاص من الْأَخْبَار أَن الْإِسْكَنْدَر بنى بإيران شهر مدنا مِنْهَا أَصْبَهَان وهراة وسمرقند وَلَيْسَ للْحَدِيث أصل لِأَن الرجل كَانَ مخربا لَا عَامِرًا
قَالَ مؤلف الْكتاب وفى أَصْبَهَان وَكَونهَا من بِنَاء ذى القرنين يَقُول ابْن طَبَاطَبَا لأبى على بن رستم وَقد هدم سور أَصْبَهَان ليزِيد بِهِ فى دَاره
(وَقد كَانَ ذُو القرنين يبْنى مَدِينَة ... فَأصْبح ذَا القرنين يهدم سورها)
(على أَنه لَو كَانَ فى صحن دَاره ... بقرن لَهُ سيناء زعزع طورها)
وَقَالَ آخر
(أَيهَا الهادم سورا ... هَدمه عين الْمنون)
(لَيْسَ يوهى سور ذى القرنين ... إِلَّا ذُو قُرُون)
وَقد ضرب الْمثل بمسير ذى القرنين فى الظُّلُمَات ابْن لنكك حَيْثُ قَالَ
(تولى شباب كنت فِيهِ منعما ... تروح وتغدو دَائِم الفرحات)
(فلست تلاقيه وَلَو سرت خَلفه ... كَمَا سَار ذُو القرنين فى الظُّلُمَات)
مصادر و المراجع :
١- ثمار القلوب في المضاف والمنسوب
المؤلف: عبد الملك
بن محمد بن إسماعيل أبو منصور الثعالبي (المتوفى: 429هـ)
1 يناير 2024
تعليقات (0)