المنشورات

(لجاج الذُّبَاب)

حكى الجاحظ فى لجاج الذُّبَاب مَا هُوَ نِهَايَة الفصاحة والاتساع قَالَ كَانَ عندنَا بِالْبَصْرَةِ قَاض يُقَال لَهُ عبد الله بن سوار لم ير النَّاس حَاكما ذكيا وَلَا وقورا رزينا ضبط من نَفسه وَملك من حركته مثل الذى ضبط وَملك وَكَانَ يصلى الْغَدَاة فى منزله وداره قريبَة من مَسْجده ثمَّ يأتى مَجْلِسه فيحتبى وَلَا يتكى وَيبقى منتصبا لَا يَتَحَرَّك لَهُ عُضْو وَلَا يلْتَفت وَلَا يحل حبوته وَلَا يحول رجلا عَن رجل وَلَا يعْتَمد على أحد شقيه حَتَّى كَأَنَّهُ بِنَاء مبْنى وصخرة مَنْصُوبَة فَلَا يزَال كَذَلِك حَتَّى يقوم لصَلَاة الظّهْر ثمَّ يعود إِلَى مَجْلِسه فَلَا يزَال كَذَلِك حَتَّى يقوم إِلَى صَلَاة الْعَصْر ثمَّ يرجع إِلَى مَجْلِسه فَلَا يزَال كَذَلِك حَتَّى يقوم لصَلَاة الْمغرب ثمَّ رُبمَا عَاد إِلَى مَجْلِسه بل كثيرا مَا يكون ذَلِك إِذا بقى عَلَيْهِ شىء من قِرَاءَة العهود والسجلات ثمَّ يصلى الْعشَاء الْأَخِيرَة وينصرف فَالْحق يُقَال لم يقم طول تِلْكَ الْمدَّة وَالْولَايَة مرّة وَاحِدَة من مَجْلِسه إِلَى وضوء وَلَا احْتَاجَ إِلَيْهِ وَلَا شرب مَاء وَلَا غَيره من الشَّرَاب كَذَلِك كَانَ شَأْنه فى طوال الْأَيَّام وقصارها وصيفها وشتائها وَكَانَ مَعَ ذَلِك لَا يُحَرك لَهُ يدا وَلَا عضوا وَلَا يُشِير بِرَأْسِهِ وَلَيْسَ إِلَّا أَن يتَكَلَّم ثمَّ يوجز ويبلغ باليسير من الْكَلَام إِلَى الْمعَانى الْكَثِيرَة فَبَيْنَمَا هُوَ ذَات يَوْم فى مَجْلِسه وَأَصْحَابه حواليه والسماط بَين يَدَيْهِ إِذْ سقط على أَنفه ذُبَاب فَأطَال الْمكْث ثمَّ تحول إِلَى مؤق عينه فرام الصَّبْر فى سُقُوطه على المؤق وصبر على عضته ونفاذ خرطومه كَمَا رام الصَّبْر على سُقُوطه على أَنفه من غير أَن يُحَرك أرنبته أَو بعض وَجهه اَوْ يذب بأصابعه فَلَمَّا طَال ذَلِك عَلَيْهِ من الذُّبَاب وشغله وأوجعه وَأحرقهُ وَقصد مَكَانا لَا يحْتَمل التغافل أطبق جفْنه الْأَعْلَى على جفْنه الْأَسْفَل فَلم ينْهض فَدَعَاهُ ذَلِك إِلَى أَن والى بَين الإطباق وَالْفَتْح فَتنحّى فَلَمَّا سكن جفْنه عَاد إِلَى مؤقه بأشد من مرته الأولى فَغمسَ خرطومه فى مَكَان كَانَ قد آذاه فِيهِ قبل ذَلِك وَكَانَ احْتِمَاله أقل وعجزه عَن الصَّبْر على الثَّانِيَة أقوى فحرك أجفانه وَزَاد فى شدَّة الْحَرَكَة وفى فتح الْعين ومتابعة الْفَتْح والإطباق فَتنحّى عَنهُ بِقدر مَا سكنت حركته ثمَّ عَاد إِلَى مَوْضِعه فَمَا زَالَ يلح عَلَيْهِ حَتَّى استفرغ صبره وَبلغ مجهوده فَلم يجد بدا من أَن يذب عَن عينه بِيَدِهِ فَفعل وعيون الْقَوْم ترمقه وَكَأَنَّهُم لَا يرونه فَتنحّى عَنهُ بِقدر مَا سكنت حركته ثمَّ عَاد إِلَى مَوْضِعه فألجأه إِلَى أَن ذب على وَجهه بِطرف كمه ثمَّ أَلْجَأَهُ إِلَى أَن تَابع ذَلِك وَعلم أَنه كَانَ بِعَين من حضر من أمنائه وجلسائه فَلَمَّا نظرُوا إِلَيْهِ قَالُوا نشْهد أَن الذُّبَاب ألج من الخنفساء وأزهى من الْغُرَاب قَالَ اسْتغْفر الله فَمَا أَكثر من أَعْجَبته نَفسه فَأَرَادَ الله أَن يعرفهُ من ضعفه مَا كَانَ مَسْتُورا عَنهُ قد علمْتُم أَنى عِنْد النَّاس من أرزن النَّاس فقد غلبنى وفضحنى أَضْعَف خلق الله ثمَّ تَلا قَوْله تَعَالَى {وَإِن يسلبهم الذُّبَاب شَيْئا لَا يستنقذوه مِنْهُ ضعف الطَّالِب وَالْمَطْلُوب}




مصادر و المراجع :

١- ثمار القلوب في المضاف والمنسوب

المؤلف: عبد الملك بن محمد بن إسماعيل أبو منصور الثعالبي (المتوفى: 429هـ)

تعليقات (0)

الأكثر قراءة

ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلا … ويأتيك بالأخبار من لم تزوّد
المزید
فصبرا في مجال الموت صبرا … فما نيل الخلود بمستطاع
المزید
حننت إلى ريّا ونفسك باعدت … مزارك من ريّا وشعباكما معا
المزید
أفاطم مهلا بعض هذا التدلل … وإن كنت قد أزمعت صرمي فأجملي
المزید
إنّ أباها وأبا أباها … قد بلغا في المجد غايتاها
المزید