المنشورات

«أبو الحسن الدارقطني» ت 385 هـ

هو: علي بن عمر بن أحمد بن مهدي بن مسعود الإمام الحافظ، أبو الحسن الدارقطني البغدادي صاحب التصانيف وأحد الأعلام الثقات.
ذكره «الذهبي» ت 748 هـ ضمن علماء الطبقة التاسعة من حفاظ القرآن.
كما ذكره «ابن الجزري» ت 833 هـ ضمن علماء القراءات.
ولد «الدارقطني» سنة ست وثلاثمائة من الهجرة.
وما أن بدأت مواهبه حتى أخذ يرحل إلى الأقطار يأخذ عن علمائها ويتلقى عن شيوخها وقد رحل في ذلك إلى كل من مصر، والشام، وأخذ القرآن وحروف القراءات عن عدد كبير من خيرة العلماء، وفي هذا يقول الإمام «ابن الجزري»:
«عرض الدارقطني القراءات على أبي بكر النقاش، وأبي الحسن أحمد بن جعفر بن المنادي، ومحمد بن الحسن الطبري، ومحمد بن عبد الله الحربي، وأبي بكر محمد بن عمران التمار، ومحمد بن أحمد بن قطن، وأبي الحسن بن بويان، وأحمد بن محمد الديباجي، وسمع كتاب السبعة من أبي بكر بن مجاهد (2).
وكان إماما في القراء، والنحويين، سألته عن العلل والشيوخ، وصادفته فوق ما وصف لي، وله مصنفات يطول ذكرها (1)، منها: «المختلف والمؤتلف في أسماء الرجال وغريب اللغة، وكتاب القراءات، وكتاب السنن، والمعرفة بمذاهب الفقهاء» (2).
وقال: البرقاني أحد تلاميذه: كان الدارقطني يملي عليّ العلل من حفظه» (3). وقال أبو ذر الهروي: قيل للحاكم: هل رأيت مثل الدارقطني؟
فقال: هو لم ير مثل نفسه، فكيف أنا (4).
ومما يدل على فصاحة لسان «الدارقطني» الكثير من الآراء والأخبار، أذكر منها الخبر التالي: يقول «الخطيب البغدادي»: حدثني «الازهري» أن «أبا الحسن الدارقطني» لما دخل مصر كان بها شيخ علوي من أهل مدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال له «مسلم بن عبيد الله» وكان عنده كتاب النسب عن الخضر بن داود عن الزبير بن بكار. وكان «مسلم» أحد الموصوفين بالفصاحة المطبوعة على العربية. فسأل الناس «أبا الحسن الدارقطني» أن يقرأ كتاب النسب، ورغبوا في سماعة بقراءته، فأجابهم إلى ذلك، واجتمع في المجلس من كان بمصر من أهل العلم والأدب، والفضل، فحرصوا على أن يحفظوا على أبي الحسن لحنة، أو يظفروا منه بسقطة، فلم يقدروا على ذلك، حتى جعل «مسلم» يعجب ويقول له: «وعربية أيضا» اهـ (5).
وكان الدارقطني ملمّا بكثير من العلوم يحفظها عن ظهر قلب، وفي هذا يقول «الخطيب البغدادي»: «حدثنا محمد بن علي الصوري قال: سمعت أبا محمد رجاء بن محمد بن عيسى المعدل يقول: سألت أبا الحسن الدارقطني: فقلت له:
رأى الشيخ مثل نفسه؟
كما أخذ الدارقطني حديث الهادي البشير صلى الله عليه وسلم عن عدد من خيرة العلماء. وفي هذا يقول «الخطيب البغدادي»: سمع «أبا القاسم البغوي» وأبا بكر بن أبي داود، ويحيى بن صاعد، وبرز بن الهيثم القاضي، وأحمد بن اسحاق البهلول. وعبد الوهاب بن أبي حية، والفضل بن أحمد الزبيدي، وأبا عمر محمد بن يوسف القاضي، وأبا سعيد العدوي، ويوسف بن يعقوب النيسابوري، وأبا حامد بن هارون الحضرمي، وأحمد بن عيسى السكين البلدي. وإسماعيل بن العباس الوراق، وإبراهيم بن حماد القاضي، وخلقا كثيرا من هذه الطبقة ومن بعدهم (1).
تصدر «الدارقطني» إلى تعليم القرآن وسنة النبي عليه الصلاة والسلام. يقول «الإمام ابن الجزري»: «تصدر «الدارقطني» في أواخر عمره للإقراء، وألف في القراءات كتابا جليلا لم يؤلف مثله، وهو أول من وضع أبواب الأصول قبل «الفرش». ولم يعرف مقدار الكتاب إلا من وقف عليه، ولم يكمل حسن كتاب «جامع البيان» لأبي عمرو الداني ت 444 هـ إلا لكونه نسجا على منواله.
وروى عن الدارقطني حروف القراءات من كتابه هذا محمد بن إبراهيم بن أحمد. ثم يقول: «ابن الجزري»: «وقد رحل «الدارقطني» إلى مصر والشام.
وهو كبير فأفاد، وروى عنه خلق وأئمة كبار مثل: العلامة أبي حامد الأسفراييني، وأبي ذر المعروي، وأبي عبد الله الحاكم، وأبي بكر البرقاني، وعبد الغني الازدي،وتمام الرّازي، وأبي نعيم الأصبهاني، وأبي محمد الخلال، وأبي الطيب الطبري، وأبي الحسن بن المهتدي بالله (1).
وقد منح الخالق العظيم «الدارقطني» ذاكرة قوية، وحافظة أمينة. وفي هذا يقول «الحاكم»: صار «الدارقطني» أوحد عصره في الحفظ، والفهم، والورع، فقال لي: قال الله تعالى: فَلا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ (2) فقلت له: لم أرد هذا، وإنما أردت أن أعلمه لأقول رأيت شيخا لم ير مثله، فقال لي: إن كان في فن واحد فقد رأيت من هو أفضل مني، وأما من اجتمع فيه ما اجتمع فيّ فلا» (3).
ومن الأدلة أيضا على حافظة «الدارقطني» القوية الخبر التالي: قال البغدادي: «حدثنا الأزهري قال: بلغني أن «الدارقطني» حضر في حداثته مجلس «اسماعيل الصفار، فجلس ينسخ جزءا كان معه، وإسماعيل يملي، فقال له بعض الحاضرين: لا يصح سماعك وأنت تنسخ. فقال له «الدارقطني»:
فهمي للاملاء خلاف فهمك. ثم قال: كم تحفظ، كم أملى الشيخ من حديث إلى الآن، فقال: لا أعرف، فقال «الدارقطني»: أملى ثمانية عشر حديثا، فعدت الأحاديث فوجدت كما قال. ثم قال «الدارقطني»: الحديث الاول منها عن فلان، عن فلان، ومتنه كذا، والحديث الثاني عن فلان، عن فلان، و، متنه كذا، ولم يزل يذاكر أسانيد الأحاديث ومتونها على ترتيبها في الاملاء حتى أتى على آخرها. فتعجب الناس منه (4).
كان الدارقطني مع غزارة علمه قوي الملاحظة، ودقيقا في ضبطه للكلمات والأسماء، والأخبار في ذلك كثيرة. أذكر منها الخبر التالي: قال البغدادي: قال الخلال: وغاب مستملي «أبي الحسن الدارقطني» في بعض مجالسه فاستمليت عليه. فروى حديث عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم أمرها أن تقول: اللهم إنك عفو تحب العفو فاعف عنى» فقلت: اللهم انك عفو- وخففت الواو- فأنكر ذلك وقال: «عفوّ» بتشديد الواو (1).
وقال «الأزهري»: رأيت «محمد بن أبي الفوارس» وقد سأل «أبا الحسن الدارقطني» عن علة حديث فأجابه ثم قال له: «يا أبا الفتح ليس بين الشرق والغرب من يعرف هذا غيري» (2).
لقد كانت ثقافة «الدارقطني» متعددة، فكما كان من علماء القراءات والحديث كان من علماء الفقه، وفي هذا يقول البغدادي: وسمعت بعض من يعتني بعلوم القرآن يقول: لم يسبق «أبو الحسن» إلى طريقته التي سلكها في عقد الأبواب المتقدمة في أول القراءات، وصار القراء بعده يسلكون طريقته في تصانيفهم، ويحذون حذوه، ومنها المعرفة بمذاهب الفقهاء، فان كتاب السنن الذي صنفه يدل على أنه كان ممن اعتنى بالفقه، لأنه لا يقدر على جمع ما تضمن ذلك الكتاب إلا من تقدمت معرفته بالاختلاف في الأحكام، وبلغني أنه درس فقه الشافعي على أبي سعيد الاصطخري، وقيل بل درس الفقه على صاحب لأبي سعيد، وكتب الحديث عن أبي سعيد نفسه، ومنها أيضا المعرفة بالأدب والشعر، وقيل: إنه يحفظ دواوين جماعة من الشعراء (3).
ثم يقول «البغدادي»: سمعت القاضي أبا الطيب طاهر بن عبد الله الطبري يقول: كان «الدارقطني» أمير المؤمنين في الحديث، وما رأيت حافظا ورد بغداد إلا مضى إليه، وسلم له يعني سلم له التقدمة في الحفظ وعلو المنزلة في العلم، ثم يقول «البغدادي»: حدثني «الصوري» قال: سمعت عبد الغني بن سعيد الحافظ «بمصر» يقول: أحسن الناس كلاما على حديث رسول الله صلى الله عليه وسلّم ثلاثة: علي بن المديني، في وقته، وموسى بن هارون في وقته، وعلي بن عمر الدارقطني في وقته. قال «البرقاني»: كنت أسمع عبد الغني بن سعيد الحافظ كثيرا اذا حكى عن «أبي الحسن الدارقطني» شيئا يقول: قال أستاذي:
وسمعت أستاذي، فقلت له في ذلك، فقال: وهل تعلمنا هذين الحرفين من العلم إلا من «أبي الحسن الدارقطني» (1).
لقد احتل «الإمام الدارقطني» مكانة سامية ومنزلة رفيعة بين العلماء مما استوجب الثناء عليه تقديرا لعلمه وخلقه وفضله حول هذه المعاني السامية يقول «البغدادي»: «كان الدارقطني فريد عصره وقريع دهره ونسيجا وحده وإمام وقته، انتهى إليه علم الأثر، والمعرفة بعلل الحديث. وأسماء الرجال، وأحوال الرواة مع الصدق والأمانة والفقه والعدالة وقبول الشهادة، وصحة الاعتقاد وسلامة المذهب والاضطلاع بعلوم سوى علم الحديث منها القراءات.
ثم يقول «البغدادي»: وحدثني أبو الوليد سليمان بن خلف الأندلسي قال:
سمعت: أبا ذر العروي: يقول: سمعت الحاكم أبا عبد الله محمد بن عبد الله الحافظ وسئل عن الدارقطني فقال: قال لي «الأزهري»: كان «الدارقطني» ذكيا اذا ذوكر شيئا من العلم أي نوع كان وجد عنده منه نصيب وافر، ولقد حدثني «محمد بن طلحة» أنه حضر مع «أبي الحسن» في دعوة عند بعض الناس ليلة. فجرى شيء من ذكر «الأكلة» فاندفع «أبو الحسن» يورد أخبار «الأكلة» وحكاياتهم ونوادرهم حتى قطع ليلته أو أكثرها بذلك» اهـ (2).
توفي «الدارقطني» ثامن ذي القعدة لسنة خمس وثمانين وثلاثمائة وله ثمانون سنة، رحمه الله رحمة واسعة، وجزاه الله أفضل الجزاء.




مصادر و المراجع :

١- معجم حفاظ القرآن عبر التاريخ

المؤلف: محمد محمد محمد سالم محيسن (المتوفى: 1422هـ)

تعليقات (0)

الأكثر قراءة

ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلا … ويأتيك بالأخبار من لم تزوّد
المزید
فصبرا في مجال الموت صبرا … فما نيل الخلود بمستطاع
المزید
حننت إلى ريّا ونفسك باعدت … مزارك من ريّا وشعباكما معا
المزید
أفاطم مهلا بعض هذا التدلل … وإن كنت قد أزمعت صرمي فأجملي
المزید
إنّ أباها وأبا أباها … قد بلغا في المجد غايتاها
المزید