المنشورات

«عمر بن رسلان» ت 805 هـ

هو: عمر بن رسلان بن نصير بن صلح بن شهاب، أبو حفص الكناني، البلقيني، ثم القاهري، الشافعي، وهو من خيرة العلماء العاملين، ومن القراء، والفقهاء، والمحدثين، واللغويين، والأصوليين، والمجتهدين.
ولد في ليلة الجمعة ثاني عشر شعبان سنة أربع وعشرين وسبعمائة، ببلقينة، من الغربية إحدى مدن مصر، وحفظ بها القرآن، وصلى به وهو ابن سبع سنين، وحفظ الشاطبية، والمحرّر، والكافية الشافية في النحو، والمختصر الأصلي، وأقدمه أبوه القاهرة وهو ابن اثنتي عشرة سنة، فعرض محافيظه على جماعة من العلماء مثل: «التقيّ السبكي، والجلال القزويني» وبهرهم بذكائه وكثرة محفوظاته وسرعة فهمه، ثم رجع به والده إلى بلدته.
ثم عاد به والده إلى القاهرة في سنة ثمان وثلاثين وسبعمائة، وقد ناهز الاحتلام فاستوطن القاهرة، وحضر الدروس على خيرة العلماء: ومن شيوخه في الفقه: «التقيّ السبكي».
وفي العربية، والصرف، والأدب، الأستاذ «أبو حيان»، ولازم «البهاء ابن عقيل»، وانتفع به كثيرا، وتزوج ابنته.
وسمع الحديث على مشاهير علماء الحديث وفي مقدمتهم: «ابن القمّاح، وابن غالي» وغيرهما.
وأجاز له الحافظان: «المزّي، والذهبي» وابن نباتة، وآخرون وحج مع والده سنة أربعين وسبعمائة، ثم بمفرده بعدها، وزار بيت المقدس.
وأذن له الأئمة بالافتاء، والتدريس، وعظمه أجلاء شيوخه، مثل «أبي حيان، والأصبهاني».
وناب في الحكم عن صهره: «ابن عقيل» واستقرّ بعده في التدريس بجامع «عمرو بن العاص» بالقاهرة.
وكان يدرس التفسير بجامع «ابن طولون». وولي إفتاء دار العدل رفيقا للبهاء السبكي، ثم قضاء الشام في سنة تسع وستين، عوضا عن «التاج السبكي» فباشره دون السنة.
ودخل «حلب» في سنة ثلاث وتسعين صحبة «الظاهر برقوق» واشتغل بها، وعيّن لقضاء مصر غير مرة، وشاع ذكره في الممالك قديما وحديثا، وعظمه الأكابر فمن دونهم.
احتلّ «عمرو بن رسلان» بعلمه مكانة سامية بين الجميع مما جعل العلماء يثنون عليه، ومما كتبه عنه «أبو حيان» قوله: «صار عمر بن رسلان إماما ينتفع به في الفنّ العربي مع ما منحه الله من علمه بالشريعة المحمدية بحيث نال في الفقه وأصوله الرتبة العليا، وتأهل للتدريس، والقضاء، والفتيا» (1).
وقال «البرهان الحلبي»: «رأيته رجلا فريد دهره، لم تر عيناي أحفظ منه للفقه، وأحاديث الأحكام، وقد حضرت دروسه مرارا وهو يقرئ في مختصر مسلم للقرطبي، ويقرئه عليه شخص مالكي، ويحضر عنده فقهاء المذاهب الأربعة، فيتكلم على الحديث الواحد من بكرة إلى قريب الظهر، وربما أذّن الظهر ولم يفرغ من الحديث» (1).
ويعقب العلامة الشوكاني على هذا الخبر بقوله: «وهذا تبحر عظيم، وتوسع باهر فإن استغراق هذا الوقت الطويل في الكلام على حديث واحد يتحصل منه كراريس، وقد كان وقع الاتفاق على أنه أحفظ أهل عصره، وأوسعهم معارف، وأكثرهم علوما، ومع هذا فكان يتعانى نظم الشعر فيأتي بما يستحي منه، بل قد لا يقيم وزنه، والكمال لله وحده» اه (2).
وقال «الشمس محمد بن عبد الرحمن العثماني» قاضي صفد في طبقاته:
«عمر بن رسلان، شيخ الوقت، وإمامه، وحجته، انتهت إليه مشيخة الفقه في وقته، وعلمه كالبحر الزاخر، ولسانه أفحم الأوائل والأواخر» اه (3).
وقال «الإمام الشوكاني»: أثنى عليه أكابر شيوخه، قال «ابن حجّي» كان احفظ الناس لمذهب الشافعي، واشتهر بذلك وشيوخه موجودون، قدم علينا دمشق قاضيا وهو كهل فبهر الناس بحفظه، وحسن عبارته، وجودة معرفته، وخضع له الشيوخ في ذلك الوقت، واعترفوا بفضله، ثم بعد ذلك رجع إلى القاهرة، وتصدر للفتيا، فكان معول الناس عليه في ذلك، وكثرت طلبته فنفعوا، وأفتوا، ودرّسوا، وصاروا شيوخ بلادهم، وهو حيّ، وله نظم وسط، وتصانيف كثيرة لم تتمّ. يبتدئ كتابا، فيصنف منه قطعة ثم يتركه، وقلمه لا يشبه لسانه» اه (4).
وقال «شمس الدين السخاوي»: وقال شيخنا في مشيخة البرهان: إنه استمرّ مقبلا على الاشتغال متفرغا للتدريس والفتوى إلى أن عمّر وتفرّد، ولم يبق من يزاحمه، وكان كل من اجتمع به يخضع له لكثرة استحضاره، حتى يكاد يقطع بأنه يحفظ الفقه سردا من أول الأبواب إلى آخرها، لا يخفى عليه منه كبير أمر، وكان مع ذلك لا يحبّ أن يدرّس إلا بعد المطالعة. ثم يستطرد قائلا: واشتهر اسمه في الآفاق، وبعد صيته، إلى أن صار يضرب به المثل في العلم، ولا تركن النفس إلا إلى فتواه، وكان موفقا في الفتوى، يجلس لها من بعد صلاة العصر إلى الغروب، ويكتب عليها من رأس القلم غالبا، ولا يأنف إذا أشكل عليه شيء من مراجعة الكتب، ولا من تأخير الفتوى عنده إلى أن يحقق أمرها، وكان فيه من قوّة الحافظة وشدّة الذكاء ما لم يشاهد فيه مثله، وكان وقورا حليما، مهيبا سريع البادرة، سريع الرجوع، ذا همة عالية في مساعدة أصحابه، وأتباعه، وقد أفتى ودرس وهو شاب، وناظر الأكابر، وظهرت فضائله، وبهرت فوائده، وطار في الآفاق صيته، وانتهت إليه الرئاسة في الفقه، والمشاركة في غيره حتى كان لا يجتمع به أحد من العلماء إلا ويعترف بفضله، ووفور علمه، وحدّة ذهنه، وكان معظما عند الأكابر، عظيم السمعة عند العوام، إذا ذكر خضعت له الرقاب، حتى كان «الاسنوي» مع جلالة قدره يتوقّى الإفتاء مهابة له، وكانت آلة الاجتهاد فيه كاملة، وكان عظيم المروءة، جميل المودّة، كثير الاحتمال، مهيبا مع كثرة المباسطة لأصحابه، والشفقة عليهم، والتنويه بذكرهم» (1).
وقال «الصلاح الأقفهسي»: كان «عمر بن رسلان» أحفظ الناس لمذهب الشافعي، لا سيما لنصوصه، مع معرفة تامة بالتفسير، والحديث والأصول، والعربية، مع الذهن السليم، والذكاء الذي على كبر السنّ لا يتغيّر، يفزع إليه في حلّ المشكلات فيحلّها، ويقصد لكشف المعضلات فيكشفها ولا يملّها، ولولا أن نوع الإنسان مجبول على النسيان لكان معدوما فيه، فلم يكن في عصره في الحفظ وقلة النسيان من يماثله بل ولا يدانيه، ولي قضاء دمشق، وهي إذ ذاك غاصة بالفضلاء، فأقروا له بالتقدم في العلوم، ولم ينازعه واحد منهم في منطوق ولا مفهوم (1).
وقال «التقي الفاسي»: كان «عمر بن رسلان» واسع المعرفة بالفقه والحديث، وغيرهما، موصوفا بالاجتهاد.
وممن ترجمه «ابن خطيب الناصرية، وابن قاضي شهبة، والمقريزي».
وحكى العلاء البخاري، فيما سمعه منه «العز السنباطي» قال: قدم علينا من أخذ عن «البلقيني» فسألناه عنه فقال: هو في الفقه وكذا في الحديث بحر، وفي التفسير أيضا على طريقة «البغوي» وسألناه عنه في العقليات فقال: يقرئ تفسير «البيضاوي» للمبتدئ، والمتوسط، ولا يخرج عن عهدته للمنتهي (2).
وحكى «البساطي» عن شيخه «قنبر» أنه قال: ما جلست بمصر للإقراء حتى درت على حلق مشايخها كلهم، حتى «الخولاني» فلم أر فيهم مثل «البلقيني» في الحفظ.
وقال «شمس الدين السخاوي»: وفي كلام «الوليّ العراقي» في أواخر شرحه لجمع الجوامع ما يشير لأن «عمر بن رسلان» مجتهد، أو كونه هو والتقيّ السبكي طبقة واحدة، وكان في صفاء الخاطر، وسلامة الصدر بمكان بحيث يحكى عنه ما يفوق الوصف، وقيامه في إزالة المنكر شهير، وردعه لمن يخوض فيما لا يليق مستفيض، وكان يقول: ما أحد يقرئ الفرائض إلا وهو تلميذي، أو تلميذ تلميذي وقد أخذ الناس عنه طبقة بعد طبقة، بل وأخذت عنه طبقة ثالثة.
ولم يزل «عمر بن رسلان» متفردا في جميع العلوم حفظا، وسردا لها حتى توفاه الله تعالى قبل عصر يوم الجمعة حادي عشر ذي القعدة سنة خمس وثمانمائة بالقاهرة، وصلى عليه ولده «الجلال» صبيحة الغد بجامع الحاكم، ودفن بمدرسته التي أنشأها بالقرب من منزله في حارة «بهاء الدين» عند ولده «البدر محمد» ورثاه جماعة، وأبدع مرثية فيه وهي تزيد على مائة بيت للشيخ «السخاوي» وأولها:
يا عين جودي لفقد البحر بالمطر ... واذري الدموع ولا تبقي ولا تذري
رحم الله «عمر بن رسلان» رحمة واسعة، وجزاه الله أفضل الجزاء.






مصادر و المراجع :

١- معجم حفاظ القرآن عبر التاريخ

المؤلف: محمد محمد محمد سالم محيسن (المتوفى: 1422هـ)

تعليقات (0)

الأكثر قراءة

ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلا … ويأتيك بالأخبار من لم تزوّد
المزید
فصبرا في مجال الموت صبرا … فما نيل الخلود بمستطاع
المزید
حننت إلى ريّا ونفسك باعدت … مزارك من ريّا وشعباكما معا
المزید
أفاطم مهلا بعض هذا التدلل … وإن كنت قد أزمعت صرمي فأجملي
المزید
إنّ أباها وأبا أباها … قد بلغا في المجد غايتاها
المزید