المنشورات

الخنجر الكوبي في البلعوم الأميركي

وأسرار عملية خليج الخنازير
تعتبر الحرب السرية التي ما تزال تشنها وتخوضها الولايات المتحدة للقضاء على فيديل كاسترو، ونظامه في كوبا منذ انتصار الثورة في عام 1909، من أهم المواضيع الخطيرة التي تقلق كل حكومات أميركا ورؤوس البنتاغون، كما تمثل الهاجس الأكبر لكل رؤسائها
كيف لا ... وقد قال كاسترو متحدية غطرسة الامبريالية الأميركية وكبرياءها: يكفي بأننا اقمنا الاشتراكية على فم الولايات المتحدة، التي تبعد عنها كوبا تسعين ميلا فقط. ومن هنا نلاحظ أن أميركا، كاكبر دولة امبريالية في العالم، تعجز عن أن تتنفس بصورة طبيعية في ظل وجود نظام شيوعي ککوبا يقبع جائما على صدرها وأنفها وفمها. ومن أجل إزاحة هذا الكابوس كان لابد من العمل بكل الطرق والوسائل التي تكفل للولايات المتحدة أن تعيش وتتنفس الهواء الذي تريده نظيفة.
إلا أن التدخل الأميركي في كوبا ليس جديدا، ولا هو في الواقع نتيجة الانتصار الثورة في كوبا عام 1959 وحسب، فهو يعود الى عهود رؤساء سابقين. على أن هذا التدخل بعد انتصار فيديل كاسترو هو أوسع المشاريع الأميركية للتدخل في الستينات. فهو برنامج واسع شامل من حرب سرية ومغامرات عسكرية، وهجوم اقتصادي وسياسي ... شمل عمليات عسكرية وحربة بيولوجية واغتيالات ... بدأ في العام 1959، أثناء إدارة أيزنهاور، وبلغ ذروته شبه العسكرية في ظل الشقيقين كينيدي، وسكن في عهد ليندون
119 جونسون، ثم حرك بقوة وتصميم في عهد ريتشارد نيكسون .. ولا تزال بقاياه ناشطة حتى الآن ... هذا وتمثل حملة «خليج الخنازيرة الفاشلة قمة التدخل الأميركي في كوبا ..
كيف تمت هذه العملية؟ وما هي أسرارها؟.
لم يقتصر مشروع التدخل الأميركي في كوبا على جهة واحدة، بل قامت به اطراف مختلفة منها البيت الأبيض، ووكالة الاستخبارات المركزية، والمافيا، ومجموعات متعددة من المنفيين الكوبيين بواسطة الكوبيين عبر الوكالة حينا، أو بدونها حينا آخر، بمعرفة البيت الأبيض أو من غير معرفته، ومن غير أن تعرف مجموعة كوبية بما تقوم به مجموعة أخرى. يضاف الى ذلك أن المانيا كانت تعمل في الوقت ذاته في خدمة هذا الطرف أو ذاك، وفي خدمة هذه المجموعة أو تلك. كذلك كانت لأصحاب الاستثمارات والمصالح المالية الضخمة وأندية القمار علاقاتها السرية، المباشرة أو غير المباشرة، بمختلف الأطراف والمجموعات في سبيل تنفيذ جوانب مختلفة من المشروع بالتعاون فيما بينها، أو بالاستقلال والتفرد
وهكذا فإن تاريخ مشروع کوبا هو نصة حرب تخوصها الولايات المتحدة من غير أن يعلنها مجلس الشيوخ، أو أن تعترف بها واشنطن، أو أن تذكر الصحافة أخبارها. وهو أكبر نشاطات الولايات المتحدة السرية، وأكبر فشل منيت به وكالة الاستخبارات المركزية .. وخير من تكلم عن هذا المشروع من الأميركيين، ضابطان مسؤولان في أجهزة المخابرات والأمن الأميركية هما: اوارين هينکل، ووليم تيرنر، في كتاب لهما بعنوان «السمكة حمراء، وعنوان تفسيري هو «قصة الحرب السرية على كاسترو». ويعتبر من أهم المراجع جول هذا الموضوع.
ففي عام 1959 أسهم ريتشارد نيکسون في وضع مشروع كوبا، بصفته نائبا للرئيس. وقد كان لقضية كوبا في هذا الوقت دور أساسي في انتخابات الرئاسة، وكان هم ريتشارد نيکسون (الجمهوري) أن تتم الإطاحة بكاسترو
120 ،
قبل الانتخابات، تعزيزا لموقفه الانتخابي، في حين أن المخططين لحملة منافسه الديمقراطي کينيدي كانوا يؤكدون أن أوضاع المنفيين لا تسمح بذلك. وفي تموز 1990 عشية انعقاد مؤتمر تسمية المرشح الديمقراطي للرئاسة، هيأت وكالة الاستخبارات المركزية اجتماعا بين أربعة من قادة الكوبيين في المنفى وهم: «مانبويل ارتيم، وطوني نارونا، وہ اوريليانو سانشيزا رانفوه ووجوزيه ميروکاردونا»، ممن ستكون لهم ادوار رئيسية في حملة
خليج الخنازيرة اللاحقة وعمليات الاغتيال والتخريب، والمرشح للرئاسة جون كينيدي لاطلاعه على خطة الحملة المرتقبة ضد كوبا. ثم أخذ جون كينيدي المرشح للرئاسة يتحدث عن وجوب دعم القوات المحاربة من أجل الحرية في المنفى وفي جبال كوبا، ويدعو الى التشجيع الكوبيين المحبين للحرية في مقاومة كاسترو، منددا بتقصير إدارة ايزنهاور بالنسبة الخطر الشيوعية على مسافة تسعين ميلا فقط. ودعا المخططون لحملة كينيدي الى تقوية القوات الديمقراطية المعادية لكاسترو، غير المنحازة لباتيستا في المنفى وفي كوبا نفسها، باعتبارها الأمل المرتجي في سبيل القضاء على کاسترو. فقد كان هذا الكلام يجد صدى كبيرة داخل أميركا ويساعده في حملته الانتخابية. هنا وجد ريتشارد نيکسون نفسه مضطرة بحكم منصبه الرسمي كنائب لرئيس الجمهورية إلى أن يهاجم هذه الدعوة لنصرة المنفيين الكوبيين باعتبارها خطة «خطرة وغير مسؤولة، ووصفها بالتوصية الخيالية التي تهدد بحرب عالمية ثالثة بما تثيره من ضجة حول مهاجمة كوبا، ولو أنه في الواقع كان هو المهندس الأول في مشروع كوبا، أو كما قال فيما بعد أن والتدريب السري للمنفيين الكوبيين، على أيدي وكالة الاستخبارات المركزية يعود الى جهودي بالدرجة الأولي،،
ونجح جون كينيدي في الانتخابات وأصبح رئيسا للجمهورية وسرعان ما أعطى الضوء الأخضر للإستمرار في ما سموه مشروع كوبا
لقد كان هذا المشروع يفرض في الأساس عدم استخدام أي رجل
121 أميركي، أو أي طيران حديث، بحيث يبدو للعالم أنه عملية وطنية حقأ يقوم بها الكوبيون أنفسهم بتمويل خاص. ولكن سوء ظن المخابرات الأميركية بالكوبيين جعلها تسلم القيادة لضباط من مصلحة النقل البحري العسكري. والواقع أن وكالة المخابرات الأميركية نهجت خطة تمييز عنصري بين الكوبيين والمدربين، حتى أن المسؤولين الأميركيين فقط كانوا يطلعون على الخرائط، في حين أن الكوبيين كانوا يجهلون القواعد التي يندربون فيها، حتى جاءت الحملة أميركية مئة بالمئة، باستثناء المقاتلين العاديين المجندين للإشتراك بالحملة كمرتزقة وعدد من الأثرياء ورجال الحكم السابق، ممن نقموا على النظام الجديد في كوبا، التخطيط أميركي بالطبع والقيادة أميركية أيضا.
وعمدت الوكالة الى استخدام سفن شركة «يونايند فروت، أي الفواكه المتحدة، أحد أذرعها القديمة، لنقل الجنود والذخيرة الى غواتيمالا، وجمعت اسطولا من نقليات رغارلياء العاملة في تجارة السكر والارز بين کوبا وبلدان أميركا الوسطى، وحشدت قوة جوية في قاعدة «ايغلين، الجوية في فلوريدا من الطائرات العسكرية القديمة من طراز «سي - 54، والطائرات المقاتلة ابي 29، التي سبق استخدامها في نقل العملاء في أجواء الشرق الأوسط وحدود بلدان أوروبا الشرقية، مموهة لا تحمل أية علامة مميزة لها بقيادة طيارين عسكريين أميركيين، إلا قلة من البولونيين. واستكمالا لعملية التمويه والتضليل قيل للملاحين أنهم يقومون بمهمة في خدمة الحكومة، وزودوا بمبالغ مالية كبيرة، ونبهوا الى استخدام عنوان واحد محدد عند الاتصال بذويهم، كما نبهوا الى أن العملية قد تستوجب اطلاق نيران. وإمعانا في التمويه بدات ارقام رجال الحملة من العدد 2000 لإخفاء حقيقة عدد رجالها وبقي موعد الهجوم غير محدد بصورة نهائية
وهنا لابد من التساؤل: كيف تم الإعداد لهذا المشروع الضخم؟. إن ميامي، البلدة الصغيرة في بداية هذا القرن، سرعان ما تحولت
122 خلال نصف قرن تقريبا الى مدينة ضخمة ذات مبان ومنتجعات فخمة، بفضل مئات الملايين المنهوبة من خزينة كوبا، والى قاعدة للمهاجرين الكوبيين الأثرياء، هنا أنفقت الوكالة ما لا يقل عن خمسين مليون دولار للإستعدادات المحلية للهجوم، وبذلت لها مؤسسات ميامي التجارية والمالية والثقافية، حتى الجامعة نفسها، جميع الخدمات والتسهيلات اللازمة، وأقامت مراكز للتدريب وللكشف عن إذاعات سرية مؤيدة لكاسترو. وبنت لها أكبر اسطول في البحر الكاريبي من قطع بحرية مسجلة بأسماء مستعارة، مجهزة بالرادار والاسلحة المتنوعة تحت غطاء القيام بدراسات بحرية، كما أعدت قوات ومطارات جوية أيضا. وفي مايو 1990 جمعت المجموعة الكوبية المنفية تحت مظلة واحدة باسم الجبهة الديمقراطية الثورية، ومولتها. وحرصت في كل ذلك أن لا تثير شكوك ابناء ميامي بإبقاء هذه النشاطات سرية، وبالمبادرة بسرعة للقضاء على أية ضجة لتجنب اية ازمة، حتى أن الصحافة في ميامي أسهمت راضية ومتعاونة في هذه السرية
وفي منزل لامراة في العقد السابع من عمرها في ميامي، كان يلتقي عدد من المتقاعدين والمصابين بأمراض عقلية، التجاعة للراحة والاستجمام وفي هذا المنزل الذي كان يبدو وكأنه مأوى، كان يعيش استاذ مدمن على الشراب ويسعي لنسف زورق بوغوسلافي يقوم بنقل الفوسفات بين کوبا والمكسيك، وتزم يقوم بأعمال التسلية بين مجموعة من نحو خمسين شخصا يتناولون طعامهم على دفعات. هنا كان يلتقي بعض رجال المافيا، ونفر من اصحاب السوابق، وعدد من الذين عملوا لوكالة المخابرات المركزية في السابق بالإضافة الى مغامرين أطلقوا على أنفسهم اسم فرسان الإقامة الداخلية او رجنود الخط العاشرة لاشتغالهم بالقضايا الخاسرة بحيث بات المنزل پيدو ثكنة أكثر منه ماوي
ولم يقتصر ميدان النشاطات لتنفيذ المشروع على ميامي وحسب. فقد كانت للوكالة مراكز أخرى عديدة في أمكنة أخرى من الولايات المتحدة،
123 ونيكاراغوا، وغواتيمالا وكوستاريکا، للتدريب على الطيران والهبوط بالمظلات وإطلاق النار على ايدي أميركيين اختصاصيين ممن سبق لهم أن قاموا بأعمال مماثلة في بلدان أخرى.
ثم ان مافانا نفسها كانت لا تزال مدينة مفتوحة. فقد كانت سفارة الولايات المتحدة باقية فيها، ولا سيما فرع وكالة المخابرات المركزية. هنا عملت لها امرأة أميركية ارملة وفتحت دارها لاجتماعات الناقمين على نظام كاسترو لنقل الراغبين بالفرار الى ميامي لتدريبهم، وكانت صلة وصل مع المقاومة الداخلية السرية باستخدام كلبها لنقل الرسائل والوريقات الإخبارية في فمه قبل أن اعتقلها رجال مخابرات کاسترو في تشرين الثاني / نوفمبر 1990، وكشفوا عن مستودع للمتفجرات والأسلحة. حتى أن ماري لورنزو، سكرتيرة کاسترو الخاصة، كانت تعمل مخبرة سرية منذ مايو 1909. حسب مصادر المخابرات الأميركية. وقد نجح ضابط المخابرات الأميركي فرانك سترجيس، في تهريبها إلى ميامي ثم في إعادتها إلى هافانا متنكرة كسائحة أميركية ... أما استرجيس، فإنه كان يقوم بمهمات محددة للوكالة بنقل عملائها الى سواحل کوبا، وتأمين الذخائر والإمدادات لهم بواسطة الطائرات والسفن الى نقاط معينة على الساحل، مما كان يؤدي أحيانا الى تبادل النيران مع خفر السواحل، ويوفر المناسبات لاتهام الولايات المتحدة أمام الصحافة بالاشتراك بهذه النشاطات التآمرية.
كذلك كان يتلقي معلومات يوفرها له الدكتور رضوان اورتا، أمين سر رئيس الوزراء، ويعمل على تشكيل فرقة من المتطوعين لغزو معسکر كولومبيا، أهم مراكز القوات الكوبية المسلحة ويتعاون مع «سرجيو سانجينيس» منظم وحدة العملية 40، من مخبرين وسفاحين ورجال أعمال في أوساط المعارضة الكوبية، ويقوم بالإضافة إلى ذلك، بتنظيم اللواء الدولي المعادي للشيوعية من أميركيين متطوعين، وأصحاب أندية القمار في كوبا، وانصار باتيستا، فاسحأ بذلك مجالات واسعة للوكالة لاختيار الارهابيين
124 المطلوبين.
على هذا الأساس، اقتضى الاستمرار بمشروع كوبا تشكيل لجنة خاصة في مجلس الأمن القومي للتنفيذ بدون الاضطرار للعودة إلى المجلس في كل
حالة، حتى لا يتورط الرئيس بالذات ويوفر ما سمي: قابلية التدخل، أيضا. أي أن الرئيس يمكنه الادعاء بأنه لا يعلم. وفي 13 كانون الثاني / يناير 1990 عرض المشروع على هذه اللجنة، الى إنشاء قوة تنفيذية للقيام بأي عمل ضروري في الصراع مع كاسترو. وفي التاسع من آذار / مارس عقدت هذه القوة التنفيذية اجتماعها الأول، وتم تقرير حرب سرية على كوبا، ووجوب القضاء على فيديل كاسترو. وأخيه رازول، وعلى تشي غيفارا، بحجة وجود خطر قيام کوبا بعمل عدواني على الولايات المتحدة. وفي اجتماع مجلس الأمن القومي في اليوم التالي تمت الموافقة على مشروع کوبا باسم مكافحة الشيوعية الدولية، دعما لنشاطات وكالة المخابرات المركزية في هذا الإطار، وإقرارة لأية رسائل مهما كان نوعها لتحقيق هذا الهدف بغض النظر عن أية مفاهيم أو اعتبارات خلقية تقليدية.
وفي هذا الاطار يعتقد البعض أن وكالة المخابرات المركزية سيدة نفسها، أو «حكومة غير منظورة» مسؤولة أمام نفسها وحسب. واذا كان الملاحظ أن الوكالة قد نشطت في عهد جون كينيدي وصارت لها شبكة واسعة من منشات عسكرية، وخطوط جوية، ومستودعات أسلحة، ومعسكرات تدريب، فالواقع أنها أداة بيد الرئيس لا تقوم في الغالب بنشاط بدون أوامر مباشرة من البيت الأبيض، لا سيما وقد كان الشقيقان كينيدي على استعداد للقيام بكل ما يؤدي إلى التخلص من كاسترو ونظامه، حتي بالأساليب الجيمس بوندية الغربية.
وفي الوقت الذي كان يصر فيه الرئيس على عدم افتعال حادثة في قاعدة (غوانتانامو، (وهي قاعدة بحرية أميركية على الشاطئ الشرقي لكوبا مؤجرة للحكومة الأميركية منذ بداية هذا القرن) تبرر تدخل القوات الأميركية،
120 كان الرئيس على ما يبدو، يجهل أن الوكالة غارقة حتى الاذنين في محاولتين الاغتيال كاسترو، أولاهما بنقل الفريق المعد للقيام بالعملية الى نقطة ساحلية بالقرب من هافانا. وثانيتهما بالتعاون مع منظمة ديونيداد السرية الجامعة المجموعات كوبية مختلفة لدعم فريق من ضباط طيارين في القاعدة الجوية في هافانا لاحتلالها وإعلان العصيان بمساعدة إدارة الطلاب الشوريين. وفي
3/ 13 تمت لقاءات في ميامي جرى فيها تسليم المال والحبوب المسمومة: من قبل رجال الوكالة، بالإضافة إلى تبرع ماير لانسكي، زعيم المافيا في
اميركا وهو يهودي، بمليون دولار مكافاة لمن يغتال کاسترو. وبذلك بات المكلف بالاغتيال عميلا مزدوجة للوكالة وللمافيا معا.
في هذا الوقت كان عدد من رجال المافيا والوكالة في كوبا مهيئين للقيام بعملية الاغتيال وإثارة الناقمين على النظام الجديد، بينما كان رجال الأعمال في الخارج يتوقعون للشركات وأصحاب المصالح استعادة النشاطات الاستثمارية السابقة، على نحو ما قال «ب. بوندا براغا، رئيس شركة فرانسيسكو للسكر في فبراير 1991، للتأكيد على العلاقة بين الوكالة ورجال الصناعة والأعمال.
والمعروف أن شقيقه كان عضوا في مجلس إدارة مصرف شرودر البريطاني المحدود، حيث كانت الوكالة تودع أموالا ضخمة بتصرف «آلان دالس، وهو الذي تعود علاقته بالمصرف الى عام 1937 .. غير أن حكومة کوبا قضت على المحاولتين في آذار / مارس 1991.
وفي 3 ابريل أصدرت وزارة الخارجية الأميركية ورقة بيضاء لتهيئة الرأي العام الأميركي للحملة، وتطرقت فيها الى الحديث عن الديمقراطية، وشجبت نظام باتيستا، واعتبرت حكومة كوبا خائنة للثورة الكوبية. أما دور الولايات المتحدة في إفشال نضال کوبا في سبيل الاستقلال والمساواة والعدالة الاجتماعية والاقتصادية، فاكتفت الورقة بالاشارة العابرة اليه بالاعتراف بالأخطاء. وفي اليوم التالي أعطى الرئيس الضوء الأخضر في
120 اجتماع مع مستشاريه.
وقبل الهجوم بأسبوع، رست سفينة «سانتا آنا، رافعة علم کوستاريکا، في قاعدة بحرية بجوار «نيو أورليانس، متجهة نحو نقطة مجاورة لقاعدة رغوانتانامو»، حاملة جنودة ومقدارا من الأسلحة والذخائر للقيام على ما يظهر، بعمل تضليلي يبعد أنظار الوحدات العسكرية الكوبية عن «خليج الخنازيره. والواقع أن هذه القوات التي كان أفرادها يرتدون ملابس رجال ثورة كاسترو للتمويه، استهدفت القيام بهجوم شكلي على قاعدة رغوانتانامو، وإظهار کاسترو معتدية، مما يبرر التدخل المباشر من قبل البحرية الأميركية المتأهبة قبالة سواحل كوبا للانقضاض عليها بحال نجاح الخدعة، على أن يرافق ذلك اغتيال الشقيقين فيديل وراؤول. وقد لجات الوكالة الى هذه الخدعة بدون إعلام الرئيس أو مناقشتها في اجتماع سابق، بعد أن تبين لها أن الشعب الكوبي لن يقوم بدعم الهجوم، وبعد رفض فكرة تعريض إحدى السفن الأميركية للنسف بغية إثارة البحرية للتدخل المباشر، متوقعة السباق الرئيس مع الخطة نور المباشرة بها.
وفي ليل العاشر من ابريل جرى نقل رجال فرقة الغزو بالشاحنات ثم بالطائرات الى نيكاراغوا. ولما أكد الرئيس في مؤتمره الصحفي في اليوم التالي، أن الولايات المتحدة لن تقوم بتدخل عسكري في كوبا، رات الوكالة في ذلك اسلوبة ممتازة للتضليل. وفي التوجيهات النهائية لقادة الفرقة عمد رجل الوكالة الى إيهامهم بتوقع دعم الطيران الأميركي للحؤول دون وصول كاسترو الى خليج الخنازير، وإثارة حماسهم وشجاعتهم بحملهم على الاعتقاد بدعم الناس لهم في كوبا، مع العلم أن موعد الهجوم لم يكن معروفة من قبل القوات المهاجمة.
وفي صباح اليوم التالي حطت طائرة مموهة من الخارج في مطار الوادي السعيد، في نيكاراغوا، تحمل مستشار الأمن القومي للرئيس ومسؤولا في الوكالة لإجراء الكشف النهائي.
127 وهنا كانت الشائعات بشأن غزو کوبا منتشرة بين سكان أميركا اللاتينية. وكان طبيعية أن تعلم حكومة كوبا بأمر الغزو، لا سيما ولها عيون كثيرة، غير أنها لم تكن تعلم أن الانطلانة ستكون من قاعدة رتايد» في بويرتو كابيزاس على ساحل نيكاراغوا على البحر الكاريبي، حيث استخدم مطار عسكري للقوات الأميركية منذ الحرب العالمية الثانية باسم «الوادي السعيد»، وطبيعي أن يتزايد تيقظ فيديل كاسترو إزاء ذلك، وقد أخذ ينام أثناء النهار ساهرة أثناء الليل لتوقعه الهجوم مع ساعات الصباح الأولى، إذ أن الأحداث المتوالية من تشكيل المجلس الثوري الكوبي في الخارج، وورقة كينيدي البيضاء، وتسرب الأنباء عن الأسلحة والتدريب، كان في نظره حافزا للمزيد من اليقظة. والواقع أن هذا الاحتراس الشديد كان واضحا لا سيما بعد فشل إنزال مجموعة من المنفيين في 20 مارس، واعتقال رجال المقاومة الذين كانوا بانتظار المجموعة، ثم مطاردة مجموعة سفن في 5 أبريل للحؤول دون إفراغ حمولتها من رجال المقاومة والسلاح. غير أن هذه اليقظة الشديدة لم تثن الوكالة عن نشاطها.
وحين كان رجال فرقة المقاتلين ينزلون الى السفن في بويرتو كابيزاس لنقلهم الى خليج الخنازير كان الجنرال لويس سومرزا، خادم نيكاراغوا، في وداعهم يوجه اليهم تحية التشجيع والتوفيق والعودة بشعرتين من لحية كاسترو، بينما كان رجل الوكالة يسر الى قائد الفرقة سرا يقضي بوجوب الاستمرار بالحملة بحال تلقيه رسالة لاسلكية تدعو الى العودة وعدم التقدم، وبإلغائها بحال القول في الرسالة أن طائر الكتزل على أغصان الشجرة، لأن كاسترو يكون عند ذاك متنبها للحملة. غير أنه لم يذكر له أن الرئيس كينيدي احتفظ لنفسه بحق إلغاء الحملة قبل 24 ساعة من مباشرتها، وبأن الوكالة وحدها لها الحق بتبليغ هذا القرار. وصلت القوات المشحونة على سفينة «سانتا آنا، إلى منطقة بجوار «باراکروا في راوريانتبه، ليل الخامس عشر من ابريل. وبعد إبلاغ الطيارين بالادعاء بأنهم طيارون فارون من قوات کاسترو الجوية بحال إسقاطهم خارج کوبا، أقلعت تسع طائرات من طراز «بي 29، من أصل 13
128 طائرة من مطار «الوادي السعيد مشحونة بحمولة كبيرة من القنابل والصواريخ القصف المطارات والمعسكرات الكوبية التي كانت طائرات بو. 2. قد التقطت رسومها من الجو. غير أن كاسترو آنذاك كان يهرع الى معسكر كولومبيا بجوار هافانا، ويعلن حالة التأهب، ويوجه فوجين الى منطقة باراکووا، ثم يعلن وقوع العدوان بهدوء، وهو يسمع انفجارات القنابل الجوية ونيران الأسلحة المضادة.
وبعد خمس ساعات حطت طائرة من طراز بي -29 في مطار «کي وست، للقوات البحرية الأميركية وأخرى مماثلة في مطار ميامي الدولي، بينما هرع الناطق باسم مجلس الثورة الكوبي في الخارج، بناء على اتصال من وكالة المخابرات المركزية، للإعلان باسم رئيس المجلس أن طيارين فرا من قوات کاسترو الجوية بعد قصف المطارات الكوبية. والواقع أن تمثيلية الفرار هذه كانت مدبرة من قبل الوكالة، حتى أنها أمرت بإطلاق النار على الطائرة عند إقلاعها من مطار الوادي السعيد، إتقانة للتمثيلية.
وسرعان ما وقف مندوب کويا في هيئة الأمم المتحدة يتهم الولايات المتحدة بدعم هجوم جبان مفاجيء بواسطة مرتزقة مدربين على أيدي خبراء البنتاغون ووكالة المخابرات المركزية، مضيفا أن الهجوم أدى إلى وقوع سبعة قتلى وعدد كبير من الجرحى. أما مندوب الولايات المتحدة الذي سبق اللوكالة أن أعلمته باستعدادات المهاجرين العسكرية، نافية تورط الولايات المتحدة، فراح يعرض بحرج صورة طائرة بي - 29 التي حطت في مطار ميامي وعليها علامة قوات کاسترو الجوية، قائلا أن الطائرتين، على ما يعلم، من طائرات کاسترو، مضيفا على ما قال الطياران، إنهما أقلعتا من مطارات کاسترو. كذلك بادرت الصحافة بوجه عام الى نشر الأخبار كما أذاعتها وكالة المخابرات المركزية، ولو أن عددا من رجال الصحافة تنبه الى الفارق بين واجهات طائرات کاسترو وواجهات طائرات بي - 29 الأميركية.
ودلت الرسوم التي التقطتها طائرات بو. 2 - بعد المحاولة الأولى،
129 انها لم تدمر قوات کاسترو الجوية، فقررت الوكالة توجيه ضربة أخرى فجر السابع عشر من نيسان. وقد حدث ما أدى الى اتهام الرئيس بالتراجع وبإفشال الحملة، ونشأ نقاش بشأن تفسير موافقته السابقة، ورأي البعض أن الموافقة قضت بالقضاء على قوات کاسترو الجوية من غير تحديد عدد الضربات، في حين أن المسؤول بغياب «آلان دالس الموجود في بورتوريکو لإبعاد الشبهة، رأى أن الموافقة أقرت ضربة واحدة وحسب، وطلب التريث ريثما يتم الاتصال بالسلطات العليا. وإزاء الاصداء التي تركتها المحاولة الأولى حين نفي کاسترو فرار أحد من طياريه، واتهم الولايات المتحدة بالنفاق والوقوف وراء الخدعة، ونوهت موسكو وبكين بخطورة الغزوة على السلام العالمي، شعر الرئيس، على ما يبدو، استحالة تغطية محاولة جديدة بالأسلوب ذاته، ورفض الموافقة على ضربة تالية لا سيما بعد أن نشرت ذي نيويورك تايمز» مقالا فتحت فيه ثغرات في حكاية الفرار.
ورغم رفض الرئيس كينيدي واستهجانه أن تتحول موافقته على دعم سري لمحاولة المنفيين الى تدخل أميركي كامل، استمرت محاولات الانزال في نقاط على الساحل، لا سيما عند خليج الخنازير، من قبل الوكالة، أو من قبل مجموعات أخرى، متعاونة، أو غير متعاونة. وتصدت لها قوات کاسترو بنجاح، وأسقطت طائرات أميركية، وباتت قوات کاسترو الجوية سيدة الجو، كما أصبح إمداد قوات الغزو بالتموين والعتاد مستحيلا. ولإنقاذ الموقف وجد الرئيس جون كينيدي نفسه مضطرة للموافقة على تغطية هجوم مع الفجر مدى ساعة واحدة شريطة أن تمتنع القوات الأميركية عن إطلاق النار ما لم تتعرض الى القصف المباشر. ولكن هذه التغطية لم تفد، حتى أن القوات الجوية المستعارة من نيكاراغوا لم تحل دون إلقاء الغزاة في البحر بحيث كان على الرئيس أن يصدر أمره هذه المرة للبحرية لانتشال المهاجمين الفارين من المياه. في حين كان الرئيس جون كينيدي يستقبل أعضاء الحكومة الكوبية المحتجزين للتخفيف من وقع الهزيمة (وهي الحكومة المؤقتة التي أعلن عنها
13. 
ساعة الغزو) صدر بلاغ باسم هذه الحكومة ينفي أن تكون المحاولة هجوما، ويصفها بالعملية التموينية للمقاومة في كوبا ويحيي .... البطولة. وفي حين قيل أن العملية فشلت لأنها كانت سلسلة من «أخطاء، فإن رآلان دالس وقف أمام رجال الصحافة بعد بضعة أسابيع ينفي أن يكون قد توقع رانتفاضية شعبية دعما للهجوم، وينسب الفشل إلى شيء آخر، لم يتم
والواقع أن حكومة كوبا المؤقتة كانت في هذه الفترة محتجزة في فندق في نيويورك، ممنوعة من الاتصال بالخارج، إلا برجال الوكالة، مما حال دون اتصال رجال الحكومة بالعملاء المتربصين في الداخل، بينما كان أحد رجال الوكالة يضع نصوص الدستور الجديد لاعتماده بحال نجاح الحملة. وهكذا انتهت المرحلة الأولى بفشل ذريع ...
وفي هذه الأثناء كانت طائرة سي - 46 تقلع من مطار الوادي السعيد حاملة الى البحر صناديق من نشرات وعدت الكوبيين بالحرية، بينما كان آخرون من رجال الوكالة بدفنون الوثائق في حفرة في قاعدة «تراکس،، ويدمرون المعسكر بما في ذلك المنشآت الأسمنتية. وفي ميامي عمل رجال الوكالة على اسكات أقرباء رجال الفرقة باثارة قضيتي الأمن القومي وتحرير کوبا، في حين قامت المؤسسات ذات العلاقة بإخفاء أي أثر يدل على اسهامها بالعملية. وراحت واشنطن ترسل الشيكات للارامل اللواتي سکتن على وصم أزواجهن بالمرتزقة. أما المفتش العام للوكالة، الجنرال ليمان كيركباتريك، فوضع تقريرا لا يزال سرية، عزانيه الفشل الى العملاء السودا وحمل «آلان دالس، مسؤولية الفشل، اذ أن كوبا كانت كلها تدعم كاسترو. أما المقاومة له فلم يكن لها وجود إلا في ميامي.
وهكذا مثلت عملية خليج الخنازير، صفعة كبرى على وجه أكبر دولة امبريالية في العالم، والى جميع حلفائها على وجه الأرض. وبقيت کوبا بقيادة رئيسها فيديل كاسترو وشعبها المؤيد لسياسته ونهجه خنجرا في خاصرة الولايات المتحدة ويستحيل منها اقتلاعه.
131 
المراجع
1 - وارين هينکل ووليم تيرنر: رقصة الحرب السرية الأميركية ضد کاسترو
تقديم ميخائيل الخوري. مجلة الجيل، القبرصية. المجلد الرابع
العدد الثاني شباط / فبراير 1983 ص 130 - 12. 2? حافظ ابراهيم خيرالله: والاستخبارات المركزية الأميركية، (ملف عالم
الاستخبارات العدد الخامس، حزيران / يونيو 1971 ص 6 - 14. 3 - وليم کولبي: ثلاثون سنة من عمر السي. أي. أيه، اعداد يوسف الشدياق. مجلة الأسبوع العربي، البيروتية. الاثنين 1984
/ 12 /
24 العدد 1310 ص 54 - 56. 4 - اندرو تولي: وحقيقة الجاسوسية الأميركية ترجمة د. فؤاد أيوب ادار
دمشق. دون تاريخ ص 310 - 331. 5. جون مارکس وفيكتور مارشيتي: «الجاسوسية تتحكم بمصائر الشعوب
CIA  الدار المتحدة للنشر. الطبعة الأولى. بيروت 1989.
الخنجر الكوبي في البلعوم الأمريكي





مصادر و المراجع :

١- موسوعة الامن والاستخبارات في العالم

المؤلف: د. صالح زهر الدين

الناشر: المركز الثقافي اللبناني للطباعة والنشر والتأليف والترجمة - بيروت

الطبعة: الاولى

تاريخ النشر:2002 م

تعليقات (0)

الأكثر قراءة

ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلا … ويأتيك بالأخبار من لم تزوّد
المزید
فصبرا في مجال الموت صبرا … فما نيل الخلود بمستطاع
المزید
حننت إلى ريّا ونفسك باعدت … مزارك من ريّا وشعباكما معا
المزید
أفاطم مهلا بعض هذا التدلل … وإن كنت قد أزمعت صرمي فأجملي
المزید
إنّ أباها وأبا أباها … قد بلغا في المجد غايتاها
المزید