المنشورات
جاسوسية الفضاء وحلم السيطرة على الأرض
عندما ظنت الولايات المتحدة الأميركية أنها أصبحت سيدة هذا العالم، وبيدها وحدها مفتاح هذا الكون، كان عالم الالكترون يطل بوجهه، في خلق عملاء للتجسس من صنع الآلة التي ترى وتسمع وتتذكر، ولكنها لا تتكلم إلا مع هؤلاء الذين يفهمون لغتها الغريبة، ولكن ليس على الأرض وحدها، بل وفي الفضاء أيضأ، الذي تحول بدوره إلى مسرح للصراع، في سبيل السيطرة على الأرض ذاتها، ولم تخرج طائرة أول جاسوس فضائي اميركي عن هذا الاطار، عندما ارتجف العالم كله يوم وقع أسيرا في يد السوفيات، بعد اصابة طائرته التجسسية العملاقة بصاروخ روسي فوق أراضي الاتحاد السوفياتي.
فمن هو جاسوس الفضاء هذا؟ وما هي أسرار مهمنه؟.
كان الجو صحوة، والسماء زرقاء صافية، عندما كان رجال الماجور ميهايل نورونوف، يستجمون تحت أشعة الشمس المتعلقة فوق جبال والأورال». وكان لهؤلاء الجنود كل المبررات في أن يحلموا بإجازة بعد أن قضوا عددا من الأسابيع في تمارين مجهدة وعمليات صعبة، وفيما عدا ذلك فقد كان يبدو بأن العالم جميعه يستدير بوجهه لمقابلة فترة من السلم، اذ كان الرئيس السوفياتي نيكيتا خروشوف) على وشك بدء الاحتفالات بأول مارس مع كل ما تحمله هذه المناسبة من البهجة والاحترام لعيد الثورة السوفياتية. وكان خروشوف في ذات الوقت يستعد مع بطانته من مستشارين وأمناء سر ومترجمين ومجموعة من أفراد المنظمات السرية لكي يستقلوا الطائرة جميعا
149 للذهاب الى باريس، حيث كان من المقرر أن يعقد مؤتمر القمة هناك وسيحضر الزعيم المسيطر على جمهوريات الاتحاد السوفياتي هذا الاجتماع مع كل من الجنرال ديغول والرئيس أيزنهاور ورئيس وزراء بريطانيا ماكميلان. إنها لحظة من لحظات التاريخ البارزة، ذلك لأنها تعني العمل على تخفيف حدة التوتر التي كان يعيشها العالم، ولأن هناك .... مناقشات تدور بين الأقطاب من أجل خير الوجود في العالم الحر وفي العالم الشيوعي. وكان الرجال يفكرون جديا، ويحلمون بنفوسهم ويؤمنون بضمائرهم في أن يقود هذا الاجتماع التاريخي والذي سيعقد في ربيع عام 1960 للنجاح في العمل على محو الخوف من وقوع الحرب الذرية.
وفي هذه الفترة، وقع ذلك الحادث التاريخي الذي اهتز له العالم بأجمعه ... ابتدا ذلك الحادث عندما تمكن رجال الماجور الورونوف، من أسر أول جاسوس أميركي في الفضاء. فهناك، وعلى بعد آلاف الكيلومترات من باريس سجلت شبكات الرادار السوفياتية الشارة الأولى بوجود هدف غير واضح المعالم. تري .. هل هي غيمة عابرة؟ ... هل هي طائرة روسية؟ ... أم هو خطا وقعت فيه أجهزة مراقبتهم الخاصة؟ ... وبدأت عقارب الأجهزة تدور في دوائر ... المراقبة، بعد أن تم الضغط على مفاتيح العمل وتردد صوت الانذار على طول شبكات الدفاع السوفياتية المضادة للطائرات.
وقال الماجور «فورونوف»:
إنه ليس صحنأ طائرة، إنها طائرة غريبة ... انظروا ... انظروا .. إنها تسير في خط متعرج ... إنه يحاول أن يغير اتجاهه ... نعم ... انظروا ... إنه يحاول أن يقوم بحركة مستديرة كبيرة فوق قاعدتنا لقذف الصواريخ .. ضعوه في خط التسديد: نار ..
وحاول الطيار أن يكون أكثر دهاء من شبكات الدفاع السوفياتية المضادة للطائرات ولكن، لم يعد هناك إلا أمل ضعيف للنجاة. وتمسك فرنسيس غاري باورز، بهذا الأمل، اذ كان يحلق على ارتفاع خمسة وستين ألف قدم
15.
وهو على متن طائرته التي تفوق سرعتها سرعة الصوت، وبعد أن اجتاز الباکستان قادما من النروج، بحيث لم يظهر في رحلته هذه فوق شبكات الرادار إلا خيط من الغبار والدخان.
وأعطيت النار إلى الصاروخ، فانطلق بعد أن اكتسب سرعته واتخذ اتجاهه نحو السماء. ونظر فورونوف الى أجهزة المراقبة، فرأى نقطتين تتجه كل منهما نحو الأخرى. وفجأة اشتبكت المناظر على شاشة الرؤيا.
لقد أصيب الهدف ...
وأسرع الماجور نورونوف الى الخارج، ونظر من خلف عدسات منظاره المكبر في اتجاه السماء، وكانت القطع المعدنية المتناثرة تلتمع تحت قرص الشمس، ثم ظهرت نقطة سوداء صغيرة من تحت مظلة واقية للسقوط ..
وقع فرنسيس باورز، أسيرا في أيدي رجال الماجور فورونوف، لأنه اخترق بطائرته من طراز دير 2 - U، المجال الجوي لروسيا، بعد أن قطع مسافة لا تزيد عن الفي کيلومتر من قاعدة اطلاق الصواريخ السوفياتية.
يعتبر الكابتن فرنسيس غاري باورز، قائد أحدث طائرات التجسس الأميركية، أحدث جاسوس في العصر الحديث لأنه لم يضطر إلى التنكر أو التدرب على لغات وعادات بلاد .. ثانية، ولم تجر له أي عملية تغيير معالم على وجهه، ولم تعط له تعليمات الالتقاء مع جواسيس آخرين وکلمات تعارف واحتياطات أمن مطلقا. كل ما هنالك أنه كان طيارة ممتازة كلفه رؤساؤه بأداء بعض المهمات الخاصة، حيث ارتفع راتبه الشهري من 700 دولار الى 2000 دولار، وأصبح يرتدي اللباس المدني عوضا عن الملابس العسكرية. ثم أجريت له بعض التدريبات الخاصة وأرسل للإنضمام الى سرب من الطائرات الأميركية الخاصة في حاضنة في تركيا، ومنحوه الرقم (10). وهناك أفهمه رؤساؤه بأن عليه الطيران على طول الحدود السوفياتية للحصول على المعلومات والصور التي تلتقطها طائرته لمواقع الرادار والصواريخ والراديو.
101 ومن راضنة، بدأ رحلاته التجسسية حول الاتحاد السوفياتي بطائرته المجهزة به تجهيزة خاصا، يمكنها من الارتفاع في الجو ختى علو شاهق. كما كانت
تحتوي على آلات خاصة لالتقاط الاشارات اللاسلكية وخزنها. ثم جرى نقله بعد ذلك الى ابيشاوره في الباكستان ليقوم بنفس عمله في قيادة طائرة ابو 2. «U 2» فوق الاتحاد السوفياتي، وهذه المرة من جنوبه الى شماله، ثم النزول في ايورو، من اعمال النروج، وفيها قاعدة أميركية ليقدم ما عنده من الأفلام، ومن ثم يعاود طيرانه بالعكس وهكذا ...
اما اذا تفحصنا طائرته، وجدنا فيها من أحدث المخترعات التي توصل اليها العقل البشري (حيث لم يسمح الطيران الأميركي بنشر صورة لها. وقد نشر السوفيات حطامها في المعرض الذي أقاموه لإتاحة الفرصة للمواطنين السوفيات للإطلاع على حطامها). فهذه الطائرة مجهزة بألات تصوير تستطيع التقاط ادق الصور ولو كانت تبعد آلاف الأميال. كما كان باستطاعة الطيار الضغط على زر صغير فتتحرك الكاميرا التي تصور كل ما يبدو تحتها من المناظر في الأرض السوفياتية، وكانت هذه الكاميرا آية في الدقة والاتقان، بالإضافة إلى كاميرا أخرى تحمل الرقم (73 ب) وتستطيع التصوير، والطائرة تسير بسرعة الف كيلومتر في الساعة وبدقة تامة. هذا من جهة أدوات التجسس فيها. أما بالنسبة للإحتياطات المتخذة من أجل عدم إطلاع العدو على الدقائق الميكانيكية فيها فهي تحتوي على مادة ناسفة حالما يتمكن الطيار من الهبوط منها بمظلة الأمان. غير أن الكابتن نفسه يحمل سمة قاتلا، عليه استعماله عندما يشعر بالخطر بحدق به، ولكيلا يعترف بشيء عن مهمته نتيجة التعذيب، أما اذا اضطر للهبوط في مكان بعيد ووجد باستطاعته النجاة
فما عليه إلا ارتداء لباس الفلاحين الذي يحمله مع بعض النقود السوفياتية (وبعض القطع الذهبية والساعات، لاستعمالها «رشوة، لمن يساعده، بالاضافة / الى حمله «مسدسة حديثة كاتمة للصوت»، وبعض الأغذية الضرورية المصغرة - بعضها حبوب فيها غذاء كامل - ومصباحا كهربائية، وزورقا ينفخ بالفم لاستعماله في اجتياز نهر أو بحيرة أو عند السقوط في البحر.
152 ومنذ ابتداء طيران الكابتن باورز في أول مارس 1990 فوق الاتحاد السوفياتي، وهو يقوم بعمله خير قيام حيث أن رؤساء، طمأنوه إلى أن لا الصواريخ ولا المدفعية المضادة السوفياتية تستطيع اصابة طائرته، وهي في هذا العلو الشاهق. ولكن حدث ما لم يكن بالحسبان أثناء وصوله الى منتصف الطريق في الاتحاد السوفياتي، عندما أصيبت طائرته وفقد السيطرة عليها. وعلى بعد أربعة آلاف متر من سطح الأرض قفز منها «باورز، بالمظلة الواقية فوصل الأرض سالمة، وقبض عليه الأهالي الذين هبط في منطقتهم. ولم يقاوم، بل لم يستعمل السم المزود به لمثل هذه الحالات. أما الطائرة فقد تحطمت لدى وصولها للأرض فسارع السوفيات إلى جمع حطامها وإحضار طاقم الصاروخ الذي أسقطها، وأخذوا لهم الصور التذكارية. ومن ثم نقلوا حطام ... الطائرة إلى معرض خاص افتتح في موسكو لمدة شهر شاهد فيه آلاف السوفيات طائرة التجسس الأميركية ايو 2 - U، كل ق حدة حتى أدوات ومسدس الكابتن «باورز، عرضت في هذا المعرض. ايو 22
أما بعد اعتقاله، فقد نقل الطيار الأميركي إلى المستشفى حيث عولج - العدة أيام ثم جرى نقله الى السجن العسكري، حيث بدأت محاكمته، فوجده و القضاة يحب الكلام. وقد اعترف بأن رؤساءه أخبروه عندما انتدبوه للعمل " معهم، بأن مهمته الأولى هي الطيران فوق الاتحاد السوفياتي للحصول على المعلومات، وصور الراديو ومواقع الصواريخ. واعترف أمام قضاته السوفيات بأنه مذنب، وأنه كان يعرف حقيقة مهمته التي كان مكلفة بها. وأنه وقع عقدا
أفشى سرة من الأسرار التي يشاهدها أو يطلع عليها أو يعلمها بحكم تعاقده مع المخابرات، فسيعاقب بالسجن عشر سنوات أو بغرامة عشرة آلاف دولار، أو بالعقوبتين معا. وقد انتهت محاكمة «باورز، في شهر آب/أغسطس 1960 حيث حكم عليه بالسجن خمسة عشر عاما نظرا لاعترافه الصريح وندمه، ومن ثم أنزلت العقوبة الى عشر سنوات. وقد استغل «خروشوف، حينئذ هذه الحادثة التي اعتبرها تعديا على الاتحاد السوفياتي بإرسال أميركا طائرات تجسس
103 علنا. ولكنه أعلن لدى وصوله إلى باريس بأنه قد عفي عن «باورز، الذي كان يقيم يومها في سجن من سجون روسيا. كما أعلن هذا الرجل القصير القامة، ذو الشخصية المرحة وهو يضرب بجمع يده، بأن الموت كان العقوبة الوحيدة الملائمة لجاسوس من طراز «باورز»، وأن الولايات المتحدة الأميركية وحدها هي التي تتحمل مسؤولية مثل هذا العمل العدواني غير الودي، وارتجف العالم لهذا التصريح اذ بينما كان من المأمول له عقد مؤتمر القمة هذا فوق محيط هاديء للتفاهم، انقلب الى مؤتمر يعقد فوق برميل من البارود.
وألقى الرئيس أيزنهاور بحجته وهو يلعب ببعض الأوراق على طاولة المؤتمر، فيقول: نعم، إن الولايات المتحدة قد عملت على تنظيم التجسس في الفضاء لأنها الوسيلة الوحيدة لتأمين سلامة الخمسين دولة التي تتألف منها الولايات المتحدة بالاضافة لدول العالم الحر ضد هجوم مفاجيء يقوم به الطرف الآخر من خلف الستار الحديدي، وربما أن الزعيم السوفياتي لم يرغب في الاستماع لمشروع الأمم المتحدة للقيام بالتفتيش الجوي فوق كل بلاد العالم، فإن جاسوسية الفضاء هي الشكل الوحيد الذي بقي للولايات المتحدة کي تحافظ على أمنها، كما أنها من صميم السياسة الأميركية».
وبذا فإن الرئيس أيزنهاور عمل على تحمل مسؤولية أعمال «فرنسيس باورز، في الوقت الذي كان فيه الاتحاد السوفياتي قد تمكن من حبك شبكة للجاسوسية تمتد حدودها من طرف العالم الحر، الى طرف الآخر، وقد
فال روزنبرغ، من الحصول على أسرار أول قنبلة ذرية ولكن جاسوسية الفضاء هي نوع جديد من أنواع الجاسوسية التي تحمل الكثير من المخاطر للجنس البشري.
وأخيرة، فإن الكابتن «باورزه كان قد جرى تبادله مع جاسوس سوفياتي كبير هو الكولونيل «رودولف ايفانوفيتش ايبله من المخابرات السوفياتية العاملة في مدينة «بروکلين، في الولايات المتحدة، وكان معتقلا في أميركا بعد صدور الحكم عليه بالسجن لمدة ثلاثين عاما. وقد تم التبادل في العاشر
: ? ? من شهر فبراير 1992. هذا وستبقى ذکري فرنسيس باورز، ماثلة أبدا في الأذهان، وسيبقى موضوعه جديرا بالمناقشة دائما، ولكنه في الواقع ليس إلا رمزا لعصرنا الحاضر الذي تمكن من الوصول الى ابعاد جديدة من الحدود، هذا الرجل الشاب والذي كان من مواليد جورجيا والذي تحمل كثيرا من الآلام في سبيل بلاده، سيبقى اسمه محفوظا بين اسماء أبطال أميركا، بالاضافة الى أن الروس قد اتخذوه .. أيضأ، کرمز لجاسوسية الفضاء على الرغم من كونه جاسوس اميركي من جواسيس الفضاء ومن الأميركيين لحما وعظمة، ولان اسمه قد أصبح مثالا للتقدم الفني، فقد عملت روسيا على تخليده بمركبتي الفضاء المعروفتين واللتين تحملان اسم انمر ساموس ورقمر ميداس،،
إلا أن الدروس التي يمكن أن نستفيدها من جواسيس الفضاء الجدد في هذه الأيام هو وجود هوة مرعبة بين امکاناتنا في إنشاء الآلات والأجهزة، وبين مقدرتنا على ايجاد حلول لمشاكلنا الانسانية والتغلب على مصاعبنا السياسية، ولذا فليس من الممكن أن نحلم في سلم دائم، طالما أن هذه الهوة تفصل بين التقدم الفني الذي أحرزه القرن العشرين، وبين غريزتنا البدائية في القتال والتي لم نتمكن من محوها
فحتى بداية هذا القرن، كان حلم الرجل في أن يستطيع التحليق، وكان هذا الحلم بمثابة خيال مجنون، والآن ها نحن نشهد الطيران بسرعات تفوق سرعة الصوت، ومع ذلك فإن العلماء يتابعون أبحاثهم للوصول بهذه المركبات کي تسير بسرعة الضوء، ولقد حدث كل ذلك في مدة لا تزيد عن الستين عاما. ولكن اكبر حلم يعيشه الانسان في عالم اليوم، هو الا يقوم أي عائق في سبيل اعتراض هذا التقدم حتى الوصول الى نهايته.
وسيصل اليوم الذي سيشهد من سنتركهم بعدنا من الأطفال الصغار، العراك فوق ملعب كرة القدم في كوكب القمر، أو على الملاعب الأولمبية الكوكب الزهرة والمريخ وليس على ضفاف الراين المخضب بالدماء أو في غابات أرغون التي دمرتها القنابل أو على جبال ايطاليا الباردة أو في کوريا.
100
المراجع
1 - کيرت سينجر أعلام الجاسوسية العالمية، ترجمة بسام العسلي. دار
اليقظة العربية، دمشق 1990. 2 - سعيد الجزائري والمخابرات والعالم. دار الحياة. الطبعة الثانية. بيروت. دون تاريخ 3 - اندرو تولى حقيقة الجاسوسية الأميركية، ترجمة د. فؤاد أيوب. دار
دمشق. دون تاريخ.
???
مصادر و المراجع :
١- موسوعة الامن
والاستخبارات في العالم
المؤلف: د. صالح
زهر الدين
الناشر: المركز
الثقافي اللبناني للطباعة والنشر والتأليف والترجمة - بيروت
الطبعة: الاولى
تاريخ النشر:2002
م
30 مارس 2024
تعليقات (0)