المنشورات

أسرار حرب الخامس من حزيران / يونيو 1997

انطلاقا من المبدأ الصهيوني الأميركي القائل با ران الأحذية الثقيلة هي التي تصنع التاريخ، قامت حرب الخامس من حزيران عام 1967 بين العرب واسرائيل.
فما هو سر هذه الحرب؟ وكيف خطط لها؟.
ففي وقت مبكر من صباح الأول من يونيو 1997، رن جرس الهاتف في منزل ريتشارد هيلمز، مدير الاستخبارات المركزية الأميركية (سي. أي. ايه.) ودهش هيلمز لذلك لان الاتصال به کان عبر خط الهاتف الشخصي غير المدرج في القوائم المعروفة. وتناول هيلمز سماعة الهاتف، فعرف على الفور الصوت القادم من الطرف الآخر، وهو صوت «مئير عميت، رئيس الاستخبارات الاسرائيلية، ورفيقه منذ أيام الدراسة في جامعة كولومبيا، والذي بقي رئيسا للموساد منذ سنة 1992.
وعرف هيلمز من نغمة الصوت أن المحادثة لم تكن حوارة ودية وعادية.
قال عميت: أنا مضطر لرؤيتك يا ديك، أتحدث اليك من حجرة للهاتف من المطار، لا يدري أحد أنني هنا، فقد دخلت بالطائرة وانتهى الأمر .. والأمر ملح للغاية .. وبالرغم من المفاجأة، استعاد هيلمز رباطة جاشه بسرعة وأجاب بقوله: انني مشغول بإجراء بعض المقابلات في هذا الصباح، ولكني سألتقي بك في وقت متأخر من هذا النهار، واذا تمكنت أنت
117 في أثناء ذلك من السفر الى مقرنا في - لانغلي - فسوف اجعل بعض رجالنا يقابلونك، وسيبلغونني خلاصة الموضوع الذي بدور في خلدك قبل وصولي اليك اذا اخبرتهم به.
وأجاب مئير: سأكون هناك.
كانت هذه الزيارة لمثير عميت غير عادية، وتمثل الذروة في الاضطرابات التي دامت عدة أسابيع في تل أبيب، خاصة بعد أن أقدم الرئيس المصري عبد الناصر على إغلاق مضائق نيران في وجه الملاحة الاسرائيلية. وقد فسر قادة اسرائيل من عسكريين ورجال استخبارات هذه الخطوة بان فرصة اسرائيل الوحيدة في التغلب على خصمها الذي يفوقها في العدد والعدة تكمن في أن تكون البادئة بالهجوم،،
عرض مثير عميت وجهة نظره بكل ما لديه من قوة، على رئيس الوزراء، ولكن ليفي اشكول، الحذر، تعرض لحملة انتقادات عنيفة قامت بها الصحف، وقام بها مستشاروه العسكريون الأكثر ميلا الى العنف. ومن دلائل الاحباط في أوساط مستشاري اشکول، ذلك الحادث المثير الذي وقع أثناء مؤتمر عقد في آخر مايو في مكتب رئيس الوزراء عندما وصل الجنرال أربيل شارون الى المؤتمر ومسدسه مشدود الى خاصرته، وعندما لفت رئيس المجلس نظره الى أن الوزراء لا يحملون السلاح في أثناء الاجتماعات في العادة، رمى شارون مسدسه على المقعد وصاح بصوت عال، لابد أن يكون اليفي اشکول قد سمعه: وان كنت تظن أن من الضروري استعمال المسدس لإيقاف رئيس الوزراء، فأنت أحمق، ما عليك إلا أن تصيح وسيولي الادباره. وادخل هذا الهياج العارم الكاتبة الى قلب اشکول، لكن الأوضاع تردت، وسارت من سيء الى أسوا، ومما زاد الطين بلة بالقياس الى اسرائيل، التحذير الذي وجهه الجنرال ديغول لها بألا تقوم بمهاجمة العرب .. وكان صدور هذا التحذير عن أكبر أصدقاء إسرائيل في السنوات العشر الماضية، وعن مورد ... تسليحها الوحيد، مدعاة لإثارة القلق البالغ لها.
198 وفي ضوء هذه الخلفية، قرر مثير عميت القيام بزيارته السرية الى واشنطن. فقد كان متأكد من أن مفتاح النصر في الحرب القادمة هو في يد الولايات المتحدة، وكان متأكدا كذلك من أن أبا ايبان قد عجز عن اقناع الرئيس جونسون بخطورة الموقف. وكان يعتقد، كما قال من بعد أن إبقاء اسرائيل رهن بنتائج محادثاته مع موظفي وكالة الاستخبارات المركزية. بلانغلي - في فرجينيا ..
وفي غرفة لإعداد المعلومات في - لانغلي - واجه مئير عميت جماعة من كبار خبراء وكالة الاستخبارات المركزية لشؤون الشرق الأوسط، من بينهم
جيمس انغلتون، الذي كان على اتصال وثيق با «روبرت كلايتون ايمز، مندوب الوكالة في السفارة الأميركية في بيروت، والذي قضى بحادث تفجير السفارة في ابريل 1983، وقال لهم باقتضاب: استقوم حرب عما قريب وجيشنا الان مجند في حالة تعبئة عامة.
ليس في وسعنا البقاء على هذه الحال أمدة طويلا، في حين يتردي اقتصادنا لأن جيشنا من المدنيين، بل ليس لدينا الأن قوة بشرية لجني الغلال وقد أخذ الشمندر يتعفن في باطن التربة.
علينا أن نتخذ قرارات سريعة، واذا لم نقم بضرب المصريين فسيقضون علينا ....
وانتقل عميت بعدئذ إلى تقديم تفصيلي للتحليل الذي يتصوره الموساد اللوضع العسكري، وفي كل مناسبة، كان الأميركيون المقابلون له يسالونه ويستجيبونه بدقة .. وكانوا يبدون هادئين تماما، وكانهم كانوا يسالون بتلطف عن صحة عائلته، حين طلبوا منه أن ينبئهم عدد الخسائر من الموتى الذي تتكبده اسرائيل اذا قامت بالهجوم اولا والعدد المقابل له اذا اطلق المصريون الطلقات الأولى.
ورد عميت: اذا تمكنا من توجيه الضربة أولا فستكون اصاباتنا خفيفة
199 نسبيا، أي بضع مئات من القتلى لا أكثر، أما اذا جلسنا ننتظر أن يبدأوا هم بالهجوم فسنكسب الحرب بالرغم من ذلك، ولكن خسائرنا ستقارب عشرة آلاف قتيل عندئذ. ولم يتمالك رجال الاستخبارات المركزية أنفسهم من التأثر
بالدليل المنطقي الهاديء الذي قدمه مئير عميت، وهم لم يكونوا في حاجة. الى من يخبرهم بفداحة الكارثة التي ستحل باسرائيل ان هي خسرت عشرة
آلاف رجل، ولكنهم واصلوا توجيه الضغط عليه، ولما أنهى عميت عرض موقفه أخرجوا ما عندهم من خرائط ومعلومات قدمتها لهم شبكة عملائهم ودبلوماسييهم.
وارتاح عميت لأن كل شيء في معطيات وكالة سي. اي. ايه. كان يعزز ما قدمه هو من معطيات، وعرفوا أنه لم يكن يمكر بهم. وفي واقع الأمر، وجد عميت أنهم تقبلوا كل ما أدلى به من حجج ما عدا واحدة منها. وقال المتحدث الأساسي باسمهم لعميت: نعتقد نحن أن ... المصريين منتشرون في الصحراء، للقيام بدور دفاعي، وقد وافق خبراؤنا العسكريون على هذا التفسير بعد دراسة جميع الصور الجوية التي أخذت لجحافلهم وقواتهم العسكرية الأخرى، ولا .. نرى أنهم سيقومون بالهجوم. ورد عميت على ذلك مهتاجا: «وأنا أقول لكم أن خبراءنا نحن يرون أن دور المصريين هو دور هجومي، فلماذا يزحفون في صحراء سيناء نجاة للدفاع عن أنفسهم؟ ورد رجال السي. اي. ايه. على ذلك ردا منطقية هادئة: وذلك لأنهم مقتنعون بأنكم أنتم ستقومون بمهاجمتهم هم.
وكانت حدة الحوار تشتد أحيانا، ولكن مثير عميت تمكن في النهاية من کسبهم الى جانبه. وقال عميت مدافعا عن وجهة نظره: ا ولا أهمية للفروق التي تتحدث عنها الكتب بين الموقف الدفاعي والموقف الهجومي، ونحن مجبرون على التعبئة مهما كانت طبيعة نواياهم، وليس في وسعنا أن ندع الجيش المصري يستقر على حدودنا، ونحن نمتي أنفسنا بأنه ربما يمثل بعض أدوار اللعب والتمثيل، لقد اضطررنا إلى استدعاء
170 الاحتياط بعد أن زحفوا داخل سيناء، وأنتم تعلمون صحة هذا القول من مصادركم الخاصة: نهم بدأوا العمل ونحن استجبنا له، والأمر سواء لدينا، مهما كانت المناورات التي يمارسها المصريون، فسيمني اقتصادنا بالدمار اذا بقي البلد بأسره في حالة حرب إلى أمد ما ...
بيد انكم تعرفون، بدون تصريح مني، يضيف مثير عميت) أن القوات التي تمثل دورة دفاعيا تستطيع الانتقال الى دور هجومي في غضون دقائق معدودات، ومهما يكن شأن المشروع الذي خطط له المصريون أولا، نهم بعتقدون أن في وسعهم الحاق الهزيمة بنا، وذلك ما دأب الروس على قوله الهم منذ أسابيع، ولن يغير هؤلاء انكارهم فجأة ويبلغوا دمشق والقاهرة بضرورة سحب القوات. أن موسكو تريد الحرب، وهي قد أقنعت العرب بأن الوقت المناسب لها قد آن أوانه. (انتهى كلام مثير عميت).
كان الوقت بعد الظهر انذاك، وكانت الجلسة المرهقة ما زالت معقودة منذ الساعة التاسعة صباحا. نقرر المجتمعون الاستراحة قليلا لتناول القهوة والشطائر. وعندما استأنفوا المباحثات أحس مثير عميت بأن خبراء وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية (سي. اي. ايه.) ميالون للإتفاق معه، وكان له من معرفته المهنية ما أنهمه أن رؤيتهم للأمور على هذا النحو انما تنطلق من تقييمهم لها في ضوء مصالح الولايات المتحدة الأميركية، ولم يكونوا ممن يعدلون عن رأيهم للحجج المتصلة بأمن اسرائيل.
بيد أن رئيس الموساد كان عاجزا عن ضبط انفعالاته عندما وصل ميلمز فقال: انظر يا ديك، لسنا قادرين على احتمال الوضع بعد الآن، فاسرائيل بلد صغير، والموضوع هو موضوع بقائنا، وأنا أحدثك الآن عن عائلتي وعن زوجتي وبناتي الثلاث. وعن عائلات جميع من يرتدون البزات العسكرية من الرجال الأن. ولم يكن هيلمز في حاجة الى الاقناع. ففي الوقت القصير الذي انقضي بين وصوله الى المقر العام، وبين مقابلته لعميت كان أحد معاونيه قد نقل اليه خلاصة الموضوع، ووافق هيلمز على وجهة نظر زميله
171 القديم في الدراسة، وقال عميت: أريد منك مقابلة مكنمارا، وزير الدفاع الأميركي. وفي الساعة السادسة من بعد ظهر ذلك اليوم ادخل مثير عميت الى مکتب روبرت مکنمارا. وللمرة الثالثة ذلك النهار اضطر رئيس الموساد للدفاع عن وجهة نظره، وبالرغم من تعرضه للحقائق في هدوء ظاهر إلا أنه كان يعي أهمية الانطباع الذي يتركه في نفس مكنمارا. وفي بعض الأحيان لم يتمالك نفسه من البوح بما يختلج في نفسه من توتر.
وعندما أوشك مثير أن يفرغ من دفاعه، سرت رعدة الخوف في جسمه، فقد بقي مكنمارا جالسا طوال الوقت دون أن ينبس ببنت شفة، ولم تصدر عنه أية إشارة، حتى بتحريك حاجبيه، تدل على أنه تأثر أو اقتنع بأقوال زائره.
وفي تلك اللحظة، فتح أحد المساعدين الباب، معتذرة، وسلم ميکنمارا برقية عاجلة نفتحها وقراها بعناية، ثم نظر إلى مئير عميت وقال بهدوء: لقد تم تعيين موشيه دايان وزيرا للدفاع في اسرائيل.
وفهم رئيس الموساد على الفور ما يترتب على هذا القرار من نتائج. فقد كان دايان نصيرة مطلقة لفكرة الهجوم، ويعني ادخاله في مجلس الوزراء أنه سيلقي كل ثقله وراء ذلك العمل، وإذن فقد أذنت أسابيع التردد في اسرائيل بالانتهاء
وما كادت تلك الخواطر تمر كالبرق في ذهن عميت حتى قال مكنمارا: انني أعرف دايان حق المعرفة. فقد التقيت به عندما كان في واشنطن وأنا مسرور لتعيينه في منصبه، أرجو أن تبلغه تمنياتي له بالنجاح،،
كانت الكلمات التي تفوه بها مكنمارا تتصف بالبراعة والمواربة، ولكن عميت أدرك فحواها تماما: أن الولايات المتحدة ستقف الى جانب اسرائيل اذا قامت بتوجيه ضربة مسبقة الى سوريا ومصر
وتوجه رئيس الموساد على عجل من البنتاغون الى السفارة الاسرائيلية،
 حيث كتب مع يوسف غيفا ملحق اسرائيل العسكري محضرة طويلا عن نشاطات يومه ذاك ثم ارسل الى تل أبيب برقية بالشيفرة هذا نصها:
إن الأميركيين يعتبروننا دولة ذات سيادة. ويعتقدون أن لنا الحق في اتخاذ أي قرار نراه ضروريا لبقائنا، ولن يوجهوا الينا اللوم اذا نحن نمنا بالهجوم أولا، وهم يتفهمون دوافعنا، وأنا على ثقة من أنهم سيقومون بردع ايجابي للروس اذا فكر هؤلاء في التدخل المباشرة.
وكان عميت متلهفة للعودة الى اسرائيل. فانطلق الى المطار، ودس نفسه في احدى طائرات شحن العال»، وكانت تحمل شحنة من أقنعة الغاز التي طلبها القادة العسكريون بإلحاح خشية أن يستخدم المصريون حرب الغازات التي يزودهم الروس بأدواتها. وكان الراكب الوحيد في الطائرة هو ابي هرامان، سفير اسرائيل في واشنطن.
وصباح الخامس من يونيو 1967، كان العدوان الصهيوني الغادر لار على الدول العربية مفاجئة ومباغتا، تمشيا مع المبدأ القائل «الضربة لمن _ سبق». وقد استطاع الاسرائيليون فعلا تحديد أهدافهم بدقة متناهية ووجهوا در اليها ضربتهم المميتة، خاصة وأن كثيرا من المعلومات التي ضمنت نجاح هذه و الهجمات الخاطفة، انما حصل عليها الاسرائيليون من قبل جاسوسهم الكبير لارا في مصر «ولفغانج لوتز، مروض الخيول، والذي كان يقبع يومذاك في سجن ليمان طره، بعد إلقاء القبض عليه من قبل المخابرات المصرية، حيث أطلق سراحه عام 1968، بعد مبادلته بأسرى مصريين اعتقلتهم اسرائيل في حرب يونيو، ولولا الدعم الأميركي الدائم والمتواصل، لما استطاعت اسرائيل تحقيق نجاحاتها في هذه الحرب الخاطفة. فهي التي تعتبر احدى ولايات أميركا خارج الحدود، والأكثر أهمية بينها جميعها، في الداخل والخارج، كما تعتبر في الوقت نفسه خنجر، مغروزا في قلب الوطن العربي، يمعن به تقطيعة وتمزيقا. واليد التي تمسك نبضة هذا الخنجر هي اليد الأميركية ذاتها.
172
المراجع
ا. دينيس آيزنبرغ وآخرون والموساد جهاز المخابرات الاسرائيلية السري
المؤسسة العربية للدراسات والنشر ودار الجليل للنشر. الطبعة الأولى
بيروت 1981. 2 - سعيد الجزائري والمخابرات والعالم، منشورات دار الحياة. الطبعة
الثانية، بيروت. دون تاريخ. 3- نزار عمار والاستخبارات الاسرائيلية، المؤسسة العربية للدراسات
والنشر. الطبعة الأولى. بيروت 1979.
174








مصادر و المراجع :

١- موسوعة الامن والاستخبارات في العالم

المؤلف: د. صالح زهر الدين

الناشر: المركز الثقافي اللبناني للطباعة والنشر والتأليف والترجمة - بيروت

الطبعة: الاولى

تاريخ النشر:2002 م

تعليقات (0)

الأكثر قراءة

ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلا … ويأتيك بالأخبار من لم تزوّد
المزید
فصبرا في مجال الموت صبرا … فما نيل الخلود بمستطاع
المزید
حننت إلى ريّا ونفسك باعدت … مزارك من ريّا وشعباكما معا
المزید
أفاطم مهلا بعض هذا التدلل … وإن كنت قد أزمعت صرمي فأجملي
المزید
إنّ أباها وأبا أباها … قد بلغا في المجد غايتاها
المزید