المنشورات
غانا الافريقية
بين السندان الأمريكي والمطرقة الصهيونية
عندما يضرب الغرور راس احد من الناس في أي عمر من العصور، يشعر وكأن الأرض كلها أصبحت في متناول يده. هذا هو الحال بالنسبة الشخص، فكيف اذا كان ملازمة لقوة عظمي نخر الغرور رأسها، وتغلغلت العنصرية في شرايينها ودمها ولازمت العظم؟.
تلك هي حقيقة الولايات المتحدة الأميركية التي احترفت التمييز العنصري، حيث كان الزنوج الأميركيون من أكبر ضحاياها، في الوقت الذي عمل فيه الرئيس ابراهام لنكولن كل جهده ونجح في تحرير العبيد من كل المظالم التي كانوا يرزحون تحتها، ولقب بعدها با محرر العبيد، إلا أن ذلك لم يرق لرؤساء اميركا ونظامها الرأسمالي، الذي تتوالد فيه الأزمات يومية، وبعد أن تسلطن على دول هذا المعسكر بأجمعه، واحتل مرتبة رعدو الشعوب رقم واحد». ولم يكتف بتمييزه العنصري داخل حدوده، بل عمل - وما زال يعمل جاهدة - على تعميم هذه الظاهرة، وعلى الصعيد الكوني، وبصورة خاصة في القارة الأفريقية. وعندما أصبح نظام غانا، نظاما آمن فيه الشعب والتف حول مجلس الخلاص الثوري، برئاسة الملازم وجيري رولنغز، بدأت المخابرات الأميركية، بالتعاون مع المخابرات الصهيونية ومخابرات جنوب أفريقيا تنشط للإطاحة بالنظام الجديد، بعد أن وضعته وزارة الخارجية الأميركية أثناء فترة الجنرال الكسندر هيغ على قائمة الأنظمة غير الصديقة ...
197 على هذا الأساس تفجرت الأزمة بين الولايات المتحدة الأميركية وحكومة غانا الأفريقية في شهر يوليو 1985، كنموذج جديد على الأزمات المتعددة التي وقعت فيها الدبلوماسية الاميركية نتيجة لتورط وكالة المخابرات المركزية في أعمال معادية للحكومات المختلفة. والملاحظ أن الإعلان الغربي قد فرض نوعا من التعتيم على أخبار هذه الأزمة وتطوراتها. ومنذ أن بدأت بوادر الأزمة تنعكس داخل غانا نفسها بدأ في الهرب عدد من قادة الجيش والبحرية في غانا نتيجة تورطهم في عمليات تجسس يعاقب عليها قانون البلاد ...
وفي الوقت الذي اتجهت فيه أجهزة الإعلام نحو مستشفي ابانيدا البحري حيث كان يرقد الرئيس الأميركي ريغان في أواخر شهر بوليو 1980 بعد استئصال ورم سرطاني من أمعائه، دارت في واشنطن محاكمة قررت الصحافة الاميركية والأوروبية تجاهلها ..
وتطرقت مجلة «العالم، الى هذا الموضوع مؤكدة أن المحاكمة تتعلق بمتهمة واحدة هي الآنسة شارون سكراناج، بدات بعد القبض عليها بعشرة أيام، والتهمة الموجهة اليها في التجسس لصالح جهات أخرى أثناء دفع أجرها كعميلة لوكالة المخابرات المركزية في غانا. كما تساءل المراقبون حول التعتيم الاعلامي، وهل هو مسألة مقصودة هدفها التستر على بقية أفراد الشبكة التجسسية التي كونتها وكالة المخابرات المركزية الأميركية في غانا؟.
افتتحت المحاكمة يوم الأربعاء في العاشر من يوليو 1980، وقد نقلت إذاعة أكرا (عاصمة غانا) أخبارها في عدد من النشرات الإخبارية ليومين متتاليين. وتبع ذلك عدد من التعليقات التحليلية تعيد إلى الأذهان تلك الاتهامات التي وجهتها غانا إلى واشنطن طوال الأعوام الثلاثة الماضية ..
ومنذ نهاية العام 1982، وحكومة أكرا نتهم وكالة المخابرات المركزية
198 الأميركية والموساد الصهيونية بتدبير محاولات الانقلاب والتجسس، ومنذ إلقاء القبض على الأنسة شارون سكراناج، لاحظت حكومة غانا إسراع عدد من كبار شخصيات الحكومة وقادة الجيش والبحرية والطيران وعدد من كبار موظفي وزارة الدفاع، بالهرب من البلاد، وترك كل ممتلكاتهم وراءهم. كما لاحظ الدبلوماسيون الأجانب أن عددا من موظفي وزارة الخارجية في أكرا، لم يتواجدوا في مكاتبهم منذ بدء المحاكمة في واشنطن، مما يدل دلالة واضحة على انکشاف أطراف شبكة المخابرات المركزية ونشاطها في غانا.
وأشارت جريدة السفير البيروتية الى القول على لسان مسؤول في وزارة العدل الأميركية أنه تقرر إطلاق سراح أحد الغانيين المتهمين بالتجسس على الولايات المتحدة ويدعي اميکائيل سوسودي، مقابل إطلاق السلطات الغانية سراح (10) غانيين متهمين بالعمل لحساب وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية. وذكر المسؤول أن «سوسودي، البالغ من العمر (39) عاما كان قد اعتقل في 10 تموز/يوليو 1980 أيضا، وصدر بحقه حكم بالسجن المدة (20) عاما.
من ناحية أخرى يتساءل المراقبون عما اذا كانت الأنسة سكراناج هي نفسها المراة الأميركية التي اتهمت حكومة غانا السفارة الأميركية بتهريبها سرا من أكرا في 27 شباط / فبراير من العام 1983.
وكان شهر فبراير 1983 قد شهد محاولة انقلاب فاشلة اتهمت غانا وقتها وكالة المخابرات المركزية الأميركية بتدبيرها. وأشارت وكالة الأنباء الرسمية وعدد من صحف غانا الى أن تورط السفارة الأميركية في غانا في محاولة الانقلاب كان مكشوفة. كما لوحظ وقتها أيضا أن كلا من السفارة الأميركية ووزارة الخارجية الأميركية التزمتا الصمت ولم تكذبا الاتهامات ..
وكانت صحف غانا قد نشرت وقتها أن الشرطة وجدت امرأة أميركية في المنزل الذي ألقي القبض فيه على مديري محاولة الانقلاب. وفي الغرفة نفسها التي وجدت المرأة مختبئة فيها، تم العثور على أسلحة وبيان إذاعي
199 باللغة الانكليزية به أسماء أعضاء حكومة الانقلاب ..
وحتى الأن ليس هناك ما يؤكد ما اذا كانت المرأة الاميركية التي اختفت بطريقة غامضة عنب لجوئها إلى السفارة الأميركية في فبراير 1983، هي نفسها الآنسة شارون سكراناج ..
وأن ما يدعو الى التساؤل أيضا هو ما اذا كان لمحاكمة الأنسة سكراناج علاقة بالأزمة الدبلوماسية السابقة التي تفجرت بين أكرا وواشنطن في شهر مايو 1980، حيث شهد ذلك الشهر استدعاء واشنطن لرئيس عمليات وكالة المخابرات المركزية في أكرا، وأعادته على وجه السرعة الى اميركا. وكان قد تردد في الأوساط الدبلوماسية أن استدعاء واشنطن لرجل المخابرات جاء بناء على طلب حكومة غانا بترحيله، بعد أن انکشف نشاطه في التجسس. وياخذ المراقبون من هذه الظواهر والملابسات الى جانب العدد الكبير نسبيا من المسؤولين الغانيين الذين هربوا من البلاد او القي القبض عليهم دليلا على مدى تغلغل وكالة المخابرات المركزية في غانا. ويبدو أن الشبكة التي نجحت مخابرات أميركا واسرائيل في تكوينها داخل غانا كانت مترامية الأطراف ومتغلغلة في كل أجهزة الدولة تقريبا ..
ومنذ مجيء النظام الجديد الى الحكم بقيادة الملازم اجيري رولنغزه في آخر ليلة من العام 1981، وقرى كثيرة تتربص به وتريد القضاء عليه .. |
وانقلاب ليلة العام الجديد 1981.1982 هو الانقلاب الثاني الذي جاء برولنغز. الانقلاب الأول كان في مايو 1979 ولم يمكث رولنغز في الحكم إلا بضعة أشهر ليعود الجيش بعد ذلك الى الثكنات، ويفسح المجال امام حكومة مدنية منتخبة من الشعب ..
ولكن الحكومة المدنية جاءت لتكرس الفساد والرشوة وتزداد نسبة البطالة ويتعفن محصول الكاكو (المصدر الأساسي لاقتصاد غانا) بسبب عدم وجود جهاز نقل ينظمه. وفي النهاية قرر الملازم طيار «جيري رولنغز، العودة بانقلاب ثان أحسن الشعب استقباله. وأثبتت الأشهر التالية إخلاص رولنغز
200 ورفاقه (مجلس الخلاص الثوري في العمل، والتف حولهم الشعب، وقد كان ينزل بنفسه ليقود حملات تعبئة المحاصيل ونقلها. واتجه رولنغز لضرب الفئات الطفيلية والسماسرة وإعادة صياغة الأنماط الاقتصادية في البلاد التحقيق العدالة الاجتماعية ..
وبدات. بالطبع - مصالح الفئات المرتبطة بالشركات الأجنبية. وأغلبها أميركي وبريطاني يهودي. تتضرر من تشريعات النظام الجديد. وبدات غانا تنهج خطة جديدة في السياسة الخارجية يذكر بايام الزعيم الراحل «كوامي نکروما، فأخذت تؤيد حركات الاستقلال الوطني، وتتخذ خطوات فعالة في منظمة الوحدة الافريقية لتأكيد عزل اتحاد جنوب أفريقيا العنصري. واستضافت ودعمت أجنحة مختلفة من منظمة المؤتمر الوطني الافريقي. وكانت المواجهة الدبلوماسية الأولى التي يخوضها النظام الجديد في منظمة الوحدة الافريقية هي شجب التدخل الفرنسي في تشاد. وبالنسبة لقضية الشرق الأوسط اتخذت غانا ? خاصة بالنسبة للتصويت في الأمم المتحدة - موقفا مؤيدة للعرب وضد اسرائيل، في جميع القرارات الصادرة.
وبالطبع لم تكن مواقف النظام الجديد بلا ثمن، فتواجد مكاتب الحركات التحرير وخاصة عناصر من المؤتمر الوطني الافريقي في غانا، جعل مخابرات جنوب أفريقيا والموساد الاسرائيلية ينشطان في مدنها. ونتيجة تنسيق الجهازين مع المخابرات المركزية التي تشرف عليها، بدات المخابرات الأميركية تنشط للإطاحة بالنظام الجديد المدرج على قائمة والأنظمة غير الصديقة.
ومنذ ربيع العام 1982 بدأت المعارضة للنظام الجديد - وكلها من رموز النظام السابق الذي لم يأسف الشعب على ذهابه - تشكل خلايا من مواطني غانا الهاربين منها بعد أن طلب النظام الجديد محاكمتهم ...
واشترك موظفو الشركات السابقة. خاصة شركة التجارة العالمية التي طردها رولنغز عام 1982 بعد أن ثبت أنها واجهة للمخابرات الإسرائيلية
201 الموساد - اشتركوا في الخلايا التي بدأت تتشكل في لندن ولاغوس ونيروبي والخرطوم. كما تم تجنيد عدد من المرتزقة البريطانيين والبلجيكيين لها .. واختير قائد مخابرات غانا السابق الجنرال «جوشوا ماميدو، الذي طرد من منصبه لارتباطه بواشنطن، قائدا لجبهة المعارضة الجديدة للنظام. وكانت المخابرات الأميركية تتولى دفع الأجور وتمويل محطة إذاعة المعارضة من لاغوس ..
وفي مطلع العام 1983، اتهم سفراء غانا في واشنطن وباريس والمندوب السامي لغانا في بريطانيا، مخابرات أميركا واسرائيل بتمويل حرکات معارضة، وإعداد انقلاب، وتكوين خلايا معادية للنظام في لندن وكينيا ونيجيريا وتوغو وليبيريا وساحل العاج وأميركا. وقد عقد هؤلاء السفراء مؤتمرات صحفية لتوجيه هذه الاتهامات ..
وشهد مارس 1983 عراكة دبلوماسية بين واشنطن وأكرا، بعد أن كشفت حكومة غانا بطريق الصدفة تورط السفارة الأميركية والسفير الأميركي في محاولة الانقلاب في 27 شباط/ فبراير 1983.
فقد وقع في أيدي مصادر من غانا تقرير مري، كانت سفارة المانيا الغربية قد ارسلته من أكرا الى بون، وكان التقرير يخوض في تفاصيل علاقات المستر توماس سميث،. سفير أميرکا وقتها في غانا - مع جبهة المعارضة التي تعد لإنقلاب بقيادة الجنرال «جوشوا ماميدوه في لاغوس. ومضى التقرير ليصف استراتيجية المخابرات الأميركية لاختراق القوات المسلحة والنقابات العمالية في غانا. وتطورت الأزمة الدبلوماسية خلال الأشهر الثلاثة التي تلت ذلك لتنتهي برحيل نوماس سميث، من البلاد وتأزم العلاقة بين غانا وأميركا ...
وقضت وزارة الخارجية الأميركية بقية العام 1983 ومعظم العام 1984 في محاولة تكذيب تقرير السفارة الالمانية في أكرا. بل وقادت المخابرات الأميركية حملة منظمة لتلطيخ سمعة الكابتن اکوجو نسيکاتا، المستشار
202 الخاص لمجلس الدفاع الغاني، الذي كان قد أذاع في أكرا محتويات التقرير في مؤتمر صحفي عقد في آذار / مارس عام 1983 ...
وخلال الشهرين الثامن والتاسع عام 1983 سافر مساعد وزير الخارجية الأميركي لشؤون أوروبا الشرقية، دينيس کاکس، المتخصص في شؤون أعلام الحرب الباردة في جولة في أوروبا، وزار کاکس عددا من العواصم الأوروبية. وفي كل منها كان يحرص على أن تكون النقطة الأولى في جدول أعماله في اتهام الاتحاد السوفياتي بتدبير حكاية تقرير السفارة الالمانية في غانا. وادعى أن تقرير السفارة الالمانية مزور، وأن حكومة غانا اعترفت له بهذا في لقاء سري، ولاحظ المراقبون أن السفارة الالمانية في أكرا التزمت الصمت، ولم تؤكد أو تنفي وجود التقرير، ولم يصدر عنها ما يشير الى أنه مزور او حقيقي. وبالطبع لو كان الدبلوماسي الأميركي كاكس صادقا فيما يدعيه، لكانت واشنطن قد طلبت من حكومة غانا تکذيبأ رسميا لما صدر عنها من اتهام السفير الأميركي بالتجسس والتورط في محاولة انقلاب. ولكن الكابتن
تسيکاتا، لم يكذب أبدأ البيان السابق الذي نشر فيه محتويات التقرير. كما أن الملازم رولنغز نفسه كرر في أكثر من مناسبة الاتهام، ووجه المزيد من الاتهامات دون أن يصدر من واشنطن أي تكذيب رسمي أو تحد لاتهامات
غانا لها ..
وفي اليوم الرابع من المحاكمة في واشنطن، صدر مرسوم رسمي في غانا ووزعته سفاراتها في العالم، جاء فيه أن محاكمة الآنسة شارون اسکراناج، يقدم أدلة جديدة تثبت أن معظم ما ورد في تقرير السفارة الالمانية العام 1983 كان صادقة. ويقول المرسوم أن اعترافات الشهود واعترافات سكراناج نفسها أثناء المحاكمة تضيف أدلة جديدة للإتهامات التي ذكرها الكابتن تسيكاتا في مؤتمره الصحفي الشهير في آذار/مارس 1983 ..
وأعاد المرسوم للأذهان مرة أخرى الاتهامات التي وجهتها حكومة غانا للسفارة الأميركية بتورطها في محاولة الانقلاب الفاشلة في فبراير 1983،
203 وحكاية المراة الأميركية التي ضبطت في منزل مدبري الانقلاب. وقامت السفارة الاميركية بتهريبها خارج غانا ..
وهكذا منيت المخابرات الأميركية بخسارة كبرى في هذه العملية. إذ انها فقدت قاعدة للعمل ولنشاطها في غانا. وكذلك الحال بالنسبة لكل من المخابرات الصهيونية ومخابرات جنوب افريقيا في أكرا. ومخابرات اسرائيل تنشط هناك بسبب وجود قطاع مسلم كبير من السكان، ووجود رأسمال يهودي الى جانب وجود مكتب المنظمة التحرير الفلسطينية ...
ومخابرات جنوب افريقيا تنشط هناك أيضا بسبب مواقف غانا المناهضة اللعنصرية، ودعمها للمؤتمر الوطني الافريقي الذي توجد له هناك مكاتب وهيئة سياسية. وبسبب ارتباط الجهازين بالمخابرات الأميركية، فإن الضرر سيلحق بنشاطهما بدون شك ..
أما الذي تلقي الضربة بعد تقطيع أوصال شبكة المخابرات المركزية الأميركية فهو الجنرال «جوشوا ماميدو، وجبهته، لأن ضرب الشبكة سيؤثر كثيرا على نشاط جبهته التي تتلقى دعما مالية كبيرة من المخابرات الأميركية، وهي نشطة جدا في لندن، وتحاول الحصول على دعم عدد من العواصم الأفريقية للإطاحة بنظام جيري رولنغز الذي يبدو أن سياساته خارجيا وداخليا أصبحت عسيرة الهضم على المعدة الأميركية.
20
المراجع
مجلة والعالم .. العدد 77. السبت 1980
/ 8/ 3. ص 24 - 20. 2 - جريدة السفيرة العدد 4136. الأربعاء 27 تشرين الثاني/نوفمبر
1980، ص 9.
مصادر و المراجع :
١- موسوعة الامن
والاستخبارات في العالم
المؤلف: د. صالح
زهر الدين
الناشر: المركز
الثقافي اللبناني للطباعة والنشر والتأليف والترجمة - بيروت
الطبعة: الاولى
تاريخ النشر:2002
م
30 مارس 2024
تعليقات (0)