المنشورات
دور الإستخبارات الأميركية في حرب أفغانستان.
شكلت افغانستان على مر تاريخها محطة فاصلة في عمليات الصراع بين قوى النفوذ والسيطرة والتسلط في العالم. وقلما عرف بلد من بلدان العالم تلازمة متداخلا بين الجغرافيا والتاريخ، مثلما عرفته أفغانستان. وهذا ما دفع الرحالة الإيطالي "ماركوبولو" إلى وصف أفغانستان بأنها "سقف العالم". كما وصفها الكاتب العربي الكبير محمد حسنين هيكل قائلا بأن أفغانستان "بلد معتقل في موقعه ومعتقل في تاريخه".|
وبالفعل، كانت أفغانستان - عبر تاريخها الطويل - جسرا غريبا، لكنه جسر مرصوف ومهيأ لكي تمشي عليه الفتن وتتحرك المؤامرات، لأن طبيعته الجبلية، ووديانه شبه المغلقة على نفسها بالقمم العالية، ومناخه القاري القاسي، يجعله نموذجية للمطلوب منه، فهو معزول وعازل، مطروق وإن كان بصعوبة، سالك ولكن بشروط، وأهم هذه الشروط هو التوافق مع نفر من أهل البلد الذين يعرفون المداخل والمخارج، وهم جميعا تركيب إنساني يمتزج فيه الضعف بالقوة، والخيال بالقسوة، والغني النفسي بالفقر المادي، والكبرياء الفردي بالولاء القبلي، وما يترتب على ذلك كله في التعامل مع القوى داخل البيت وخارجه. وذلك يفتح للتعامل معهم مسائل وأساليب. وموقع البلد وسط آسيا تماما، وبالأحرى "في قلبها". - كما يقول اللورد كرزون نائب الملك في الهند مع بدايات القرن العشرين.
وأهل البلد أعراق وقبائل بعضها في أفغانستان وبعضها وراء حدودها، حتى تكاد افغانستان أن تكون ثلاث مناطق عرقية موزعة كما يلي: الشمال: من العرقين الطاجيكي والأوزبكي، بعضهم في أفغانستان، وبعضهم الآخر في جمهوريات الاتحاد السوفياتي الجنوبي طاجيكستان وأوزبكستان. الوسط: ينتمي إنسانيا الى عناصر الهزارا" وهم بقايا هجرات مغولية عبرت من الشرق إلى الغرب واستقرت جحافل منها في أفغانستان وفاضت على شرق ايران. والجنوب: بأكمله من قبائل البشتون، وأرض هذه القبائل ولغتها وثقافتها عائلة واحدة مع شمال باكستان.
هذا، وقد عاشت أفغانستان تاريخها الحديث وسط صراع الامبراطوريات التي تسابقت إلى التوسع في آسيا طوال القرن التاسع عشر:
_ الامبراطورية البريطانية تحاول تدعيم مواقعها حول درة التاج الغالية في الهند.
- وروسيا القيصرية تضغط جنوبا بأمل الوصول إلى المياه الدافئة في المحيط الهندي بعد أن أكملت توسعها شرقا وأطلت على المحيط
الهاديء.
- وفرنسا في الهند الصينية تحاول أن تقفز فوق الجبال نحو الموقع الأعلى لتراقب ما تفعله بريطانيا وما تفعله روسيا.
والطبيعة الأفغانية قاسية الى درجة جعلت اللورد كرزون نائب الملك في الهند (أوائل القرن العشرين) يلخص منطق الامبراطورية قائلا: "لا داعي لاحتلال أفغانستان، الأرخص أن نشتريها". وكان شراء أفغانستان ممكنا، لأن توجهات الأجناس متضاربة، وولاءات القبائل لمن يقدم السلاح والذهب. وكان الشعب الأفغاني أول من وصف أحواله بقسوة، ومنها قول مؤداه: "إن الله حين خلق الطبيعة والناس، ووزع أجناس الأرض على أقاليمها وجد عنده بقايا من كل شيء: بقايا طبيعية وبقايا إنسانية، وقد أخذ كل هذه البقايا وطوح بها وسقطت كلها كومة واحدة على كوكب الأرض في مكان إسمه أفغانستان ".
والواقع، أن الاهتمام الأميركي بأفغانستان لا ينحصر في هذا البلد فقط، بل يتعداه إلى أهداف أخرى ذات طابع استراتيجي حساس يتعلق بالجانب النووي من جهة وبالسيطرة على موارد النفط والغاز والمعادن المتوفرة في المناطق المجاورة لأفغانستان من جهة أخرى، حيث تمثل أفغانستان منصة العبور والقفز في آن معا، وذلك بعد أن تأكدت المعلومات حول توفر كميات هائلة من البترول في منطقة بحر قزوين والجمهوريات الاسلامية التي استقلت عن الاتحاد السوفياتي بعد انهياره، فسال اللعاب الأميركي، وفتحت شهيته للتحكم بها والسيطرة عليها، في معرض التنافس مع قوى النفوذ والسيطرة القديمة (روسيا إيران
الصين ... )، کرديف مهم لنفط الخليج، في إطار الصراع الاستراتيجي المستقبلي الذي يتحدد على أساسه أفق الهيمنة والتوسع والتحكم بالقرار على مختلف المستويات. على هذا الأساس، يتخذ الاهتمام الأميركي بأفغانستان معناه وأبعاده، حيث جندت الولايات المتحدة كل امكانياتها في هذا الاطار منذ سنوات طويلة للوصول إلى أهدافها الاستراتيجية نووية ونفطية وسياسية، وتوريطة للسوفيات في الوحل الأفغاني ثارة من "فيتنام الأميركية" ... فكيف كان ذلك؟ ففي إطار "الاتصالات الحساسة " التي تجري بين باريس وموسكو بمتابعة التطورات في أفغانستان، تلتقي معلومات الاستخبارات الفرنسية مع معلومات الاستخبارات الروسية حول أن وكالة الاستخبارات المركزية اقترحت (وأخذ الرئيس بيل كلينتون باقتراحها)، استضافة عناصر من "طالبان" متفوقين في المواد العلمية للتحصيل في جامعات ومعاهد الولايات المتحدة في مجال الفيزياء النووية.
وحسب تلك المعلومات، فإن أفغانيين وباكستانيين كانوا يدرسون جنبا إلى جنب ويمنح تقدمها ال"سي آي إي". وقد أظهر هؤلاء تفوق لافتا في تلقف المواد وبالصورة التي أثارت انتباه مدرسيهم، حتى أن ادارة الجامعة (تردد اسم ماساشوستس) أوصت بإلحاق هؤلاء بالمؤسسات النووية الأميركية.
وتتفق المعلومات الفرنسية مع الروسية على أن الأميركيين كانوا يريدون أن يجعلوا من "طالبان" قوة نووية فعلا تضغط لتفكيك ايران التي شكلت هاجسا هامة، خصوصا للفريق اليهودي داخل إدارة الرئيس كلينتون، بحيث كان يمكن فعل أي شيء من أجل استيعاب الجمهورية الاسلامية التي كان دنيس روس، وهو المنسق الرئيسي للفريق (وليس فقط منسق المفاوضات في الشرق الأوسط) يعتقد أنها تمثل خطرا حقيقيا على إسرائيل، خصوصا مع تنفيذ برنامجها النووي الذي سيمكنها من إنتاج رؤوس نووية خلال بضع سنوات. وتقول المعلومات إياها إن واشنطن هي التي طلبت من إسلام آباد التعامل مع "طالبان" في القطاع النووي، فيما كان المنشق السعودي أسامة بن لادن هو الذي يتولى، عبر تدفق التبرعات عليه، تمويل مشروع أقيم داخل تجويف جبلي بالغ التعقيد على مسافة نحو 110 كيلومترات من الحدود مع باكستان.
وفي إطار ذلك التعاون كانت إسلام آباد تمد حركة "طالبان" بما يلزمها من المواد والمعدات التي تقول المعلومات إن الحصول عليها من مصادر أخرى كان ممكنا بتوفر الأموال اللازمة. وبالفعل، فقد قطع المشروع شوطا لا بأس به في مجال إنتاج "القنبلة القذرة"، التي تحتوي على مخلفات نووية يؤدي انفجارها إلى نشر اشعاعات قاتلة، وكان يتوقع أن تنجح "طالبان " في إنتاج قنبلتها "النظيفة" في عام 2004، لكن تراجع العلاقات بينها وبين واشنطن أدى إلى التباطؤ الشديد في المشروع حتى أن جورج تينيت، مدير ال"سي آي إي" حاول جاهدة، ومن خلال التلويح بإغراءات حساسة، استعادة المعدات والمواد النووية، وبالتالي وقف المشروع برمته، لكنه لم يفلح في مهمته.
وتقول معلومات باريس وموسكو إن هناك ما يربو عن التسعين باكستانية والعشرين أفغانية يعملون في منشآت نووية أميركية، كما أن هناك 11 باكستانية، على الأقل، يعملون في وكالة الفضاء الأميركية (ناسا)، ودون أن يكون هؤلاء يشكلون خطرة، لكن المشكلة في عدد المسلمين الكبير داخل هذه المنشآت، ومنهم زنوج أميركيون وأميركيون بيض إعتنقوا الإسلام. وهذا العدد يربو عن ال 700 جلهم معروفون بأهم مسلمون ممارسون وقد وضع جميع هؤلاء تحت المراقبة الشديدة دون إشعارهم بذلك، وهو ما يسبب حرجا شديدا للإدارات التي يعملون في إطارها، إذ أن أي تصرف غير اعتيادي مع أحدهم لا يمكن إلا أن ينعكس على الآخرين، إذ أن بين ال 700 هناك نحو مئة شخص يعتبرون من أعمدة النشاطات النووية والفضائية الأميركية.
هذا، وتلافيا لأي شيء يحمل الولايات المتحدة الأميركية مسؤولية مباشرة في حرب أفغانستان، تؤدي بدورها إلى نتائج وخيمة لا تحمد عقباها في عملية الصراع الدولي هذه، فقد جهدت الولايات المتحدة في أن تناي كدولة عن الدخول في مثل هذه المخاطر، وكلفت "أصدقاءها" (الإسلاميين) في إقامة جبهة "مؤمنة" ضد جبهة "الإلحاد السوفياتي" من جهة، وأوعزت إلى وكالة الاستخبارات المركزية "سي آي إي" من جهة أخرى، أن تقود "الجهاد السري" ضد السوفيات أولا، ومن بعدهم ضد "الاسلاميين الذين أوجدتهم هذه المخابرات "كمجاهدين" في البدء، ثم "كإرهابيين " يجب القضاء عليهم - بعد أن انتهت مهمتهم الأميركية - واستئصالهم من جذورهم.
وهكذا منذ عام 1976 وحتى عام 1989 كانت أفغانستان مسرحة للتدخل والأنشطة السرية من وكالة المخابرات المركزية. وكان أول من حذر وانتقد ما يمكن أن يتسبب به هذا التدخل هو بيل ماكولام من الجمهوريين. وخلال عشر سنوات من هذا النشاط السري كانت الادارات الأميركية تقدم ملياري دولار سنويا للنشاطات السرية داخل أفغانستان. كما قدمت ال"سي آي إي " أحدث أنواع الأسلحة التي يمكن للافراد الأفغان إستخدامها ضد الطائرات السوفياتية. واعتبرت الولايات المتحدة الأميركية أن دعمها لأفغانستان هو أفضل فرصة للإنتقام من السوفيات ودورهم في فيتنام. واعتبر قادة ال"سي آي إي" أن أفغانستان ستشكل فيتنام الولايات المتحدة ضد الاتحاد السوفيايي خصوصا وأن الاتحاد السوفياتي كان يضم ست دول مسلمة في آسيا الوسطى وللعديد منها حدود مع أفغانستان.
وكان حکمتيار، أحد قادة الأفغان المهمين، من الذين يعملون مع المخابرات الباكستانية التي كانت مرتبطة في تلك السنوات بتعاون وثيق مع ال "سي آي إي" واشنطن بوست (1989
/ 9/ 10). وفي عام 1986 بدأت ال "سي آي إي" بإرسال صواريخ "ستينغر"، وهي أحدث الصواريخ المضادة للطائرات في ذلك الوقت، إلى الأفغان الإسقاط الطائرات السوفياتية. وفي العام نفسه أرسلت الصواريخ نفسها إلى المنظمات المعادية للحكم في أنغولا - واشنطن بوست -
(1989/ 3/3.
هذا، وقد اهمكت المخابرات الأميركية في الإعداد والتنفيذ، بشخص مديرها ومساعديه في عهود كل الرؤساء الأميركيين، بدءا من ويليام کايسي، وليس إنتهاء بجورج تينيت في عهد الرئيس جورج بوش الإبن. وفي هذا الإطار کان کايس? بحاجة إلى طريق مختصرة في الكونغرس: هل هناك طريق تلتف حول الاجتماعات والمؤتمرات ودائرة المناقشات العامة والتسريبات؟ أراد أفكارا جديدة. هل هناك طريقة للتغلب على الكونغرس؟ وبأنظمته الخاصة؟
منذ خمسين سنة تقريبا تعلم كايسي أنه يمكن تطبيق القوانين وتفسيرها بشكل خيالي. كان ذلك عام 1937 عندما كان عمره 24 سنة وكان قد تخرج من مدرسة الحقوق. كان قد وجد وظيفة، في وسط من الهبوط الاقتصادي حيث كان الحصول على وظيفة صعبة جدا، وذلك في "مؤسسة أبحاث الضرائب في أميركا" في نيويورك براتب 25 دولار في الأسبوع. كان عليه أن يقرأ التشريعات والاتفاقات الجديدة وأن ينظم التقارير ويشرحها ويلخصها.
أما رجال الأعمال الأميركيون وهم قادة الصناعة الأميركية فلم يتفهموا أو يرحبوا هذه التشريعات. وكان يسجل ملخصاته وتقاريره على آلة تسجيل بدائية تستخدم أسطوانات من الشمع. كان كايسي يدرك أن رجال الأعمال لا يريدون التعليقات ولا المديح ولا الانتقادات، بل كانوا يطلبون أن يعرفوا ما يفعلونه لتحقيق أدين تطابق وتوافق مع القوانين المرعية الاجراء. وكان كايسي ممتازة في هذا المجال.
أعلن كايسي أنه يريد شيئا خيالية: "أنا لا أريد مخالفة القانون" عوضا عن ذلك كان يريد الالتفاف حول القانون. كان يريد أدن توافق اليحميه ويحمي الوكالة ويؤدي إلى الحصول على مزيد من المال للكونترا. خلال الأشهر السبعة الفائتة راقب كايسي بشيء من الذهول الكونغرس الذي تعرض للتلاعب من قبل أحد أعضائه، وكان ذلك درسا موضوعية. في الوقت الصعب إذ كانت الوكالة قد حصلت على مبلغ 24 مليون دولار للكونترا، طلبت حوالي 30 مليون دولار البرنامج المساعدات الخفية للمقاومة الأفغانية، عندها تقدم أحد أعضاء الكونغرس وهو ليس عضوا في لجنة الاستخبارات وحقق بنفسه الحصول على مبلغ 40 مليون دولار إضافية لبرنامج أفغانستان، أي أكثر من المطلوب، وكان هذا العضو هو تشارلز ويلسون.
كان ويلسون طويل القامة أنيقة نشيطة، ديموقراطية من ولاية تكساس، يتكلم كالصقور، وكانت منطقته الانتخابية مثلا لروح تكساس المغامرة. وقام ويلسون بثلاث رحلات إلى الباكستان حيث كان البرنامج الخفي لأفغانستان على وشك أن يبدأ في العمل. اجتاز الحدود الى منطقة في أفغانستان تقع تحت سيطرة السوفيات، وذلك بصحبة عدد من الثوار، واستنتج أن مبلغ 30 مليون دولار كان قليلا. أراد المزيد من القتلى الروس. لقد قتل 58 ألف أميركي في فيتنام ونحن ندين للروس بواحدة. في آخر رحلة للباکستان علم ويلسون أن مشكلة الثوار كانت طائرات الهلكوبتر السوفياتية التي كانت تحقق التفوق الجوي. اقترح ويلسون تزويد الثوار بمدافع أورليكون السويسرية الصنع السريعة الرمي، وقال إن تلك كانت فكرة الرئيس الباكستان ضياء الحق. وعاد ويلسون ينفخ في الصفارة لبعض أعضاء الكونغرس. لقد جعل منها حربة صليبية ووجد وسائله في أنظمة الكونغرس. إن لجنة الاستخبارات في مجلس النواب هي اللجنة التي تعطي الإذن، ولكن الإذن كان الخطوة الأولى.
يجب أن يقرر الكونغرس رسمية منح المال بواسطة لجانه النافذة. وكانت هناك لجنة التخصيص في مجلس النواب التي كان ويلسون عضوا فيها.
عندما اجتمعت هذه اللجنة لتبحث ميزانية وزارة الدفاع قال ويلسون أنه يريد شيئا واحدة فقط: مزيدا من المال للثوار الأفغان المقاتلين الشجعان من أجل الحرية. ومع أن لجنة الاستخبارات لم تعط الإذن أراد الموافقة على تخصيص الأموال. قال ويلسون أنه في إحدى رحلاته الى المنطقة حضر اليه احد الأفغانيين عمره 11 سنة وقال له لا تقتل جميع الروس لأني أريد أن أقتل واحدة عندما أكبر. وهكذا أثار ويلسون زملاءه بلهجته الخطابية وبتحديه.
کم بريد؟
قال ويلسون أنه يريد 40 مليون دولار. وبما أن اللجنة كانت تبحث ميزانية وزارة الدفاع التي تصل قيمتها إلى 280 مليار دولار تقريبا كان مبلغ 40 مليون دولار تافها، أي كأن اللجنة كانت تناقش صرف مبلغ سبعة آلاف دولار وطالب أحد الأعضاء بزيادة دولار واحد. قال ويلسون إنه سيدعم الأعضاء الذين يؤيدونه في ال.4 مليون دولار في أي مسألة أخرى. و کسب ويلسون.
فجأة حصل كايسي على 40 مليون دولار إضافية لعملية أفغانستان، وكان المال المخصص مقتطعة من ميزانية وزارة الدفاع. أثار مسؤولو وزارة الدفاع عاصفة داخل الإدارة، وعممت الوزارة دراسة تقول ان مدفع الأورليكون المضاد للطائرات لا يصلح لحرب العصابات. إن ذخيرته غالية الثمن ويحتاج إلى عناية فائقة ولن يقدر على السير على طريق غير معبدة أو صعبة مثل ممر خيبر .. لكن ويلسون وهو خريج الأكاديمية البحرية كان صديقا لوزارة الدفاع، وأذعنت الوزارة لرأيه.
أرسلت الإدارة من خلال مدير الخزانة ديفيد ستو کمان رسالة سرية إلى لجنتي الاستخبارات تطلب إعطاء الإذن بمبلغ ال 40 مليون دولار. غضب غولدووتر وطار صوابه لهذا الدوران حول اللجنة. إذا لم تتحكم لجنة الاستخبارات بالعمليات الخفية وذلك بأخذ موافقتها المسبقة على النفقات فإنها تعتبر عندئذ غير موجودة.
تابع ويلسون حملته ونشط في مكاتب لجنة استخبارات مجلس النواب واستعمل عملية نيكاراغوا المثيرة للجدل لمصلحته. لقد رغب عدد كبير من زملائه الذين كانوا يعارضون عملية نيكاراغوا في أن يظهروا أهم لا يتساهلون إزاء التوسع السوفياتي. قال لهم ويلسون إن عملية أفغانستان هي الآلية الكاملة لإثبات ذلك. كان الديموقراطيون يعتبرون نيكاراغوا الحرب السيئة وأفغانستان الحرب الجيدة.
درس مكماهون نائب مدير المخابرات المركزية تقريرا يدعم زيادة ال 40 مليون دولار ومدفع الأورليكون. لقد كان مدير العمليات في الوكالة عندما بدأت العملية (كان كايسي يسميه أب عملية أفغانستان). كان مكماهون يشكك دائما حيال العمليات الخفية ولكن تأييد الكونغرس لعملية أفغانستان جعله يقتنع بها. لقد ساعد موقف مكماهون الآن في تغيير التيار وأدى إلى موافقة كل من لجنة مجلس الشيوخ ولجنة مجلس النواب.
قال ويلسون لمسؤولي مديرية العمليات في وكالة المخابرات المركزية إنهم كانوا خجولين جدا. كان عليهم أن يطلبوا بأنفسهم المزيد من
المال.
كان هذا نصرة غير متوقع بالنسبة الى كايسي. إن مبلغ 40 مليون دولار لم يكن دعما لبرنامج أفغانستان فقط، بل أظهر أن الكونغرس يمكن أن يمشي أمام الادارة في الأعمال الخفية. لم تكن الوكالة متآلفة مع مدفع الأورليكون فأحضر نموذج منه وجرى اختباره ثم تم شراء عشرة منه. يلزم فترة أشهر وربما أكثر من سنة لهذه المدافع کي توضع في العمل الميداني في أفغانستان، لكن الزخم النفسي كان مع الوكالة.
تعجب کايسي وتساءل عما إذا كان يمكن توجيه ذلك نحو نيكاراغوا، وكان يبدو أنه كلما زاد الدعم لأفغانستان قل الدعم لنيكاراغوا.
كان الدرس الحقيقي في طريقة ويلسون الذي حرك النظام بكامله: مدير العمليات و كايسي والإدارة ومجلس النواب ومجلس الشيوخ.
والجدير بالذكر، أنه قبل أن تحدث إنفجارات 11 أيلول 2001، وما أعقبها من أحداث الهجوم العسكري الأميركي والغربي على أفغانستان، كان "ويليام بلوم" قد نشر كتابه "إنهم يقتلون الأمل: تدخلات ال"سي آي إي" في العالم منذ الحرب العالمية الثانية ". وفيه فصل کامل عن أفغانستان وتدخل السي آي إي فيها منذ عام 1979 قبل دخول القوات السوفياتية إليها وبداية التدخل ا
لسوفياني.
يقول ويليام بلوم، وهذا ما أكده زبيغنيو بريجنسكي مستشار الأمن القومي في عهد الرئيس جيمي كارتر، في مقابلة مع الصحيفة الفرنسية "نوفيل أوبسرفاتور" 1998: "بدأت الولايات المتحدة تدعم الأصوليين الإسلاميين الأفغان عام 1979 رغم أن بعضهم كان قد خطف السفير الأميركي في العاصمة كابول وتسبب في موته أثناء محاولات السلطة
إنقاذه".
وتواصل الدعم الأميركي حتى بعد قيام الثورة الاسلامية الايرانية وخطف الاسلاميين في ايران طاقم السفارة الأميركية في طهران کرهائن. فقلب الدين حکمتيار وزملاؤه من الاسلاميين الأفغان هم في نظر الادارة الأميركية مقاتلون من أجل الحرية طالما يشنون قتالا ضد الاتحاد السوفيايي
وتعود قصة أفغانستان في بدايتها إلى عام 1973 حين قام محمد داوود وهو من أفراد العائلة المالكة بانقلاب علي شاه أفغانستان بمساعدة ودعم من قوى تقدمية شكلها داخل أفغانستان (حزب الشعب الديموقراطي ppp) وهكذا انتقلت أفغانستان إلى النظام الجمهوري. لكن داوود الرئيس الأول لجمهورية أفغانستان تحرك فيه الدم الملكي القديم وأخذ يسيطر على تصرفاته خلال السنوات الخمس التي حكم فيها. ففي 27 نيسان 1978 قام حزب الشعب الديموقراطي بانقلاب أطاح بحكومة محمد داوود بعد أن قام داوود باعتقال معظم قادة الحزب والأنصار. وكان قادة الجيش هم من قاموا بالانقلاب لصالح الحزب. وقد حاول النظام الجديد إجراء إصلاحات زراعية والتحكم بالاسعار والارباح وتقوية القطاع العام والعمل على فصل الدين على الدولة ومحو الامية، وتشريع تأسيس النقابات وتحرير المرأة. وكانت أفغانستان التي تمتد حدودها على ألف كيلومتر مع الاتحاد السوفياتي تحظى بعلاقة خاصة من موسكو التي لم تكن تسعى الى إلتهامها أو ضمها إلى فلكها على غرار دول أوروبا الشرقية التي تعتبرها عازلا بينها وبين أي هجوم أوروبي ضدها.
لكن واشنطن وشاه ايران (قبل الثورة الاسلامية الايرانية) كانا يحاولان منذ عشرات السنين الضغط على أفغانستان ورشوقا لابعاد النفوذ السوفياتي عنها. ففي عهد محمد داوود في السبعينيات حاول شاه إيران بتكليف من واشنطن إقناع نظام حكم داوود باستبدال الدعم السوفياتي بمبلغ 2 مليار دولار تدفعها واشنطن لأفغانستان كمساعدات إقتصادية. وحث شاه ايران داوود على الانضمام إلى " منظمة التعاون والتطور الاقليمي" التي شكلتها ايران وباكستان وتركيا التي نددت بها أفغانستان واعتبرها امتدادا لحلف المعاهدة المركزية (سينتو) الذي حاولت واشنطن تأسيسه في الخمسينيات (حلف بغداد كان جزءا منه) لمواجهة موسكو. وفي السبعينات كان "السافاك" جهاز مخابرات شاه ايران من الناشطين داخل أفغانستان في رصد الضباط الشيوعيين داخل الجيش والحكم. وفي ذلك الوقت كتب سبليغ هاريون المختص في شؤون جنوب آسيا في صحيفة "واشنطن بوست" مقالا تحت عنوان "الشاه وليس الكرملين"، تسبب في الانقلاب على حكم داوود، جاء فيه: "لقد وقع انقلاب حزب الشعب الديموقراطي الأفغاني في وقته المناسب وبالطريقة المناسبة، لأن شاه ايران أحدث اضطرابا داخل التوازن الحساس القائم بين الاتحاد السوفياتي والغرب خلال ثلاثين عاما. وهجوم طهران هذا لايعد في نظر واشنطن والشاه سوى محاولة لتحويل أفغانستان الى دولة عدم انحياز رغم أن محاولتهم توجهت إلى ما هو أبعد من ذلك. فبسبب الحدود الطويلة الممتدة بين الاتحاد السوفياتي وكابول يمكن لموسكو السير الى أبعد الحدود من أجل ضمان أن لا تقع أفغانستان ثانية في أيدي الغرب".
وعندما أطيح بشاه ايران في كانون الثاني 1979 فقدت واشنطن أهم حليف لها وأهم موقع متقدم في المنطقة ضد الاتحاد السوفياتي، ناهيك عن المنشآت العسكرية والإلكترونية ومحطات الرصد التي أقامتها في إيران لمواجهة موسكو. وهذا ما دفع رجال الحرب الباردة في واشنطن للنظر إلى أفغانستان بأعين أكثر شهوانية مما سبق. وبعد ثورة نيسان 1978 اعلنت حكومة الرئيس نور محمد طاراقي الالتزام بالاسلام في دولة علمانية وبنهج عدم الانحياز في السياسة الخارجية، وأرادت أن تؤكد أن النظام ليس شيوعية، علما أن أفغانستان لم يحدث أن نشأ فيها أي حزب شيوعي. وهذا ما أكده في تحليل دقيق لويس دوبريه في رسالة إلى "نيويورك تايمز" 1978
/ 0/ 20، وهو من المختصين في أفغانستان وكان مستشارا في مجلس الأمن القومي الأمير کي وكان من المعارضين لحكم يساري في أفغانستان، حتى أن الحكومة الأفغانية عام 1978 اعتبرته شخصية غير مرغوبة.
ويقول العالم السياسي البريطاني فريد هاليداي إن " الحكومة الأفغانية كانت تسعى إلى دفع البلاد نحو القرن العشرين. ففي أيار 1979 وجدت أن البلاد قد تغيرت خلال قرنين من وجود الدولة فيها " نيويورك تايمز 1979
/ 0/ 18). لكن الولايات المتحدة بدأت تشعر بالقلق من مضاعفات الوضع الجديد في كابول علي شاه إيران، والباکستان، وتبالغ فيه: فقد ذكر السفير الأميركي السابق في كابول أن واشنطن اعتبرها خطرة على إيران وحقول النفط في الشرق الأوسط!؟
التدخل الأمير کي ضد النظام الأفغاني
بعد شهرين من إنقلاب نيسان 1978 تشكل ائتلاف سياسي ضم عددا من المنظمات والمجموعات الاسلامية المحافظة، وبدأيشن حرب عصابات ضد الحكومة الأفغانية. وفي نيسان 1979 انتشر قتال هذه المجموعات في عدد من الجهات. وكانت وزارة الخارجية الأميركية تحذر السوفيات من قيام المستشارين الروس بأي تدخل عسكري في الحرب الأهلية هناك. لكن وقاحة هذا التحذير تظهر حين نجد أن موسكو كانت في ذلك الوقت تتهم السي آي إي بتسليح الأفغان الذين يعيشون في باكستان، في حين كانت حكومة كابول تتهم أيضا باكستان وإيران بمساعدة رجال حرب العصابات الاسلاميين على عبور الحدود الى داخل أفغانستان والمشاركة بالقتال ضد الحكم الأفغاني. والطريف أن واشنطن أطلقت على الإسلاميين الذين خلعوا
2 { الشاه صفة الإرهابيين المعادين للديموقراطية في حين كانت تدعم الإسلاميين الأفغان لخلع نظام الحكم في كابول!؟. وفي 4
/ 13/ 1979 كتبت صحيفة (نيويورك تايمز» أن " مسألة الدين يستغلها بعض الأفغان الذين يعترضون على مشاريع وخطط الرئيس طاراقي في الإصلاح الزراعي والتغيرات التي يجريها على النظام الإقطاعي خصوصا وأن الكثير من رجال الدين هناك من ملاك الأراضي الكبار".
دور إيران - وباكستان.
والدولتان الأخريان اللتان تمتد حدود أفغانستان معهما هما من الحلفاء للولايات المتحدة إيران حتى عهد الشاه، وباكستان إلى الجنوب التي بدأت تتحدث عن محاولات حكومة أفغانستان للتوسع. وكان "المجاهدون الأفغان في حربهم ضد سلطة الحكم الجمهوري الحديث قد قتلوا في ذلك الوقت سائحة كندية وستة من الألمان، وضربوا ملحقة في سفارة واشنطن بسب عدم قدرتهم على التمييز بين الروس والأوروبيين. وفي آذار 1979 زار طاراقي موسكو للضغط على الروس من أجل إرسال قوات برية لمساعدة الجيش الأفغاني في إخماد قتال المجاهدين. لكن السوفيات وعدوه بتقديم مساعدة عسكرية درن التعهد بإرسال قوات برية. وقال كوسيجين رئيس الوزراء في ذلك الوقت: إن دخول قواتنا إلى أفغانستان سوف يثير غضب المجتمع الدولي وستكون له نتائج سلبية في مجالات مختلفة. وعدونا المشترك ينتظر هذه اللحظة. فعندما يظهر وجود القوات السوفياتية في أفغانستان سيمنحهم هذا مبررة لإرسال العصابات المسلحة إلى داخل البلاد". وفي أيلول وقع نزاع داخل حزب طاراقي أدى إلى إبعاده ووضع حفيظ الله أمين بدلا منه. وكان أمين من الذين يظهر عليهم التشدد في الاصلاحات وتنفيذها. بل وفي إعطاء حكم ذاتي إنني. لكن الكرملين لم يكن راضية ومطمئنا لأمين، وكانت محطة (الكي جي بي) المخابرات السوفياتية في كابول قد ضغطت على موسكو لإبعاده عن الحكم لأن إغتصابه للسلطة سوف يؤدي بتقديرها إلى ممارسات قمع وردود فعل من القوى المعارضة. وبالاضافة إلى هذا، كانت موسكو تشك في معتقداته الفكرية. بعد تسعة أشهر من طلب طاراقي الذي لم يوافق عليه السوفيات دخلت القوات الروسية إلى أفغانستان في 12
8/ 1979 بطلب وتأييد من أمين. وفي 1979
/ 12/ 27 دخلت قوة سوفياتية إلى قصر الرئيس أمين وقتلت أمين ليحل محله بابراك كارمال الذي كان يتولى منصب نائب الرئيس أمين ونائب رئيس الوزراء في حكومة عام 1979. ونفت موسكو أي دور بمقتل أمين رغم أنها لم تعرب عن أسفها لموته كما قال بريجينيف: "إن الأعمال العدوانية ضد أفغانستان تم تسهيلها من قبل أمين الذي بدأ بقمع المجتمع الأفغاني وكوادر الجيش والحزب والمثقفين ورجال الدين وهذا كله مخالف لثورة نيسان. والشعب تحت قيادة کارمال إنتفض على أمين. ولا ننسى أن أمين هو الذي أبعد طاراقي وقتله".
وبعد الإطاحة بأمين خرج الجمهور الأفغاني إلى الشارع طواعية للترحيب بالتخلص من أمين وهذا يدل على أن کارمال وحده كان قادرة دون السوفيات على إبعاده، وهذا ما أكده ديبلوماسيون غربيون لكن الطريف إن الإعلام السوفياني كان يصف أمين بعميل وجاسوس رسمي في السي آي إي. وهذا ما تأكد أيضا لأن أمين كان في الخمسينات والستينات قد تعلم في معهد المعلمين في جامعة كولومبيا في ويسکانسون وهناك قامت السي آي إي بتجنيده بانتظار الحصول على خدماته عند عودته إلى بلاده. وفي ذلك الوقت أيضا كان رئيس إتحاد الطلبة الأفغان ضياء نورزاي عمي" للسي آي إي عبر منظمة أميركية ثم أصبح أمين رئيسا للإتحاد عام 1993. وحين أصبح أمين رئيسا للدولة في أيلول 1979 أكد له السفير الأميركي في لقاء ودي أن لا يقلق من حلفائه السوفيات طالما هناك وجود قوي أميركي في أفغانستان.
والواقع أن حفيظ الله أمين كان يجري محادثات واتصالات سرية مع واشنطن لتحسين العلاقات معها من خلال سفيرها في أفغانستان بروس امستوس، في الوقت الذي أدرك فيه السوفيات إن واشنطن تسعى إلى
27 تعويض خسارتها لإيران من خلال التدخل في أفغانستان، وإقامة قواعد أميركية في الشرق الأوسط وإطلاق نشاطات وكالة المخابرات المركزية (السي آي إي).
وفي الوقت الذي قالت فيه صحيفة "وول ستريت جورنال" أنه يجب القيام بعمل سري لمساعدة المتمردين الأفغان"، يؤكد ويليام بلوم أن صحيفة " واشنطن بوست" لم تكشف عن المساعدات العسكرية الأميركية إلى الأفغان الاسلاميين في شباط عام 1980. وكان ضباط المخابرات الأميركيون يجتمعون منذ ما قبل فترة نيسان 1979 (أي قبل دخول القوات السوفياتية إلى أفغانستان) مع قادة المتمردين الاسلاميين للإطلاع على ما يحتاجونه، وكانت (السي آي إي) تدرب أفرادهم على العمل المسلح وحرب العصابات في الأراضي الباكستانية، وأعدت لهم محطة إذاعة خاصة منذ عام 1978 خدمة شعاراتهم. وأمام صورة التدخل في الحرب الأهلية التي كانت تجري في أفغانستان من قبل الولايات المتحدة، وباكستان والصين، بدأ القلق الشديد يظهر عند قادة الاتحاد السوفياتي، خصوصا وان أفغانستان تقع على بوابة الاتحاد السوفياتي نفسه. ولذلك كان التدخل العسكري السوفياتي هو أول إجراء عسكري تتخذه موسكو على هذا النحو منذ انتهاء الحرب العالمية الثانية خارج حدودها مع بلدان أوروبا الشرقية. حيث اعتبرت موسكو احتمال وجود نظام اسلامي معاد
28 للشيوعية على حدودها، خصوصا على حدود جمهوريات آسيا الوسطى السوفياتية (40 مليون مسلم) خطرة يماثل عند الولايات المتحدة الأميركية تحول المكسيك إلى نظام معاد لواشنطن. واذا كان ليونيد بريجنيف يعتبر أن مسألة أفغانستان وموقعها لا يشكلان أي خطر على الأمن القومي الأميركي، فإن بريجنسكي مستشار الأمن القومي الأميركي في ذلك الوقت أعلن أن وجود موسكو العسكري في كابول يجعلها قريبة من الخليج العربي.
وعلى هذا الأساس عمل زبيغنيو بريجنسكي مع الادارة الأميركية التوريط الاتحاد السوفياتي عسكرية في الوحل الأفغاني، ولتغدو أفغانستان بالمقابل بمثابة "فيتنام سوفياتية " تشار فيها الولايات المتحدة من هزيمتها في "فيتنام الأميركية" بدعم سوفياتي يومها. وهكذا كانت أفغانستان " الفخ الفيتنامي" للسوفيات فيها، وقد نصبه الأمريكان ببراعة فائقة، كان من الصعب على السوفيات التخلص منه بسهولة بعد وقوعهم فيه.
هكذا تم اعداد أفغانستان من قبل واشنطن لحرب مروعة دامت 12 عاما ضد الاتحاد السوفياتي لم يكن الشعب الأفغاني قد طلبها أو أرادها. وقد كانت حكومة كابول في ذلك الوقت تعد البلاد الى حكم علماني اصلاحي. أما الولايات المتحدة فكانت تسعى - كما سبق القول الى تحويل أفغانستان إلى فيتنام للسوفيات هذه المرة لكي تراق دماء الروس فيها مثلما أريقت دماء الأميركيين في فيتنامهم. ولم يكن يهم واشنطن كثيرة أن تتحول أفغانستان الى دولة إسلامية أصولية متطرفة وهو ما كانت تعادي إيران الاسلامية بعد سقوط الشاه بسببه، بقدر ما كان يهمها أن ينتشر هذا المد الأصولي الاسلامي إلى جمهوريات الاتحاد السوفياتي في آسيا الوسطى ويقلب الأوضاع على موسكو. ولم يكن الأميركيون يجرؤون على استخدام تعبير " الإرهابيين" في وصف هؤلاء المتمردين الاسلاميين حين كانوا يسقطون بقذائفهم طائرة مدنية في أفغانستان، ويزرعون المتفجرات في المطار.|
وفي عام 1986 لم تتردد رئيسة حكومة بريطانيا مرغريت تاتشر التي تعتبر نفسها زعيمة الحرب ضد الإرهاب " في استقبال "عبد الحق"، أحد زعماء المتمردين الأفغان الذي اعترف أنه وضع متفجرات في مطار كابول عام 1984 وتسبب بمقتل 28 مدنيا.
هكذا كانت واشنطن تشن قتالها في الحرب الباردة ضد الاتحاد السوفياتي في القرن العشرين. ومثلما كان أناستاسيو سوموزا حليف واشنطن، أصبح المتمردون الاسلاميون الأفغان اليوم " إرهابيو الولايات المتحدة المتعصبون"!!!. أما أخلاقية استخدام الأفغان وقودة للحرب ضد السوفيات فقد عبر عنها "ستانفيلد تيرنر" مدير السي آي إي في ذلك الوقت حين قال: "لكي نزعزع الوضع السوفياتي، من الجائز استخدام حياة الآخرين من أجل مصالحنا الجيو استراتيجية ".
وعلى الفور بدأ البنتاغون والسي آي إي بتدشين حربهم ضد موسكو دون الاهتمام بمقتل مئات الآلاف من الأفغان أو بتدمير المجتمع الأفغاني. ودون الاهتمام بمليارات الدولارات التي يقدمها دافع الضرائب الأميركي لتلك الحرب في أفغانستان (مع أن أكثر تمويلها لم يكن أميركيا). وكانت مقادير كبيرة من هذه الأموال تدخل إلى جيوب قلة من الأفغان والأغنياء من الباكستانيين. وقال تشارلز ويلسون عضو الكونغرس من تكساس: "لقد قتل لنا 58 ألف أميركي في فيتنام، والروس مدينون لنا بواحدة، ولأن عليهم تذوق ما تجرعناه". وهذا ما كان يفكر فيه الروس بعد أحداث 11 أيلول لتوريط الأميركيين في الوحل الأفغاني، وتجرع الكأس الذي تجرعوه قبلهم ... |
وتمتعت السي آي إي بدور المنسق الكبير لجميع الأعمال في أفغانستان ضد السوفيات. فهي التي تقوم بدور شراء وترتيب الحصول على اسلحة من الطراز السوفياتي من مصر والصين وبولندا وإسرائيل، ومن كل مكان متوفر. وإذا لم تجد من هذه الأنواع تقدم فورة أسلحة اميركية. وكانت السي آي إي تقوم بترتيب التدريب العسكري للاسلاميين على يد ضباط أميركيين ومصريين وصينيين، وتدق أبواب دول الشرق الأوسط لجمع التبرعات والأموال للإسلاميين الأفغان خصوصا من السعودية التي كانت تدفع مئات كثيرة من ملايين الدولارات كل سنة، وبما يزيد على مليار دولار سنويا. وكانت السي آي إي تقوم بالضغط على باكستان وتقديم الرشوات لها لتأجير أراض في بلادها لمعسكرات التدريب والاعداد للعمليات ضد السوفيات، حتى أصبح الباكستانيون المخططون للعمليات العسكرية للإسلاميين الأفغان. وأصبح الجنرال الباكستاني
ميان محمد أفضال" الذي كان يتقاضى راتب شهرية من السي آي إي هو الضابط الأعلى للتعاون الباكستاني - الأميركي مع الاسلاميين المتمردين. (من وثائق السفارة المعلومات السرية للسي آي إي - تقرير 1979
/ 10/ 30. المجلد رقم 30). ولهذا الغرض أعادت واشنطن مساعداتها العسكرية والاقتصادية اللباکستان طالما إلا ستشارك في هذه الحرب، علما أن الجمهور الباكستاني كان قبل شهرين من غزو القوات السوفياتية لأفغانستان قد أحرق وهب سفارة الولايات المتحدة في (إسلام آباد) ومراكزها الثقافية في مدينتين كبيرتين.
هذا، وقد ادرك الاعلام الباكستاني المستقل خطورة ما تفعله واشنطن. فقد ذكرت صحيفة "المسلم" إن الولايات المتحدة تريد وفي آذار 1979 حصلت إنتفاضة ضد النظام في مقاطعة "هرات"، وقتل عدد من المستشارين السوفيات الذين ارسلوا لقمع الإنتفاضة. ولاحظت المخابرات السوفياتية أن هذه الإنتفاضة مدعومة من جهات خارجية (حددها جون کولي بإيران). زادت هذه التطورات من قلق موسكو، سيما وأن "حفيظ الله أمين" كان قد عين رئيسا للحكومة في كابول. وقرر الكرملين مراقبة حفيظ الله أمين عن كثب، وعين لهذا الغرض في العاصمة الأفغانية دبلوماسية محتك هو "فاسيلي سافرو نتشوك "، ما لبث أن عزز الشكوك السوفياتية حول حفيظ الله أمين. بعد إنتفاضة "هرات" تجمعت شكوك ومؤشرات تفيد أن ال"سي آي إي " وإيران وباكستان كانوا يحتون بعض القبائل وقادقا الاسلاميين في أفغانستان على التحرك لدرجة أن نظام طاراقي - أمين شعر بالخطر وطلب من موسكو إرسال قوة عسكرية محدودة بهدف حماية بعض المواقع الاستراتيجية. غير أن موسكو رفضت لأن هذا التدخل المحدود كان سيفر بمثابة اعتراف هشاشة "الثورة الأفغانية".
وفي صيف 1979، تمكن " زبيغنيو بريجنسكي "، المستشار الشؤون الأمن القومي في البيت الأبيض وأحد أكثر المسؤولين الأميركيين عداء للإتحاد السوفياني، من إقناع الرئيس جيمي كارتر بتوقيع أمر سري يقضي بتقديم المساعدة إلى " المجاهدين الأفغان الذين كانوا يقاومون النفوذ السوفياتي الشيوعي في بلادهم.
وكان هذا الأمر السري هو في الواقع بداية المتاعب بالنسبة لنظام طاراقي _ أمين وبالنسبة للسوفيات في أفغانستان. ففي 23 حزيران 1979 تمرد الجيش في العاصمة كابول، قرب البازار. وفي 6 آب تمردت وحدة من الجيش الأفغاني، تحت إشراف أو أقله بتشجيع من الى " سي. آي. إي" وعملاء باكستانيين، وحاولت السيطرة على قلعة " بالاهيزار" داخل کابول، وهي في موقع استراتيجي يمكن منه إستهداف معظم أحياء العاصمة. واشتبه السوفيات ب " حفيظ الله أمين " معتبرين أنه كان وراء هذه التمردات العسكرية أو أنه على الأقل كان على علم بأنها سوف تحدث. واعتبروا أنه، نظرا لحسن علاقاته مع السفارة الأميركية في
كابول، يريد في الواقع السيطرة شخصية على الحكم وتحويل " الثورة الأفغانية " إلى دكتاتورية فردية، وذلك ربما بمؤازرة من واشنطن.
وفي 17 أيلول 1979، حصلت معارك بين فصائل الحكم في كابول، وقتل الرئيس " نور محمد طاراقي " (الذي كان مقربا ن موسكو) وحل محله " حفيظ الله أمين ".
في هذا الجو المعقد من المؤامرات والصراعات الدموية بين الفصائل الأفغانية والتنافس بين أجهزة ست دول أجنبية كانت تنشط في أفغانستان (هي الولايات المتحدة والاتحاد السوفياني وإيران وباكستان والهند وبريطانيا)، إتخذ الكرملين قراره بالتدخل في أفغانستان، خصوصا بعد أن كان السوفيات قد دفعوا إلى قمة السلطة الأفغانية بضابط من غلاة الشيوعيين - كما يقول محمد حسنين هيكل - هو " بابراك كارميل" الذي لم يكد يدخل القصر الجمهوري، حتى دعي الجيش السوفياتي إلى دخول أفغانستان بحجة أن الخطر داهم، وأن نشاط المخابرات الأميركية والمخابرات الباكستانية على وشك أن يحدث إنقساما في الجيش الأفغاني يمهد الطريق ويفتحه لعناصر في كابول مستعدة للتفاهم مع الولايات المتحدة.
هذا، وقد إتخذ الكرملين قراره بالدخول إلى أفغانستان بعدما لاحظ النشاطات التي كانت تقوم بها المخابرات الأميركية في أفغانستان. كما إعتبر أنها، ربما، كانت وراء التمردات العسكرية التي جرت ضد النظام الشيوعي في 1978 و 1979. ورأى هذه المخابرات تقوم بعمليات تنصت وإستطلاع داخل أفغانستان. وخشي أن يكون هدف الأميركيين هو خلق حالة من عدم الاستقرار على الحدود الجنوبية للاتحاد السوفياتي. وفي تحليله للوضع، إعتبر الكرملين أنه ربما أن الولايات المتحدة قد خسرت قواعدها في إيران بعد إفيار نظام الشاه
: في عام 1979، فهي ربما تحاول أن تحل الباكستان، وربما أفغانستان مكان إيران كقاعدة أميركية في المنطقة. وأنه اذا ما وقعت أفغانستان تحت سيطرة الولايات المتحدة وباكستان، فإنه يكون حينئذ بمستطاع الأميركيين نصب صواريخ قصيرة المدى في أفغانستان، وبالتالي قديد المصالح الاستراتيجية للإتحاد السوفياتي، لا سيما في كازاخستان.
لكن الأمور من وجهة نظر بريجنسكي كانت مختلفة. فهو كان قد بدأ قبل أشهر عدة من الاجتياح السوفياتي بمد المجاهدين الأفغان سرا بالأسلحة.
هذه الحقيقة حول الدعم الأميركي للإسلاميين الأفغان قبل الاجتياح السوفياتي - لم يعترف بها بريجنسكي إلا بعد سنوات من ذلك. فالرواية الرسمية الأميركية كانت تفيد أن الرئيس كارتر لم يوافق على مد المقاومة الأفغانية بالاسلحة، عبر باکستان، إلا بعد الاجتياح السوفياني.
لكن في كانون الثاني 1998، صرح بريجنسكي إلى مجلة "لونوفيل اوبسرفاتور" الفرنسية قائلا: "إن الحقيقة التي لم يكشف النقاب عنها حتى اليوم هي مختلفة تماما: لقد وقع الرئيس كارتر في 3 تموز 1979 أول أمر متعلق بتقديم مساعدة سرية إلى معارضي النظام الأفغاني المقرب من موسكو. ولقد كتبت في اليوم ذاته تقريرا الى الرئيس كارتر قلت فيه إنني أعتقد بأن هذه المساعدة سوف تؤدي إلى تدخل عسكري سوفياني في أفغانستان" ... وأمام الدهشة التي أصابت الصحافي الذي كان يحاوره،
فهو أدى إلى استدراج السوفيات إلى الفة الأفغاني. فلماذا تريدي إذا أن أندم على ذلك؟ ".
وأضاف بريجنسكي أنه فور الاعلان رسميا عن أن الجيش السوفياني قد اجتاز الحدود الأفغانية في 23 کانون الأول 1979، کتب تقريرا إلى الرئيس كارتر يقول له فيه: "ها هي الفرصة قد سنحت لنا لكي نقدم إلى الاتحاد السوفياتي حرب فيتنام الخاصة به". وختم بريجنسكي بالقول أن السوفيات قد اضطروا بذلك إلى خوض حرب " ليس بالإمكان تحملها " طيلة عشر سنوات، وإن هذه الحرب قد أدت في النهاية إلى تثبيط هئمة الإمبراطورية السوفياتية وإنهيارها.
اما كيف وقع الإتحاد السوفياتي في الفخ الأفغاني عبر قرار الكرملين بالدخول العسكري إلى أفغانستان. يوضح محمد حسنين هيكل، التفاصيل بدقة، مستقاة من مصادرها الأصلية، وأيضا من أصحابها الذين شاركوا في صنع القرار بشأها. وهذا ما يعطي الموضوع مصداقيته وبعده الوثائقي البالغ الأهمية في هذه المسألة.
من هنا، لم يكن قرار القيادة السوفياتية بدخول الجيش الأحمر إلى أفغانستان سهلا، بل كان إختيارا بالغ التعقيد فرض عليها ما لم تكن مستعدة له أو متفقة عليه. والحقيقة أن قرار التدخل أحدث إنقسام داخل المكتب السياسي للحزب الشيوعي، كما أنه أوقع خلاف بين المكتب السياسي وبين القيادة العليا للقوات المسلحة السوفياتية. وطبقا للوثائق (التي فتحت ملفاقا قبل أواها بأمر من الرئيس الأسبق " بوريس يلتسين " بقصد تحديد المسؤوليات في النهاية المؤلمة للنظام الشيوعي) فإن أول إشارة واضحة عن إحتمال دخول الجيش السوفياي الى أفغانستان وردت في مذكرة الجنرال " ليونيد شيبارشين " الممثل الرئيسي للمخابرات السوفياتية في كابول. والمذكرة " تشير إلى إتصالات سرية يقوم به الجنرال "حفيظ الله أمين " مع " قيادات التمرد" الإسلامي نهايتها تمكين عملاء المخابرات الأميركية من مقادير البلاد، وتظهر بعد ذلك في الوثائق السوفيتية رسائل من " بابراك کارميل " تشرح خطورة الأوضاع في كابول، ثم تتحدد الخطوط أكثر في مذكرة مشتركة قدمها إلى المكتب السياسي أربعة من أعضائه هم: " يوري أندربوف " المشرف على الأمن الداخلي،"وأندريه غروميكو " وزير الخارجية، و " ديمتري أوستينوف" نائب رئيس الوزراء ووزير الدفاع، و " بوريس بوناماريوف " مسؤول الشؤون العقائدية. وفي هذه المذكرة أبدي الساسة الأربعة " أن الموقف في كابول يقتضي دخول قوات من الجيش السوفياتي وإلا فإن أفغانستان سوف يجري تسليمها للولايات المتحدة الأميركية وعملائها، بكل ما يعنيه ذلك من إنكشاف يعرض للخطر أمن الجمهوريات السوفياتية الجنوبية (الإسلامية).
وعندما عرضت المذكرة - وهي مكتوبة بخط اليد - على إجتماع المكتب السياسي يوم 20 كانون الأول 1979، إعترض عليها
خمسة من أعضائه وهم: " سوسلوف "، و " جريشين " و " كيرلينكو " و" بلش " و " تيخونوف:.
وكان رئيس المكتب السياسي هو الزعيم السوفياتي "ليونيد بريجنيف" موزعة بين الفريقين، والداعي إلى حيرته أن ثلاثة من كبار القادة العسكريين الذين حضروا اجتماع المكتب السياسي اعترضوا - هم أيضا - على إدخال الجيش السوفياتي في وحدات منه الى ساحة الفوضى الأفغانية، وكان الثلاثة هم: الماريشال "نيكولاي أو جار کوف" والماريشال "سيرجي أخرامويف" من رئاسة أركان حرب الجيش، والجنرال "فالنتين فادينيکوف" وهو المستشار العسكري الرئيس المكتب السياسي (زعيم الاتحاد السوفياني).
وطالت المناقشات طوال يومي 20 و 29 كانون الأول 1979. وعند الظهر إنضم "بريجنيف" إلى معسكر الداعين للتدخل، وبانضمامه اليهم رجحت كفتهم وصدر القرار. ومع غروب مساء يوم 29 كانون الأول 1979، نزلت وحدات من الجيش السوفياتي بالطائرات في مطار كابول، كما أن فرقة مدرعة من هذا الجيش بدأت عبور الحدود بسرعة متوجهة الى العاصمة الأفغانية.
وصباح يوم 27 كانون الأول 1979، نزل الرئيس جيمي كارتر إلى مكتبه البيضاوي في الساعة السادسة والنصف كما هي العادة كل يوم ليجد مستشاره لشؤون الأمن القومي "زبيغنيو بريجنسكي" في انتظاره بنفاد صبر. مع إن ذلك الاجتماع الصباحي موعد مقرر کل يوم بين الرئيس ومستشاره، فإن کارتر كان يعرف أن أخبارة مثيرة تنتظره. فقد أيقظه "بريجنسكي" من النوم في الساعة الثانية صباحا الخطره بأن "الجيش السوفياتي دخل أفغانستان". وكذلك كان كارتر يتوقع - بعد أربع ساعات ونصف على هذا الأخطار المبدئي - أن مستشاره للأمن القومي ينتظره في المكتب البيضاوي حاملا "سي" من التفاصيل" و "قائمة من الخيارات" للعرض والقرار.
من هنا يضيف محمد حسنين هيكل قائلا أن من المصادفات أنني سمعت بنفسي بعد عشر سنوات تفاصيل حوار الرئيس الأمريكي مع مستشاره للامن القومي، وقد سمعتها من الطرف الأقدر على روايتها وهو "بريجنسكي" نفسه، ووقتها كنا في أحد صالونات السفارة المصرية في موسكو ليلة 18 نوفمبر/ تشرين الثاني 1989 والسفير في ذلك الوقت هو وزير الخارجية المصري الحالي " أحمد ماهر".
وقتها كانت موسكو (أيام غورباتشوف وفترة الجلوسنوست أو الشفافية)، تشهد إجتماعات مصارحة بين الروس والأمريكان، وكانت الإجتماعات تحت قيادة رجلين كلاهما يعرف الخبايا: "أنا تولي دو برينين " السفير السوفياتي في واشنطن لربع قرن، وهو عضو في المكتب السياسي مع غورباتشوف - على الناحية السوفيايتة - وأما على الناحية الأخرى فقد كان " زبيغنيو بريجنسكي "مستشار " کارتر" للأمن القومي - هو الذي يتصدر المجموعة الأميركية -.|
وكان " أحمد ماهر " بيقظة دبلوماسي مجرب قد دعا المجموعتين الروسية والأميركية إلى العشاء في بيت السفارة المصرية، وكان السفير الأميركي في موسكو وقتها (ماتلوك) وکنت - الضيفين الوحيدين من خارج مجموعتي " المصارحة ".
وعلى مائدة العشاء دار کلام لاحظ فيه " أناتولي دوبرينين " أن الدبلوماسية في الزمن الجديد تقتضي تشاورة مسبقة بين الأطراف لا تتخفى فيه النوايا وراء العبارات المبهمة، لأننا في عصر لم يعد في مقدور طرف أن يخبئ فيه شيئا، وأن " الشطارة " الزائدة في السرية كما كان في عهود سابقة لم يعد لها لزوم، لأن تصرفات الأطراف في أي أزمة تدل عليها الخيارات المفتوحة أمامهم وضمنها حسابات قوقم. ثم أن " مناخ السرية قد يوقع الجميع وبينهم أصحابه في خطأ التقدير. وكذلك تبدأ ردود أفعال تصعب السيطرة عليها وتؤدي لأوخم العواقب ". وأشار " دوبرينين " على سبيل التدليل على قرار دخول الجيش السوفياني إلى أفغانستان، وكيف أن سرية التصرف ومفاجآته أوقعت الطرف الأميركي في خطأ كبير عند تقدير النوايا السوفياتية بمعنى أن السوفيات إعتبروا دخولهم إلى أفغانستان إجراء دفاعيا محضا، لكن الأميركان " قدروه " هجومية وتصرفوا على هذا الأساس ".
ويضيف محمد حسنين هيكل قائلا:" وبعد أن غادرنا مائدة العشاء وجلسنا لتناول القهوة ومعها أحاديث السهرة، في ركن الصالون الرئيسي لبيت السفارة قلت ل" بريجنسكي " ولا " دوبرينين" معا أن حكاية الدخول العسكري السوفياتي إلى أفغانستان والرد الأميركي عليه واقعه مهمة في سياق الحرب الباردة تساوي التقصي والتدقيق، ولذلك أستأذهم في العودة اليها.
والشاهد أني لم أكن في حاجة إلى أكثر من سؤال واحد وجهته لا " دوبرينين"، ورد عليه بقوله: "صحيح مازال إعتقادي أن أصدقاءنا الأميركان أخطأوا في تقدير نوايانا: كان إجراؤنا دفاعية صرفة، وكان ذلك ظاهرة أمامهم، لكنهم أخذوه هجومية وعدوانية وكذلك فعلوا مافعلوا". ثم كان أن "بريجنسكي تدخل وأفاض في الحديث ولقرابة ربع الساعة راح يتكلم ونحن نصغي جميع دون مقاطعة روحين حاول السفير - ماتلوك - أن يتدخل في الحديث وجدتني دون قصد أشير اليه بيدي راجيا منه أن لا يقطع تدفق الرواية واستجاب الرجل). | قال "بريجنسكي" وبأسلوبه الذي تتدافع فيه العبارات وتتماسك الألفاظ وتجيء مخارج حروفها قائمة محددة موجها كلامه في البداية ل "دوبرينين":
كيف كان يمكن لي - أو لغيري - فجر 27 كانون الأول 1979 تقدير نواياکم باعتبارها "عملا دفاعيا "، بينما كانت الشواهد أمامنا تقول عكس ذلك؟ ". يستطرد "بريجنسكي" وقد عاودته حرفته القديمة أستاذا للعلوم السياسية: أولا: كانت الأجواء في المنطقة شديدة التوتر بقيام الثورة الإسلامية في إيران ونجاحها وسقوط النظام الإيراني بكل مؤسساته: الذي راح يهاجم أمير کا باعتبارها الشيطان الأكبر. ولم تمض أسابيع حتى أنتج التحريض أثره، وإذا السفارة الأميركية في طهران تقع تحت الحصار، ويتحول كل من فيها رهائن لشباب إسلامي غاضب. وثانيا: (موجها كلامه لدوبرينين): إنكم تدخلتم في حرب أهلية أفغانية بين حكومة شيوعية وأغلبية من السكان مسلمة، وقد وجدناكم ذات صباح تقتحمون حدود أفغانستان، وإذا القوات السوفياتية طرفة في هذه الحرب الأهلية ضد المسلمين. وثالثا: إنني شخصيا وغيري من أعضاء مجلس الأمن القومي الأميركي (الذي دعوته قبل إجتماعي الصباحي مع الرئيس كارتر)، قدرنا أنه لا يمكن أن يكون تدخل الجيش السوفياتي نهاية النهاية في أفغانستان، وإنما بداية البداية في هذه الدولة.
يستطرد " بريجنسكي " قائلا: " وعندما جلسنا أمام الرئيس " کارتر " صباح 27 كانون الأول 1979 سالني عن تقديرنا النواياكم فقلت له: " سيادة الرئيس! نحن أمام جيش سوفياي يزحف جنوبا في أفغانستان.
وأفغانستان هي أقرب طريق للسوفيات إلى المحيط والخليج، ونحن لا نستطيع على الإطلاق وبضمير مستريح أن نقطع بأنهم لن يذهبوا إلى أبعد من أفغانستان، وحتى من أفغانستان فراهم اقتربوا أكثر مما ينبغي من المياه الدافئة للمحيط الهندي ومن منابع النفط في الخليج وذلك يدعونا إلى التصرف، وتصرفنا يكون له هدفان: الهدف الاول: وقف السوفيات لا يتقدمون بعد افغانستان. الهدف الثاني: إرغامهم إلى التراجع والخروج من أفغانستان. وبصراحة يتابع بريجنسكي فإنني قلت للرئيس أيضا:
"سيادة الرئيس إن الروس وقعوا في فخ، وتلك فرصتنا كي نرد هم جميل فيتنام، ولذلك يتعين علينا أن نعمل على سد الطرق أمامهم بحيث تحول أفغانستان إلى مصيدة لا يخرجون منها إلا بفضيحة هز هيبة الدولة السوفياتية وتكسر شوكتها".
وعلى هذا الأساس كانت انجح عملية مخابرات في القرن العشرين - كما يصفها هيكل - تشترك فيها معظم الأجهزة الأمنية والعسكرية الأميركية، "لإقلاق وإزعاج الاتحاد السوفياتي ".
وحسب ما يؤكد بريجنسكي أنه في الساعة الثانية من صباح يوم 27 كانون الأول 1979، إنعقد مجلس الأمن القومي بحضور الرئيس
کارتر" لبحث " الدخول العسكري السوفياتي في أفغانستان واستعراض الخيارات المفتوحة أمام الولايات المتحدة للرد عليه".
وكانت جلسة مجلس الأمن القومي في الواقع حوارة نشيطة بين مستشار الرئيس للأمن القومي "زبيغنيو بريجنسكي" وبين الأميرال
ستانسفيلد تيرنر" مدير وكالة المخابرات المركزية، وطبقا للوثائق الأميركية - ومن ضمنها مذكرات " کارتر" ووزير الخارجية "سايروس فانس" (ومذكرات بريجنسكي نفسه) - فإن اجتماع مجلس الأمن القومي إستقر على الخطوط التالية: 1 - إن ما عرضه مستشار الأمن القومي (بريجنسكي) وما توافر لدى وكالة المخابرات المركزية الأميركية ووكالة الأمن القومي ومخابرات وزارة الدفاع، تقطع كلها بأن حجم التدخل العسكري السوفياتي في أفغانستان كثيف، وبالتالي فإنه " ضمن الاحتمالات التي لا يمكن إستبعادها أن يكون الهدف التالي هذه القوات عملا سوفياتية في اتجاه الخليج حتى بحر العرب والمحيط الهندي، وذلك تمديد للمصالح القومية الأميركية". 2 - إن الولايات المتحدة لا تستطيع أن تتدخل علنا ضد السوفيات في أفغانستان لأنها لا ترتبط مع هذا البلد بأي اتفاقات دفاع مشترك، ثم ان تدخلها الصريح حتى مع تجاوز الاعتبارات القانونية، يمكن أن يؤدي إلى صدام مباشر مع الإتحاد السوفياتي، ويمكن أن يستفز من
ردود الفعل السوفياتية، مما يجعل الخطر على الخليج (حتى بحر العرب و والمحيط الهندي) محققا وليس محتملا فقط.
3 - إن الولايات المتحدة مدعوة إلى تعزيز وجودها المسلح في الخليج، تحسبا لكل الإحتمالات، ولذلك فإن سفراءها المعتمدين عليهم الآن أن يطلبوا من " الأطراف المحليين " أن يسمحوا بهدوء وبغير صخب إعلامي، بتفعيل تفاهمات وإتفاقيات سابقة في التعاون العسكري مع الولايات المتحدة. 4 - إن الولايات المتحدة عليها أن تشجع عناصر المقاومة في افغانستان على تكثيف نشاطها بما يمكنها من تعطيل الجيوش السوفيتية، ثم الإنتقال من حرب التعطيل إلى حرب التوريط - أي حرب إستنزاف - ترغم السوفيات في النهاية على الإنسحاب من أفغانستان عسكريا في ظروف غير ملائمة سياسية.
ه - وبما أن الولايات المتحدة لا تستطيع أن تظهر فاعلا رئيسيا في النشاط العسكري المعادي للسوفيات في أفغانستان - حتى لا يؤدي ذلك إلى صدام مسلح بين القوتين - فإن عليها (الولايات المتحدة) أن تجد قيادة بديلة لهذه الحرب الخفية في أفغانستان، ولا بد أن تكون هذه القيادة أهلية تعطيها نوعة من مشروعية " التدخل عملية " ضد السوفيات في أفغانستان.: بما أن المقاومة الأفغانية، التي أدى نشاطها إلى خلخلة الأوضاع في أفغانستان بما أوصل الى التدخل السوفياتي، مقاومة إسلامية، فإنها لا بد أن تستمر كذلك وتتصاعد باستنفار كافة أصدقائها ومناصريها في العالم الإسلامي والدول الإسلامية، والوصول في ذلك إلى حد تكوين تحالف إسلامي واسع يحمل عبء محاربة السوفيات في أفغانستان وإرباكهم. 7 - وهذه المقاومة لا بد لها من مصدر سلاح وذخيرة لا ينقطع. وحين سأل أحد الحاضرين عن مصدره كان الرد عليه (من بريجنسكي): لا بد أن نحصل عليه من أي مكان، نشتريه، نستأجره، نسرقه إذا اقتضى الأمر. 8 - ومن الأفضل أن يكون السلاح سوفياني الصنع حتي يصعب إقام الولايات المتحدة بأنها مصدره، وذلك يعطيها فرصة أن تقول للسوفيات إذا سألوها، أن هذا سلاح سوفياي تحصل عليه المقاومة الإسلامية من الإتحاد السوفيا أو من قواته في أفغانستان (أي من عندهم). و إن المملكة العربية السعودية قدمت من قبل دعمها الى العناصر الإسلامية في أفغانستان. وفيما تقول به التقارير، فإن المملكة العربية السعودية التي تشعر الآن بضغط الثورة الإسلامية في إيران عليها، وترى أن سقوط الملكية في إيران نذير شؤم للأسرة الحاكمة، على استعداد لأن تتخلى عن حذرها التقليدي وتوظف " موارد المملكة المعنوية والمادية " في " جهاز إسلامي مقدس ضد الإتحاد السوفياتي ". وإذا تحمست المملكة للدعم فإن السلاح يمكن شراؤه من مصادر عديدة (والمال عصب كل أنواع الحروب بما فيها الجهاد الإسلامي). 10 - ومن باب الإحتياط لاحتمال أن تتحرج المملكة " بترددها الدائم " في الخروج وحدها إلى هذا الجهاد المقدس، فإنه من الضروري تدعيمها مبكرة بشراكة إسلامية واسعة راسخة وقوية، بحيث أن يكون من ذلك إغراء لها بدور قيادي على رأس تجمع إسلامي يخوض " الجهاد" دفاعا عن الدين والشرع. والسعودية في الواقع. كما يقول هيكل - جاهزة لهذا الدور إذا وجدت تشجيعا عليه؛ لأن الثورة الإسلامية في إيران حرکت قلقا إسلامية في المملكة وتظهر في وسطه قيادات متشددة من الوهابيين الذين علا صوتهم بالنقد لتصرفات الأسرة الحاكمة في ثروة المملكة، كذلك فإن الثورة الإيرانية كان لها ردود فعل في المناطق الشرقية من المملكة وهي مناطق شيعية المذهب، وعلاقتها بالنظام من الأصل متوترة. 11 - إن مصر يمكن إقناعها بأن تقدم سندة قوية للسعودية في " تدخل إسلامي معاد للسوفيات في أفغانستان ". والرئيس " أنور السادات - متحفز في أي وقت للعمل ضد الإتحاد السوفياتي، وهو بالفعل منهمك في نشاطات متنوعة في هذا الإتجاه بموجب اتفاق " نادي السفاري " الذي يضم السعودية والمغرب إيران ومصر وفرنسا، ومع أن تجمع السفاري يركز نشاطه على أفريقيا، فإنه ليس صعبا إقناع الرئيس السادات بفتح جبهة أخرى لهذا النشاط يقوم عليها عمل جهادي ضد السوفيات في أفغانستان.
هذا، بالإضافة إلى مغريات إضافية تقنع الرئيس السادات بذلك: - إن الثورة الإسلامية في إيران تشغل باله (السادات) خشية زيادة نفوذ الجماعات الإسلامية في مصر ولو بالعدوى. والرئيس السادات غاضب من الثورة الإيرانية لأها أفت حكم أسرة " جلوي "، وعزلت صديقه " محمد رضا بهلوي " شاه إيران. - إن الرئيس السادات راغب إلى أقصى حد في التعاون مع الولايات المتحدة عن إعتقاد لديه من أيام إدارة ريتشارد نيكسون وهنري کيسنجر بأن "99 % من أدوار حل قضية الشرق الأوسط في يد الولايات المتحدة وحدها ". وهو لم يقصر في إعلان ما يعتقده ولا في التصرف على أساسه. [وكانت هذه العلاقة بين الرئيس "السادات" وبين شاه إيران من مفارقات السياسة المصرية وعجائبها - على حد قول هيكل - ذلك أن شاه إيران كان باستمرار وبغير انقطاع، أقرب الأصدقاء الى إسرائيل، كما أن بترول إيران كان وقود أسلحة الجيش الإسرائيلي في البر والجو والبحر طوال معارك السويس عام 1956، وسيناء عام 1997، وحرب الإستنزاف من 1998 الي 1970، والعبور سنة
لكن الرئيس السادات " روى في معرض دفاعه عن إستضافته الشاه إيران في مصر بعد طرده من الولايات المتحدة الأميركية - وليس فقط من إيران - بقوله:" إنه إستضاف شاه إيران حتى يرد له جميلا سبق به " الرجل " إلى مساعدة مصر، وتمثل بشحنة بترول كان المجهود الحربي المصري في تشرين الأول 1973 يحتاجها وطلبها الرئيس السادات) من شاه إيران، فقام الشاه بتحويل إحدى ناقلات البترول الإيرانية بكامل حولتها من عرض البحر الى مصر بدلا من وجهتها الأصلية. وهذه الواقعة " ليست صحيحة - كما يقول هيکل - في معرض تناوله لهذه النقطة مؤكدا أن " تلك واقعة فيها من العواطف أكثر مما فيها من الحقائق " ... ويظهر أن الرئيس السادات" في رغبته لمساعدة شاه إيران، إستعار له مشهد من قصة العلاقات المصرية - السوفياتية وأعاد صياغته بما يناسب هواه في ظرف مختلف.
هذا، وبشيء من " الدقة التوثيقية " يشير محمد حسنين هيكل إلى إجتماع مجلس الأمن القومي الأميركي قائلا: " وعلى أي حال، فقد إنتهت مداولات مجلس الأمن القومي الأميركي برئاسة "كارتر "صباح 27 كانون الأول 1979 بتوجيه رئاسي يقضي ب: " أن يتوجه مستشار الرئيس للأمن القومي "زبيغنيو بريجنسكي " إلى منطقة الشرق الأوسط بادنا بالقاهرة لمقابلة الرئيس " أنور السادات " والبحث معه في تنظيم جهد إسلامي شامل يساند المقاومة الإسلامية الأفغانية في مواجهتها لجيش الإحتلال السوفياني؛ ثم يتوجه " بريجنسكي " بعد القاهرة إلى الرياض المقابلة الملك خالد وولي العهد الأمير " فهد " ووزير الدفاع الأمير " سلطان "، ويجري معهم محادثات تضمن حشد موارد السعودية ونفوذها لقيادة " جهاد إسلامي " ضد الشيوعية في أفغانستان. وإذا نجح " بريجنسكي" في مهمته مع الرئيس السادات " فإنه يستطيع أن ينقل إلى القادة السعوديين ما يطمئنهم إلى أنهم ليسوا وحدهم في ساحة الجهاد).
" وأخيرا يتوجه مستشار الأمن القومي الأميركي إلى باكستان ليقوي موقف الحكومة فيها بموارد السعودية ونفوذها - وبثقل مصر ووسائلها. وحتى تثق هذه الحكومة في إسلام أباد أنها سوف تكون وسط عمل إسلامي يلتف فيه من حولها ويجمع على أرضها قوي الإسلام وإمكانياها ". وكان ذلك حلم باكستان الذي بدا بعيد المنال، والآن أصبح في متناول اليد. وطوال الأسبوع الأول من شهر كانون الثاني 1980، كان "بريجنسكي " مستشار الرئيس " کارتر " للأمن القومي في زيارة سرية ممتدة للشرق الأوسط.
وفي يوم 3 كانون الثاني 1980 قابل الرئيس السادات " لمدة ثلاث ساعات ونصف الساعة. وفي اليوم التالي (4 كانون الثاني) كان في جدة يقابل الأمير " فهد " والأمير " سلطان ". وفي يوم 5 كانون الثاني وصل " بريجنسكي " إلى إسلام أباد ليرتب الأرضية للجهاد بإسم الإسلام ضد الإلحاد.
لكن العملية كما اتضح، كان وراءها أكثر مما ظهر منها، لأن الجهاد الإسلامي الذي أعلن ضد الإتحاد السوفياتي لم يكن رد فعل طبيعية لدخول الجيش السوفياتي، وإنما كان خطوة وسط سياق جرى قبلها واستمر بعدها: - كانت الخطوة الأولى قرارة أميركية بإزعاج السوفيات في
جمهورياقم الجنوبية من قواعد في أفغانستان.
،- والخطوة الثانية تصعيد هذا النشاط وتكثيفه إلى درجة تضطر
السوفيات إلى التدخل العسكري. - وأخيرا تجيء الخطوة الثالثة وهي إعلان الجهاد عندما يقع
الدخول السوفيان المأمول والمطلوب. وذلك في سياق الحقائق التي تكشف أخيرا أن " بريجنسكي " كان يتستر عليها بأستار سميكة من الغموض، لكنه أخيرا فتح خزائن ذاكرته (وأوراقه) واعترف في حديث طويل مع المجلة الفرنسية "لو نوفيل أوبسرفاتور " - كما ذكرنا سابقا - إعترافا كاملا وافية. وقد جرى الحديث بالنص التالي: سؤال: إن المدير السابق لوكالة المخابرات الأميركية " روبرت جيتس " كتب في مذكراته التي صدرت بعنوان: " من الظلال " أن المخابرات الأميركية بدأت تساعد " المجاهدين" في أفغانستان بشكل مكثف قبل ستة شهور من دخول الجيش السوفياتي إلى ذلك البلد، وقد كنت أنت في تلك الأيام مستشارة للأمن القومي الرئيس الولايات المتحدة، ومعنى ذلك أنك تعرف وأنه كان لك دور، فهل ما ذكره " جيتس " صحيح؟ بريجنسكي: نعم، طبقا لما تقول به السجلات الرسمية، فإن الولايات المتحدة لم تدخل بثقلها في أفغانستان إلا سنة 1980 بعد أسابيع من دخول القوات السوفياتية إلى كابول، لكنه في التاريخ الحقيقي (بصرف النظر عما تقول به السجلات) فإن التدخل الأميركي لمساندة " المجاهدين " بدأ قبل ذلك بستة شهور.
إنني يوم 3 تموز 1979 عملت على إصدار توجيه رئاسي من "كارتر " بتقديم كل المساعدات الممكنة إلى العناصر المعادية للسوفيات في كابول، وفي ذلك اليوم كتبت للرئيس مذكرة قلت
" إن موقف السوفيات يزداد صعوبة في أفغانستان مع كل يوم، وأعتقد أننا رفعنا الضغط درجة. فاعتقادي أن الإتحاد السوفياتي سوف يرغم على التدخل عسكرية ومباشرة في أفغانستان ".
سؤال: معنى ذلك أنك فعلت ما فعلته عامدا لاستفزاز السوفيات؟ بريجنسكي: ليس بالضبط، نحن لم نقم ب " زق " الروس حتى يتدخلوا، ولكننا عارفون بما نفعل - رفعنا درجة إحتمال تدخلهم وقد حصل. سؤال: هل معنى ذلك أن الروس كانوا على حق في تبرير دخولهم إلى أفغانستان على أساس أهم إضطروا اليه لمواجهة عملية سرية تقوم بها الولايات المتحدة ضدهم؟ كانوا يقولون ذلك ولم يكن أحد يصدقهم، والآن يظهر أن فيما قالوه شيئا من الحقيقة، وذلك أمر يدعو الى الأسف.
بريجنسكي: الأسف على ماذا؟ إن العملية السرية التي قمنا بها كانت فكرة رائعة، لقد أدت إلى دخول السوفيات في فخ، تمنينا أن يدخلوا في مثله وقد دخلوا، فهل تريدون أن أقول لكم أنني آسف على مخطط وضعناه ونفذناه ونجح بامتياز؟ ويضيف "بريجنسكي" قائلا: يوم تدخل الروس بجيشهم في أفغانستان كتبت للرئيس "كارتر" مذكرة قلت له فيها: " إن أمامنا الفرصة الآن لكي نجعل الاتحاد السوفياتي يذوق مرارة الكأس التي شربناها في فيتنام، والحقيقة أننا ولمدة عشر سنوات جعلنا الروس يتفون دما ولا يسترفون جهدا فقط؛ فهم حين دخلوا أضوا باقتصادهم وأرهقوا سلاحهم وأضعفوا معنويات جنودهم وأضوا هيبتهم، وذلك أدى في النهاية إلى تمزق الأمبراطورية السوفياتية. سؤال: هل تعرف أن ذلك معناه أنكم أعطيتم السلاح للإرهابيين الذين أصبحوا أعداء لكم؟ ... إنكم خلقتم بذلك صورة الاسلام
الإرهابي. بريجنسكي: أيهما أفضل للغرب: إنهيار الاتحاد السوفياتي أو ممارسة الارهاب بواسطة بعض الجماعات الاسلامية؟ أيهما أخطر على الغرب: طالبان أو الاتحاد السوفياتي؟
سؤال: لكن الارهاب الاسلامي يمكن أن يتحول الى موجة عالية؟
بريجنسكي: هذا الكلام فارغ، يخلط بين الاسلام وبين ظواهر العولمة، لننظر الى الأحوال الإسلامية بدون قييج، هناك دين له احترامه وله أتباع يقدر عددهم بمليار ونصف المليار من الناس، لكن الدين لا يجمع هؤلاء سياسية في التحليل الأخير. ما الذي يجمع مسلم أصولية من السعودية أو مسلمة عسكرية من باكستان، أو مسلما معتدلا من الغرب، أو مسلمة متعلما من مصر، أو مسلما قبلية من وسط آسيا؟ لا شيء يجمع هؤلاء إطلاقا، لا يجمعهم إلا ما يجمع المسيحيين في العالم وهو في الواقع لا شيء!
هكذا تكلم الرجل (بريجنسكي) الذي صمم " و "هندس" المشروع الذي عرف ب "مشروع الجهاد الاسلامي في أفغانستان"، متواصلا فيه مع استراتيجية أميركية ثابتة جرى وضعها من قبل زمنه وزمن رئيسه "جيمي کارتر" بهدف کسب معركة كان عليها أن تدور في أفكار الناس وعقولهم، والهدف أن تتفوق الرأسمالية الأميركية ومثالها الأمبراطوري.
وتلك المعركة بدأها " دوايت أيزهاور " (ومعه الأخوان جون وألان فوستر دالاس)، وواصلها " جيمي كارتر" (ومعه بريجنسكي و ستانسفيلد تيرنر)، وأخيرا وصلت المعركة إلى "جورج بوش" (ومعه دونالد رامسفيلد وكونداليزا رايس
14 وجورج تينيت)، وكان وصولها إلى " بوش" في ظروف متغيرة - كما يقول هيكل - ذابت فيها ثلوج كثيرة فوق جبال أفغانستان، وذابت قربها إمبراطوريات.
على ضوء ذلك، ومهما إختلفت الآراء حول ولادة حركة "طالبان " ونشأها، إن كانت هناك جهات خارجية وراءها، أم أنها مخاض طبيعي ونتيجة محتمة للظروف التي كانت تسود البلاد
أفغانستان) يبقى من المؤكد أن " الملا محمد عمر " كان مجرد عضو في " الحزب الإسلامي الذي يتزعمه " مولوي يونس خالص"، أحد قادة الفصائل الأفغانية. كان له من العمر عشرون سنة عندما اجتاح الجيش السوفياتي أفغانستان لمساعدة الشيوعيين في كابول. وكانت عائلته تقيم في مخيم بالقرب من بيشاور حيث تابع الفتي دروسه القرآنية قبل أن يلتحق بالجيش لمحاربة "الكافرين". تشكلت فرق الجهاد آن ذاك من مجموعات مقاومة ضد الإحتلال السوفياني، تدربت على "حرب العصابات " في مرکز تسيطر عليه المخابرات الأميركية (سي. آي. إي) والأمن الباكستاني. وفيه تلقى الملا عمر تدريبه. حارب محمد عمر سنتين ضد الإحتلال السوفياتي حسب شهادات عدة، وأكد أنه دمر عدة دبابات مما سمح له بترؤس وحدة مجاهدين، حتى اليوم الذي فقد فيه عينه اليمني. وبعد إنسحاب الجيش السوفياتي وسقوط النظام الشيوعي، ووفاة والده، عاد وأقاربه إلى أفغانستان ليقيم في " سنغسار " حيث كان يعطي دروسا في القرآن، وفي ذلك الحي الفقير بدأت قصة " طالبان " وصعود الملا عمر.
وبنوع من التحديد الدقيق حول عوامل ظهور حركة " طالبان " والإستيلاء على السلطة في كابول خلال فترة قصيرة من ظهورها لم تتجاوز العامين، عوامل داخلية وخارجية ساهمت في هذه النشأة. وفي ظل هذه العوامل ظهرت الحركة بعدما وصلت الحالة الأفغانية الى ذروة الأزمة، مما جعل الظروف مواتية لظهور هكذا حركة، التي كان يحظى أعضاؤها بتقدير واحترام كبيرين من قبل الأفغان، باعتبارهم أكثر قطاعات الشعب نزاهة وأمانة ودينا ...
هكذا يجمع المراقبون والمحللون السياسيون أن حركة طالبان ظهرت بدعم سياسي ولوجستيكي باكستاني وبتمويل نفطي وبتسليح أمير کي. و كانت باكستان هي المستفيدة رقم واحد من إنشاء هذه الحركة _ كما يقول يوسف الجهماني في كتابه "تورا بورا أولى حروب القرن". لذا فهي قد قامت حينها بتكليف أجهزة مخابراتها بمهمة الاشراف على تشكيل الحركة والتنسيق بينها وبين الحكومة الباكستانية والادارة الأميركية ممثلة بالمخابرات الأميركية (سي آي إي) والأطراف الداعمة ماديا. ويؤكد هذا الرأي المسؤولون الباكستانيون ومنهم رئيس جهاز الاستخبارات الباكستاني السابق الجنرال "حميد جل "، الذي يرى أن حركة طالبان هي "نبتة أمريكو - باكستانية" زرعت في أفغانستان. وذهب
حميد جل" أبعد من ذلك حينما قال في الندوة التي نظمها مرکز الدراسات الاستراتيجية بإسلام آباد بتاريخ 18 تشرين الاول 1990: "إن سياسة باكستان في أفغانستان تديرها المخابرات المركزية الأميركية، وإن حركة طالبان زرعت زرعة في افغانستان".
والجدير بالذكر، أن المجاهدين الأفغان لعبوا دورا أساسيا في مساعدة أميركا على كشف أسرار الأسلحة السوفياتية، وكأهم يردون جزء من الجميل للولايات المتحدة على دعمها لهم".
إذ من المعروف أنه في أواخر السبعينات، كانت العلاقة سيئة بين الولايات المتحدة وباكستان، بسبب البرنامج النووي الباكستاني الذي كان يهدف إلى الرد على البرنامج النووي الهندي. وكانت واشنطن قد فرضت عقوبات على إسلام آباد لحتها على التخلي عن هذا البرنامج. غير أن الاجتياح السوفياتي لأفغانستان في كانون الأول 1979 خلق وضعية جديدة ومعقدة. فمن ناحية، لاحظت الولايات المتحدة أن باكستان هي القاعدة الوحيدة الممكنة، لاسيما بعد إنهيار نظام الشاه في إيران، لشن حرب ضد الجيش الأحمر" في أفغانستان، لكنها لم تكن في وارد غض النظر عن مشروع القنبلة النووية الباكستانية. ومن ناحية أخرى، كان النظام الباكستاني في حاجة ماسة إلى المساعدات الاقتصادية وللخروج من عزلته الدبلوماسية، وغير راغب كذلك في التخلي عن مشروعه النووي.
وعندما التقي زبيغنيو بريجنسكي، مستشار الرئيس الأمير ک? جيمي كارتر لشؤون الأمن القومي، بالرئيس الباكستاني ضياء الحق للمرة الأولى في إسلام آباد في كانون الثاني 1980، إتفقا سوية على أن تمر المساعدات العسكرية والمالية عبر باكستان، وأن تتولى باكستان تدريب جيش المرتزقة الإسلاميين وإستقبالهم على أراضيها قبل إدخالهم إلى أفغانستان. كانت واشنطن لا تود الظهور بتاتا في الصف الأول في هذه الحرب. ووافقت إسلام آباد على لعب دور الواجهة.
مقابل ذلك، فرض ضياء الحق شروطه ومنها أن تلتزم الدول التي ترسل المساعدات إلى باكستان (الولايات المتحدة ومصر والسعودية والصين وبريطانيا وفرنسا وإسرائيل) بالصمت الكامل حول الموضوع، لا بل أن تنفى عند الحاجة إرسالها أية مساعدات.
وكانت هذه المساعدات تصل أولا إلى يد الجيش الباكستاني الذي كان يقوم، عبر أجهزة مخابراته، بتوزيعها على الفصائل الإسلامية السبعة التي كانت تشكل المقاومة الأفغانية، وهي فصائل كانت تتشكل من مزيج بالغ التعقيد من الولاءات الدينية والقبلية والمصالح الشخصية والعلاقات الخارجية. لكن السمة المشتركة في كل هذه الوضعية كانت الفساد والبحث عن المصلحة المادية. إذ كان جزء كبير من المساعدات يتبخر تدريجيا قبل وصوله إلى المجاهدين، وحتى بعد وصوله كان بعض القادة الإسلاميين يستفيدون منه شخصية.
وكان الأميركيون، يريدون تزويد المقاومة الأفغانية بأسلحة سوفياتية الصنع، كي لا يتمكن السوفيات من الحصول على دليل ملموس على ضلوع واشنطن في تلك الحرب. لذا إضافة إلى الأسلحة السوفياتية التي كانت موجودة بكميات لدى مصر والتي وافق الرئيس المصري أنور السادات على إرسالها الى باكستان دفعت واشنطن إسرائيل إلى إرسال الأسلحة السوفياتية، التي كانت قد غنمتها في الحروب ضد العرب، لا سيما في حرب 1997، الى باكستان ... بل وتم تحويل مصنع أسلحة في مصر لكي ينتج أسلحة سوفياتية مزورة. كذلك كانت واشنطن تبحث في السوق الدولية عن أسلحة سوفياتية لشرائها، لا سيما بطرق غير مباشرة من دول أوروبا الشرقية خصوصا من بلغاريا.
ولم يكن التمويل بمشكلة - كما يقول جون کولي في كتابه "حروب غير مقدسة " - إذ كان قد تم الإتفاق بين بريجنسكي والسعودية على تقاسم جميع تكاليف الحرب في أفغانستان مناصفة بين واشنطن والرياض.
وقد لعب المال دورا محوريا في ما جرى في أفغانستان ليس فقط على شكل مساعدات أرسلت إلى المقاومة الأفغانية، بل كأداة مباشرة على الأرض ولا سيما في إطار البرنامج الأميركي السري المسمى " سوفمات " والهادف منذ الستينات وحرب فيتنام، إلى کشف أسرار صناعة الأسلحة السوفياتية.
هذا، وقد تبين منذ بداية الحرب في أفغانستان أن معنويات الجيش السوفياتي كانت منخفضة جدا، وأنه من الممكن إختراقه بالفساد. لذا تمكنت المخابرات الأميركية عبر وسطاء أفغان من شراء كميات من الأسلحة السوفياتية الجديدة التي لم تستخدم بتاتا إذ كانت لا تزال في توضيبها الأصلي، والتي كان يتم إخراجها من مخازن الوحدات السوفياتية لا سيما في كابول. ومن بين هذه الأسلحة كان هناك مثلا صواريخ جو - أرض مضادة لصواريخ
الجيش الأميركي هذه الصواريخ السوفياتية، ومن ثم عدل على ضوء ذلك صواريخ " ستينغر" التي كان يرسلها إلى المقاومة الأفغانية، مما أفقد الصواريخ السوفياتية المضادة أية فعالية.
وكانت المخابرات الأميركية ترسل إلى المخابرات الباكستانية لوائح مفصلة بالأسلحة السوفياتية التي تود الحصول عليها، وكان يتم تكليف الوسطاء الأفغان بالسطو على مخازن الأسلحة السوفياتية أو بشرائها من الجنود السوفيات. أو في حال تعذر ذلك بالبحث عنها في مواقع المعارك وإرسالها من ثم إلى باكستان ومنها الى الولايات المتحدة لكي تتم دراستها عن كثب.
ولقد تلقت بعض الفصائل الإسلامية الأفغانية تدريب خاصة حول تقنيات تجريد الوحدات السوفياتية الخاصة من الأسلحة المتطورة التي كانت بحوزقا.
من ناحية أخرى وبالوسائل نفسها، دفعت المخابرات الأميركية العديد من الطيارين الحربيين في الجيش الأفغاني الرسمي، الموالي للإتحاد السوفياتي، الى الهروب مع طائراقم، وبذلك حصلت على طائرات حربية من نوع " ميغ - 21"، ولا سيما على طائرات مروحية حربية من نوع " أم أي- 24" و " أم أي - 20".
وحتى الطائرات السوفياتية التي كان يتم إسقاطها في المعارك، كان يقوم الإسلاميون بتفكيكها وتسليمها إلى الأميركيين. وهذا ما حصل مثلا في عام 1988 عندما أصاب المجاهدون طائرة من نوع " سوخوي - 24 "، واضطرت الطائرة الى القيام هبوط إضطراري، ومن ثم إستلمتها المخابرات الأميركية. وتبين أن الطائرة لم تكن متضررة جدية من إصابتها.
ولمكافأة المجاهدين، أرسلت المخابرات الأميركية إليهم شاحنة من نوع " تويوتا " وبعض قاذفات القنابل.
والجدير بالذكر، أن قائد طائرة السوخوي تلك الذي وقع في الأسر كان الملازم "الكسندر روتسکوي"، ولقد عرض عليه أن ينشق عن بلده، غير أنه فضل العودة إلى موسكو، حيث وصل إلى مرتبة نائب الرئيس الجمهورية الروسية، ومن ثم ساهم في المحاولة الانقلابية التي قضت على نظام ميخائيل غورباتشوف وأدت إلى إنهيار الاتحاد السوفياتي.
لقد كلفت الحرب ضد السوفيات في أفغانستان قرابة مليار دولار في السنة، لكن خلال السنوات العشر التي إستمرها تلك الحرب، (إذ إنسحب السوفيات نهائيا من أفغانستان في عام 1989)، كانت الحرب الباردة" مستمرة بين واشنطن وموسكو، ولم يكن من المتوقع أن ينهار الاتحاد السوفياتي بتلك الصورة، وبتلك السرعة.
اليمن الجنوبي في حرب عام 1994 مما كان مناقضة كلية للمصالح السعودية.
وبسرعة من تونس إلى مصر الى المغرب إلى الجزائر، أو البوسنة أو الفيليبيين أو الأردن أو السودان، أو الدول الخليجية، تبين أن الإسلاميين بدأوا ينشطون ضد المصالح الأميركية والسعودية ... كما بدأت هذه الحركات الإسلامية تستثمر وتبني مصادر تمويل خاصة بها ومستقلة، وكان أن كبرت هذه الحركات وبدأت تقوم بعمليات ضد المصالح الأميركية في الخليج وفي أفريقيا وفي أوروبا، ولا بل في الولايات المتحدة نفسها، وضد الأنظمة المقربة من الغرب في العالم الإسلامي. أضف إلى ذلك أن باكستان والسعودية، حليفتي الولايات المتحدة قد ساعدتا بموافقة من واشنطن، حركة " الطالبان " على النمو في أواسط التسعينات فوصلت إلى الحكم في كابول، وتحولت بذلك أفغانستان إلى قاعدة للحركات الإسلامية في العالم. وفي النهاية وصلت الأمور إلى ما جرى في الولايات المتحدة في 11 أيلول 2001. وبذلك دفعت الولايات المتحدة وحلفاؤها ثمن اللعب بالنار وبالآخرين.
ومما يجدر ذكره في هذا الإطار، أن الولايات المتحدة الأميركية مدت الاسلاميين في أفغانستان بأحد أنواع الصواريخ الحديثة المتطورة وهو صاروخ "ستينغر". وقد لعب هذا الصاروخ الأميركي المضاد للطائرات دورا مهما في "الجهاد" الأميركي في أفغانستان، حيث ألحق خسائر فادحة بالطيران السوفياتي وبالطيران الأفغاني. غير أن قصة إستخدام هذا الصاروخ تلخص لوحدها مخاطر السياسة الأميركية تجاه الحركات الاسلامية.
يقول "جون كيلي" في هذا الصدد، بأن أول شحنة من صواريخ "ستينغر" وصلت الى الاسلاميين في أفغانستان كانت في صيف 1989، وسقطت أول طائرة هليوكوبتر سوفياتية في شهر أيلول. وفي الأشهر العشرة التي تلت ذلك، أطلق الاسلاميون 1390 صاروخ "ستينغر"، وكانت نسبة هذا النجاح في استخدام هذا الصاروخ عالية جدا، إذ أصاب أهدافه في 70 في المئة من ال
190 مرة.
هذا، وكان المدربون الأميركيون والمخابرات الباكستانية يحرصون في البداية على مراقبة استخدام "ستينغر " عن قرب، لكن أمام الخسائر الفادحة التي ألحقها هذا الصاروخ بالجيش السوفياتي، وبما أن الاسلاميين بدوا قادرين على استخدامه بنجاح لوحدهم، بدأت هذه الرقابة تخف، بينما كانت شحنات "ستينغر" تتوالى الواحدة بعد الأخرى الى أفغانستان، مما أدى بالمجاهدين الى الوقوع في حب صاروخ "ستينغر".
وعندما إنسحب الجيش السوفياتي في عام 1989، شعرت المخابرات الأميركية بأن هذا الصاروخ قد يفلت من يدها، فبذلت جهدا ضخما لشراء الصواريخ التي كانت قد ارسلتها إلى الاسلاميين. غير أن القادة الاسلاميين كانوا على استعداد للتخلي عن أهلهم بدلا من التخلي عن صواريخ "ستينغر".
وارتفعت أسعار ال "ستينغر" في أفغانستان بشكل مذهل، فهذا الصاروخ الذي كانت القطعة الواحدة منه تكلف الجيش الأميركي 30 ألف دولار. وعلى الرغم من هذا الثمن الباهظ، كان من المستحيل إقناع القادة الاسلاميين بالتخلي عنه.
بعد ذلك، بدأ يظهر أن هذا الصاروخ قد غادر افغانستان. ففي 9 تشرين الأول سنة 1987 إعترفت وزارة الدفاع الأميركية بأن قطع غيار تابعة لهذا الصاروخ قد وجدت على متن قارب تابع للبحرية الإيرانية في مياه الخليج. وتبين فيما بعد أن بعض المقربين في أحد قادة الأفغان، قلب الدين حکمتيار، قد باع البحرية الإيرانية في أيار 1987، ستة عشر صاروخ " ستينغر " بمبلغ مليون دولار.
كذلك، أفاد تقرير روسي أن الجيش الإيراني قد سيطر على شحنة من ال "ستينغر" على الحدود مع أفغانستان، وأن محتوى هذه الشحنة قد سلم قسم منه إلى القوات الإيرانية، وتم بيع قسم
مه آخر (عشرة صواريخ) إلى مهربي مخدرات بسعر 300 ألف دولار للقطعة (إذ كان هؤلاء المهربون يريدون التخلص من طائرات الهليوكوبتر التي كانت تراقب أحيانا ما يقومون به. ووصل الأمر إلى درجة أن المخابرات الأميركية خصصت في السنوات الأخيرة من رئاسة جورج بوش (الأب) ميزانية مقدارها عشرة ملايين دولار لإسترجاع صواريخ "ستينغر" التي اختفت عن أنظار الأميركيين. غير أن هذا المبلغ لم يكن كافيا أبدا، سيما وأن الإتحاد السوفياتي قد بدأ يتفكك، وأن الجمهوريات الحدودية
كانت قد بدأت تستقل وتبحث عن أسلحة في السوق السوداء، مما جعل صاروخ "ستينغر" يصل إلى مستويات خيالية. وربما يكون الستينغر" هذا قد تسرب إلى الشيشان أو إلى بلدان أخرى.
إزاء هذا الوضع، نتساءل عن الدروس السياسية والعسكرية والتاريخية (ولا سيما الدروس الإنسانية) التي يمكن إستخلاصها من السياسة الأميركية تجاه الحركات الإسلامية؟.
من خلال المعاينة الدقيقة لتطورات القضية الأفغانية، والطريقة التي تعاملت فيها الولايات المتحدة مع كافة الأطراف، المعنيين بها، وبالتالي محاولات توريط الإتحاد السوفياتي في وحل أفغانستان وإستدراجه الى " فخ أميركي " نصب له بإحكام فوقع فيه، بالإضافة إلى الأسلوب المخادع الذي انتهجته المخابرات والإدارة الأميركية في إقامة " جبهة دعم إسلامي " لقضية " الجهاد في أفغانستان " من دول ممولة ومساندة (عربية وإسلامية) يتبين بوضوح أن الولايات المتحدة تعمل وفق إستراتيجية محددة قدف إلى السيطرة على العالم والتحكم بناسه وثرواته الطبيعية والباطنية، وليست أفغانستان والحرب عليها ومن خلاله، إلا حلقة في هذه السلسلة الأميركية العدوانية الرامية إلى الإلتفاف على عنق العالم وشعوبه لخنقها وخنقه، من أجل الوصول إلى أحادية الحكم والتحكم والهيمنة.
كما أن أهم درس يمكن إستخلاصه من هذه السياسة هو أن الولايات المتحدة الأميركية - شأنها شأن كل القوى الاستعمارية في أي زمان ومكان - لا يمكن الوثوق بها مطلقا، لأن مصلحتها فوق كل اعتبار، والتمسك بحلفائها مرهون بالإستفادة منهم وامتصاص دمهم حتى آخر نقطة، وعندما تجف دماؤهم وتنعدم الفائدة منهم عند الإنتهاء من المهمة والوظيفة الموكولة اليهم، تتخلى عنهم وتلقيهم في سلة المهملات دون أسف على فقدانهم ...
يضاف إلى ذلك، أن الولايات المتحدة نفسها تدرك أنه من الخطر إستخدام " المرتزقة " الإسلاميين لتحقيق أهداف السياسة الأميركية _ إلى الأبد - لأن ذلك قد يرتد في مرحلة لاحقة على المصالح الأميركية نفسها - وهذا ما ينطبق على كل مرتزق، وعلى
مه كل المرتزقة أينما كان وكانوا .. كما أن الفئات المحرومة بين المليار مسلم وأكثر الذين يعيشون على وجه الأرض، مناهضة للولايات المتحدة، أو بالأحرى لا مبالية ولا يمكن الإتكال على دعمها.
وإن أجهزة المخابرات الغربية غير قادرة على فهم " الحركات الإرهابية الإسلامية " وتوقع ما ستقوم به بدقة، باعتبار أن الأسس والمنطلقات والأهداف والمبادئ التي تقوم عليها هذه الحركات، متناقضة كليا مع تلك التي تقوم عليها الدول الغربية ومخابراتقا.
لذلك كان تاريخ الولايات المتحدة الأميركية في منطقة الشرق الأوسط أجمع هو عبارة عن لائحة طويلة من الأخطاء، ومن الدروس والعبر في الوقت ذاته. كما كان هذا التاريخ في العالم كله، منذ وجود القارة الأميركية، تاريخا مليئة بالدم والقهر والتنكيل والتدمير والنهب المنظم، إلخ ...
وفي معرض ذلك، نستطيع إيجاز بعض الإنتهاكات الأميركية لحقوق الأمم والشعوب في العالم على الشكل التالي:| 1- قصف مدينتي هيروشيما وناغازاكي اليابانيتين بالقنابل الذرية وإبادة مئات الآلاف من البشر في آب 1945. 2 - قتل مئات الألوف من الشعب الكوري في الخمسينات وتدمير بلاده.
وه
مصادر و المراجع :
١- موسوعة الامن
والاستخبارات في العالم
المؤلف: د. صالح
زهر الدين
الناشر: المركز
الثقافي اللبناني للطباعة والنشر والتأليف والترجمة - بيروت
الطبعة: الاولى
تاريخ النشر:2002
م
31 مارس 2024
تعليقات (0)