المنشورات
المخابرات السوفياتية تتغلغل في نخاع اليابان
تعتبر شبكة التجسس السوفياتي في اليابان من أهم الشبكات الجاسوسية التي حققت لروسيا أكبر المنجزات وأعظمها في التاريخ، وقد أجمعت كافة المؤلفات والآراء التي تناولت أعمال هذه الشبكة التي كان براسها الدكتور دريتشارد سورج، على تأكيد أهمية المكتسبات والدور الكبير الذي قامت به في خدمة الأهداف التكتيكية والاستراتيجية للإتحاد السوفياتي.
انطلاقا من ذلك فقد ذكر رونالد سميث في كتابه (فن الجاسوسية، أن هذه الشبكة حققت واحدة من أهم الأعمال في تاريخ الجاسوسية العالمية. كما أوضح الملحق السياسي بسفارة المانيا بطوكيو في الفترة التي عاصر فيها نشاط هذه الشبكة أنه يعجب بما قام به سورج من أعمال باهرة في الجاسوسية وهي تكاد تكون ضربا من المستحيل، حيث كان من أقدر الجواسيس وأشدهم خطرة في جميع العصور. اما کورث سنجر فقد وصفه بأنه أعظم جاسوس في تاريخ روسيا القيصرية والشيوعية.: وفي الحقيقة اننا لا نبالغ القول بأن النتائج النهائية للحرب العالمية الثانية قد ترتبت على الأعمال الهامة والمتوالية لهذه الشبكة. وهو ما يضع انجازاتها في مقدمة العمليات البارزة التي قامت بها أجهزة المخابرات المختلفة في الحرب العالمية الثانية بل وخلال جميع المراحل التاريخية السابقة.
والجدير بالذكر أن الفضل الأول في انتصار القوات السوفياتية الحاسم على الجيش الألماني في معركة ستالنجراد، والذي كان بداية النهاية للرايخ الثالث، يرجع إلى المعلومات التي حصل عليها العملاء السوفيات في اليابان، والتي مكنت من نقل نحو مليونين من الجنود السوفيات من الحدود الشرقية والجنوبية لسيبيريا الى ميدان القتال حيث كانت الحاجة اليهم ماسة، مما أدى إلى الحيلولة دون سقوط العاصمة السوفياتية في أيدي القوات الألمانية ثم هزيمتها بعد ذلك في جميع المعارك الهامة التالية.
فمن هم عناصر هذه الشبكة التجسسية؟ وما هي أسرارها؟.
لا شك أن نجاح الشبكة يرجع في جانب كبير منه الى شخصية وأعمال رئيسها الدكتور
ريتشارد سورج
الذي يعتبر بحق من افضل واشهر رجال المخابرات على مر التاريخ. فهو الماني الجنسية، ولد عام 1890 من أبوين المانيين. وقضى فترات صباه وشبابه بين مواطنيه مما يثير بالتالي حقيقة الدافع الذي جعله من أكثر الشيوعيين الأجانب ولاء للإتحاد السوفياتي، وللشيوعية الدولية، ومن أفضل العملاء السوفيات منذ ثورة أكتوبر حتى الوقت الحالي. وتعطينا الظروف السياسية والعسكرية والاقتصادية التي عاصرها والمبادئ الشيوعية التي تأثر بها تفسيرا واضحا لهذه الحقائق.
فقد تأثر سورج بهزيمة بلاده في الحرب العالمية الأولى، والظروف الاقتصادية السيئة التي عاشتها في أعقاب الحرب والتي عاني من ويلاتها الكثير، حيث أصبح عاطلا عن العمل، ولا يجد ما يستعين به على مواجهة متطلبات الحياة. وقد انعكس ذلك على تفكيره ومعتقداته الى حد التذبذب، ومهد كل هذا للتحول الرئيسي في آرائه ونظرته للمجتمع الألماني وغيره من المجتمعات.
وكانت الخطوة الكبرى التي أعقبت ذلك في التجاءه الى قراءة المؤلفات والمراجع الشيوعية خاصة كتابات مارکس ولينين، والتي جعلته يؤمن بأن الأنظمة التي قامت على أساسها هي الوحيدة التي يمكن أن تحل جميع مشاكل المجتمع الألماني، فضلا عن مشاكله الخاصة، (وكان رائده في ذلك جده لأبيه أدولف سورج الذي كان سكرتيرة خاصة لكارل مارکس) وقد أدى هذا الاتجاه في النهاية الى التحاق ريتشارد سورج بالحزب الشيوعي الالماني فرع هامبورغ) في نفس اليوم الذي حصل فيه على درجة الدكتوراه في العلوم السياسية عام 1920.
ونظرا للنشاط الواسع الذي قام به سورج في خدمة فرع الحزب بهامبورغ (تلقين مبادئ الشيوعية للطلبة الذين قام بالتدريس لهم ولعمال المنجم الذي عمل فيه الكثيرون غيرهم - واشتراكه في اضطرابات کييل التي أدت الى تمرد الأسطول الالماني ... ) وتفانيه في تحقيق الأهداف الأخرى للشيوعية. بالإضافة إلى تمتعه بذكاء خارق وبديهة حاضرة وإرادة قوية، أدرك المسؤولون عن المخابرات السوفياتية بالاشتراك مع زعماء الحزب الشيوعي الألماني أن سورج يعتبر هدفا صالحا للتجنيد، وبعد مزيد من التحريات التي أكدت هذا الاتجاه تم عرض فكرة التعاون عليه
ا نوبل هذا التجنيد من جانب سورج بارتياح، لإتاحته فرصة واسعة أمامه الخدمة المبادئ التي آمن بها فضلا عن كونه ميدانة جديدة لا يخلو من الإثارة المحببة إلى نفسه. وقد اجتاز بنجاح جميع المراحل المتعددة للتدريب والتي استغرقت خمس سنوات وأجاد خلالها جميع الوسائل الفنية المتعلقة بالمهنة، وثلاث لغات أجنبية في الروسية والانجليزية والفرنسية، بالإضافة إلى لغته الأصلية ثم تعلم فيما بعد اللغتين الصينية واليابانية. كما قام بزيارة عدد كبير من الدول الاتحاد السوفياتي - الولايات المتحدة - الدول الاسكندنافية - الدول البلقانية - بريطانيا - الصين - هونج كونغ - اليابان - الخ .. ) مما كان له أثره في زيادة الخبرات التي اكتسبها وتوسيع أفاق تفكيره.
وعندما اختير لرئاسة الشبكة السوفياتية باليابان - بعد نوليه عدة مهام مماثلة في دول كثيرة. كان قد اطلع بالفعل على عدد كبير من المؤلفات السياسية والاقتصادية التي جعلته باعتراف الجميع أحد الخبراء الذين يعتمد عليهم في الشؤون الدولية والداخلية لعدد كبير من الدول. وقد حرص بعد توليه العمل باليابان على دراسة كل ما يتعلق بالسياسة الخارجية لها، وعلاقاتها الثقافية مع الدول الكبرى، فضلا عن معرفة دخائل القوى الرئيسية التي تسيطر على سياستها الداخلية والعوامل التي تحركها والمشاكل السياسية والاقتصادية والاجتماعية التي تسود المجتمع الياباني، الأمر الذي ساعده بعد ذلك كثيرا في إدارة الشبكة بكفاءة ودقة نادرتين، وجعله بحق من أفضل وأشهر رجال المخابرات على مر التاريخ.
ونظرا للأهمية الكبيرة التي علقها الاتحاد السوفياتي على النتائج التي يمكن أن تحصل عليها شبكة اليابان، اشترك مدير المكتب الرابع التابع لهيئة اركان حرب الجيش السوفياتي بنفسه مع سورج في اعداد الخطط الرئيسية لها وطريقة تشغيلها وأسماء أعضائها والوسائل التي ستستخدمها في نقل المعلومات التي ستحصل عليها. وقد بدأت الشبكة نشاطها بالفعل في سنة 1934. ويلاحظ أن معظم أعضائها الرئيسيين وهم سورج - اوزاكي - کلاوزن - فوکولويتش) كانوا يعملون من قبل في الشبكة السوفياتية بالصين، أي كانت لهم خبرة سابقة وطويلة بأعمال المخابرات، وبالظروف الدولية والداخلية لمنطقة جنوب شرقي آسيا، الأمر الذي أتاح لهم خلفية واسعة عن سياسة اليابان تجاه هذه المنطقة. وهو ما ساعدهم فيما بعد على إنجاز أعمالهم التي تعلقت في جزء كبير منها بالنوايا المعاصرة والمستقبلية لليابان.
وعندما كان من المعروف أن نجاح أي عمل في ميدان المخابرات لا يتحقق إلا باتحاد الشخص الذي سيتولاه ساترا أي غطاء يتلاءم مع طريقة العمل الذي يقوم به ويغطي حقيقة نشاطه ويعطيه في نفس الوقت حرية واسعة للحركة وإقامة الاتصالات الضرورية .. فقد نجح جميع الأعضاء الرئيسيين في الشبكة بدون استثناء في توفير الساتر المناسب واستغلاله لاقصي درجة ممكنة. ونظرا لأهمية هذا الجانب فإنه لابد من الإشارة الى طبيعة السواتر التي اتخذها الأعضاء الخمسية الرئيسيين بالشبكة (سورج - اوزاکي - کلاوزن - فوکولويتش - مياجي) والدور الذي قام به كل منهم خلالها.
مصادر و المراجع :
١- موسوعة الامن
والاستخبارات في العالم
المؤلف: د. صالح
زهر الدين
الناشر: المركز
الثقافي اللبناني للطباعة والنشر والتأليف والترجمة - بيروت
الطبعة: الاولى
تاريخ النشر:2002
م
31 مارس 2024
تعليقات (0)