المنشورات
المخابرات السوفياتية تتغلغل في نخاع اسرائيل
إن الذين يتنقلون على رؤوس أصابعهم، غير الذين يضربون الأرض بأقدامهم الثقيلة ومن يظن نفسه منها عن الخطا والاختراق، سرعان ما يكتشف بأنه قد نخر حتى العظم، وتغلغلت المخابرات في شرايينه تماما كما يتغلغل الدم.
والملاحظ أن الاستخبارات السوفياتية هي التي احترفت هذا النوع من التغلغل، وكان لها نصب السبق في هذا المضمار، ليس في نخاع أميركا وبريطانيا فحسب، وإنما في نخاع اسرائيل، التي تدعي بأنها دولة لا تقهره.
فكيف تمكن السوفيات من التغلغل في نخاع اسرائيل؟ وكيف كان ذلك؟.
يعتبر «اسرائيل بير» خبير الشؤون العسكرية وأقرب المقربين الى بن غوريون ورئيس قسم العمليات والتخطيط في مقر قيادة الجيش .... بطل هذه العملية ومخرجها.
ولقد امتعض واسرائيل بير، أو اببكة كما لقبه الناس أشد الامتعاض الاستدعاء رايسر هرئيل، له، فقد كانت الرسالة التي تسلمها منه فظة غليظة:
تعال الى مكتبية. وكان «بير، الذي اشتهر بانه خبير في الشؤون العسكرية وواحد من أقرب المقربين الى بن غوريون شخصية بارزة في الحياة الاسرائيلية العامة.
وقد هاجر اسرائيل بير، هذا من النمسا الى فلسطين، وانخرط في جيش الهاغانا، السري، وعمل بتفوق في الجيش عدة سنوات، وقد ساعدته قدرته الذهنية على التحليل، وما حظي به من تدريب عسكري أكاديمي، على الرقي السريع في معارج الجيش، حتى أصبح برتبة كولونيل أخيرة. وفي أثناء رحرب الاستقلال، اختير اسرائيل بيره لرئاسة قسم العمليات والتخطيط في مقر قيادة الجيش. وكان كثيرا ما يرى بصحبة رئيس الوزراء في المناسبات الرسمية.
وخرج ابيرا من الجيش عام 1950 ليمتهن السياسة، ولكنه حافظ على اهتمامه بالأمور العسكرية وعلى صلته بها، وكان يحضر اجتماعات رئاسة الأركان البالغة السرية، ويحصل على ما يشاء من معلومات، وكانت خطط الجيش ومخططاته ووثائق الدفاع ذات الأهمية القصوى تجد سبيلها الى يده، وفي عام 1955 طلب منه أن يكتب تاريخأ رسميا الحرب الاستقلال،، وخصصت له غرفة في وزارة الدفاع ليقوم بأبحاثه فيها.
وشاعت شهرة «بير» بوصفه خبيرة عسكرية حتى في خارج اسرائيل، وكان يلقي المحاضرات فيما يتصل بالحرب من موضوعات في العديد من البلدان الأوروبية، ولا سيما في المانيا، التي ترك فيها انطباعا عميقا لدى بعض الشخصيات البارزة كالسياسي افرانتس جوزف شتراوس) ... ورئيس جهاز الاستخبارات دراينهاردت غيلهن، وكان ابير، في جولات محاضراته بالمانيا يه جمهور الشبان المستمعين إليه أشد التنبيه الى واجبهم تجاه وطنهم والي الحاجة لجعل المانيا دولة ديمقراطية قوية في مواجهة الخطر الشيوعي القادم من الشرق،.
واستحوذ بير على إعجاب قيادة حلف شمال الأطلسي - الناتو - في أوروبا للتحليلات البارعة التي قدمها عن الاستراتيجية اللازمة في حالة نشوب حرب برية في أوروبا. وقد أثنى عليه موظفو وزارة الدفاع الفرنسية علانية، التفهمه الواسع المدى لمختلف الشؤون العسكرية.
ولم يكن من المستغرب إذن أن يمتعض دبير، عندما استدعاه ايسر مرئيل بخشونة ذات مساء من خريف 1990، اذ لم يبد هرئيل من الاحترام ما يتفق مع مكانته البارزة.
ولم يقم بيره بأي جهد لإخفاء انزعاجه عندما مشى في مكتب ايسر والسيجار في فمه، ثم ألقى نفسه في الكرسي المقابل لمكتب رئيس الموساد، ونفض «بير، الرماد عن سيجاره بنقرة من إبهامه تدل على الإزدراء، ثم انحني في كرسيه الى الأمام وقال ببساطة: لندخل في صميم الموضوع، فأنا مستعجل.
وحذق ايسر الى العينين اللتين لا تطرقان في راس البروفسور الأصلع، وكانت جميع ملامح الوجه الزائر، في الشارب الأصفر المميز الذي بدت فيه آثار زماد السيجار تشير الى الاحتقار الموجه الى هرئيل، ولكن هذا لم يكن ممن يفزعون بسهولة، فواصل التحديق الى وجه «بير»، وهو يوجه اليه سؤالين موجزين قصيرين:
لماذا واصلت زيارتك الى برلين الشرقية؟ ولماذا سافرت الى بولندا؟.
وظهر هرئيل بمظهر الدكتاتور الذي يتخذه أحيانا، ورفع صوته قائلا: الم أحذرك قبلا من الاختلاط بالشيوعيين؟.
وضرب المنضدة التي أمامه بقبضتي يديه بشدة وصاح: إنني أحذرك يا بير، وأمنعك من السفر الى أوروبا،
وعندئذ وثب البروفسور على قدميه غاضبا، فلم يكن أحد، حتي بن عوريون نفسه يجرؤ على التحدث اليه على هذا النحو، وأجاب صائحا: اهتم بشؤونك الخاصة، فسوف اشكوك الى رئيس الوزراء، بل سأشكوك الى الحزب أيضا. وعندئذ اندفع خارجة من مكتب هرئيل.
وانقضت عدة دقائق، ورئيس الموساد يفكر في صمت، فقد كانت الشكوك تساوره بشان اسرائيل بيرا عدة سنوات. كان هذا قد کتب سلسلة من المقالات المعادية لأمريكا في أثناء الحرب الكورية، وكان رأيسر، يعلم أن «بير»، برغم انضمامه الى حزب بن غوريون (الماباي) الآن، كان منتمية فيما مضى إلى جماعة المابام، وهي الجناح اليساري الأكثر تطرفا، وكان للبروفسور نشاط قوي في مناهضة الشيوعية آنذاك مما أدى به الى تلك الجماعة أخيرة. ولم ينضم الى التحالف الحاكم برئاسة بن غوريون إلا مناخرة، وأصبح نهجه الجديد هو: قل يعيش بن غوريون، ثم افعل ما نشاء
ولم يكن اپسر ليحارب «بيرة على انتمائه السياسي، ولكنه كان يعجب القدرة الرجل على تغيير انتمائه على ذلك النحو السريع الحاسم.
أما رئيس الموساد فلم يكن منتمية إلى أي حزب ولكنه يعي ما يعتقده وعيا تاما، وكانت انتهازية الرجل تثير الشكوك في نفسه.
وبعد رحيل الخبير العسكري المفاجيء، انزعج ايسر الجالس في مکتبه مرة أخرى لشيء قاله، ألا وهو التحذير الذي وجهه «بير، حال مغادرته بقوله: سوف أشكوك إلى الحزب، فما الذي يقصده بذلك؟ كان بير يعلم أن ايسر لا ينتمي إلى أحزاب.
كان للطريقة الطائشة التي ألقى بها «بير» عبارته الغريبة إلى أيسر ما لتلك العبارة نفسها من مفاجأة، وبدا ذلك التحذير ارتكاسة ذهنية وحضأ صادرة عن رجل اعتاد تمثيل شخصية المحلل المنطقي، البعيدة عن الانفعال، وإذن، فقد وثبت الغريزة من مكمنها، وبرزت من قناع التعقيدات الفكرية التي تميز به دبيره.
: ومن قبل أحس ايسر بالانزعاج بشان ابيرا، كما أحس بضرورة اطلاع بن غوريون على ذلك، وقد نقل اهتمامه الى رئيس الوزراء، بظن أن ايسر يصدر في أمره هذا عن غيرة من شهرة دبير، ونفوذه. بيد أن ايسر لم يتراجع لذلك. فذهب في الحال لمقابلة رئيسه وطرح أمام جميع الأسباب الكامنة وراء الشكوك التي تساوره، وقال: «يقوم بيرا منذ مدة بجمع معلومات عسكرية لا تتصل به في شيء، وهو يزور المدن الشيوعية في رحلاته الى اوروبا وتربطه صداقة - مسرفة - مع الدبلوماسيين الروس العاملين في اسرائيل الذين يقابلهم كثيرا.
وقد بدت في حياة «بير، الاجتماعية بعض الجوانب الغريبة مؤخرا، فهو ينفق أموالا طائلة، تزيد عما يكسب، في ملاهي تل أبيب. وعندما كان في ميونيخ مؤخرة دفع مبلغ 200 دولار دون أدنى اهتمام. وقد كان يشتري لنفسه ولعشيقاته، ومنهن من يشك في سلوكهن، ملابس كثيرة غالية الأثمان. أما علاقاته مع زوجته درفکا، فهي سيئة جدا. وهو يقضي لياليه يعاقر الراح في الحانات، كحانة أتوم - في شارع بن يهودا. وكان صوت ايسر مفعما بالغضب الفساد اخلاق «بيرا، فهو لم يعرف الانغماس في هذه الرذائل طيلة حياته.
وقال ايسر: من الجلي عندي، أن بير يعاني من اجهاد ما، هو إجهاد العميل الذي يمثل دورين في الحياة، ومنذ وقت قريب تورط في فضيحة عامة: فقد هاجمه زوج إحدى عشيقاته، ووجه إليه لكمات في وجهه، وهشم بعض أسنانه.
وكان بير قد أخبر رئيس الوزراء بأنه فقد تلك الأسنان في حادث سيارة واختار بن غوريون تعليله ذلك على ما قاله ايسر، وبقي راسخا في عدم الاقتناع بدعاوي ايسر.
ورد بن غوريون بهدوء: من واجبك أن ترتاب في كل شخص كائنا من كان، أما أنا فلقتي مطلقة بهذا الرجل.
وانتهت المقابلة بينهما بذلك، ولكن المسألة بقيت قائمة لدي ايسر هرئيل، ومن مزايا هذا الرجل أنه لم يكن امة عند بن غوريون، ولو كانت شخصيته أضعف من حقيقتها لتحاشي انتقاد أخد المقربين من رئيس الوزراء، ولكنه اختار الجانب المضاد، فامر عملاءه بتشديد الرقابة على بير. وأخذ فريق لأعمال التحري ينقب في ماضيه للتأكد من وجود جوانب مريبة، أو انصاف حقائق في سيرة حياته كما خبر بها اصدقاء وزملاءه.
کان ايسر يسعى للتحقق من واحد من - تخميناته - المشهورة. وفي ليل 3/ 28 / 1991، بعد حوالي ثمانية أشهر من المواجهة الدرامية التي تمت بين ايسر هرئيل واسرائيل بير في مكتب الموساد، كان اليهود يحتفلون بعيد الفصح، وهو واحد من أخصب الأعياد واحبها الى اليهود، ففيه يحتفلون بالخلاص من ربقة العبودية في مصر، وفي منازل اليهود في جميع أرجاء العالم، تجلس العائلات حول الموائد لتناول - السيدير - وهي وجبة عيد الفصح التقليدية التي تتلي معها حكاية الخلاص.: وفي الساعة الثامنة من ذلك المساء، خرج رجل من شقته الواقعة في 97 شارع برانديس في تل أبيب، وكان المساء دافئا، ولكن النسيم العليل الذي يهب من البحر الأبيض المتوسط الى الشاطئ حمل ذلك الرجل الى تزرير معطفه، وكانت في يده حقيبة اوراق جلدية .. وأسرع الرجل خطاه في الشارع الخالي من المارة، وهو يتلفت حوله، كما لو أراد التأكد من أن أحدا لا يقتفي خطاه. واستدار الى شارع جانبي وتوقف قليلا في ظل حجيرة للهاتف، وكان يلهث آنذاك بالرغم من أنه لم يبتعد أكثر من متي متر عن شقته التي خرج منها، وتوقف لحظات قليلة لالتقاط أنفاسه، ثم تلفت من حوله مرة أخرى. ولما لم يلحظ أحدة في الجوار انطلق منحدرة في الشارع الى مقهى صغير واقع في أقرب زاوية من زواياه. و وسعد صاحب المقهى الذي كان يجلس وراء الباب بمشاهدة اول زبون يراه في ذلك المساء. وطلب هذا الزبون زجاجة كونياك، ومضى بها الى منضدة في زاوية الحانة، بعيدا عن أضواء الشارع الساطعة، ووضع حقيبة اوراقه الجلدية على مقعد مجاور. ولما حاول صاحب المقهى ان يفتح مع الزبون محادثة ودية، اجابه هذا إجابة جافة، معبرة عن عدم رغبته في الحديث، ومضى يحتسي الكونياك في صمت. ثم أشعل الرجل سيجارة ونظر بقلق الى ساعته.
وبعد خمس دقائق، دخل رجل آخر المقهى، وكان يرتدي بدلة سوداء ناتمة، وعلى رأسه قبعة ذات حافة عريضة وبعد أن لوح بيده للزبون الجالس، اقترب منه وجلس على كرسي مقابل له حول المنضدة.
ولم يتبادل الرجلان شيئا من الحديث، وبعد لحظات من الجلوس نهض الوافد وخرج من المقهى. وفي يده كانت حقيبة أوراق لرجل الأخر.
وبعد ثوان معدودات، نهض الزبون الأول، ودفع ثمن الشراب، وبدون أن ينبس ببنت شفة غادر المقهى، ليلفه الليل، في حين شرع صاحب المقهى في كسه وتنظيفه. وفي الخارج تلفت الرجل الطويل حوله مرة أخرى، قبل أن يسير نحو منزله، وعاد أدراجه في الطريق الذي جاء فيه، وإن كان صفر اليدين الآن.
وعندما بلغ الرجل الطويل باب المبنى، الذي تقع فيه شقته دخل منه دون أن يكلف نفسه عناء التلفت فيما حوله، كان مطمئنة إلى أن أحدا لم يتعقبه. وبعد أن صعد الدرج المؤدي الى شقته دخل فيها واتجه صوب مكتبه، التي تعمر جدرانها كتب من عدة لغات. وهناك جلس يرتقب. منتصف الليل، صوت سيارة يمزق سكون الليل في ذلك الشارع. وعند رقم 17 أوقفت السيارة ونزل منها الرجل الغريب ذو القبعة، وهو الرجل الثاني الذي زار المقهى القريب قبل بضع ساعات. وكانت في يده حقيبة الأوراق التي أخذها من صاحبه، وسار هذا الرجل الى باب المبنى رقم 17، ودخل بدون أن يطرق الباب، ومن الواضح أن قدومه لم يكن مفاجئة. وإنه لم يتوقع المكوث طويلا، فقد ترك محرك سيارته بدون توقف
دق جرس الهاتف في منزل ايسر هرئيل وتناول ايسر السماعة على الفور، فقد كان ينتظر هذه المكالمة، التي عرف فيها صوت واحد من كبار عملائه، ولم يكن من داع للإعتذار عن المكالمة في ليلة العيد تلك:
جرت مقابلة بين رجلنا، وبين رجل الاتصال الروسي للمرة الثانية في هذا المساء فقد تقابلا في المقهى الصغير الذي تعرفه، وكان مع رجلنا حقيبة أوراق سلمها الى رجل الاتصال، ثم افترقا
وقمت بتعقب خطي رجلنا حتى المنزل، وأنا الآن في خارج المكان، وقد دخل الرجل الروسي قبل لحظات ومعه حقيبة الأوراق التي تسلمها في المقهى، وهو مع رجلنا الآن في الداخل،.
وكان ايسر بالغ القلق، ولكنه لم يفاجا بما حدث. فرقم 17 شارع برانديس هو عنوان اقامة اسرائيل بير.
قرر ايسر أن الوقت قد حان ليضرب ضربته. ولكن ينبغي أن يتم كل شيء بطريقة صحيحة وبارعة، فإلقاء القبض على البروفسور الآن وهو متلبس بتسليم الوثائق الى احد الدبلوماسيين السوفيات الذي عرف عنه أنه أكبر جواسيس روسيا في اسرائيل، سيكون له انعكاسات دولية وربما أدى إلى اسقاط حكومة بن غوريون.
وقرر ايسر الانتظار حتى يغادر الدبلوماسي منزل اسرائيل بير واعتقاله. ينبغي أن يتم كل شيء بطريقة قانونية أو ألا يحدث البتة.
وبعد أن وضع ايسر سماعة الهاتف رفعها على الفور مرة أخرى واتصل بين غوريون. لم تستغرق محادثتهما أكثر من عشر دقائق، قال فيها ايسر: اسألقي القبض على اسرائيل بير هذه الليلة.
وتردد بن غوريون لحظة ثم قال: اقم بواجبك .. وانتهت المحادثة بذلك ... كانت الساعة تشير الى منتصف الثالثة في الصباح واسرائيل بير جالس يقرا في مكتبته، وحقيبة الأوراق ملقاة على المنضدة القريبة، في الموضع الذي تركها فيه بعد مغادرة زائره دون المساس بشيء من محتوياتها. وفجأة سمع طرقة على الباب.
وقبل أن يتمكن من إخفاء الحقيبة، أو حتى النهوض من كرسيه العتيق، انكسر الباب وكانت ضربة - معلم - وحيدة كافية لخلعه من مفصلاته واندفع صف من سبعة رجال في داخل الشقة، ووقفوا من حول بير الذي كان منتصبة متجمدة في كرسيه، وقال له أحدهم بهدوء:
انك معتقل الآن، ولدينا أمر بتفتيش الشقة.
وشاهد بير الضابط يوجه بصره الى حقيبته، وأجاب بهدوء بتلك الكلمات التي تفوه بها بن غوريون قبل ساعات في المكالمة الهاتفية مع هرئيل: قم بواجبك،.
وكان بير يعلم حق العلم من هو ضابط الاستخبارات المضادة الذي تحدث اليه، فقد كان يعرف اسمه الشخصي منذ عدة سنوات، ولم يزد على أن قال: هل تمانع في أن أدخن؟ كان ضابط الموساد المسؤول عن اعتقال بير علم أنه يتعامل مع رجل من أبرز رجالات البلد. فقد كان بير محاضرة في مدرسة الجيش التي يتدرب فيها الضابط، وكان كولونيلا في الاحتياط ومستشارة ناصحة لوزارة الدفاع ورئيس الوزراء نفسه، وقد أحس الحاضرون بالصدمة جميعا، اذ لم يكن العملاء يصدقون إن الرجل الذي قدموا لاعتقاله إنما كان واحدة من جواسيس السوفيات ... الا يمكن أن يكونوا مخطئين في شانه؟ لقد كانوا يتمنون ذلك ...
بيد أن شكوكهم مهما كان أمرها، سرعان ما تبددت عندما فتح الضابط حقيبة الجلد التي كانت ما تزال ملقاة على المنضدة القريبة من بير. وفي داخل الحقيبة شاهد الضابط عددا من الوثائق البالغة السرية ومنها قائمة مفصلة لمصانع الأسلحة الكبرى في اسرائيل، وفوق ذلك كله شاهدوا مفكرة بن غوريون الخاصة، التي استعارها البروفسور حين عبر له عن رغبته في كتابة سلسلة من المقالات عن فلسفة بن غوريون في القيادة والحكم، ولم تكن هذه المفكرة تحتوي على أكثر افکار بن غوريون خصوصية فحسب، بل كانت تحتوي فوق ذلك على عدد من أسرار الدولة التي كان وزراء الحكومة يجهلون بعضا منها. عندما قدم ايسر هرئيل مفكرة بن غوريون اليه، علق رئيس الوزراء على ذلك متبرما: «كنت غارقة في محيط من الأكاذيب.
ومن الواضح الجلي أن الحادث كان أليم الوقع على نفسه. وقد أحجم ايسر عن الإشارة إلى أنه أعرب عن ارتيابه من بير في وقت مبكر يعود الى 1903. ومن الأمور التي تسجل له ولموشي دايان أن كلاهما قد قاوم رغبة بير في الالتحاق بالجيش، وأن بير قد اتکا على صداقته مع بن غوريون في مقابل ذلك ليتم تعيينه مستشارة رسمية في وزارة الدفاع ليتسنى له الوصول الى جميع ما لها من وثائق.
اطمان أيسر الآن إلى أن بير كان يعمل لصالح موسكو عدة سنوات. ولكن هذا لم يعترف بشيء في أيام الاستجواب الأولى، وبقي يكرر تلك الصورة التي يرسمها لسيرة حياته أمام أصدقائه وزملائه عدة سنوات.
وفقا لرواية بير عن سيرة حياته، ولد في فينا عام 1912، وهاجر والداه الى الولايات المتحدة، ولكنهما عادا الى أوروبا بعد وقت قصير، ودرس بير الانسانيات والأدب الألماني في جامعة فيينا حيث تتلمذ. كما زعم - على بد ماکس راينهاردت، رجل المسرح المعروف ... وفي أثناء دراسته بالجامعة انضم الى الطلاب الذين تمردوا ضد الدكتاتور رانغلبرت دولفوس» .. واشترك في حرب الشوارع ضد النازيين عام 1934، وتدرب في أكاديمية. فينز نويشنات - العسكرية، كما قال وأصبح ضابطا في - الشوتسبان - أو حلف الدفاع النمساوي.
وفي عام 1939، كما قال بير، ذهب الى اسبانيا للقتال إلى جانب لواء الأمميين ضد الفاشيين في الحرب الأهلية الاسبانية، وقد خوله تدريبه العسكري أن يصبح مدربا هناك، وتعرف بير على جميع كبار العسكريين الشيوعيين واشترك معهم في معركتي مدريد وغراد البحارا ... الشهيرتين، وساهم بير أيضا في معركة تيرول الضارية. وفي أوائل عام 1938، حين تبين أن الحرب ستكون خاسرة، هرب من اسبانيا وطلب منه السفر الى موسكو ليتلقى تدريبة اضافية. ولكنه بدلا من ذلك، عاد الى فيينا، حيث تأثر بالفكر الصهيوني، وبعد وقت قصير صح عزمه على الهجرة الى فلسطين. وقال بير الأسريه متحدية: «هذه هي قصة حياتي، مثلما تعرفون جميعا.
وفي ذلك اليوم الرابع من بدء الاستجواب، زاره ايسر هرئيل، وكان هذا يعلم أن الأسير لا يبدي أي تعاون من جانبه، ندبر شيئا ما لمواجهته.
ا وحدي مرئيل الى عيني بير، كما فعل في لقائهما الأول، قبل عدة أشهر، وقال له بنبرة هادئة، وعنيدة في الوقت نفسه: «أنا أعرف انك جاسوس سوفياتي، أخبرني بالحقيقة. اذا تعاونت معنا فسوف تسهل الأمر على الجميع، وعلى نفسك أيضا. أخبرني حكايتك الحقيقية.
وفي مواجهة هذا التحلي، أعاد بير القمة ذاتها مرة أخرى حتى اذا فرغ منها قال له مرئيل بهدوء: كذاب! لم نجد أي أثر لوالديك في النمسا، ولو كانا يهوديين نموذجيين، كما تدعي، فلماذا لا تكون مختونا؟،.
الفد فحصنا جميع السجلات النمساوية، فتوصلنا الى انك لم تقاتل في متاريس الشوارع، ولم تحصل على شهادة الدكتوراه كما تدعي، بل أنك لم تدرس في الجامعة، ثم أنك لم تذهب الى الأكاديمية العسكرية، فقد كان هذا محظورة على اليهود آنذاك. وقد طلبنا دراسة قوائم الأسماء فلم يعثر على اسمك فيها، وليس اسمك موجودا في قوائم الشوتسبان كذلك.
رونقبنا في سجلات لواء الأمميين، ولم نعثر على اسمك فيه، انك لم تحارب قط في اسبانيا، والواقع أنك لم تساهم في أية حملة عسكرية في أي مكان من العالم. والآن قل لي: من أنت؟ أخبرنا بالحقيقة.
واتضح لبير أن الموساد قد عرف زيف ادعاءاته، فانهار، وفي الأيام الثلاثة التالية أملي تقريرة وافية بنشاطاته التجسسية.
وكان هرئيل قد اشتبه في أن موسكو قد - نشطت - بير بعيد حملة السويس عام 1956 وألحت عليه عندئذ في تقديم أية معلومات يمكنه الحصول عليها، وعندما كانت فرنسا تزود اسرائيل بالأسلحة نقل بير تفصيلات كمية ونوعية ما يصل الى اسرائيل منها، وكذلك فل بصدد الأسلحة التي اشترتها اسرائيل من المانيا، كما أنه جمع ما استطاع من المعلومات عن دور المانيا في حلف الأطلسي - النانو- أثناء سفره الى المانيا. وكانت أبحاث بير العلمية الخاصة، في التكنولوجيا النووية خصوصا،
حد الموضوعات التي يحتمل أن يكون رؤساء بير في موسكو قد طالبوه بتقديم معلومات عنها. -
وبقي بير يمزج الوهم بالحقيقة، حتى في أثناء بوحه باعترافاته، فقام عملاء الموساد وحلفاؤهم في اسرائيل وأوروبا، ومنها البلدان الشيوعية بالتحقق من كل كلمة تفوه بها، وأثبت البحث الدؤوب الذي قاموا به بطلان الكثير من ادعاء انه
بدات محاكمة بير في يونيو 1991، وادت طبيعة الكثير من الأدلة في قضيته الى بقائها سرا، وكذلك بقيت بعض اعترافاته بشأن الطريقة الدقيقة التي نقل بها المعلومات إلى موسكو سرا مكتومة حتى يومنا هذا. ومن المعلوم على كل حال، أنه قد نقل للروس خططة عسكرية تتصل بتكتيك القتال، كما نقل قوائم عن منشات عسكرية سرية، فضلا عن معلومات حول من يزودوں اسرائيل بالأسلحة من الأجانب.
وفي أثناء المحاكمة، دافع بير عن نفسه بأنه فعل ما فعله لاعتبارات وطنية. وقال: «لقد شعرت بأن من واجبي المساهمة في انقاذ اسرائيل من الوقوع في قبضة القوى الغربية، وأعتقد أن على اسرائيل التحالف مع البلدان الشيوعية، وأنا لم أخن اسرائيل قط وإنما كانت جميع جهودي رامية الى ابعادها عن الطريق المؤدي بها إلى كارثة سياسية.
واخيرا حكم على اسرائيل بير بالسجن مدة عشر سنوات واستأنف الحكم، ولكن عقوبته زيدت الى 15 سنة. وبينما كان يقضي في سجن شطة بغور الأردن الف كتابا يبرر فيه اعمال التجسس التي قام بها على اسس ايديولوجية، وبقي في السجن حتى مايو 1968 عندما أصابته نوبة قلبية توفي على اثرها.
والواقع إنه حين فر اللاجئون في الثلاثينات من المانيا والنمسا مع تعاظم قوة هتلر، انضم الى صفوفهم عملاء السوفيات الناطقون بالألمانية. ويكاد يكون من المؤكد أن اسرائيل بير هو أحد عملاء السوفيات في هذه الموجة.
وقد لقي السوفيات عناء كبيرة في تزويده بتغطية مضمونة مما يدل على إنهم اعتبروه واحدا من أخطر عملائهم في الشرق الأوسط. وبعد دخول بير السجن، اكتشف عملاء الموساد في النمسا أن شخصأ سمية له كان يعيش هناك، وكان هذا طالبا يهوديا فقيرا يشبه بعض الشبه العميل الذي أصبح صديق بن غوريون الثقة فيما بعد. أما اسرائيل بير الحقيقي فقد اختفى سنة 1938، وهي السنة التي هاجر العميل فيها الى فلسطين ولم يسمع به أحد بعد ذلك.
وانتظر الروس حوالي 20 سثة وهي فترة طويلة جدا لإرسال رجلهم الى الميدان. وغني عن البيان انهم قد توقعوا منه انجازات كثيرة، وحصلوا على ما توقعوا بالفعل، فقد نقل بير كميات هائلة من المعلومات العسكرية من تل أبيب إلى موسكو.
بيد أن أحدا لا يدري حتى يومنا هذا هوية اسرائيل بير الحقيقية. من اين جاء؟ وكيف جرى تجنيده؟ ومن كان يتلقى الأوامر؟.
إن الاجابة على هذه الأسئلة تقبع مطمورة في ملفات الاستخبارات السوفياتية، وفي قبر العميل الذي كان يسمي نفسه واسرائيل بيره.
في ظل هذا الواقع، نجد أنفسنا. نحن الشعب العربي - مجبرين على أن لا نعيش سعداء على قيد الحياة، لأننا مجبرون على الوجود في بيوت غير بيوتنا، وفي أرض غير ارضنا، وإن متنا فإننا مجبرون على أن ندفن في قبور نرفضها ولا نتمناها ...
تلك هي سياسة الاحتلال وشريعة الاغتصاب.
وليس في قاموسنا أهم من اغتصاب الأرض والوطن على طريق اغتصاب الوجود من الأساس. تلك هي القوة بدون حق، وذلك هو الحق بغياب القوة
تناقضات رهيبة تكلفنا وجودنا وحياتنا في هذا الزمن الذي اصبح فيه عنق الحق على مقصلة ... والعدل الدولي، والعالم كله شاهد زور بدلي باعترافاته المناهضة لمشيئة التاريخ البشري وإرادته ...
ولكن الحق في النهاية هو المنتصر.
المراجع
1 - دينيس ايزنبرغ وآخرون «الموساد جهاز المخابرات الاسرائيلية السري ..
المؤسسة العربية للدراسات والنشر ودار الجليل للنشر، بيروت. الطبعة
الأولى 1981. ص 90 - 10. 2 - ج. برنارد هاتون مدرسة الجواسيس، ترجمة غسان درويش. المؤسسة
الوطنية للطباعة والنشر، بيروت. يونيو 1993. ص 195 - 203. 3- زفي الدوبي وجيرولد بالينغر الجاسوسية الاسرائيلية وحرب الأيام الستة تعريب غسان النوفلي. بيروت 1972، ص 12
123.
مصادر و المراجع :
١- موسوعة الامن
والاستخبارات في العالم
المؤلف: د. صالح
زهر الدين
الناشر: المركز
الثقافي اللبناني للطباعة والنشر والتأليف والترجمة - بيروت
الطبعة: الاولى
تاريخ النشر:2002
م
1 أبريل 2024
تعليقات (0)