المنشورات
لينين ومؤامرة السفراء الثلاثة
قليلون جدا في التاريخ، أولئك الذين ارتبط اسمهم ونضالهم وشخصيتهم بتاريخ شعوبهم وأوطانهم ... وقليلون جدا أيضا أولئك الذين تجاوز اسمهم وتاريخهم حدود بلادهم الأم، ليصبحوا رمزا لنضال الشعوب في سبيل حريتها واستقلالها. ويعتبر افلاديمير ايلينش لينين، مؤسس الحزب الشيوعي السوفياتي وأول دولة اشتراكية في العالم، من أكبر الرموز الثورية في القرن العشرين ... وانطلاقا من وزنه الثوري، وأهميته الدولية وتأثيره
السحري، في حركات التحرر الوطني في المستعمرات وأشباه المستعمرات، استبسلت الدول الغربية، وتفننت في ابتكار الطرق والأساليب الآيلة إلى تصفية البنين» جسدية. ولم تكن المؤامرة المعروفة بمؤامرة والسفراء الثلاثة،، إلا النموذج الحي على مثل هذا النشاط الامبريالي الغربي ...
فمن هم هؤلاء السفراء الثلاثة»؟ وما هي أسرار مؤامرتهم هذه؟.
فور انتصار ثورة أكتوبر الاشتراكية في روسيا عام 1917، شنت الامبريالية الدولية حربا علنية وسرية ضارية ضد الجمهورية السوفياتية واستعملت كافة الطرق والأساليب في هاتين الحربين بما في ذلك التدخل المسلح وتاييد ومناصرة الثورة المضادة في الداخل، وتنظيم وحياكة المؤامرات وعمليات القتل والاغتيال والتخريب، واختلاق الأكاذيب الخسثة الحالقة .. وانقضت العقود والعهود، لكن الطرق والأساليب التي تلجا اليها الامبريالية في مناواة الاشتراكية، وحركة التحرر الوطني، لم تتغير. وكانت مؤامرة والسفراء الثلاثة، واحدة من مشاهد النشاط التخريبي الهدام قامت به أجهزة المخابرات التابعة للبلدان الغربية ضد الدولة السوفياتية إبان سنوات الحرب الأهلية في أعوام 1918 - 1920 .. . في أحد أيام شهر آب / أغسطس سنة 1918، شوهد رجلان يتجاذبان أطراف
حديث جذاب في شارع السفيتنوي بولفار، بموسكو. وكان أحد الرجلين أصفر الشعر، له عينان رماديتان ممشوق القامة، يرتدي الزي العسكري، هو
ادوارد بيرزين، قائد احدى وحدات الجيش السوفياتي. أما الرجل الثاني فقد كان بدينا يرتدي الزي المدني، هو الملازم اسيدني ريلي، عميل المخابرات الانجليزية .. : وكان ريلي، يتحدث أساسا بينما كان الأخر يستمع. وانهمك يشرح له مخططات إلقاء القبض على قادة الحزب البلشفي (الحزب الشيوعي فيما بعد والدولة السوفياتية أثناء عقد جلسة مجلس مفوضي الشعب (مجلس الوزراء) وحيث أن العميل الانجليزي كان يعرف أن دبيرزين» يضطلع بقيادة الوحدة المكلفة بحراسة الكرملين، فقد عرض عليه أن يقوم باعتقال جميع أعضاء الحكومة أثناء انعقاد الجلسة، وافترض المخطط أنه سيتم اغتيال الينين، في الحال. واستطرد «ريلي، في شرح المخطط، فقال أنه سيكون من الضروري بعد ذلك الاستيلاء على بنك الدولة والمقر الرئيسي للتلغراف وسنترال التليفونات ...
وفي نهاية الحديث انتقل مظروف ثقيل به 700 ألف روبل من يد رجل المخابرات الانجليزي الى بد و بيرزين،.
بعد ذلك التقى بيرزين، بريلي، وحصل منه على أدق تفصيلات التعليمات الخاصة بهذه العملية علاوة على نصف مليون روبل سوفياتي. وفي أواخر آب / أغسطس سافر دبيرزين، بناء على مهمة كلفه بها دريلي، الى بتروغراد الينينغراد) حيث كان عليه أن يقوم بتنسيق أعماله وخطواته مع مجموعة المتأمرين الموجودين هناك. ولم يدر بخلد الجاسوس اطلاقا، ولم يتطرق الى نفسه الشك أبدا، أن «بيرزين، ينفذ مهمة أجهزة اللجنة الاستثنائية لمكافحة الثورة المضادة والتخريب لعموم روسيا، والمعروفة ب الجنة الأمن الاستثنائية، ...كانت تلك الأحداث تجري في وقت عصيب مشوب بالقلق. اذ كانت حلقة نيران الجبهات تضيق حثيثة حول الجمهورية السوفياتية. وحشدت الجمهورية الفتية كل قواها واستجمعتها من أجل الصمود، وصد هجوم المتدخلين، وجيوش الحرس الأبيض. وكان الخطر الأكبر متمثلا في الانتفاضات المسلحة والنشاط السري من جانب منظمات الثورة المضادة الغفيرة العدد. وكان العبء الأساسي في التصدي لها ومكافحتها واقعا على كامل الجنة الأمن الاستثنائية. وكان يترأس هذه اللجنة فيليكس دزيرجينسكي، رفيق كفاح لينين والبلشفي الصعب المراس والقوي الشكيمة، والذي كان يتميز بنقاء وصفاء الروح والبصيرة. وهو الذي يعتبر من كبار أوائل المؤسسين لجهاز المخابرات السوفياتي، الذي يتمتع بتفوق كبير على مختلف أجهزة الاستخبارات في العالم ...
وفي سنوات الحرب الأهلية (1918 - 1920) كشفت اللجنة عن عشرات المؤامرات التي حاكتها الثورة المضادة. وكان سر نجاحها في نشاطها هو الصلة الوثيقة بأفراد الشعب من العمال والفلاحين والكادحين الذين قاموا بدورهم على أكمل وجه بتقديم كافة أشكال العون الى رجال الجنة الأمن الاستثنائية ...
ففي شهر يونيو من عام 1918، تلقت «اللجنة الاستثنائية للأمن معلومات تفيد أن الممثلين الدبلوماسيين لكل من الولايات المتحدة الأميركية وانجلترا وفرنسا، يمارسون نشاطا لا يتناسب ولا يتماشى مع وضعهم الرسمي. فقد كان هؤلاء يضعون ويحيكون مخططات الأعمال .. التخريبية الهدامة للإطاحة بالحكومة السوفياتية. ولهذا فهم يقيمون الصلات بعناصر الثورة المضادة ويجندون المواطنين السوفيات للقيام باعمال التجسس والتخريب. وقررت اللجنة الاستثنائية للامن، أن تتوغل في معسکر الدبلوماسيين المتآمرين والوقوف على كنه مخططهم ثم تفنيدهم وكشفهم وفضحهم. وسافر اثنان من الشبان العاملين باللجنة الاستثنائية للامن الى بتروغراد، وهما ديان بويکيس، وديان سبروجيس، بإسمين مستعارين، حيث كانت بها طائفة من سفارات الدول الغربية، واستطاعا أن يكتسبا ثقة رجال الثورة المضادة الذين سرعان ما عرفوهما بالملحق البحري لإنجلترا، وكان اسمه «کرومي،. وفي منتصف أغسطس قدم ابويکيس، ودبيرزين)، وكانت اللجنة الاستثنائية قد قررت اشراك الأخير في العملية الرامية إلى كشف القناع عن المتأمرين، الى الشقة الخاصة للمستر الوکهارت، رئيس البعثة البريطانية في موسكو. وكان معهما خطاب من کرومي،، وصدق الوکهارت، الرجلين الوافدين، وأصدر تعليماته الى العميل دريلي، بالاتصال بهما ..
وأخذت تفاصيل المؤامرة تتضح تدريجيا. وكانت خيوطها الممتدة بين كثير من المدن وجيوش الثورة المضادة تؤدي كلها الى هيئات التمثيل الدبلوماسي لكل من الولايات المتحدة الأميركية وانجلترا وفرنسا، والتي كانت تعمل فيما بينها على نحو منسق. وهذا هو السبب في أن هذه المؤامرة عرفت في التاريخ باسم مؤامرة (السفراء الثلاثة). وفي الثلاثين من أغسطس 1918 وقع حدث مأساوي. فقد وقعت محاولة آثمة للاعتداء على حياة «فلاديمير لينين، أصيب فيها بجرح بالغ. ومع أن الكثير من جوانب المؤامرة لم يكن قد اتضح بعد، إلا أن الحكومة السوفياتية أصدرت تعليماتها الى اللجنة الاستثنائية للامن، للقضاء على المؤامرة هذه. وكان الأمر يتطلب اتخاذ تدابير حيوية فعالة فورا ضد ممثلي البلدان الامبريالية الموجودة فعلية في حالة حرب ضد روسيا السوفياتية، ذلك أن القوات الاميركية والانجليزية والفرنسية قد وطئت الأرض السوفياتية وعاثت فيها فسادا ...
والجدير بالذكر، أن الشابة الاشتراكية الثورية دورا كابلان»، هي التي أطلقت الرصاص على لينين حين كان يغادر مصنعا في موسكو. وقد اخترقت احدى رصاصات كابلان رئة لينين، واستقرت الثانية في رقبته. وبرغم أنه لم يلقي حتفه إلا أن فرص بقائه على قيد الحياة كانت ضئيلة (استعاد لينين قدراته، لكن عافيته لم تعد ومات في العام 1924).
وفي مساء الحادي والثلاثين من آب / أغسطس اعتقل رجال لجنة الأمن بعض موظفي الأجهزة الدبلوماسية الانجليزية والفرنسية في موسكو. وتم اعتقال الوکهارت، من بينهم. وأثناء الحديث معه طلب منه ابيتيرس، نائب رئيس
اللجنة الاستثنائية للأمن، أن يفسر محاولة رشوة وتجنيد «بيرزين، قائد احدي الوحدات العسكرية السوفياتية، وعرض على الدبلوماسي الانكليزي بطاقة تحقيق الشخصية التي وقعها شخصيا وأعطاها البيرزين، وكانت هذه البطاقة تتضمن رجاء الى كافة السلطات العسكرية الانجليزية بتقديم عونها ومساعدتها الى عميله. غير أن الوکهارت، رفض الاعتراف بأي شيء مستندة في ذلك الى وضعه الدبلوماسي. وبعد عدة ساعات تم الإفراج عنه بناء على أوامر الحكومة السوفياتية ...
وعلى الرغم من التدابير التي اتخذت، تمكن العملاء الأجانب من الاختفاء مع أنهم كانوا معروفين لدى الجنة الأمن الاستثنائية، وهم على وجه التحديد اريلي، الموظف بالمخابرات الانجليزية، ودفيرتيمون، موظف المخابرات الفرنسية ودكالامانيانو موظف المخابرات الأميركية. وألقى رجال لجنة الأمن الاستثنائية، القبض على عدة عملاء كانوا قد جندوا بمعرفة الثلاثة الفارين. فقد اعترف افريدي، الذي قبض عليه متلبسا بجريمته بأنه يعمل في خدمة رجل المخابرات الأميركية كالامانيانو، وأنه كلفه بجمع المعلومات عن الوضع الاقتصادي والسياسي والعسكري للجمهورية السوفياتية ... وأثارت الحكومتان الانجليزية والفرنسية والبرجوازية الغربية عاصفة هوجاء من والاحتجاج، في تلك الأيام والقي القبض على اليتفينوف، ممثل روسيا السوفياتية في لندن وموظفيه من قبيل الانتقام. وألقت الحكومة السوفياتية القبض من جديد على الوکهارت، في موسكو. وفي السابع من سبتمبر عام 1918 اعلن مفوض الشعب للشؤون الخارجية تشيتشيرين، امام الاجانب أن الممثلين الدبلوماسيين والعسكريين لانكلترا وفرنسا يستغلون وضعهم في تنظيم وحياكة المؤامرات في اراضي روسيا السوفياتية بهدف إلقاء القبض على أعضاء مجلس مفوضي الشعب عن طريق الرشوة والدعوة بين الوحدات العسكرية، وبهدف نسف الجسور ومخازن ومستودعات المواد الغذائية والقطارات. وتفيد المعلومات بما لا يدع مجالا للشك أن خيوط المؤامرة تلتقي كلها في أيدي الوکهارت، رئيس البعثة الانجليزية، وعملائه .. ولقد اتضحت بالفعل حقيقة أن مبنى السفارة الانجليزية في بتروغراد قد تحول فعلا الى شقة سرية للمتآمرين. ولذا فإن حكومة الجمهورية السوفياتية تجد نفسها مضطرة إلى تهيئة ظروف لهؤلاء الأشخاص المتورطين في المؤامرات يستحيل معها استمرارهم في ممارسة نشاطهم الأثم من وجهة نظر القانون الدولي، ..
ومن الجدير بالذكر أن بعض الدبلوماسيين المتآمرين قد اختفوا في مبنى السفارة النروجية ومن بينهم القنصل العام الفرنسي جرينار، والجنرال الافيرن». وذات مرة ألقى أحد موظفي لجنة الأمن الاستثنائية القبض على شخص حاول دخول السفارة واتضح بعد الوقوف على شخصيته أنه العميل الأميركي (كالامانيانو، الذي كان مطلوب القبض عليه وعثروا لديه على كمية هائلة من الشيفرات والمعلومات السرية عن الوضع العسكري والاقتصادي للبلاد السوفياتية. وكان ركالاماتيانو يقوم بنشاط تجسسي کبير، ذلك أنه كان يعمل في الوقت نفسه مع رجال المخابرات الحليفة مثل ريلي، ورفيرتيمونه تحت ستار الشركات التجارية الأميركية مع تزوير الوثائق والمستندات اذا ما تطلبت الضرورة ذلك. واتضح أن كثيرين من الجنرالات والضباط والموظفين السابقين الروس كانوا قد وقعوا في شباكه. وتمكنت الجنة الأمن الاستثنائية من إلقاء القبض عليهم جميعا ..
وبعد ذلك بفترة قصيرة تم التوصل إلى اتفاق بإطلاق سراح الدبلوماسي السوفياتي اليتفينوف، وموظفيه. وتم كذلك طرد جميع الجواسيس الدبلوماسيين من أراضي البلاد السوفياتية. وكانت تلك هي نهاية واحدة من أولى محاولات البلدان الغربية للقيام بعمل تخريبي سري ضد الجمهورية السوفياتية ..وليس من المبالغة في القول أن عظمة لينين هي ذاتها عظمة ثورة اکتوبر أول ثورة اشتراكية منتصرة في التاريخ. اذ أن هؤلاء الامبرياليين كانوا يدركون جيدا أن القضاء على لينين ورفاقه في مجلس مفوضي الشعب، هو قضاء على هذه الثورة العملاقة، ولهذا لم يتأخروا في هذا العمل، لكنهم لم يحصدوا سوى الخيبة والفشل.
المراجع
1- ستيبانوف والمجلة العسكرية السوفياتية، العدد العاشر. شهر اكتوبر
2 - مجلة الجيل، (القبرصية). العدد الثاني. المجلد العاشر. فبراير
1989. ص 90 - 102 (بقلم فيليب نايتلي، وعرض سعد محيو).
مصادر و المراجع :
١- موسوعة الامن
والاستخبارات في العالم
المؤلف: د. صالح
زهر الدين
الناشر: المركز
الثقافي اللبناني للطباعة والنشر والتأليف والترجمة - بيروت
الطبعة: الاولى
تاريخ النشر:2002
م
1 أبريل 2024
تعليقات (0)