المنشورات
عبقرية الفتاة السوفياتية
بين الواجب والبطولة عندما كان لابد من طائر يحلق، كان لابد له من چناحين. وليس بجناح واحد فقط يستطاع التحليق. وهكذا هو الحال بالنسبة للمجتمع البشري، الذي يصعب عليه التقدم والتطور والسير في معارج الحضارة والرقي، بمعزل عن جناحيه ونصفيه، المتمثلين: بالرجل والمرأة.
إنها سنة الحياة؛ ولا حياة لمجتمع الانسان، إلا بهذين الجناحين. فالعصر عصر الفضاء واكتشاف الكواكب؛ وعصر الجاهلية وتى إلى غير رجعة، كما وقت معه جريمة رواد البنات، التي تعتبر من أكبر الجرائم التي عرفتها البشرية في تاريخها الطويل.
واذا كان للرجل تاريخ حافل بالمنجزات والاختراعات، فإن ذلك لم يكن مطلقا بمعزل عن مشاركة المرأة ووجودها الملازم الدائم.
وكثيرات منهن صنعن المعجزات، ولعبن دورة خارقة في ميدان العمل والانتاج، كما في الميدان الأمني والسياسي، وحتى العسكري، خلال المعارك والحروب. وكانت الحرب العالمية الثانية المسرح الأكبر الذي برزت فوقه عبقرية النساء وبطولتهن، وخصوصا على الصعيد السوفياتي؛ حيث اكتسبت إحداهن من المجد والشهرة ما يفوق الوصف والخيال، وهي الآنسة
أوجيني رودنيفا، التي أصبحت كبيرة ملاحات اللواء الجوي السوفياتي في الحرب العالمية الثانية.
فمن هي أوجيني رودنيفاء؟ وكيف حصلت على وسام والنجمة الذهبية ذات الشريط الأحمر؟.
كان قد مضى، في الواقع، على اكتساح روسيا من قبل هتلر أربعة أشهر فقط عندما أصبحت جيوشه على مقربة من موسكو تهددها بالاحتلال بين عشية وضحاها. واسمولنسك قد سقطت بايدي الالمان. ومع تساقط الثلوج في اول الشتاء كان القتال يحتدم ويشتد باتجاه لينينغراد وموسكو.
ولقد جاء الشتاء مبكرة في شهر تشرين الأول/ اکتوبر عام 1941. وفي العاصمة الروسية كانت أخبار تقدم الالمان تبعث الفزع في النفوس؛ ولهذا فقد قوبل سقوط الثلج بالإرتياح العظيم على أنه تعزيز لدفاع الروس وتأخير التقدم الالمان السريع. أما الرياح الشرقية القاسية فلم تبعث الخوف في قلوب الروس هذه السنة، بل فرحوا بها لأنها ستحد من اندفاع الألمان باتجاه الشرق، وتعطى للروم الفرصة للمقاومة المجدية في أرض يعرفونها، وطقس اعتادوا عليها
وكانت الأنسة اوجيني رودنيفا، تغادر غرفة الدرس في جامعة موسكو الأخر مرة في حياتها. ففصل الشتاء الجديد قد خط لها حياة جديدة، وساعدتها الظروف لتلعب دورا كبيرا في تحطيم قوات العدو الزاحفة.
كان عمرها عشرين عاما. متوسطة القامة، وفي زرقة عينيها وميض يدل على الحزن الذي سبيته الغارات النازية على بلدها، والتي نتج عنها مقتل. الكثيرين من أهلها ورفاقها.
ولقد علمت مؤخرة بأن وزارة الحربية قد قررت تشکيل فيلق جوي من النساء، وأسندت قيادته الى اشهر سيدة طيارة في العالم وندعي الرائد (مارينا پسکوفاء. ولقد تقرر اشتراك هذا الفيلق بالعمليات نور انهائه مدة تدريبه، واشترط أن يكون أعضاؤه من طالبات الجامعات في موسكو، او من أعضاء نوادي الطيران، والسيدات طباري شركة الخطوط الجوية السوفياتية ايروفلوت Aeroflot). ولم تتأخر «اوجيني، لحظة، فكانت أولى المتطوعات.
ولقد تمكن سلاح الطيران الألماني في الأسابيع الأولى من العمليات، من القضاء على سلاح الطيران السوفياتي في منطقة الجبهة. وبذلك أصبحت القوات الأرضية عرضة للتدمير. فكان لابد من متطوعين لسلاح الطيران ولضمانة العدد المطلوب كان لابد من تطويع النساء.
ووجدت أوجيني رودنيفاء نفسها في فيلق جوي للقاذفات وفي مدرسة خاصة على شاطئ نهر الفولكان. واضطرت الى جمع شعرها الذهبي الجميل في لباس الراس الخاص بالطيارين؛ ثم بدأت تتدرب على قيادة الطائرات.
ولم يكن بصدق بان تنقلب هذه الفتاة الى ملاح جوي خلال تسعين يوما فقط. ولضيق الوقت لم يعط المدرسون الفرصة لأحد. ومن لا يتمكن من السير بسرعة في التدريب يوقف عن الطيران، ويحول الى وظائف ارضية
وخلال شتاء (1941 - 1992) القاسي، بذلت أوجيني، مجهود جبارة في دراستها، ولوحظ عليها ولع شديد بمادة الملاحة الجوية، فأصبحت اختصاصية فيها. وبانتهاء الدورة، حصلت أوجيني، على جناح الملاحين وهو عبارة عن جناحين يحملان قنبلة بينهما.
وصادف أثناء انتهاء الدورة ورود أخبار حسنة من الجبهة الوسطى. فقد تمكن السوفيات من وقف زحف الألمان قرب موسكو. وفي الجنوب تمكنوا من إعادتهم إلى الخلف قليلا نحو شبه جزيرة القرم، ولكن الجيوش الالمانية ما زالت لديها القوة اللازمة للزحف.
وفي شهر مايو عام 1992 عينت وأوجيني، في اللواء الليلي القاذف الذي كان تحت قيادة الطيارة النقيب أردوسي بيرشنسکايا،، وكانت طائرات هذا اللواء من طراز «بوليكاروف 0. 2. P، وهي طائرات قديمة اخترعت عام 1927 ذات مقعدين مكشوفين ليضعا الطيار، والملاح تحت رحمة الطقس السيء. وكانت سرعة هذه الطائرات القصوى لا تزيد عن (120 كلم/ ساعة)، لكن سرعة انهيارها القليلة كانت تسمح باستخدامها من المزارع والطرق في حالات الضرورة. كما كانت مدهونة باللون الكاكي، ولا يوجد فيها أي سلاح دفاعي.
وقد تعينت الآنسة «نينار اسبوبوفاء طيارة أول للملاحة أوجيني، وكانت مهمتهما قذف مراكز العدو ليلا.
وأخذت الفتاتان تطيران ليلة بعد ليلة فوق خطوط العدو قرب جزيرة القرم. وكانت المهمات متواصلة ولا تتوقف مهما كانت الظروف سيئة، في البدر المنير والليالي الظلماء، وحتى لو كانت الغيوم الديناء تغطي الأهداف التي يجب ضربها.
كانت أوجيني، تصل الى هذه الأهداف بدقة متناهية، ثم تامر زميلتها (نينا) بإفلات القنابل، وكانت نتيجة الغارة تصل الى اللواء في اليوم التالي عن طريق رجال المقاومة الشعبية المعروفين بالأنصار، (Partizan) الموجودين خلف خطوط العدو، فينهال عليها الثناء والتقدير من جميع رفيقاتها في اللواء.
ولم يكد ينتهي صيف 1942 حتي صدر امر تعيينها كبيرة ملاحات اللواء وذلك بسبب الخبرة العظيمة التي اكتسبتها خلال مهماتها، ولم تكن
أوجيني، تعتمد فقط على النواحي العملية في مهماتها، بل كان للمعلومات النظرية أهمية كبرى في نجاح هذه المهمات ايضا، حتى أنها لقبت فيما بعد بصاحبة النظريات.
وخلال الليالي الطويلة لشتاء عام 1942 - 1993، كانت الطائرات السوفياتية من طراز بوليكاروف 0. 2. iP تفوم بأكبر عدد من الغارات على الخطوط الألمانية، وكانت الطائرة الواحدة تنفذ ما لا يقل عن خمس طلعات كل ليلة ابتداء من غروب الشمس وحتى شروقها. وبلغ مجموع غارات اللواء خلال تلك الليالي (194) غارة، قذف فيها ما لا يقل عن (50) ألف قنبلة.
ولقد تمكنت ارجيني خلال احدى غاراتها ليلا من اصابة مركز قيادة الفيلد مارشال بارون فون کليست في منطقة رموزحوك، ووصلت اخبار هذه الغارة الناجحة الى مسامع الفريق بترون، قائد جبهة القوقاز الشمالية، وذلك قبل أن تقوم أوجيني، بكتابة تقريرها عن ذلك.
ولقد كان الألمان يسخرون كثيرا من هذه الطائرات، ولكنهم كانوا دوما يحترمون ملاحيها ويلقبونهم بملائكة جهنم. .
وحتى صيف عام 1943، تابع اللواء غاراته دون أن يكون هناك حوادث مؤسفة. ولكن في أول آب/ أغسطس عام 1943، كانت أوجيني، تطير مع كلوديا سيريبير باکوفا، في مهمة قذف الخطوط العدرة قرب مدينة کيفسکايا،، وللاسف الشديد دخلت طائرة القائدة ركرواتوفان - أحسن طيارة في اللواء - ضمن منطقة محمية بالمدفعية المضادة للطائرات، وحوصرت الطائرات بأنوار الكشافات، فأصيبت طائرة القائدة وهوت نحو الأرض، وانفجرت بقنابلها فوق مواقع العدو، وتبعنها ثلاث طائرات أخرى لنفس السبب، وخسر اللواء ثماني فتيات في لحظة واحدة.
ولقد اثرت هذه الخسارة الفادحة تأثير كبيرة في نفس «أوجيني،. فبالرغم من خبرتها العظيمة في العمليات الحربية، فإنها ما زالت صغيرة السن لا تتجاوز (22) عاما، ولا ترغب بالموت، لكنها كانت تخاف الحريق، وتفزع من الوقوع اسيرة بايدي الألمان. ولهذه الأسباب فقط أخذت فكرة الانتحار تجد طريقها إلى هذه الفتاة، وأخذت تتحدث كثيرا عن النقيب رکاستللو، الذي انتحر بطائرته الملتهبة حيث قادها باتجاه رتل من الدبابات وعربات الوقود الألمانية حتى اصطدمت به وانفجرت. وكانت تقول لرفيقاتها: واذا صدف واشتعلت النار بطائرتي، فلسوف أوجهها نحو الخطوط العدوة منتقية هدفا جيدا لأدمره. وعندئذ لا يمكن للألمان أن يحرقوني،.
ومنحت الحكومة السوفياتية الملاحة أوجيني رودنيفا، لقب بطلة الاتحاد السوفياتي تقديرا لبطولتها والمهمات الناجحة التي نفذتها. وبذلك كانت أوجيني، أول امرأة في القوات المسلحة تحصل على النجمة الذهبية ذات الشريط الأحمر.
وخلال شهر فبراير سنة 1944، سافرت رأوجيني، الى موسكو بإجازة المدة اسبوعين، ثم عادت وعيناها تبرقان بوميض الفرح والسرور، وهرعت نحو أدت لها التحية النظامية قالت: «لقد خالفت ملاحنك الأوامر فأحبت، انني مخطوبة.
- ومن هو خطيبك؟ قالت قائد اللواء.
- يدعى سلافيك. انه ضابط في سلاح المدرعات، وهو أحسن رجل في العالم. ا. في منتصف ليلة التاسع من شهر ابريل عام 1944، صعدت وأوجيني، الى طائرتها لتقوم بتنفيذ غارتها إلى (14) ني ضرب المطارات الالمانية قرب «بولکاناك وهي تقول لفائدة الطائرة «بروكوفيفاء بان الحرب ستنتهي حتما عندما يصبح مجموع ما نفذته من غارات (200) غارة
دارت الطائرات فوق الهدف فلمحت قائدة الطائرة انفجارات قذائف مدافع والأورليكون، المضادة للطائرات، وشاهدت الأنوار الكاشفة تفتش عن طائرتها، ولكن صوت الملاحة جاء واضحا موجها إياها نحو مركز هذه الانفجارات. ولسوء الحظ فإن قذائف احد المدافع الالمانية أصابت الطائرة اصابة حساسة فاشتعلت النيران.
وصاحت الملاحة «أوجيني»: انقضاض باتجاه المراكز الالمانية.
وكان ذلك آخر جملة سمعتها فتيات اللواء اللواتي كن فوق نفس المكان. وانقضت الطائرة «بوليكاروف 0
2. P فوق الطائرات الالمانية الجاثمة على أرض المطار. وأثناء الانقضاض كانت أوجيني، تودع رفيقاتها برمي رشاشات قصيرة من مدافع الطائرة؛ ثم انفجرت الطائرة لدى اصطدامها بمجموعة الطائرات العدوة، وظهر في مكان الانفجار لهب أحمر اندفع عاليا نحو السماء يعلوه الدخان الأسود.
وبعد بضعة أيام استطاع الجيش السوفياتي احتلال مدينة «بولکاناكه والمطار المجاور لها. وأجريت التفتيشات اللازمة عن جشي الفقيدتين بين حطام الطائرة؛ وللاسف لم يعثر على شيء منها. |
لقد دخلت رأوجيني رودنيفاء التاريخ السوفياتي من بابه الواسع، ضد النازية والفاشية، تماما كما يدخل التاريخ اللبناني والعربي اليوم فتيات جبهة المقاومة الوطنية اللبنانية ضد النازية الجديدة المتمثلة بالصهيونية والعنصرية على أرض جنوب لبنان العربي، بدءا من المناضلة البطلة ايسار مروه، مرورا با اسناء محيدلي، وابتسام حرب، ولن تكون آخرهن الولا عبود، ووفاء نور
الدين،.
فالعنصرية والفاشية واحدة في كل زمان ومكان. والحرية واحدة أيضا. ولذلك يصح القول مع المتنبي في رثائه لوالدة سيف الدولة:
فلو كان النساء كمن فقدنا فلا التأنيث باسم الشمس عيب
الفضلت النساء على الرجال ولا التذكير فخر للهلال
المرجع
ا- المجلة العسكرية، (قومية ثقافية تصدر شهريا عن قيادة الجيش الأول في
القطر العربي السوري). ترجمة الرائد الطيار ماجد حموي. العدد السابع. السنة الحادية عشرة. فبراير 1991. ص 79 - 82.
مصادر و المراجع :
١- موسوعة الامن
والاستخبارات في العالم
المؤلف: د. صالح
زهر الدين
الناشر: المركز
الثقافي اللبناني للطباعة والنشر والتأليف والترجمة - بيروت
الطبعة: الاولى
تاريخ النشر:2002
م
1 أبريل 2024
تعليقات (0)