المنشورات

فوشيه صانع المخابرات الحديثة

لم يتألق نجم في فرنسا، كما تألق نجم اجوزف فوشيه، وقد برهنت التطورات والأحداث أنه من الشخصيات الدولية المرموقة في مجال الأمن والمخابرات والتجسس، ومن خلال ذلك تفوق على سيده نابوليون، وعلى الكثيرين من أسياده الآخرين. اضافة الى أن حياته كانت مليئة بالمغامرات والمخاطر، ولم تكن المقصلة سوى احدى الوسائل التي تنقل الإنسان إلى الأبدية، وباسرع ما يمكن، وقد استطاع الإفلات مرات عديدة من هذه الآلة الجهنمية التي فصلت رؤوس الكثيرين من الزعماء، ومن أصحابه بالتحديد، عن أجسادهم. ففي سنته الأولى كوزير للشرطة في ظل نابوليون، واجه فوشيه از متين صعبتين. بعد الاطمئنان إلى أن كل شيء في الداخل على ما يرام، انطلق القنصل الأول باعتباره القائد العسكري عبر ممر (سانت برنارد، لضرب النمسا التي استعادت شمالي ايطاليا. كانت باريس تنتظر أنباء المعركة الحاسمة ساعة فساعة. وكانت التقارير الأولى تشير الى أن الفرنسيين لاقوا هزيمة ستؤدي بالتالي إلى القضاء على مطامع نابوليون السياسية ... تردد فوشيه وتريث، هل يبقى على ولائه لنابوليون أم يقفز الى عربة المعارضة، فهو لا يعرف حقيقة الموقف العسكري في الجبهة. ولم يتخذ موقفه النهائي، ولم يعد الى تولي مقاليد السلطة إلا حين اتضح له أن المعركة في امارينتو» كانت نصرة رائعة لنابوليون. غير أن القنصل الأول لم يعد بعد ذلك يثق بمدير شرطته. وقد أقر فوشيه بنفسه أن معركة «مارينغو، كانت نصرة للقنصل الأول على فرنسا، لأنه بعد ذلك صار حاكمها الفرد الذي لا ينازع.
وتناولت الأزمة الثانية محاولة اغتيال جادة عشية الميلاد سنة 1800، فيما كان نابوليون وجوزفين في عربتهما إلى حضور عرض لهايدن. كانت الشائعات حول المحاولة قد راجت في اليوم السابق، ولكن رجال الشرطة الخاصة للقنصل الأول - لا شرطة فوشيه. أكدوا له أنه تم الكشف على الطريق والمسرح، وتبين لهم أنهما خاليان مما يريب، وأنه ليس هنالك ما يخشى منه، ولكن ... ما إن انعطفت عربة نابوليون الى شارع اسانت نيکيز الضيق حتى انفجرت آلة جهنمية - هي عرية محشوة بالبارود أو فلنقل مفخخة بلغة اليوم - ونجا نابوليون بأعجوبة بدون أي أذى، لأن سائق عربة القنصل الأول اندفع بسرعة تجاوزت المألوف وهو في حالة سكر، وسمع فوشيه تعنيفا شديدة، وأهين بقوة في وجهه، وقبل له أنه كان عليه أن يراقب أصدقاءه اليعاقبة الذين اتهموا بالمحاولة، ولكن فوشيه رد بكل هدوء بطلب مهلة أسبوعية ليثبت أن الاعتداء كان من صنع الملكيين. وبعد التدقيق والمتابعة وجمع كل الأدلة واحدة بعد الأخر، ونتفة بعد نتفة، اعثر فوشيه على الحداد الذي صنع حدوة الجواد الذي استخدم في المحاولة واعترف بأنها من صنعه. ثم أدى ذلك إلى اعتقال المتآمرين الملكيين الذين اعترفوا بانهم قاموا بالمحاولة قبل إعدامهم ... صحيح أن نابوليون أعجب بمقدرة وزير الشرطة لكنه لم يفوت المناسبة لترحيل عدد من اليعاقبة الأبرياء إلى أفريقيا.
وكان نابوليون وفرشيه على خلاف حول قضايا عديدة، لكنهما كانا بدران أن جماهير الشعب قد سئمت الفساد والرشوة، وملت الادعاءات الفارغة عن الحرية والشعارات الكاذبة التي لا تعني شيئا والكلام الضخم المنمق دون أي محتوى أو مضمون عن الثورة. أن الأمة تنشد النظام والأمن والاستقرار. بما في ذلك بعض حسنات النظام الملكي السابق ... لذلك تميزت الأشهر الأولى من عهد القنصلية بالاعتدال وبالحكم المستنير، مما أدى بالتالي الى شعور عام بالاستقرار والطمأنينة. حتى أن نابوليون سائر اليمين السياسي واعلن عفوة عامة عن أكثرية المهاجرين، ولم يستثن منهم غير لويس الثامن عشر. وفي 1802
/ 3/ 20، وقعت معاهدة دميين، بين انكلترا وفرنسا في أجواء من الحماس الشعبي بعد أن ملت البلاد عشر سنوات من الحرب الثورية، جاءت هذه الخطة تعكس معتقدات فوشيه أيضا الذي كان يعتقد بأن فرنسا تستطيع عندئذ أن تبدا مشاريع تنمية اجتماعية واقتصادية. وفي يوم اعيد الفصح، دقت أجراس نوتردام، لأول مرة منذ سنوات ايذانا بالسلام، ودعوة الصلاة حضرها القنصل الأول نابوليون نفسه، بعد أن تخول على ما يبدو الى مؤمن صالح
ووقف فوشيه الى جانب العديد من القادة العسكريين والسياسيين الجمهوريين الذين عارضوا اتفاقية والكونكوردا مع البابا والكنيسة الكاثوليكية في السنة السابقة، باعتبارها خطوة مشبوهة لتوحيد الشعب لأسباب سياسية. والحقيقة أن صلح آمپين، ود الكونكوردا، كانا تدبيرين تمهيدين نام بهما نابوليون لتأمين انتخابه قنصلا مدى الحياة، مما شكل الخطوة الأولى نحو إعلان نفسه امبراطورة في وقت لاحق. آنذاك أعرب القيصر الجديد عن امتنانه بان حرم مجلسي الشيوخ والنواب من أية صلاحيات، اذ لا يجوز للصغار وذوي النظرة الضيقة أن يقفوا في وجه العباقرة. واستدار فوشيه الى سيدة عبثا. قال: «حقا انني لم أر في ذلك غير الخطورة والفوضى. وقد عبرت عن ذلك بكل وضوح. قلت للقنصل الأول أنه أعلن نفسه ملكا مدى الحياة ولكنه ليس لذلك في نظري أي أساس غير سيفه وانتصاراته هنا نابوليون، كان قد بدأ يتضايق من تزايد شهرة فوشيه ... وللمرة الأولى أخذ يعير أذنا صاغية للنقد الذي كان أشقاؤه وشقيقاته بوجهونه لوزير الشرطة، وهو يعلم أنهم لم يجتمعوا إلا على العداء لفوشيه وجوزفين فقط. وفي عام 1802، أبلغه رئيس الدولة أنه قام بواجباته خير قيام الى درجة أن منصبه لم بعد ضرورية. وتقديرأ منه لخدماته منحه مكافأة تجاوزت مليون فرنك، وعينه عضوا في مجلس الشيوخ للتأكيد على عدم وجود أي استياء منه. لم يشا نابوليون أن يغامر في هذا المجال. فالرجل مستودع اسرار. ورجاله السريون في كل مكان. ومن يدري؟ ان انسانة بمقدرة فوشيه قد يكون لازما له في المستقبل. وفي مايو 1803، نشبت الحرب في أوروبا من جديد. وفي أقل منة في شارع عنه انهادها في الفرصة حين ان المباحث. ولكن اللحظة
من عشر سنوات انتقل فوشيه من الحياة في منزل حقير الى امتلاك مساكن فخمة في شارع شيروتي في فيربير، بجوار باريس، وفي اكس في جنوب فرنسا، غير أن حياته الهادئة نسبية في هذه الفترة ازعجنه وحملته على ترقب استعادة مركزه السابق. وتسنت له الفرصة حين دخلت باريس مجموعة من المتآمرين الملكيين من غير أن بعرف بهم رجال المباحث. ولكن هذه المؤامرة التي تورط فيها جنرالان من أشهر جنرالات فرنسا كشفت في اللحظة الأخيرة. وبناء على معلومات غير دقيقة، وتأثرا بتربيته الكورسيكية، أقسم نابوليون على الانتقام، وأمر سرا باعتقال دوق دانجيان، الأمير الهارب ومن المطالبين بالعرش والمقيم في المانيا، ظنا منه بأنه الأمير الملكي الذي يقف وراء المؤامرة. ونقل الأمير الذي حل به غضب نابوليون الى قلعة بجوار باريس، وجرت محاكمة هذه الضحية البريئة على بدي عديل القنصل الأول، ثم أعدم رميا بالرصاص. وكل ذلك خلال ساعات معدودة. تدخل فوشيه من غير جدوى، ونوه بالتأثيرات السياسية المؤدية التي ستنجم عن مثل هذا العمل غير المدروس .... المهين للعدالة والشرعية. وصفه بأنه «أسوا من جريمة. انه خطا فاضح»، والواقع أن هذا الخطا وحد أعداء فرنسا وزج أوروبا في
حرب دامت احدى عشرة سنة. وفي العاشر من يوليو، استدعي فوشيه لتسلم منصب مدير الشرطة مرة أخرى ومن جديد.
ان هذا الوضع، لم يمنع من استمرار نابوليون من توجيه الإهانات لوزير شرطته في وجهه ووراء ظهره، وبعد أن أعلنت الامبراطورية في 0
/ 18/ 1804، أصبحت العلاقة بين السيد والخادم تزداد رسمية وشكلية، حتى أن فوشيه كان يتردد في محادثة الامبراطور بصراحته السابقة. لكن ذلك، لمي يمنع فوشيه من مواصلة الرقابة على المخدع الامبراطوري. والواقع أن فوشيه كان من أول الذين شكوا بان جوزفين، رغم أن لها ولدين من زوجها الأول، لا نابوليون، هي التي تعجز عن انجاب وريث. وفي الوقت نفسه، فإن مخبري نابوليون الشخصيين لم يجدوا شيئا مثيرة أو أية إشاعات في حياة فوشيه ينقلونه الى سيدهم، لأن فوشيه لم يكن يدخن السجائر، ولا يبالغ في تناول المشروبات، ولا يخون زوجته. وباختصار إنه كان مثالا للفضائل النابوليونية المفترضة. ولعل أقصى ما كان يمكن اتهامه به هو أنه يقوم بنشاطات غير فرنسية.
واثناء الحملات الخارجية الكثيرة التي كان يقوم بها الامبراطور، كان فوشيه هو الحاكم الفعلي في فرنسا. كانت طريقته تقوم على الإقناع لا على العقوبة، ومثل هذا الأسلوب يتطلب جهاز أمنية واسعة وكثيرا ما يتبجح فوشيه بأنه «كلما اجتمع ثلاثة معا، كان لي بينهم واحد يتنصت». هذه مبالغة ولا ريب، لكنها أفادته كثيرا في الحد من المؤامرات. غير أن خصومه وجدوا أنفسهم ملزمين بالاعتراف باعتداله وبسياساته المستنيرة. مدام دي شتايل، وهي الخصم الدائم لنابوليون، أقرت بأن وزير الشرطة «لم يرتكب أي خطأ لا تقتضيه الضرورة»، وقد استطاعت في فترات ابعادها عن العاصمة، أن تدخلها خلسة، فيما كان فوشيه بغض الطرف. وعلى هذا التغاضي تلفي فوشيه تعنيفة صريحة من نابوليون الذي علم بذلك من رجال مخابراته السريين وهو في بولونيا، وبالمقابل كان فوشيه يتلقى تقارير يومية عن غراميات الامبراطور بالكونتيسة ماري واليفسکا?
وبنتيجة ايقاف العديد من الصحف في فرنسا وإخضاع ما تبقى منها للرقابة، تمكن فوشيه من تخصيص قسم كبير من وقته لفيلق أنباء المنشورات الأجنبية، وهضمها وفهمها وانتقاء جوهرها، وهو العمل الذي شكل الجزء الأساسي من تقاريره اليومية لنابوليون. ولا ريب أن الدبلوماسيين الأجانب كانوا خاضعين لرقابة صارمة، كما أن منح أذونات التنقل أو حجبها كانا من صلاحية فوشيه، وقد أدرك فوشيه تزايد صعوبة الفصل بين السياسة الداخلية والسياسة التوسعية الخارجية التي لابد لها بالتالي، اذا لم تتوقف عند حد، أن تؤدي الى القضاء على الامبراطورية. كان واضحا أن حروب نابوليون تفرغ البلاد من شبابها وتقضي على ازدهارها، فيما كانت طموحاته تتسع مع كل حملة عسكرية جديدة.
وأدى غزو اسبانيا سنة 1808، ونبأ الهزائم الأولى في ميادين المعركة الى اتحاد أدهش المجتمع الباريسي. فقد ظل تاليران، وزير الخارجية، وفوشيه، وزير الشرطة والأمن، على ما هنالك من تشابه في خلفياتهما الدينية، خصمين على مدى سنوات، لا ينحدث أحدهما للآخر، وهو وضع ارضي نابوليون وأثار ارتياحه. غير أن رغبة مشتركة بالسلام دفعنهما الى التفاهم العلني وإعداد المخططات للمستقبل. واشتم نابوليون رائحة انقلاب، فبادر إلى العودة من اسبانيا بسرعة، وعزل تاليران من منصبه بصورة علنية ومثيرة، أما فوشيه فاستطاع كعادته أن يتجنب العاصفة. وفي السنة التالية حين كان الامبراطور في النمسا، نشأ وضع جديد أشد حرجة. جاء نزول القوات الانكليزية الشيرين، في هولندا تهديدأ مباشرة الأنتورب، ولشمالي فرنسا، وكان لابد من دحرها على الفور، وببادرة امنه جند فوشيه الحرس الوطني وعين الجنرال برنادوت قائدا للحرس، رغم سخط الامبراطور عليه. وفي رسالة مليئة بالروح القومية أعلن فوشيه: «لنثبت لأوروبا أنه اذا كانت عبقرية نابوليون تضفي البريق والمجد على فرنسا، فإن حضوره ليس ضرورية الصد العدوه. تصريح خال من الكياسة، لكنه كان مصيبة كل الصواب، كما تبين عند نجاح الهجوم المعاكس. واضطر الامبراطور لكتم غضبه، وبعد اسبوع منح فوشيه لقب «دوق اوترانتوا. بعد ذلك، ارتكب فوشيه سلسلة من الأخطاء التي لا نجد لها تبريرا، إلا إذا اعتقدنا أنه بدأ يعمل لحسابه، أو أنه بدأ يتحول عن نابوليون ويعتقد بأن مصلحة فرنسا تقتضي تغييره. ولكن هذه الأخطاء أبعدته عن منصبه للمرة الثانية ... لعله بالغ بالثقة بنفسه اذا استنفر الحرس الوطني ثانية، انما لرد هجوم لا وجود له هذه المرة. واتبع ذلك بعمل سياسي يتسم بالتربص والخيانة. اتصل فوشيه بجوزفين ونصحها بوقاحة بأن تسهل من جانبها عملية الطلاق من نابوليون. وبخه نابوليون على ذلك. ثم وقع فوشيه في خطا أخر أكثر أهمية حين قرر أن يقوم بدور السياسي، وأن يعقد صلح مع انكلترا ... ولم يكن ذلك بدون معرفة الامبراطور فحسب، بل وباستخدام اسمه في المفاوضات أيضا. هذه المرة أغفل فوشيه أن يتخذ الاحتياطات الكافية، وأخذ على حين غرة حين فاجاه نابوليون الغاضب متلبسة بجرم الإزدواجية والخيانة. وفي الثالث من يوليو، سنة 1810، عزل فوشيه وعين سافاري، الجنرال المتبلد الشعور محله في منصب وزير الشرطة.
أسف على سقوط فوشيه كثيرون كانوا قد استفادوا من معاملته اللبقة وأسلوبه الراقي المتطور في التعامل مع الناس، حتى الأعداء. لكن نابوليون الذي كان يعرف شعبية فوشيه، ولعلها تعود الى تطور آرائه السياسية حول علاقات فرنسا الخارجية والسياسية والداخلية، عينه حاكما على روما، ولكن سافاري ابلغ الامبراطور أن سلفه أحرق ملفات سرية قبل انتقاله إلى روما. ثارت ثائرة نابوليون وطلب اعادة ما تبقى من مراسلات سرية ومواد أخرى حيوية ... ونزل فرشيه عند طلب الامبراطور لكسب الوقت قبل أن يفر الى ايطاليا. بعد حين سمح لفوشيه بأن يعود الى فرنسا ليواجه فقد زوجته التي توفيت سنة 1812. وفي أواخر شهر اكتوبر، حين كان نابوليون يتراجع مهزومة من موسكو وقع في باريس ما أسعف فوشيه بالفعل.
لقد تجلى بوضوح في ظل قيادة سافاري لأجهزة الشرطة والأمن أن القسوة والعنف والتعذيب بديل سيء للرقابة واليقظة. ولما فر الجنرال ماليه المتأمر اللدود الدائم لنابوليون، من السجن، كان سافاري على جهل تام بتحركاته ونواياه، والواقع أن مخطط ماليه كان البساطة بعينها، عندما أعلن أن نابوليون قتل في روسيا، وأن حكومة مؤقتة قد تسلمت السلطة. ثم أعلن اعتقال سافاري، لكنه عجز عن التحرك بسرعة، فانهارت المحاولة الانقلابية. وأصيب نابوليون بالذعر التام إزاء امكانية نجاح مثل هذه المحاولة وما لاقته من دعم واسع بناء على مجرد اشاعة. والأسوأ من ذلك أن شرطة سافاري عجزت عن سحق المؤامرة في مراحلها الأولى، ومثل هذا العجز غير مقبول، وغير مسموح به أبدا. وقد سر فوشيه إزاء ارتباك سافاري، ثم شعر بالمزيد من الإرتياح حين استدعاه نابوليون الى ادرسدن، لاستشارته , اذ أن هذه الخطوة كانت أبلغ دليل على اعتراف الامبراطور بخطئه.
ارتباك سافاري، ثم
حين استدعاه نابولين
هذه الخطوة كان
بت عنه
أبدا. و نابوليون اير بخطه آنذاك كان فوشيه في أواسط عقده السادس. كان لا يزال رفيق الجسم، ناحلا كعادته، لكن قواه قد أخذت بالوهن، كأنها بذلك تواكب ومن الامبراطورية بالذات. وعلى غير عادته اتبع أسلوبا سياسية متأنية في شباك ودهاليز السياسة الايطالية. حينذاك أضاع بسببه أربعة أشهر في محاولة التأثير على الفئات العديدة في ايطاليا قبل العودة إلى باريس التي وصلها متأخرة .. اذ أن لويس الثامن عشر كان قد تسلم العرش وجلس الى جانبه تاليران. وعبر فرشيه عن حكمة حين رفض منصبا في الحكومة الجديدة، قائلا عن البوربون أنهم لن يبقوا في الحكم أكثر من سنة. كان في الواقع مزيدا للسلام، معارضا لعودة نابوليون، لكن قصر نظر الكثيرين من المهاجرين العائدين أقنعه بأن النظام الملكي سيكون نصير العهد. ولم يأت نبا عودة الامبراطور وزحفه الظافر مفاجأة له. وفي اللحظة الأخيرة قدرت السلطات البوربونية اعتقال فوشيه، لكنه تمكن من الفرار بمغامرة الهبوط على سلم عبر جدار في حديقة
هورتنس، الخلفية، وهي ربيبة نابوليون ونسيته أيضا. وعند وصول الامبراطور السابق، عين فوشيه وزيرا من جديد.
وبين الوزراء الذين عملوا أثناء فترة الأيام المئة، وهي الفترة ما بين عودة نابوليون ونفيه من جديد بعد معركة واترلوه كان فوشيه أقدرهم وأكثرهم كفاءة، وكان يعتبر الصلة المجدية الوحيدة بين نابوليون والملكيين. وعلى هذا الأساس دخل في مفاوضات سرية مع مترنيخ - الداهية النمساوي - من خلف ظهر الامبراطور، غير أنه هذه المرة كان على أتم استعداد حين صرخ به الامبراطور: انت خائن ... كان يجب علي أن أعلقك على حبل المشنقة.
فقد رد عليه نوشية: «سيدي، انني لا أشاطر جلالتك هذا الراي،. وكشف له معرفته بأن نابوليون نصب له فخا في فندق ردا دراي كونيغ، في
بال، حيث كان مقررا أن يتم الاجتماع بمندوب مترنيخ الدبلوماسي. وواصل الامبراطور صراخه مدى ساعة لكنه كان لابد له من الاعتراف بهزيمته في
براطور، غير انه منة
مع مترنيخ - الدمية الملكيين. وعلى النهاية، وجاءت هذه المناوشة مقدمة بسيطة لهزيمته الساحقة في معركة دواترلوه أمام خصمه الانكليزي دولنغتون،.
هنا رأي فوشيه ضرورة استقالة نابوليون. وباعتباره الرئيس المؤقت للحكومة كان في وضع بمكنه من إرغام الامبراطور على مغادرة باريس، وأن يفسح المجال ثانية أمام لويس الثامن عشر.
كان الملك يكره من صوت إعدام شقيقه، وكان صوته هو الذي رجح إعدام الملك لويس السادس عشر. لكنه عين فوشيه وزيرا للشرطة للمرة الرابعة. ويروى أن الملك لويس الثامن عشر قال في نفسه: «با اخي المسكين. لو انك رايتني لسامحتني، فعودة الملكية - المؤقتة - الى فرنسا كانت تقنفي مصالحة واسعة. واذا كان الملك أكرم فوشيه في وقت لاحق بحضور حفل زواجه من فتاة جميلة تصغره بنحو ثلاثين عاما، فإنه كان واضحا أن وزير الشرطة قد استنفد نفعه للبوربون بعد أن رسخوا سلطنهم. وقد ظلت
دونة دانغوليم، ذات الإرادة القوية والشخصية العنيفة، وهي ابنة الملك المعدوم لويس السادس عشر والملكة المعلومة ماري أنطوانيت هي «الرجل الوحيد في العائلة، كما قال عنها نابوليون، تكره هذا الرجل الذي أسهم في إعدام والديها. وحملت لويس الثامن عشر حملا على عزله من الخدمة وإبعاده الى حيث قضى بقية حياته في ما يشبه المنفى.
و فضي فوشيه السنوات الخمس الأخيرة من حياته في التنقل بين براغ وميونيخ ولينز، وهو يتوسل كل مرة مترنيخ المتعجرف أن يمنحه حق اللجوء. وأخيرا وجد العزاء والسلوى في اتريسنا، حيث أبدى جيروم واليزا بونابرت عطفا كبيرا عليه، وهو الذي سبق له أن قدم لهما خدمات كثيرة في الماضي. وكانت نهايته في 20 كانون الأول/ديسمبر سنة 1830. أخيرا وجد هذا الراهب السابق، والارهابي، واليعقوبي، والملحد، والجمهوري، والثوري، والمناصر للملكية حينة من الزمن سلامة مع الكنيسة التي رضيت بدفنه في أحد قبورها.
إلا أن ما يجب قوله أخيرة، أن أمثال جوزف فوشيه قليلون جدا في كل عصر. ولو أن نابوليون أصغي لوزير شرطنه البارع على نحو أفضل، وأخذ برأيه في وقف المغامرات الخارجية، وتحقيق أوسع الإصلاحات والمصالحات الداخلية لكان من المحتمل أن لا ينهي بقية حياته في منفاه التعيس في جزيرة القديسة هيلانة. فجوزف فوشيه مدرسة سياسية وأمنية تصلح لكل عصر من العصور، لأن السياسة والأمن مستمران في الوجود، طالما أن الأرض تعج ببني البشر، ذوات الأفكار المختلفة والمصالح المتناقضة.
وطالما هناك انسان على سطح الأرض، فسيبقى التجسس قائمأ وملازما له.
المراجع
1- مجلة الجيل، (القبرصية). عرض ميخائيل الخوري افرشيه أبو
المخابرات الحديثة، العدد الأول. المجلد السابع. شهر كانون الثاني /
يناير 1989، ص 94 - 107 2 - سعيد الجزائري والمخابرات والعالمي، دار الحياة. بيروت. لا تاريخ.
ص 389 - 385 3- حافظ ابراهيم خير الله والمخابرات الفرنسية. دار النهار للنشر، بيروت.










مصادر و المراجع :

١- موسوعة الامن والاستخبارات في العالم

المؤلف: د. صالح زهر الدين

الناشر: المركز الثقافي اللبناني للطباعة والنشر والتأليف والترجمة - بيروت

الطبعة: الاولى

تاريخ النشر:2002 م

تعليقات (0)

الأكثر قراءة

ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلا … ويأتيك بالأخبار من لم تزوّد
المزید
فصبرا في مجال الموت صبرا … فما نيل الخلود بمستطاع
المزید
حننت إلى ريّا ونفسك باعدت … مزارك من ريّا وشعباكما معا
المزید
أفاطم مهلا بعض هذا التدلل … وإن كنت قد أزمعت صرمي فأجملي
المزید
إنّ أباها وأبا أباها … قد بلغا في المجد غايتاها
المزید