المنشورات
سليمان الحلبي
ومصرع الجنرال كليبر في مصر عندما يركب الغرور والكبرياء رأس أحد الأشخاص العاديين، يفقد الكثير من توازنه وتختل عنده مقاييس عديدة. فكيف اذا ركب هذا الغرور رأس أمة من الأمم، أو رأس قائد سياسي وعسكري کتابوليون بونابرت؟ فالقضية عندها ولا شك في مستوى الكارثة.
فمن منطلق التنافس الاستعماري بين بريطانيا وفرنسا من جهة، والموقع الاستراتيجي الهام لمصر من ناحية أخرى، كانت حملة نابوليون بونابرت على مصر، ومقاومة الانكليز لها بكل ثقلهم لان التحكم بهذا الطريق كان بحد ذاته تهديدة مباشرة لاستمرارية السيطرة البريطانية على الهند التي كان يطلق عليها اسم «درة التاج البريطاني.
وعلى هذا الأساس، کتب الكولونيل تشرشل في منتصف القرن التاسع عشر يقول: «اذا كانت بريطانيا ترغب في الحفاظ على سيطرتها في الشرق، ينبغي لها بشكل أو بآخر، أن تدخل سوريا ومصر في نطاق نفوذها وسيطرتهاء.
وقد أعلن نابوليون أنه سيجعل من مدينة عكا مفتاحا للشرق. وكانت عبقريته العسكرية على صواب في تقديرها أهمية هذه البلاد المسماة بالشرق الأدني،، التي عبثا حاول الاستيلاء عليها ليجعل منها مركزا ومنطلقا في أعماله الحربية ضد الامبراطورية البريطانية في الهند ... لقد كانت القضية قضية حياة أو موت بالنسبة لهؤلاء الاستعماريين، الذين يطمحون الى التحكم بالعالم وامتصاص خيرات البشرية ونهب ثروات بلدانها في سبيل ديمومة نفوذهم وتابيده (بمعني جعله مؤبدأ). |
وفي سبيل ذلك، قام نابوليون بحملته على مصر في سنة 1798، حيث تحولت بعدها الى ساحة صراع وقتال بينه وبين الأنكليز، وكانت معركة وأبي قير، من أشهر هذه المعارك الحاسمة التي أثبتت عملية بأن مصر هي شريان حيوي وعصب حياة لا يمكن الاستغناء عنه.
إلا أن ما حصل في فرنسا لاحقا من تطورات على الصعيد الداخلي، واضطراب في أحوالها، دفع بنابوليون الى مغادرة مصر، وتسليم قيادة الحملة الى الجنرال کليبر
فماذا حدث بعد ذلك؟ وكيف كانت نهاية هذا الجنرال؟.
تولى الجنرال كليبر قيادة الحملة الفرنسية في مصر بعد أن غادرها نابوليون بونابرت بعد سماعه نبا اضطراب الأحوال في فرنسا، وتألب دول أوروبا وملوكها على الثورة الفرنسية. وقد اتخذ کليبر من قصر الألفيه المشرف على بركة الأزبكية مسكنا له ومركزة للقيادة العامة، ولكنه أقام حينا في الجيزة القريبة من النيل بجوار المركز العام لأركان الحرب حتى يتم اصلاح القصر. وليس من السهل أن يخضع شعب من الشعوب رضع الكرامة والحرية مع حليب الطفولة، لأبشع أنواع الذل والمظالم على أيدي أناس لا يمتون اليه بصلة. وليس من الممكن أيضا أن تهدا الثورة في النفوس امام حكم الحديد والنار، مهما كان جائرة ودموية. ولم يكن المناضل العربي سليمان الحلبي، الذي اغتال الجنرال کليبر، إلا النموذج الحي لشعب رفض حياة الذل والعبودية أمام جميع الغزاة على مر التاريخ.
فكيف كانت عملية اغتيال كليبر؟ ومن هو البطل سليمان الحلبي»؟
آن كيفية وقوع هذه الحادثة والتي أدت إلى تصفية أحد رموز الاستعمار الفرنسي في مصر وكبير قادته العسكريين، فقد وردت على لسان الجبرتيا المؤرخ الكبير وحجة عصره. كما صورها التحقيق الرسمي وأقوال الشهود على الشكل التالي: بينما كان الجنرال كليبر في منزله في الساعات الأخيرة من يوم السبت في 14 يونيو سنة 1800، خرج مع كبير المهندسين الى الحديقة الكائنة بين منزله ومنزل وزيره داماس. وفي هذه الأثناء دخل عليه الشاب
سليمان الحلبي، الذي كان يرتدي ثيابا بالية، ومد اليه يده بورقة، فأخذها كليبر. وبينما كان يمعن في قراءتها، انقض عليه ذلك الشاب وضربه بسكين کان محتفظة بها تحت ثيابه، فجاءت الضربة بخاصرته، فسقط على الأرض وصرخ صوتا قوية، ثم ضربه ثانية وثالثة ورابعة، حتى أجهز عليه. وقد بادر المهندس الى القاتل وبيده عصا قوية فضربه بها على كتفه نجرحه. وهجم سليمان الحلبي على المهندس وضربه بتلك السكين فجرحه جرحا بليغة ووقع على الأرض بين ميت وحي، ثم فر سليمان ماربة غير أنه ما كاد يختفي حتى وثب الحراس الى مكان الاستغاثة، فوجدوا قائدهم صريعا في ممشى الحديقة، والدم يقطر من جراحه. كما وجدوا زميله المهندس ابروتان، ملقى على قيد بضعة أمتار منه، ولم يروا أثرا اللقاتل، فذعروا واشند اضطرابهم وطار الخبر الى الرؤساء والضباط فهرولوا من كل صوب، واشتد الضجيج والهرج، وانطلق عشرات الجند الى الجهات المجاورة يفتشون عن الفاعل، واعتقد الرؤساء أن تلك الجريمة انما مي نتيجة لمؤامرة كبيرة دبرها أهل القاهرة ... فاستنفروا بالقلاع والحصون واحتاط الفرنسيون بالمدينة، وسرى الرعب الى القاهريين، وأغلق التجار حوانينهم، واتفرت الطرق، وساد المدينة سکون رهيب. غير أن هذه الحال لم تدم طويلا، حيث لم تمض ساعة حتى عثر الجند على سليمان وقد كان مختفية في البستان المجاور لمنزل کليبر. وفي الحال قدم للإستجواب أمام مجلس عسكري انعقد في منزل الجنرال «داماس» رئيس أركان الحرب. واستجوبه الجنرال امينو، أقدم الضباط في حملة مصر، وقد خلف کليبر في القيادة العامة، ولكن الجنرال الجريح بعاني حشرجة النزع عندما قدم لفحصه كبير الأطباء في نحو الساعة الثالثة بعد الظهر في مركز القيادة. وقد ظهر من الفحص أنه طعن بالة قاطعة ذات جد واحد، وأنه أصيب باربعة جروح بالغة أحدها تحت الكتف الأيمن، والثاني تجاه الكلية اليمني والثالث في ذراعه الأيسر وفد شقه من ناحية الى أخرى، والرابع في الخد الأيمن، أما المهندس برونان، فقد ثبت بالفحص أنه ضرب أيضا بالة قاطعة ذات حد واحد وأنه أصيب بستة جروح في كتفه وورکه وجنب الأيسر وشدقه الأيسر وصدره من جهة اليسار، وقد أسلم كليبر الروح بعد فحصه ببرهة وجيزة. لكن المهندس بروتان، لم تكن جراحه خطرة بالرغم من كثرتها، فأسعف بالعلاج.
هذا وقد ظهر من الاستجواب الأول أن الشاب المقبوض عليه يسمي سليمان الحلبي،، وأنه ولد في مدينة حلب بولاية الشام، وعمره اربع وعشرون سنة. قدم الى القاهرة مع احدى القوافل، ثم نزل في الجامع الأزهر. وقد تليت عليه الأدلة الأولى للإتهام وهي كما يأتي:
أولا: وجد الجند في أحد مماشي الحديقة خنجرة ملوثا بالدم، وعلى مقربة من المكان الذي كان مختفية فيه.
ثانيا: قبض عليه الجند وهر مختف في الحديقة، وقد رد المتهم على ذلك بأنه لم يكن مختفية لأن الجند سدوا عليه المسالك.
ثالثا: وجدت قطعة قماش أخضر في المكان الذي سقط فيه القائد وهي تماثل قماش ثيابه.
رابعا: وجدت برأسه ووجهه خدوش ورضوض وكدمات. وهذه الإصابات هي نتيجة اشتباكه مع المهندس بروتان، الذي ضربه بعصاه عدة ضربات.
خامسا: تعرف عليه بعض الجند وقرروا أنهم رأوه في صبيحة ذلك اليوم في الجيزة حيث كان القائد العام، ولوحظ أنه يتبعه أينما سار.
وبعد تلاوة حيثيات الاتهام قرر المجلس إحالة المتهم الى العذاب طبقا للعرف القانوني آنذاك). نشد وثاقه وما زال يجلد حتي ادمي جلده، ثم وضع قيد الاستجواب ثانية فقر أنه قدم إلى القاهرة من غزة منذ وأحد وثلاثين يوما. ولم يكن قدومه مع احدى القوافل بل كان على هجين استحضره خصيصا لذلك، فقطع المسافة بين القاهرة وغزة في ستة أيام. وأنه جاء الى القاهرة ليقتل کليبر، ولم يحرضه أحد على ذلك، وليس هو بطامع في مال أو منصب. وسئل هل حرضه أحد في مصر بعد وصوله اليها فأجاب أن أحدا لم يحرضه في مصر، غير أنه تعرف منذ سكنه في الجامع الأزهر باربعة مشايخ هم: السيد محمود الغزي، والسيد أحمد الوالي، وعبدالله الغزي، والسيد عبد القادر الغزي، وأنه أطلعهم على مشروعه فلم يظهروا استياءهم، غير أنهم أظهروا له عدم ثقتهم بإمكانية التنفيذ. وأعترف أيضا أنه تردد على الجيزة لرؤية كليبر والاستفهام عنه وعن غدواته وروحاته، فعلم أنه ينزل أحيانا إلى الحديقة، وأنه رآه في هذا الصباح يجتاز النيل في قاربه حتى قتله. وقد كان يقوم بمهمة الترجمة أثناء التحقيق وداميان برشويش، سکرتير القائد العام، فأصدر القائد العام مينوا في الحال أمرا بالقبض على الأربعة المذكورين، حيث لم تمض ساعة حتى قبض على ثلاثة منهم فاحضروا في الحال إلى المجلس، وبديء باستجوابهم في الساعة الثامنة من نفس اليوم الذي وقعت فيه حادثة الاغتيال. وقد أدى استجواب المشايخ الأربعة الى القبض على شخص آخر هو رمصطفى البورصلي، والذي قال عنه السيد احمد الوالي أن سليمان يذهب للقراءة في منزله، وقد ندم هو الآخر للاستجواب. ولما انتهى التحقيق البدائي، أصدر الجنرال «مينو، في اليوم التالي قرارا بإنشاء محكمة لمحاكمة المتهمين مؤلفة من تسعة أعضاء هم: الجنرال رينييه وهو الرئيس، وفريان، وروبين من الفواد، وموران، ورجنيه، ولوري، وبرتران، وسارتلون، وليبر من كبار الضباط ورؤساء الأقلام، على أن يقوم ليبر بوظيفة المدعي العمومي، وسارتلون بوظيفة مقرر المحكمة، وفوض لهذه المحكمة أن تتخذ كل الإجراءات التي ترى اتخاذها من نبض وتفتيش وتحقيق للوصول الى إظهار الحقيقة والقبض على جميع من تظهر له أية علاقة بالحادث، وأن تقضي على المسببين بالعقاب المناسب، وأن تبدأ بعقد جلساتها في الحال. فبدأت المحكمة بسماع شهود الإثبات وهم: العسكري الخيال يوسف برين من حراس منزل کلير. والعسكري الخيال روبر. والعسكري الفرنسي فورتونيه الضابط في فرقة الفرسان ومن مرافقي کليبر، والمهندس كونستان بروتان عضو البعثة العلمية. وقد أجمع كافة الشهود أنهم شاهدوا مقتل القائد العام كليبر وشاركوا في القبض على قاتله. ثم أعادت المحكمة استجواب سليمان الحلبي فاعترف بما نام به من مقتل قائد الفرنسيين کليبر، وأفاض هذه المرة في تفصيل الحوادث التي سبقت ورافقت ذلك. كما اعترف سليمان أيضا بأن الخنجر الملوث بالدم الذي ضبط في مكان الحادث هو خنجره، وأنه اشتراه من سوق غزة لهذه الغاية. وقد استغرق التحقيق في القضية يوما واحدا، واستغرق استجواب المتهمين أمام المحكمة يوما آخر هو اليوم التالي: وفي ختام هذه الجلسة التي لبثت طوال اليوم عهدت المحكمة الى المترجم الوماكا، الدفاع عن المتهمين.
وفي يوم الاثنين 16 يونيو سنة 1800، عادت المحكمة الى الانعقاد، وكانت المحاكمة علنية شهدها جمهور من العرب المصريين، بدأها المقرر اسارتلون، بمرافعة قرئت بعدها أوراق التحقيق ثانية وأحضر المتهمون الى قائمة المحكمة. حيث سالهم رئيسها الجنرال رينييه بحضور وكيلهم المترجم الوماکا، عدة أسئلة فلم يغيروا شيئا من أجوبتهم السابقة. فعندئذ أمر الرئيس بإخلاء الجلسة من الحضور، واختلت المحكمة للمداولة، ثم عادت الى الانعقاد وأصدرت حكمها بإدانة كل من سليمان الحلبي ومحمد الغزي وعبدالله الغزي وأحمد الوالي، وبراءة مصطفى البورصلي. وقضت على المحكوم عليهم بالعقوبات الأتية:
1 - أن تحرق لسليمان الحلبي يده اليمنى ثم بعدم فوق الخازوق وتترك جثته فريسة للجوارح، وأن يكون ذلك خارج البلد فرق التل المعروف بتل العقارب، وأن بقع التنفيذ علنا عقب تشييع جنازة الجنرال کليبر
2 - أن بعدم عبد القادر الغزي على الخازوق وأن نصادر أمواله من عقار ومنقول لحساب الجمهورية الفرنسية
3- أن يعدم كل من محمد الغزي وعبدالله الغزي وأحمد الوالي بقطع الرأس، ثم توضع رؤوسهم فوق الرماح ونحرق جثتهم بالنار، وأن يكون ذلك فوق تل العقارب أيضا، وأمام سليمان الحلبي قبل أن ينفذ فيه الحكم.
وقرئ الحكم على المتهمين بواسطة المترجم الوماکا، وذلك بعد أن استغرقت هذه القضية من تحقيق ومحاكمة أربعة أيام فقط.
وفي اليوم التالي تأهب الفرنسيون لدفن الجنرال کليبر، فجمعوا جنودهم وساروا به من حي الأزبكية الى باب الخلق فدرب الجماميز فالناصرية حيث وصلوا الى قلعة كانوا قد بنوها هنالك. ولما وصلوا الى تل العقارب احضروا سليمان الحلبي وزملاءه، فنفذوا فيهم الحكم وسط حراسة عساکر هم، ثم استأنفت الجنازة مسيرتها حتى وصلوا الى باب القصر العيني، وهناك دفنوه في كثيب من الرمل والتراب، وأحاطوا مكانه بسياج من الخشب، وزرعوا حوله أعوادأ من السرو.
وقد تولى الجنرال مينوه بعد کليبر قيادة الحملة الفرنسية في مصر، وهو الذي قام بالمفاوضات مع الإنكليز فيما بعد لضمان انسحاب ما تبقى من الحملة الفرنسية على مصر الى الشواطئ الفرنسية
وهكذا برهن اسليمان الحلبي، بان الايمان بالأرض والوطن والحرية والكرامة، هو أقوى من كل الأساطيل والجيوش، والدم لن ينقلب الى ماء في أرض العرب، وفي أرض الكنانة على وجه الخصوص. كذلك الحال بالنسبة للبطل سليمان خاطر، الذي نفذ حكم الإعدام بالصهاينة السبعة الذين كانوا يدنسون تراب مصر العربية، وكان نسخة طبق الأصل عن سليمان الحلبي، في هذا العصر، وجاء الحكم عادلا باعتبار أن هؤلاء الصهاينة هم نسخة طبق الأصل عن الجنرال کليبر وأسياده. فالحرية واحدة لا تتجزا، وكذلك الكرامة الانسانية. ولا يمكن صون الكرامة ونيل الحرية إلا بالدم ..
المراجع
1- محمد عبدالله عنان وقضايا التاريخ الكبري،. أو أشهر المحاكمات
والجرائم القاهرة 1920. 2- هاني الخير واشهر الاغتيالات السياسية في العالم .. الجزء الأول. دار الكتاب العربي. دمشق 1980، ص 10
11. 3- مجلة الشرطة (السورية). تقديم المساعد الأول حسن محمد
الخطيب. السنة الثامنة. العدد 87. يناير 1973. ص 38 - 39.
مصادر و المراجع :
١- موسوعة الامن
والاستخبارات في العالم
المؤلف: د. صالح
زهر الدين
الناشر: المركز
الثقافي اللبناني للطباعة والنشر والتأليف والترجمة - بيروت
الطبعة: الاولى
تاريخ النشر:2002
م
1 أبريل 2024
تعليقات (0)