المنشورات
محاكمة الماريشال بيتان
بين المجد والخيانة قليلون جدأ أولئك الرجال الذين يجبرون التاريخ على احترامهم، رغم الكثير من أخطائهم؛ ويضطر العظماء والقادة أن يحنوا هاماتهم أمام أمثال هؤلاء القلة من الرجال. وطبيعي أن يكون الماريشال الفرنسي فيليب بيتان Philippe Petain أحد هؤلاء العظماء الذين يقدرهم الأعداء قبل الأصدقاء، رغم تعاونه مع المانيا الهتلرية في الحرب العالمية الثانية، وتهمة الخيانة العظمى، التي كلفته أطول محاكمة الرئيس وقائد في التاريخ.
فمن هو الماريشال بيتان؟ وما هي أسرار محاكمته الشهيرة؟. ولد فيليب بيتان في كوشي الا تور Cauchi
- a - la - Tour
»، وكان من أصل فلاحي. تخرج من كلية سان سيرة العسكرية عام 1878 (وهو من مواليد 1856). تسلم بعدها عددا من المناصب القيادية في الجيش الفرنسي، وأثبت تفوقه وبراعته في معركة ثردان سنة 1916 في الحرب العالمية الأولى، والتي مرت فيها معظم فرق الجيش تخت قيادته. وفي العام 1920 استدعي بيتان الى المغرب لمجابهة الوضع العسكري المتدهور على أثر ثورة الريف. ولقد بقي حتى عام 1931 نائبا لرئيس مجلس الحرب الأعلى وهيئة التفتيش الأعلى للجيش، حيث كان شارل ديغول من أقرب مساعديه، ثم شغل من عام 1931 حتى 1934 منصب المفتش العام للدفاع الجوي في البلاد. وبعد أحداث 6 فبراير 1934 اختاره دوميرغ، وزيرا للدفاع، فانخرط بيتان منذ ذلك الوقت في الحياة السياسية. وفي عام 1939 عين سفيرة في اسبانيا. وبعد نكسات 1940 في مطلع الحرب العالمية الثانية استدعي بيتان ليكون نائبا لرئيس الحكومة، ثم غدا رئيسا لها في 16 يونيو
وبعد هزيمة فرنسا أمام القوات الألمانية، رفض بيتان متابعة القتال في أفريقيا، وطلب عقد هدنة مع الألمان في 17 يونيو، وبعد هذا القرار، اجتمع مجلس النواب الفرنسي في ٹيشي Vichy بتاريخ 10 يوليو، ومنح السلطة الدستورية لحكومة الجمهورية برئاسة بيتان الذي تحمل منذ 11 يوليو مسؤولية رئيس الحكومة الفرنسية. وفي 24 اکتوبر قابل أدولف هتلر في مونتواره وعبر له عن رغبته في تنفيذ سياسة وفاق مع المانيا.
إزاء ذلك، اعتبر الماريشال بيتان متعاونة مع العدو، وهوجم بعنف من قبل الفرنسيين الأحرار المتجمعين في لندن تحت قيادة الجنرال ديغول، والذين تصاعدت هيبتهم والتفاف الفرنسيين حولهم بسبب تصرفات الألمان الخاطئة في فرنسا ...
وكان لابد من المحاكمة؛ فكانت محاكمته أطول محاكمة رئيس رقائد في التاريخ. وفي الثالث والعشرين من شهر يوليو 1945 بدأت محاكمة الماريشال بيتان - بطل ثردان Verdun قبل أن يصبح رجل فيشي Vichy - واستمرت حتى الساعة الرابعة فجر يوم الأربعاء 10 آب / أغسطس من دون انقطاع، خلال الدوام وبعده، لأكثر من سبعين جلسة خصصت للمناقشات العامة ولسماع شهود الحق، ثم شهود الدفاع، مطالعة النيابة العامة، مرافعات وكلاء الدفاع، مذاكرة لجنة المحلفين فإصدار الحكم ...
دقت الساعة الثانية عشرة ظهرا في برج قصر العدل في باريس، وكانها صدي رنين أجراس حزن يتردد في قباب ما فرق نهر السين Seine.
بدت العدلية، وكانها ساحة حرب، مئات من العناصر العسكرية، من المظليين والحرس الجمهوري وضباط الأمن العام يحاصرون المبنى بشريط من المسلحين، يدققون في هويات المارة، وفي تراخيص حضور الجلسة. أما السبب في ذلك فهو سريان الإشاعات المتناقضة عن محاولة اغتيال القائد الأسير في أثناء المحاكمة، ومحاولة اختطافه لإنقاذه.
وأما القاعة، فمحكمة الاستئناف الفخمة، ذات السقف الفخم المزركش واللوحات الرائعة، تبدو وكأنها في القرن السابع عشر، مع بعض الترتيبات المتخذة لتأمين حسن سير العدالة
حشد من المشاهدين توافد منذ الصباح الباكر لمتابعة المحاكمة، من دبلوماسيين، ومراسلي الصحف المحلية والأجنبية، والمصورين ... والحاضرون البائون ينتمون فقط إما الى اليسار أو الى اليمين والفريقان يتبادلان المنشورات داخل القاعة، بحيث بدت وكأنها مرکز تجمع انتخابي.
الديغوليون غائبون، يلملمون آثار الخراب والدمار في العاصمة، ويستعدون للإنتخابات التشريعية الأولى بعد الحرب، في شهر اكتوبر المقبل، وقد تبنوا موقف محرر فرنسا الجنرال شارل ديغول، المنتصر الأكبر الذي أبدى امتعاضه وقلقه من الإسراع في محاكمة بيتان، قبل أن تلتئم الجراح، مما يزيد الخلافات والانقسامات في الصفوف الواحدة والجنرال ديغول هو من المعجبين بشخصية القائد الأسير منذ أن كان تلميذه في كلية اسان سيره العسكرية، وبعد أن رافقه كضابط برتبة ملازم أول في معارك آراس Arrass ، وئردان خلال الحرب العالمية الأولى، وكان رئيسا للفرقة العسكرية التابعة للماريشال، قبيل نشوب الحرب العالمية الثانية، كما التقاه سرا في باريس بعد ذلك كرئيس لفرنسا قبل سقوط العاصمة والاجتياح
الالماني
أما محامو الدفاع فكلهم متطوعون، وهم من أشهر المحامين في فرنسا. وقد تميز بينهم المحامي الشاب ذو الثلاثين من عمره الأستاذ
أيزوردي Isordi الذي اكتسب شهرة واسعة في أثناء سير المحاكمات ومناقشة الشهود والمرافعات، واستأثر بإعجاب الماريشال بيتان نفسه.
المحلفون سبعة وعشرون، اختيروا من بين القوائم الرسمية، بحضور وكلاء الدفاع، بعد التأكد من نزاهتهم واعتدالهم وتجردهم وحيادهم. محكمة أمن الدولة، المنشاة خصيصا لمحاكمة المتعاونين مع القوات الألمانية والخونة والعملاء، مؤلفة من ثلاثة قضاة، برئاسة الرئيس الأول لمحكمة التمييز امونجيبو Mongibeaux، الذي أقسم اليمين أمام الماريشال بيتان، سابقة، عندما تولى المركز القضائي الأعلى، فلا هو نسي ذلك، ولا الماريشال الذي يحاكم من قبل من عينه يمكنه أن ينسي.
ادخلوا المتهم، ...
قالها رئيس المحكمة لقائد الفصيلة الخاصة التي تتولى حراسة الموقوف، ففتح باب الغرفة الملاصقة للمحكمة. وحبس الموجودون أنفاسهم، ثم خرج العسكري الأقدم رتبة في فرنسا، ذو القامة الفارعة المديدة، تزين صدره أوسمة الاستحقاق، وتعلو هامته القبعة العسكرية - المذهبة اللون - ويبدو رغم ثقل السنين عليه، بكل صفاء واطمئنان. ومشي باتجاه المقعد الفخم الذي خصص له في موقع الاتهام نظرا لمكانته
وما كاد الرجل يدخل، حتى وقف الجميع عفوية، احتراما له، ودون أن يعرف أحد لماذا وقف احتراما لضابط يساق للمحاكمة
فتحت المحاكمة علنا؛ قال رئيس المحكمة بعدما دقت المطرقة القضائية خشبة القوس ثلاث مرات، وبعد أن نبه الرئيس الحضور الى وجوب التزام الصمت والهدوء، تحت طائلة إخراجهم من القاعة. وبدا النائب العام يتلو باختصار، الإدعاء العام، واسماء الشهود، إنه القاضي امورنيه Mornet الملقب بالرجل الحديدي، لتمرسه في مهنته، ولفصاحته في الخطابة، ولكنه ارتكب خطأ مهنية، بتصريحه قبل المحاكمة لمراسل جريدة «فرانس سوار France Soir اليسارية انه سيطالب براس المتهم العجوز، وسيناله، وهذا ما تناوله محامو الدفاع في انتقادهم للمطالعة.
اسمك، عمرك، مهنتك؟ سأل الرئيس السؤال التقليدي حفاظا على أصول المحكمة.
- الماريشال فيليب بينان، مواليد عام 1801 رئيس الدولة الفرنسية سابقا.
ذلك أنه عند تسلمه مقاليد الحكم بعد الرئيس البير لوبران ع Albert L Brun، واحتلال المانيا لاثنتين وثلاثين مقاطعة فرنسية، وانكفاء الحكومة في فيشي، لم يشابيتان تسمية ما كان تحت إشرافه شخصية باسم الجمهورية الفرنسية، في هذه الحالة التي كانت عليها البلاد.
ليتلى قرار الاتهام؛ قال الرئيس، بعدما نبه الماريشال إلى ضرورة الاستماع للقرار.
وتناول أحد المستشارين کراسة ضخمة صادرة عن هيئة الإحالة، واستغرق في تلاوته وقتا ليس بالقصير، مما ازعج الموقوف ووكلاءه، خاصة للمتناقضات الواردة فيه، ولتكرار الوقائع، ولخروجه أحيانا عن الموضوع، ولاحتوائه تفاصيل لا فائدة منها.
وأخيرا انتهت التلاوة، وسال الرئيس وكلاء المتهم كما سأله عما اذا كان له من تعليق.
- لن أجيب على هذا السؤال، كما أنني لن أطلب شيئا أثناء المحاكمة، ولن أرد على أي سؤال. وإنني في ضميري وقناعتي، أحتكم الى فرنسا والتاريخ، وهما ينصفاني بعدالة من نوع أخر.
هكذا وطيلة المحاكمة، لزم الماريشال الصمت الكامل المطبق، حتى عند استماع شهود الدفاع، كما أن المحكمة وهيئة المحلفين والنائب العام، احترموا كلامه ولم يوجه إليه أحد أي سؤال، وكأنه أدرك أن سياسة التزام الصمت هي خير وسيلة للدفاع، كما تقر ذلك اليوم، أساليب المرافعة.
ويقفز المحامي الشاب، الأستاذ إيزوردي، من مقعده، ليصل الى أمام المنصة القضائية طالبة قبل السير في المحاكمة بت الدفع الشكلي الذي أدلى به، بكل براعة ودهاء لجهة عدم صلاحية المحكمة الحاضرة للنظر في الدعوى، لأن موكله رئيس دولة، تجب محاكمته وفق دستور 1870 الذي لا يزال قائما، أمام محكمة رؤساء الجمهورية، التي تتألف حكمة من بين أعضاء مجلس الشيوخ، وإنه لا يخضع بالتالي لمحكمة أمن الدولة الخاصة التي شكلت على عجل، خاصة بالنسبة للمحلفين الذين سيقررون مصير موكله. وتختلي المحكمة للمذاكرة، مدة نصف ساعة، لتعود بعدها مع قرار رد الدفاع الشكلي وإعلان اختصاص المحكمة على اعتبار أنها مفيدة بإحالة الهيئة الاتهامية القرار إليها، واعتبار أن وضع يد المحكمة على الدعوى هو بحكم المبرم؛ ويطلب إيزوردي، تدوين كل ذلك في محضر المحاكمة
رينوالي الشهود بدلون بإفاداتهم وهم ليسوا فقط من كبار رجالات فرنسا، بل جزء من تاريخ فرنسا، قبل التحرير:
- البير لوبران - رئيس الجمهورية في بداية الحرب العالمية الثانية الذي سلم مقاليد الرئاسة، بعد استقالته عام 1940 الى الماريشال بيتان.
- بول رينو Paul Reynaud رئيس مجلس وزراء فرنسا، في حكومة الرئيس لوبران الذي استدعى من تلقاء ذاته الماريشال بيتان الذي كان آنذاك سفيرة لفرنسا في اسبانيا، باعتباره المنقذ، وذلك بتاريخ 30/ 3/ 1940، وأدخله في الوزارة
جول جائيني Jules Janneny رئيس مجلس الشيوخ الذي أشرف بتاريخ 10 يوليو 1940 على انتخاب المتهم رئيسا للجمهورية الفرنسية بغالبية خمسمائة وسبعين صوتة ضد ثمانين معارضة فقط، وقد أكد أن الانتخاب حصل بكل نزاهة ودون أي ضغط، وكان الرئيس الجديد اخر خشبة للخلاص.
- بار لاثال Pierre Laval الشهير بتعامله مع الألمان، والحاكم بأمره العظمي.
في الوزارة الجديدة التي ترأسها في فيشي، والذي مارس ضغوطات شديدة على الماريشال، وكان هو أيضأ متهما، وحكم عليه بالإعدام ونفذ به.
أدوار دالادبيه Edward Daladier المعروف برجل ميونيخ، عند عقد الاجتماع قبل الحرب بين الفوهرر هتلر ورئيس وزراء انكلترا تشمبرلن Chamberlain وقد لعب دورا كبيرا في إرجاء ساعة الصفر، بناجيل إعلان الحرب.
? لبون بلوم Leon Blum الرجل السياسي، والوزير في عدة وزارات قبل الحرب، وكان بيتان من عداد أعضائها، واقتصرت إفادته على ما قبل ثيشي.
الجنرال مکسيم ويغان Manime Wegand الذي استدعاء الرئيس بينان من قيادة قوات الشرق في لبنان وسوريا ليسانده ويتسلم حقيبة وزارة الدفاع، ولم يكن حظ ويغان بأحسن من حال بيتان، اذ حوكم هو أيضا بتهمة الخيانة العظمي.
وبقيت أسئلة كثيرة بدون جواب، وحتى اليوم حول الماريشال بيتان ونصرفاته التي يبرر أكثرها البعض.
وكانت الجلسة الأخيرة ...
الجو مكهرب ومشحون، والنفوس قلقة وحذرة، والإشاعات تملا القاعة، والجو حار حار ... لقد اختلت لجنة المحلفين بعد أن أوضح رئيس المحكمة مهمتها لتقرير مصير الماريشال العجوز، الذي كان يبدو حتى هذه الساعة، بارد الأعصاب، وكان الأمر لا بعنيه، وضاق الجمهور صبرة، اذ انقضى وقت طويل على انسحاب المحلفين إلى الغرفة السرية المخصصة لهم.
أكثر من تسع ساعات، قضاها هؤلاء في المداولة والمذاكرة.
واخيرا دخل المحلفون القاعة يتقدمهم كبيرهم وهو يحمل في بده ورقة عادية موقعة من المجتمعين. واعلن:
القرار: الإعدام بأربعة عشر صوتا، مقابل ثلاثة عشرة طلبوا الإعتقال، أي بفارق صوت واحد.
التوصية: استدعاء الرحمة من الرئيس شارل ديغول لاستبدال العقوبة. وبعد أن أخذ الرئيس جواب المحلفين الخطي ووضعه في الملف، أعلن صدور الحكم القضائي، فوقف الجميع، بمن فيهم المتهم، وصدر القرار التالي:
باسم الشعب الفرنسي ... ولهذه الأسباب
حكمت المحكمة بإعدام فيليب بيتان، ماريشال فرنسا سابقا، وبتجريده امن حقوقه المدنية والعسكرية، وبمصادرة ممتلكاته.
والتفت الرئيس إلى الحرس قائلا لهم: أعيدوا المحكوم عليه الى مكانه.
ولم يدم الوقت طويلا، إذ أصدر الجنرال ديغول أمرأ بالعفو عنه بعد يومين فقط، واستبدل العقوبة بالنفي الى جزيرة - يو Yeu . حيث توفي بتاريخ 20 يوليو 1901، بعد أن أجبر التاريخ على تسجيل صفحات مؤثرة في سجله العسكري، يصعب محوها منه بسهولة، بل يستحيل ذلك.
المراجع
ا- الموسوعة العسكرية بإشراف المقدم الهيثم الأيوبي. المؤسسة العربية
للدراسات والنشر، بيروت. الطبعة الأولى 1977، ص 229 - 220 2 - مجلة «الجيش، (تصدر شهريا عن قيادة الجيش اللبناني / مديرية
التوجيه). العدد 20. السنة الثالثة. يوليو 1989. ص 34 - 36 |
مصادر و المراجع :
١- موسوعة الامن
والاستخبارات في العالم
المؤلف: د. صالح
زهر الدين
الناشر: المركز
الثقافي اللبناني للطباعة والنشر والتأليف والترجمة - بيروت
الطبعة: الاولى
تاريخ النشر:2002
م
1 أبريل 2024
تعليقات (0)