المنشورات
مارغريت آندريان
و "دماغها الإجرامي" في القرن العشرين.
لعبت مارغريت آندريان دورا هاما في تاريخ الجاسوسية في القرن العشرين، حتى أنها تفوقت في هذا المضمار على الكثيرين من الرجال الذين انخرطوا في هذا السلك"، وقد وصل بها الأمر إلى أن يطلق عليها لقب "اكبر دماغ إجرامي " في هذا القرن.
فمن هي مارغريت آندريان هذه؟ وماذا تمثل في عالم المخابرات والجاسوسية؟ ولماذا أطلق عليها هذا اللقب؟ المسرح: الشاطى الأبيض في طنجة. الزمن: ليلة مظلمة من ليالي صيف عام 1947. كانت عقارب الساعة تشير إلى منتصف الليل تقريبا عندما كان إثنان من السائحين البريطانيين يسيران بخطوات مترنحة على طوال الشاطئ الرملي، يتنزهان لملء رئتيهما من هواء البحر المالح، ويتحدثان فيما بينهما بلهجة ملؤها الإنفعالات. وكان من ينظر اليهما يحكم مباشرة باهما قد تناولا كثيرة من المشروبات الروحية المتنوعة، ذلك لأهما
كانا يتأرجحان ويصطدمان بينما كان ضوء المصابيح اليدوية الصغيرة التي كانا يحملاها بهدف إضاءة الطريق بينهما يذهب بعيد، لينير أمواج البحر المتكسرة على مسافة ليست بالبعيدة عن موقع أقدامهما.
وكان تقدمهما المتعب يثير فيهما الضحك بين آونة وأخرى، وبقي شاهما كذلك إلى أن وقعت أبصارهما فجأة على تلك الجثة التي قذف بها البحر إلى الشاطيء، والتي كان زبد الأمواج الأبيض يحيط بها وكأنه ستارة لتغطيتها. وعندئذ توقف كل من الصديقين، وانحنيا الى الأمام وهما يتأرجحان قليلا ليتأملا الجثة، إنها إمرأة ترتدي الملابس الأوروبية، وكان هدير الموج يعبث بشعرها القصير فيجعله شبيها بنبتات البحر الذهبية. وانقضت لحظة وهما يجهلان أهما أمام الجثة القتيلة، الى أن اقتربا بوجهيهما من وجه الجثة وحدقا بأبصارهما التي وقعت على فتحة تشوه الرأس، وعندئذ صرخ أحدهما بصوت مرتجف - يا إلهي! بينما أدار الآخر ظهره ليتقيأ مفرغة ما احتوته معدته.
بعد ذلك بساعات قليلة كان إثنان من الأطباء يعكفان على تفحص الجثة الممددة فوق المشرحة، وكانت تقدير اقما تشير إلى أنه مر ثلاثة أيام على وجود الجثة في البحر. وكان الوجه مشوها، فالأنف مصاب بكسر، بالإضافة إلى جروح أخرى، ولكن الضربة القاتلة حدثت بواسطة أداة ثقيلة، كمطرقة مثلا تم تسديدها على الرأس من الخلف، مما أحدث فجوة في مؤخرة الجمجمة. ولم تكن القتيلة فتاة شابة، ولكن يبدو إنما على جانب كبير من الجمال على الرغم من الجراح المريعة. |بينما كان الأطباء مستمرين في تشريح الجثة، كان رجال الشرطة في طنجة يقومون بتحرياقم لمعرفة هوية صاحبة الجثة. ولقد ابتدأت العملية ببعض الصعوبات، ولكن تفحص الآثار وكذلك الصور التي كانت تتضمنها ملفات الشرطة كشفت النقاب عن صاحبة الجثة التي لم تكن سوى الكونتيسة مارغريت دي آندريان، وهو إمرأة معروفة في كثير من البلدان كجاسوسة، وكعميلة مزدوجة ذكية جدا.
وقد زاولت عملها في الجاسوسية خلال ثلاثين عاما تخللها حربان عالميتان - وكان عملها لصالح عدد من الرؤساء - هذه المرأة القاسية القلب التي ولدت لتكون متآمرة ورصفتها السلطات المسؤولة بأخطر إمرأة تجد لنفسها مكانا في أرقي الأوساط الإجتماعية أينما حلت. ومن تقارير الشرطة الدولية، أمكن استخراج تقرير عن نشاط هذه المرأة التي سببت في وفاة أو إخفاء خمسة وعشرين شخصا في ظروف غامضة. ولكنه في هذه الأثناء، وفي كل هذه الظروف، كان من الصعب توجيه أي إهام بسبب فقدان الأدلة.
فلقد كانت الشرطة الفرنسية تعتبر مارغريت دي آندريان كأخطر دماغ إجرامي في عصرنا الحاضر، وقد أمكن جمع إضبارة متممة عنها، وكانت هذه الإضبارة تتضمن أربع حوادث إغتيال سياسي فقط.
ويندر أن يرى مصنف اكثر سوادة لجواسيس القرن العشرين من ذلك المصنف الذي يتضمن سيرة هذه الكونتيس، امرأة لا تخاف شيئا، تتمتع بخيال خصب، محرومة من الضمير، كما أن الحنان لم يعرف الطريق إلى قلبها، وإذا ما صادفت وأحبت إنسانة فلن يكون ذلك إلا حبا لذاتها، وبالإضافة إلى ذلك فهي ذات مهارة لا تقل عن مهارة الو کريس بورجيا في مجال استخدام السموم.
ومما يروى عن مارغريت أنها صرخت أمام أحد عشاقها بالتالي:
إنني ذات مزاج خاص، كما إني متقلبة العواطف مضطربة، ولذا فليس باستطاعتي أن أكون أكثر من مجرمة كبيرة. ولا شيء يضايقني قدر تلك العواطف الأبوية التي يلهو بها الأخرون كما أن الشيء الوحيد الذي تثور له شخصيتي هو الإستمتاع بجثة رجل ميت، وتنحصر تسليتي الوحيدة في تجاوز الآخرين والتقدم عليهم.
ولدت مارغريت في بايون في عام 1895، وأصبحت تتكلم اللغتين الإفرنسية والإسبانية بطلاقة وهي لا تزال طفلة صغيرة. وكان أبوها يعمل كاتب عدل، وكان يبذل جهده لتأمين إحتياجات العائلة، وكان ملكيا متحمسا، وكان يكرس كل فراغه وإمكانياته الانتصار أعمال الإصلاح التي تقوم بها الدولة الفرنسية.
ولم تكن المواضيع السياسية لتشير مطلقا إهتمام الفنانة الصغيرة الممتلئة نشاطا وحيوية، بل كانت تجد لذها في التصرف على هواها وتعمل على الإيقاع بين رفاقها ورفيقاها ناصبة شراك المكائد فيما بينهم، وبذلك تتمكن من مزاولة كل أنواع قسوقا عليهم. وفي ذات يوم ضايقها أحد غلمان القرية عندما سخر منها، وعندئذ ألحت عليه ليرافقها الى الشاطئ کي پسبحا معا. وهناك جذبته الى الأسفل لتغرقه. وكاد الغلام يغرق لولا أن رآهما صياد كان يمر من هناك فألقى بنفسه في الماء لينقذ الضحية التي كانت قد غابت عن وعيها. أما بالنسبة لأمومة الفتاة مارغريت وتربيتها فإن العائلة لم تقدم لها العون الكافي أثناء سني تكولها وإدراكها إذ كانت الأم فتاة شابة وجميلة ومغرية جدا قجر زوجها وإبنتها للبحث عن سعادتها بين أحضان العديد من عشاقها الذين كانوا يقدمون إليها العواطف الحارة والمجوهرات، ومن الحتمل جدا أن يكون ذلك السبب هو الذي ترك تلك الهوة السحيقة في حياة الفتاة الصغيرة التي كان حظها من أمها الإهمال وعدم الإهتمام. وهناك بعض الأدلة التي تشير إلى أن هذه الفتاة الصغيرة مارغريت لم تحاول مطلقا أن تتعرف على السبب الذي كان يباعد بينها وبين والدها في الوقت الذي كانت تحتاج إلى حب أمها وحمايتها لها، ذلك لأنها كانت تتقدم نحو النضج بسرعة كبيرة من الناحيتين الجسمية والعقلية.
ففي ذلك العمر وفي الوقت الذي تعتاد فيه الفتيات الصغيرات على الذهاب إلى أسرة تحيط بهم رعاية الأبوين وإهتمامهم، كانت الفتاة مارغريت تتبادل الأشربة الروحية وتدخن لفافات التبغ وتقضي لياليها راقصة مع رفاقها في المقاهي المتراصة على طول الرصيف. وكانت تلك التصرفات تثير غضب الأب المتكاسر الذي كان عاجزة عن كبح جماح إبنته. وكان الجوار والأصدقاء يسلقون هذه العائلة بألسنتهم، ولذا فلم يكن حدثا مفاجئا لهم عندما علموا أن مارغريت التي لا يزيد عمرها عن الخمسة عشرة عاما فرت مع ملازم شاب ينتسب إلى سلاح الفرسان.
وعثر الأب ورجال الشرطة على العاشقين في باريس أخيرة بعد أن كان الملازم الشاب ومارغريت قد تقدما بطلب لإعلان زواجهما، ولكن ذلك لم ينفعهما في شيء لأن الفتاة كانت لا تزال قاصرة، كما أن والدها كان حزم أمره على تجنب أي فضيحة في العائلة. وكان عليها أن تطيعه، هذا ما صرحت به، ثم عادت مع أبيها إلى بايون.
ثم أصبحت الفتاة ملزمة بإطاعة أوامر أبيها، ومجبرة على البقاء في المترل، ولكن ذلك لم يمنعها من إتخاذ قرار حاسم في ركوب أول مغامرة تسمح بها الظروف ولن تنتظر بعد ذلك طويلا قدوم تلك المناسبة.
بعد ذلك بعدة أشهر، وأثناء فصل الخريف عام 1911، ذهبت مارغريت للإسهام بحفل راقص تقيمه البحرية، وهناك تقابلت مع الكونت بيير د. آندريان. وعلى الرغم من فارق العمر إذ كان يكبرها بعدد من السنين فلقد رغب بها كثيرة وأغراه جمالها كثيرة وما تتمتع به من الحيوية والخيال. وفرح والد مارغريت هذا التعارف طالما أن الكونت كان غنيا، فقد كان هذا الرجل هو الملائم لكبح جماح تلك الفتاة.
وتقدم بيير بشكل رسمي طالبا يد الفتاة، واستلمت الفتاة من أبيها هدية رمزية "كدوطة" مشفوعة ببركاته وتمنياته. وشهدت كنيسة بايون حفلة الزفاف الكبرى.
كان الكونت محبا للأسفار بفطرته ولذا فرح فرحا شديدا وهو يرافق زوجته الشابة ليطلعها على أسرار العالم.
فقاما بزيارة للعديد من المدن والعواصم الأوروبية ثم اتجها بحرة إلى أميركا إلى أن ذهبا بعد ذلك إلى الأرجنتين. ومن هناك إلى البرازيل. رفتنت مارغريت بجمال هذين البلدين الأخيرين.
وكان الزوج رجة أنيقة وصاحب تقاليد نبيلة رفيعة ولذا فسرعان ما أصبحت الفتاة إمرأة جميلة جدا وأنيقة جدا.
وفي عام 1914 عندما اندلعت نيران الحرب العالمية الأولى، كان الكونت والكونتيسة أندريان يقيمان في مصر. وانقضى عام على إقامتهما هناك قبل أن يتعرف بيير وزوجته مارغريت أثناء حفل إستقبال دبلوماسي في القاهرة على ملازم إنكليزي خجول ذي تربية |رفيعة. وكان الملازم يعرف باسم ت. او. لورانس الذي إشتهر فيما بعد باسم لورانس العرب. وقد كان يعمل في تلك الفترة على التعرف على أولئك المصريين الذين يلعبون دورا هاما في الأوساط الوطنية. وما عليك إلا أن تكتسي صداقتهم وثقتهم، وبذلك ستتمكنين من الحصول على أسرارهم التي نحن بحاجة إليها، وذلك بالإضافة لنشاطهم المعادي لبريطانيا والذي ستتمكنين من الحصول عليه لمصلحتنا.
تلقت مارغريت بعد ذلك تعليمات الجنرال جيل بيرت كلايتون رئيس منظمة الإستخبارات البريطانية للأمور السياسية والعسكرية. وكانت تجيب على أسئلته بصراحة ووضوح كما تصغي إليه بانتباه وهو يشرح لها دقائق مغامراتها الأولى في ميدان الجاسوسية. ويبدو أن کلايتون قد هنأ لورانس على حسن اختياره، كما صرح أمامه بأن الكونتيسة كانت صبية جميلة رائعة وذكية.
أصبحت السيدة مارغريت دي آندريان بعد ذلك بثلاثة أشهر خليلة سعد زغلول باشا زعيم الحركة الوطنية في مصر، وقد شوهدت برفقة عشيقها في كل مكان في حفلات الإستقبال وفي المسارح وفي حفلات السبق. ولقد إنتشر خبر هذه العلاقة التي لم تحاول إخفاءها، كما ذاع صيتها في جميع الأوساط، وعلى الرغم من ذلك كله فقط بقي الكونت صامتا. فلقد أثمرت فعاليات واتصالات مارغريت ثمارها كما كان يتوقع، وكان لها أفضل النتائج.
ذلك منذ البداية، يحسن العودة إلى العام 1916 عندما داهم رجال المباحث البريطانية مع الشرطة المصرية أحد المنازل التي تقع في
ضاحية من ضواحي بور سعيد، حيث تم إكتشاف مستودع ضخم للأسلحة كما أمكن العثور على الوثائق التي وضعتها المنظمات المصرية السرية، وفيها مخطط تعطيل القناة في عدد من المناطق الإستراتيجية. وكانت هذه العملية بمثابة ضربة قوية لآمال الوطنيين نتج عنها إبعاد سعد زغلول باشا وإثنين من مساعديه الرئيسيين الى مالطا.
ولقد أمكن للصحف المصرية بسرعة من أن تربط العلاقة التي تصل بين هذه العملية وعلاقات زغلول باشا العاطفية بمارغريت، ولكن المراقبة أصدرت أمرا عاجلا إلى الصحف بعدم التعرض لإسم الكونتيسة وذلك بهدف المحافظة على مصلحة الأمن القومي.
وفي شهر أيلول من السنة ذاتها، قام رجال الشرطة باعتقال ثلاث رجال من الأتراك وإثنين من الألمان وهم يزاولون أعمال الجاسوسية. وكان في حوزت أحد الأتراك الثلاثة صورة مع الكونتيسة مارغريت أمام أهرامات الجيزة. وقد إعترف بحسرة ومرارة أنه كان يعرف الكونتيسة الجميلة الشقراء. وما قاله: نعم كنا صديقين حميمين، وكانت تبدو لي وفية، ولذا فلم يكن يخطر في مخيلتي إطلاقا إنها ستعمل على خيانتي. وعملت المراقبة من جديد على منع الصحف من إثارة إسم الكونتيسة.
وخلال السنتين التاليتين ظهرت مارغريت في عدد من الأماكن الإستراتيجية من قلب شبه الجزيرة العربية، ذلك أن لورانس قد بعث بها في عام 1917 إلى الرياض، المدينة التي كانت مقرا لابن سعود الذي كان لا يزال نشيطا في حربه الرهيبة والمشهورة ضد الملك حسين ملك الحجاز. وكان من نتائج تلك المبارزة الدموية تعريض تلك المخططات التي وضعها الإنكليز من أجل كسب معركة الصحراء والقيام بالهجوم الذي كانت تجري الإستعدادات له ضد الأتراك للخطر
وقامت مارغريت بدورها فحذرت الملك ابن سعود من أعدائه في العالم العربي وقدمت له الكثير من المعلومات الهامة، ووعدته بذهب الإنكليز فيما إذا تخلى عن حربه الصغيرة الخاصة تلك لينضم إلى جانب الحلفاء ريحارب معهم. وكانت بذلك أول امرأة أوروبية تم قبولها للقيام بمثل هذه الأعمال الرفيعة.
وعندما وضعت الحرب العالمية الأولى أوزارها إنتقلت الكونتيسة وزوجها إلى دمشق، وبعد ذلك بأقل من سنة قدمت له مولوده الأول. ولقد تساءل الأشخاص الذين يعرفوها جيدا عما إذا قررت التخلي نهائيا عن حياة المغامرات ام لا. ومهما كان من أمر فقط أصابهم الذهول لتلك المفاجأة التي تركها الزوج وزوجته عندما قررا مغادرة دمشق مع إبنها الصغير لشراء فندق في تدمر من سوريا
تدمر مدينة ورد ذكرها في التوراة ويعود تاريخها إلى 1200 سنة قبل ميلاد السيد المسيح، أما شهرها الوحيدة في القرن العشرين فتعود الى موقعها الهام على مفترق الطرق الرئيسية لمرور القوافل التي تصل بين الشرق والغرب. ومنذ 1700 سنة، كانت تدمر نتيجة لموقعها الجغرافي هذا عاصمة لامبراطورية قوية تسيطر على المراكز الحيوية للشرق الأوسط بأكمله. ولكنها في ذلك الوقت من عام 1923 لم تكن سوى واحة صغيرة قذرة ضائعة في قلب الصحراء، ويندر أن تجد لها ذكرة على الخرائط الحديثة. كما كانت تلك المنازل المنتشرة ليست إلا أكواخا صغيرة مبنية من الطين يلجأ اليها الأعراب. ولقد كان إنتقال عائلة الكونت إلى تدمر موضوعا تناقلته أحاديث الأوساط الدمشقية، كما أثار العديد من الأسئلة التي ترددت في أذهان ضباط الإستخبارات السرية البريطانية. وكانت هذه الأسئلة هي لماذا تم إختيار هذا المكان؟ ولماذا ذهبت تلك الكونتيسة لتختبيء في تلك الزاوية المفقودة؟ ... ولقد عملت عائلة د. آندريان على إدارة ذلك الفندق الذي كان يعرف باسم فندق الملكة زنوبيا خلال تسعة أعوام طويلة. ولقد كان أثاث شقة مارغريت الخاصة في هذا الفندق من المفروشات الضخمة، وكذلك الأمر بالنسبة لعدد من الغرف الخاصة.
أما مفروشات ما تبقى من غرف نوم في الفندق فكانت بسيطة للغاية حتى يمكن القول أن الغرف كانت خالية، ونتيجة لذلك فقد كانت الغرف الخاصة معدة لنزول الأثرياء من الباحثين عن ينابيع البترول وكذلك مشايخ قبائل البدر وضباط الجيش الفرنسي المحتل، ومجموعة ممثلي الأعمال التجارية والذين كانوا يعملون لإخفاء مهماقم التي
كانت تكلفهم بها القيادة العامة في موسكو وكانت المعلومات هي البضاعة التي تقوم الكونتيسة ببيعها كما كانت تعلن أمام زبائنها قائلة: إنني أقدم المعلومات بصورة شفهية دون تقديم أي نص كتابي، وبذلك فإننا نحتفظ لأنفسنا بحق رفض تأدية خدمتنا عندما نشاء وبذا فقط كانت تقوم ببيع المعلومات عن الوقائع والإحصاءات والحوادث لكل من كان على إستعداد لدفع الثمن نقضا والى من يدفع الثمن الأكثر. ولم تكن قمتم بالأمور السياسية لأنها لم تكن تحمل الشعور الوطني الصحيح. ولذا فقد كانت منصفة في أداء الخدمات التي قدمتها الى المنظمات السرية بعدد من البلدان وذلك بقدر ما كان يسمح لها ضمير الوفاء لمهنتها التي احترفتها.
وفي هذه الفترة وقع الأمير فواز الشعلان في حب صاحبة الفندق الجميلة، فقام باصطحاب خليلته إلى جوار تدمر لكي يظهر قوته ويجلب إنتباه الكونتيسة إليه. وبعد ذلك إنتحر ضابط شاب برتبة كابين لأها صدته عنها، ولكن ... وبعد ذلك بأيام إنتشرت شائعة مفادها أن ذلك الضابط قد مات قتيلا، وإنه قد تكون هناك علاقة بين مؤامرات الجاسوسية وقتله.
ومما لا شك فيه أن مارغريت عملت في عام 1920 بنشاط لمصلحة المكتب الثاني، فلقد كان الفرنسيون بحاجة لخدمتها أثناء الثورة السورية، كما كان الشيوعيون السوفييت يأملون بأن تعمل لمصلحتهم. وقام كل طرف من الأطراف بتقديم العقود لها، كما قامت هي بدورها في تقديم خدماتها لكلا الطرفين معا. عاملة على خيانة الفرنسيين لصالح الروس وخيانة الروس لمصلحة الفرنسيين، وفي أثناء الثورة السورية، عقد ستة من زعماء العرب إجتماعا في فندقها للقيام بمباحثات سرية ثم اختفى هؤلاء الزعماء فيما بعد فلم يعثر لهم على أثر، ولا يزال السوريون حتى يومنا هذا يذكرون بأن الكونتيسة قد نصبت ذلك الفخ الذي أوقعت فيه بزعمائهم، ثم عملت على قتلهم.
ولقد اهتمت منظمات الإستخبارات الأميركية والبريطانية فيما بعد بأعمال ونشاط السيدة مارغريت المقيمة في قلب الصحراء المقفرة والمحرقة من بلاد العرب. وبعثوا بعملائهم للبحث في أثرها.|
ولم تنشر تلك التقارير التي بعث بها هؤلاء المباحثيون ولكن هناك شيء ثابت أمكن معرفته.
هذا الشيء هو أن الكونتيسة هذه بعد أن أقامت خلال تسعة أعوام في هذه القرية المقفرة المجهولة تقريبا أصبحت تمتلك لرصيد ضخم جعلها على جانب كبير من الثراء. بدأت الأوضاع السياسية في سوريا تستقر منذ عام 1932، ولذا فإن منظمات الإستخبارات لم تعد بحاجة إلى معلومات صاحبة الفندق التي بدأت تؤكد قائلة: لقد إكتفيت بذلك الدور الذي لعبته في فندق ملكة الصحراء. ثم بدأت تتعجل لنفض غبار تدمر الذي كان قد علق في أعتاب أحذيتها العالية منذ وقت طويل.
كما كانت مارغريت قد تعبت أيضا من إبنها فعملت على إرساله إلى أحد معاهد فرنسا. أما بالنسبة إلى زوجها الكونت فلقد قضت الى جانبه وقتا كافية مما جعلها غير راغبة بوجوده إلى جانبها لأكثر من ذلك، فتظاهرت بإعلان إسلامها، وبذا أمكنها أن تحصل على المبرر الذي لم يكن له في الواقع أية صلة بالدين وتمكنت بذلك من الافتراق عن زوجها،
عندما بلغت السابعة والثلاثين من عمرها تزوجت من شاب عربي، إبن سليمان الذي كان يصغرها مقدار عشر سنوات تقريبا ولقد كتبت الى إبنها عن ذلك: إن والدك الجديد هو شخصية هامة جدة، إنه شيخ إحدى القبائل الكبيرة.
ولكن تحريات رجال المباحث ألقت الضوء بعد ذلك على الواقع، فظهرت الحقيقة مخالفة لأقوالها. ذلك أن سليمان هذا لم يكن أكثر من رئيس لإحدى قبائل البدو الرحل، وكان أمية تزوج بها مقابل مبلغ ثلاثين ألف فرانك نقدته إياها. وكان هدفها من زواجها هذا مرافقته الحج والدخول الى مكة، فلقد كانت مارغريت بحاجة إلى مغامرات جديدة.
وركب الزوجان المتنافران شكلا وموضوعة على متن باخرة أوصلتهما إلى جدة، ومن هناك استمرت الرحلة على ظهور الجمال. وأدركت مارغريت تماما تلك الأخطار التي تتعرض لها اذا ما اكتشف أمرها وهي تدخل المدينة المقدسة. فلقد كان الموت عقوبة كل غريب "دنس " يدخل مكة. وكانت الرحلة قد أشرفت على نهايتها عندما تعرض لهم رجال لاحظوا إلتماع عيون مارغريت الزرقاء من فوق خارها، فعملوا على إيقافها وطلبوا إليها الكشف عن وجهها. وللمرة الأولى في حياتها كان شعرها أشقرة، وعيناها زرقاوان، وبشرقا صافية تم إعتقالها ووضعت في السجن في قلب أحد الجبال لمدة أسبوع واحد كان المسؤولون العرب خلالها يتناقشون في أمر هذه السجينة. أصيب إبن سليمان بمرض شديد أثناء سجن زوجته، فأخذ يتلوى الملأ خلال عدة ساعات ثم أضطجع لتلوه وهو يحتضر وفارق الحياة.
وكان الموت نتيجة لدس السم له. وعقد مجلس المحكمة المؤلف من أعضاء إحدى القبائل جلسته التي إستمع فيها هدوء الى مارغريت رهي تصرح بأنها دخلت في دين الإسلام عن إخلاص وإيمان، ولكن أعضاء المحكمة لم يقتنعوا إطلاقا بأقوال النجسة التي قامت بدس السم لزوجها، مقترفة بذلك جريمة بشعة، وأصدرت المحكمة حكمها على مارغريت رجمة حتى الموت، وذلك حسب العادات المتبعة في الصحراء منذ القديم.
وعندئذ إستخدمت مارغريت السلاحين الوحيدين اللذين تمتلكهما، سحرها ونقودها. فقامت بدفع مبلغ إلى أحد الحراس العرب لكي يقوم بإعلام القنصل الفرنسي بجدة عن وضع تلك السجينة البائسة. وقام هذا الأخير بدوره فأعلم الملك ابن سعود الذي كان يذكر بمنين تلك اللحظات الحلوة التي كانا قد قضياها معا، وعندئذ صدر الأمر بإطلاق سراح السجينة فورا، فلقد إنقضت لحظات طويلة وساعات ثقيلة من الإنتظار قبل أن تتمكن هذه المغامرة من مغادرة سجنها في الجبال.
وبعد سنتين من هذا الحادث الذي طوته زوايا النسيان، كانت مارغريت تقيم من جديد في تدمر، حيث عادت فتزوجت مرة أخرى من الكونت الذي كانت امارات الشيخوخة قد بدأت تظهر عليه. وكان النازيون في هذه المرة هم رؤساء الكونتيسة الجدد، ذلك أن السلطات النازية كانت قد قررت إيجاد موضع قدم لها في سوريا، هدف الإنقضاض على البريطانيين. وللوصول إلى هذه الغاية، فلقد بذلوا كافة جهودهم الممكنة لجمع زعماء القبائل من أجل العمل معهم من أجل إنشاء شبكات الجاسوسية. لم يطل أمد زواج مارغريت من الكونت لفترة طويلة، ففي صباح يوم من أيام عام 1930 فوجي عد من عمال الفندق عندما شاهدوا جثة رئيسهم الكونت محدده في المدخل الرئيسي للفندق، بعد أن أثخن جسده بطعنات مدية يبلغ عددها التسعة عشرة طعنة. واقمت مارغريت مرة جديدة بأنها هي القاتلة، ولكنها نفت ذلك الجرم بحزم
ولقد صرحت أمام رجال الشرطة بقولها:
-ليست لدي أية فكرة عما حدث، ويمكن اعتبار ذلك اليوم من الأيام الحافلة بالمتاعب بالنسبة لي، ولذا فإنني صعدت إلى شرفتي في وقت مبكر جدا.
ولقد أدلى ضابطان كانا مقيمين في الفندق باعترافات مختلفة وكان مما قالاه: - إن السيدة الكونتيسة كاذبة في أقوالها، فقد كنا جالسين أمام
البار، ورأيناها وهي تغادر الفندق بعد العشاء بقليل، كما شهدناها وهي تعود بعد منتصف الليل، وسمعناها وهي تتناقش مع الكونت. وفي اليوم التالي تم إكتشاف جثة زوجها، وبينما كنا نسير في الشارع على أقدامنا حاولت الكونتيسة أن تدهسنا
أما أقوال خدم الفندق من المواطنين السوريين، فكانت تتلخص بأنهم لم يلاحظوا أي شيء ولعل أقوالهم على هذه الصورة كانت نتيجة خشيتهم من الفصل عن عملهم، كما إنه من المحتمل بأن تكون الكونتيسة قد تمكنت من شراء صمتهم بالمال، وعلى ذلك فقد كانت الأدلة متضاربة، وكان كل منها يدحض الآخر، ونظرا لفقدان الأدلة الدامغة، فلقد تم إخلاء سبيل الكونتيسة.
وبذا أصبحت حرة طليقة من جديد للقيام بمغامرات جديدة، ولقد عملت بعد ذلك على بيع الفندق، ثم إنتقلت إلى فرنسا وأقامت في فيلا جديدة وجميلة جدا في هنداي. وتقع هذه المدينة على الحدود الفرنسية الإسبانية، وقد أثبت إنتقاؤها هذا بأنها ولا شك تتمتع بكفاءة نادرة لا مثيل لها في اختيار الأقاليم المضطربة، وكانت تتمتع بأوضاع جيدة عندما اندلعت نيران الحرب الأهلية الإسبانية. وفي عام 1939 حاولت بعض الصحف الباريسية التعرض الى نشاط مارغريت المشبوه ونشره على الجمهور وكانت عرضة للإقامات التي نشرت ضدها بأنها تعمل لمصلحة النازية والفاشية الإسبانية والشيوعية. وقد كانت في ذلك الوقت تعمل على توجيه القوافل المستمرة التي تحمل الأسلحة والذخائر والمعدات الطبية والأموال وحتى الرجال أيضا ممن كانوا يذهبون ويعودون باستمرار عبر جبال البيرينه، وراقب رجال الإستعلامات الفرنسية بكثير من الدهشة تلك السيارات الفخمة التي كانت تحمل اللوحات الأجنبية وهي تتوقف أمام فيلا الكونتيسة الأنيقة، وترددت الأسئلة والإستفهامات عن هذه الزيارات المشبوهة، كما تواترت التساؤلات عن أسباب توقف بعد قادة الحزب الجمهوري من الكوت باسك عند فيلا الكونتيسة أثناء مرورهم عبر الحدود الإسبانية في زيارات مشبوهة ونشرت بعد الصحف صراحة بأن هذه المرأة تعمل على قريب الأسلحة الى إسبانيا لتلقي مقابل ذلك الذهب والمجوهرات. وقد طلب إليها ذات مرة الرد على هذه الإمام والعمل على مهاجمة الصحف المفترية، فما كان من الكونتيسة الشقراء الجميلة إلا أن أجابت وهي تضحك: إن الرد على الكلاب التي تنبح في السواقي دليل على الضعف وعلى قلة الجدارة. واحتلت القوات النازية هنداي ولم يبق هناك أي شك في تعامل الكونتيسة مع السلطات النازية حيث أصبحت الفيلا التي تمتلكها مركزة للقيادة العامة الترفيهية للضباط الألمان الذي كانوا يتيهون بألبستهم العسكرية الملطخة بالدماء
وكثيرا ما كان يطرق سمع الجوار صوت ضحكاتهم وصرخات البهيمة الممتزجة بالأغنيات التي كانت تنشدها الفتيات المتعاونات مع الكونتيسة والتي كانت تعمل على دعوقن للتمتع برفقة ضباط الإحتلال.
ولكن ... ومرة أخرى ... إستبقت الكونتيسة الزمن ومجريات التاريخ، فقد شعرت بأن، أيام هتلر المتبقية له قد أصبحت معدودة فأوصدت أبواب الفيلا الفرنسية واجتازت البحر الأبيض المتوسط لتقيم في الجزائر، وكالمعتاد، ونظرا لعدم وجود الضمير بين جنبيها، فقد عملت على وضع ذاها تحت تصرف منظمات الإستخبارات الفرنسية والبريطانية ونجحت كالمعتاد أيضا بتقديم المعونة الأكيدة للقوات الحليفة، كما تمكنت من جلب عدد من أنصار حكومة فيشي للعمل إلى جانب الجنرال ديغول. وعندما بدأ الإنزال في أفريقيا الشمالية تمكنت مارغريت من وضع الكثير من المعلومات السرية الهامة تحت تصرف قيادة القوات الحلفاء وفي عام 1945، عند نهاية الحرب العالمية الثانية عادت مارغريت د. آندريان إلى باريس حيث اختارت مرة لإقامتها فيه، وكانت قد بدأت تظهر على قسماتها أثار الخمسين عاما من عمرها الحافل. واعترفت الكونتيسة ذات يوم رغما عن إرادقا أمام عدد من أصدقائها بأن إبنها جاك الذي أصبح الآن رجلا يعمل كمحرر في إحدى صحف نيس وقد طلب إليها أن تعمل على نشر مذكراها لدى إحدى دور النشر الباريسية وكانت إجابتها له بقولها: يا إلهي؟ إنني لا أزال في بداية مرحلة شبابي لذا فإن العمل على نشر مذكراني من الآن أمر مبكر جدا، إن حياتي لا تزال في بدايتها، وعلي أن أعيش الآن أفضل الفصول التي سأضيفها إلى مذكراي. عد الى رؤيتي بعد أربعين عاما.
وكانت الأشهر التي تلت قدوم الكونتيسة إلى باريس بمثابة عطلة إبتدأتها بإعادة تجديد شباب وجهها في إحدى مؤسسات التجميل ثم أتبعت ذلك بدور التربية الوطنية، وكانت تتردد على أفضل محلات الأزياء لتشتري أغلى الملبوسات وتقضي أوقات فراغها على طول نهر السين وهي تصرف بيزخ وسخاوة. لقد إنبعثت إمرأة جديدة أكثر جمالا من السابق وأكثر أناقة، وأكثر صفاء منها في أي وقت مضى، وكان شعرها الأشقر الجميل الذي جعل منه الحلاق غوذجا رائعة الأناقة ليخفي تحته التجارب العريضة والمعارك الأخيرة عن الحياة.
وكان الرجال يعاودون المرور أمامها ليزدادوا تأملا لجمالها. أما النساء فكنا ينظرن برغبة إلى أثواها الأنيقة الفاخرة، وأما رجال الصحافة فكانوا ينتظرون بصبر في سبيل أخذ موعد مع الكونتيسة للحصول على أنباء جديدة، وأما رجال الشرطة فكانوا ينظرون إليها أيضا بأعين ملؤها الحذر وبانتظار مرير موعد وقوع السيدة رقم واحد في مأزق جديد.
ولم يطل أمر انتظار رجال الشرطة طويلا إذ تم العثور على محام لامع إسمه بيرس د. آلينيکورت وهو ميت في شقته نتيجة لتناول السم وكان ذلك في يوم من أيام شهر تموز عام 1945 وكان كل من في المجتمع الباريسي يعرف بأنه كان من عشاق مارغريت. كما كان رجال الشرطة على اطلاع تام بانحرافات تلك المرأة الخطرة في بعض الأحيان. وعلى الرغم من القيام بتحريات دقيقة فإنهم كانوا عاجزين عن إيجاد الدليل الذي يثبت شکوکھم فلقد كان إثبات القتل أسهل بكثير من إثبات هذه الحالة. بعد هذا الحادث بأربعة أشهر أصيب إبن أخ مارغريت وإسمه ريمون د. کليريس وله من العمر ستة وعشرين عاما، بأزمة تشنجية حادة وذلك على أثر زيارته لعمته تمكن من بذل آخر قوة له قبل أن يموت، وكتب على بطاقة القطار التي
كان يحملها عدة كلمات: إن السكاكر التي قدمتها لي- مذات تأثير غريب. ففي هذه المرة كان رجال شرطة باريس قد قرروا الوصول إلى نهاية الشوط في تتبع أعمال هذه السيدة فمكثوا أياما طويلة في استجواب الكونتيسة إستجوابا دقيقا وقاسية.
ولكن ... وفي النهاية ... كان لا بد لهم من الإعتراف بالمنطق السليم الذي كانت ترد فيه على الأسئلة التي طرحت عليها: "ولماذا أعمل على قتل هذا الغلام المسكين الذي لم يكن في حوزته شيء من النقود وموته لا يمكن أن يفيدني في شيء؟ ". ونتيجة لذلك فقد إضطر المحقق رغما عن إرادته لإخلاء سبيلها من جديد، وأحني لها رأسه عندما كان ينظر إليها وهي تغادر مبنى الشرطة رافعة الرأس متزنة الخطوات، وبعد ذلك بعام واحد عمل رجال الشرطة الباريسية بعد أن قرروا مجددا على إعادة التحقيق في مقتل إبن أخيها ريمون كليريس وقد تم إعتقالها من جديد بينما كانت تصب قدحا من الكونياك في شقتها الأنيقة جدة التي تقع على الشاطيء اللازوردي.
وقد قالت لابنها جاك الذي كان برفقتها وهي تستدير للسير في أثر ضباط الشرطة المتجهين إلى الباب الخارجي: يجب أن لا يزعجك هذا يا عزيزي جاك، فإنني أخشى أن يسبب لك الإزعاج آلاما في المعدة عندئذ سيتهمني رجال الشرطة أيضا بأنني قد وضعت لك السم. وقبعت الكونتيسة في قفص الإقام وهي تبتسم إبتسامة عريضة لم تبتسم مثلها في أي يوم مضى، وكانت تجيب بهدوء على الأسئلة التي تطرح عليها، وتدفع بكافة الإقامات التي قذفت بوجهها وهي هز كتفيها ضاحكة من تلك الإقامات، ومرة أخرى غادرت المحكمة وهي تتمتع بحريتها، ذلك لأن الأدلة التي أمكن جمعها لم تكن كافية لإثبات إدانتهاء
وتعبت الكونتيسة من لعبة القطة والفار مع الشرطة الفرنسية، فاشترت يخت إسمه ماجلان وابتدأت تتمختر فيه عبر البحر الأبيض المتوسط جيئة وذهابا وكان هدفها الرئيسي الوصول الى البحر الأسود للقيام بالتماس الروس الذين أعلموها أنهم بحاجة إليها، بينما استمرت الصحف على ترديد إسمها مرافقا لتلك العمليات التي تقوم بها رجال العصابات بالإضافة إلى عمليات التهريب الأخرى والممنوعة، كتهريب الذهب والأحجار الثمينة.
وألقى اليخت ماجلان مراسية ذات يوم في ميناء طنجة الهاديء، وذلك بعد ظهر يوم الخامس من تشرين الثاني من عام 1948، وغادر الركاب اليخت إلى اليابسة بعد أن تركوا على ظهره الكونتيسة برفقتها إثنين من المدعوين كانا يحملان جوازات سفر بلجيكية، وعندما عاد القبطان والبحارة الى اليخت كانت الكونتيسة وريناتو بونسيني وزوجته قد اختفوا إلى أن عثر على الجسد بعد ثلاثة أيام فوق رمال الشاطيء. و بذلك قدمت مارغريت د. آندريان الى رجال الصحافة مرة أخرى أحداث قصة مثيرة وإستنادا إلى ماضي الكونتيسة الحافل بالمغامرات ولقد حاول كل صحافي تصوير المشهد الأخير من حياتها على هواه.
ولقد قام جاك د. آندريان ابن الكونتيسة والذي لم يكن يحمل كبير عاطفة لأمه التي كان حظه منها الإهمال فكتب عددا من القصص الطريفة إلى حد ما عن حياة والدته، ولم يتردد مطلقة عن كشف اللثام عن الأعمال التي مكنتها من إرتكاب إثنين وعشرين جريمة قتل، دون أن تتمكن تحريات الرجال الشرطة من الإمساك بها وكان ذلك اللقب الذي أطلق عليها أكبر دماغ إجرامي في العصر الحاضر هو من وضع إبن السيدة مارغريت.
بعد مقتل الكونتيسة بعدد من الأيام أمكن إعتقال كل من بونسيني وزوجته في الكازابلانكا حيث نقلا بعد ذلك الى طنجة للتحقيق معهما بتهمة قتل مضيفتهما الكونتيسة. وعندئذ أمكن إكتشاف سر جديد ذلك بأن هذين الإثنين لم يكونا زوجين، كما أنهما غير بلجيكيين، وكان إسم الرجل هانز آبيل وهو نازي متطرف وعميل قديم من عملاء الغستابو، وقد عمل هو وخليلته جيرما ايلين كيلز وبمساعدة الكونتيسة على تقريب فلذات الذهب الى داخل فرنسا. واعترفا أخيرا بأهما دخلا في نقاش حاد مع الكونتيسة حول نصيبها من الأرباح، ثم أخذته حمية الغضب فجأة فقام هانز وصرع الكونتيسة بواسطة زجاجة الكونياك ثم ألقى بالجسد من فوق اليخت إلى البحر، وجرت المرحلة الأخيرة في مذكرات الكونتيسة في 17 نيسان 1949 عندما أصدرت المحكمة الفرنسية حكما على هانز آبيل بالسجن المدة عشرين عاما، وعلى جيرما بالسجن لمدة عام واحد، وتنفيذا للتقاليد المتبعة باحترام القانون الفرنسي فقد صدر الحكم أيضا على كل من المتهمين بدفع الغرامة للتعويض على ورثة المتوفاة، ولكن بما أنه قد تم وقوع الحادث عرضا أي بدون تصميم سابق فقد طلب إلى كل من هانز وجيرما بدفع مبلغ فرنك فرنسي واحد عن كل منها، وكانت هذه هي الفضيحة الأخيرة في حياة الكونتيسة.
المرجع
1 - کيرت سنجر "أعلام الجاسوسية العالمية" ص 209 - 277.
مصادر و المراجع :
١- موسوعة الامن
والاستخبارات في العالم
المؤلف: د. صالح
زهر الدين
الناشر: المركز
الثقافي اللبناني للطباعة والنشر والتأليف والترجمة - بيروت
الطبعة: الاولى
تاريخ النشر:2002
م
1 أبريل 2024
تعليقات (0)