المنشورات

"قطة " الجاسوسية

- ميشيلان کاريه عمل عددا من النساء دورة بارزة في تاريخ الجاسوسية على مر العصور. ولم تكن "ميشيلان کاريه" في فرنسا، إلا إحدى هذه النساء اللواتي تجاوزت سمعتهن حدود بلدها، كما تجاوزت حدود القارة الأوروبية فيما مثلته من مخاطر على صعيد العمل التجسسي في هذه القارة.
فمن هي ميشيلان کاريه هذه؟ وما هو الدور الذي لعبته في هذا المضمار؟
لا يزال كثيرون من الأشخاص في فرنسا - يذكرون ذلك الإعلان الذي تم نشره وتعليقه على الجدران، والذي يتضمن صدور الحكم بالإعدام في يوم 8 كانون الأول 1998 على ميشيلان کاريه البالغة من العمر أربعين عاما، وقد صدر الحكم عليها من قبل المحكمة الجنائية رقم 14.
وكانت هذه المرأة، التي كشفت المحاكمات النقاب عن سيرها، تحمل الإسم الذي إشتهرت به وهو القطة، وهي فتاة ذات بشرة سمراء جميلة وعينين جميلتين، وأسنان جميلة دقيقة بيضاء، و كانت القطة واحدة من أكبر جواسيس أوروبا.
أدلى العقيد مارسيل، وهو أحد ضباط الإستخبارات ومن الذين العبوا دورا هاما وحيوية خلال الحرب العالمية الثانية، وكان عضوا في الشعبة الثانية المخابرات كما كان رئيسا لمنظمات إستخبارات الجنرال بول جوان أمام المحكمة بافادته التالية: - لقد قامت السيدة كاريه بأداء خدمات جلى للجيش الفرنسي
خلال السنوات التي قضتها في العمل معنا، ولقد تمكنت من الحصول لنا على عدد من المخططات المعارك الجيش الألماني
وكان ذلك لمصلحتنا. فلماذا صدر الحكم عليها بالموت من قبل محكمة فرنسية؟ ...
لقد صدر الحكم عليها لأنها فعلت كما يفعل عدد من الجواسيس، عندما ينتقلون في عملهم من مصلحة بلد الى مصلحة بلد آخر. وليس ذلك بالأمر المعقد، كما كان هناك أكثر من سبب دفعها لذلك كما
في عام 1939 كانت ميشيلان کاريه، مواليد بيلارد زوجة لضابط فرنسي مقيم في الجزائر، وكان زوجها يدفع لها قليل النفقة مما إضطرها للعمل كمدرسة في إحدى القرى الصغيرة الواقعة في جنوب البلاد. وكان جوار السيدة كاريه وكذلك الفتيات الصغيرات اللوات عرفتها على حذر منها لأن وجدها ذات تربية عالية وثقافة أكثر بكثير مما كانوا يتوقعونه فيها.
وكانت ترتدي ثيابا بسيطة لأن دخلها المحدود من عملها لم يكن ليسمح لها بأكثر من ذلك، ولكنها على الرغم من ذلك فإنها لم تكن التعدم الوسيلة كي تبدو بمظهر أنيق، ولو أن رجلا قدم من العالم الخارجي، مارا بتلك القرية الضائعة في نهاية أعماق الجزائر، فإنه ولا شك سيتأكد حتما من نجاح ميشيلان التي كان سلوكها مثالية. وكان من الصعب الحكم على هذه المرأة ومعرفة ما إذا كانت سعيدة بوجودها في الجزائر أو إنها غير ذلك، ولكن من المعلوم تماما بأنها قررت العودة إلى باريس فور إعلان الحرب.
ولقد لعبت الظروف دورها في مساعدة تلك المرأة من أجل تحقيق مخططها، فقد كانت فرنسا في تلك الفترة بحاجة إلى النساء من أجل تلبية إحتياجات الخدمة الصحية للجيش، ولذا تطوعت ميشيلان مباشرة للخدمة. وعندما حصلت أخيرة على بطاقتها وأصبح إذن العمل جاهزة في جيبها، دفعت بزفرة عميقة من صدرها قائلة: لقد إبتدأت حياتي منذ الآن. هذا ما رددته في سرها، فكيف كانت تعرف ذلك؟ ... لقد كانت ميشيلان في الواقع بداية منذ ذلك اليوم تقوم بعملها اليومي ثم تنتهي بذکر وتدوين مذكراها اليومية، ولقد أتمت هذه المذكرات فيما بعد وكانت تلك المذكرات بمثابة إعترافات تتكون منها وثيقة إنسانية نبيلة سمحت المناسبات والظروف بتكوينها.
وقبل أن تعود إلى عملها، عاودت زيارة زوجها في الجزائر، والذي كان على أهبة الاستعداد للإلتحاق بالجبهة، ولم يكن ليشعر في خلده بأن هذا اللقاء سيكون آخر لقاء له بزوجته، ذلك أنه وقع قتيلا بعد ذلك بقليل تحت وابل من رصاص الأعداء.
عندما وصلت ميشيلان إلى باريس أقامت في فندق يقع في قلب المدينة، وقد كتبت في صحيفتها: أي بلاد هذه؟ وأية مدينة هذه! إنه من الصعب تصور هؤلاء القذرين وهو يتمون إستيلاءهم على باريس، فالمباني التاريخية القديمة، السين وأرصفته، نوتردام، قبة الأنفاليد، ونحن ... إنني أرى هذه الأشياء جميعا. الشوارع .. ! إنها الحياة ... إنني أتنزه على طول الشوارع، وأجلس على رصيف هذا المقهى أو ذاك. وهذا ما يثير في نفسي أجمل المشاعر والأحاسيس إنني سعيدة، إنني في الجنة. وإنني سأبذل جهدي لكي لا تلتهم جهنم السماء وتنتصر عليها ...
ذهبت ميشيلان في اليوم التالي لإستلام عملها الجديد، ولقد تم تقديرها أثناء مدة دورها الدراسية في باريس على أنها عنصر منتج، واثقة من ذاقها، وقادرة على إظهار كفاءة جيدة في معالجة الجرحى، ولقد كان توقيع الهدنة في عام 1940 صدمة قاسية بالنسبة لها.
عندما كان يعمل الألمان على إجتياح فرنسا، كانت ميشيلان قرب أمام الزحف الألماني مثلها في ذلك مثل نصف سكان فرنسا، ولقد تمكنت عند وصولها الى بوينس من تنظيم مركز للإسعاف تابع للصليب الأحمر الدولي، ثم استأنفت مسيرها على طريق فرنسا إلى أن وصلت أخيرة إلى مدينة تولوز، حيث عملت على تنظيم مركز جديد لتجميع الجرحى. وكان ذلك بإمكانياتها الخاصة، وقد ألحت على الضباط الفرنسيين بإنشاء معسكر لإستقبال المقاتلين المنعزلين عن وحداتهم، وأثناء تنفيذها لهذه المهمة الطوعية، تم اجتماعها بذلك الرجل الذي كان على ما يبدو بحاجة إلى عونا ومساعدتها أكثر من الآخرين. وهو ضابط من ضباط القيادة البولونية، وكان يعمل كضابط إتصال مع قيادة الجيش الفرنسي، ومن الذين قاتلوا الألمان إلى أن وقع أسيرا بين أيديهم ثم تمكن من الفرار لكي يقع بين أيدي ميشيلان. وهاهو الآن تعب رائع ومريض، فأنقذته من شقائه، وألبسته، واعتنت به حتى عادت إليه شجاعته.
وكان إسم ذلك الضابط رومان كزيرينا وسكي وهو من الأسماء التي يصعب النطق بها، ولذا عملت على تسمية ب آرماند كما عمل هو بدوره على مناداتها، بقطتي، وذلك لما كان يلمس فيها من الرقة والوداعة. وكانت العلاقة التي تربط بينهما أكثر من كونها مجرد علاقة عاطفية، إذ أن آماند جعل منها جزء من مخططه للقيام بأعمال تنظيم شبكة للجاسوسية في فرنسيا بالإضافة لتنظيم حركة من المقاومة، ولقد قبلت القطة بسرور أن تتعاون معه في كل ذلك.
وللبدء في هذا المشروع، كان لا بد من التفتيش عن الضباط الفرنسيين الذين كان بعضهم في المنطقة الحرة بينما كان البعض الآخر يختفي في المنطقة المحتلة، وشرعت القطة في عملها بجد وحماسة، وكانت الحالة العامة في فرنسا في غاية الفوضى، إذ كان ملايين الأشخاص لا يزالون يتكدسون فوق طرق فرنسا، كما كانت الحالة على الحدود الإسبانية لا تزال غامضة ومضطربة.
ولم يكن في استطاعة العقيد البولوني التجول والسفر بحرية، كما كان لا يجرؤ على الظهور في المنطقة المحتلة، لذا كانت القطة مجبرة على إنشاء الإتصالات الأولى، فكانت تقوم على جمع الرجال وتقسيمهم إلى مجموعات ثنائية بحيث يعمل كل إثنين منهم كخلية متصلة. وكانت تؤمن المخابيء هذه المجموعات، وبذا أصبحت المجموعة التي كانت تسمي نفسها مجموعة الحلفاء بعد فترة قصيرة من أنشط وأقوى مجموعات المقاومة. ولقد إنضم العقيد مارسال آکارد الى هذه المنظمات.
كان العقيد آکارد شخصية هامة في تلك المجموعة، إذ كان جميع أفراد المجموعة الباقين بإستثناء العقيد البولوني من هواة أعمال الجاسوسية، بينما كان العقيد آکارد رجلا مفرط الذكاء والدهاء، ولقد تمكن من الإتصال بالإنكليز عن طريق إسبانيا والبرتغال، وكان هذا الرجل بالنسبة للقطة صنما معبود.
وأدرك آکارد بثاقب نظرة أن القاعدة الحالية التي كانت تستخدم للحرب هي ذات مشكلة كبرى، وذلك نتيجة لغموض الموقف. وكان يتساءل: ترى هل ستتوقف ألمانيا عند حدود البيرينيه، أم إنها ستتمكن من الاتفاق مع فرانكو للقيام بالهجوم على جبل طارق؟ ... ولقد عمل آرماند على تكليف القطة بالكشف عن تلك المشاريع الألمانية فذهبت هذه إلى بوردو ثم إلى بايون والي بياريتز حيث كانت تتمركز في هذه الأخيرة وحدة من المدرعات الخاصة بمهمة إقامة معسكر على الحدود. وكانت تبدو وكأنها تستعد لخوض معركة جديدة، كما كانت هناك بعض الوحدات الجوية المقيمة في بوردو، و كان عدد من ضباط هذه الوحدات يتردد على مقهى باريس في بياريتز. وقد كتبت القطة قصة ذلك اللقاء لها في صحيفتها: ودخل ضابط نازي إلى المقهى وقال لي:
هل أستطيع الجلوس على طاولتك، ياسيدي؟ ... إنني أرغب في طلب بعض المعلومات عن هذه المدينة. وأجابته:|
نعم، وأنا بدوري أحب أن أطرح عليك سؤالا جال في خاطري: - هيا: إطرحي سؤالك! - إنك ترتدي لباس الطيران الألماني، بينما لا تدل هيتك على إنك طيار، ثم إنني لم أتعرف على معنى شاراتك التي تحملها؟
إنني أحمل الرتبة التي تسموها عندكم في فرنسا عقيد، وأعمل في مصلحة الإمداد الجوي، وإنني المسؤول عن كل إمدادات
واحتياجات الطيران لقاعدة بوردو. وتناولا معا شراب الشمبانيا، في المطعم أولا، ثم بعد ذلك في أماكن أخرى. وقد وصفت شعورها في صحيفتها بقولها: لقد حرصت على أن أحتفظ بصفاء ذهني، لأنني لو لم أفعل ذلك، لفقدت كل تحفظ واحترأس.
وبعد ذلك بقليل تمكنت من إعلام آرماند بأن الألمان يتخذون التحضيرات اللازمة لاجتياز إسبانيا، في حين إستمر بقاؤها في الإقليم المحتل وهي تراقب التحضيرات الألمانية، إلى أن لاحظت بأن إستعدادات الألمان ونشاطهم قد بدأ يخف تدريجيا وأدركت بذلك أهمية النبأ الجديد وهو أن الألمان تخلوا عن مخططهم في الهجوم على جبل طارق. وإنتهت بذلك مهمة ميشيلان فعادت الى قرب آرماند وكانت بمنتهى السعادة وهي تعود إليه، وفي تلك الأثناء كان العقيد آکارد يعمل على تنظيم مجموعاته المنتشرة في جميع أنحاء فرنسا. وكانت القطة تعمل لمصلحته بجد ونشاط، ولقد أكد العقيد ذلك بشهادته التي أدلى بها أمام المحكمة، أدركا في تلك الفترة نجاحة رائعة وخارقة للطبيعة، وكانت مصلحة الإستخبارات البريطانية التي كانت تعرف تلك المجموعة تحت إسم فالنتي تنظر باحترام كبير إلى رجال آکارد الشجعان.
كانت لوائح البريطانيين تتضمن أسماء الأعضاء الرئيسيين في المجموعة، وكذلك أسماءهم المستعارة، ذلك لأن أعمالهم ذات أهمية خاصة.
كما كان البريطانيون يعرفون كل شيء عن العقيد رومان كزيرينا وسكي المعروف باسم آرماند، وكذلك عن ميشيلان المعروفة باسم القطة، بالإضافة لباقي المجموعة من المقاومين الذين كان منهم الأرستقراطي الفرنسي بيير در فو مکورت.
في تلك الأثناء - وبالإتفاق مع إنكلترا - قامت المجموعة فالنتي بإعداد عدة مناطق من الأرض لإنزال الأسلحة المخصصة لإمداد الرجال، كما تم إعداد وإنتقاء مناطق للإنزال البحري على طول الشاطئ، كما تمكنت المنظمة من تأمين وصول أسرى الحرب الهاربين من ألمانيا إلى كل من إسبانيا وسويسرا بشكل خفي. إنهم ولا شك رجال شجعان يبذلون كل شيء في سبيل وطنهم.
في ذات يوم شعر كل من آرماند والقطة بالحاجة إلى من يساعدهم في اداء بعض الأعمال الصغيرة، كالتردد على المقاهي والمطاعم، وقبول دعوات الألمان ومرافقتهم من أجل الحصول على كافة المعلومات التي يمكن إلتقاطها أثناء سياق الأحاديث. وابتدأت القطة في البحث عمن يصلح لإداء هذا الواجب، وسرعان ما عثرت على المرأة الملائمة لهذه المهمة في مدينة لونيفيل وكان إسمها رونيه بوري ربما أن هذه الفتاة ستصبح مساعدة مقربة من آرماند فلقد حرصت ميشيلان على أن تكون الفتاة الجديدة من النوع الذي لا يروق للعقيد البولوي. ولقد بذلت رونيه أو فيوليت كما أصبح إسمها الذي عرفت به في أوساط المقاومة، كل جهدها لكي تدخل السرور إلى قلب كافة عناصر المقاومة، كما أظهرت تفاني وإخلاصا كبيرة لعملها
ولذا فإن القطة لم تشعر بالاسى وهي تكتشف بعد فترة من الوقت بأن آرماند أيضا من الذين أصبحوا يحبون تلك الفتاة.
كانت القطة تشعر بالضيق والقلق أحيانا، عندما كانت تنظر إلى فيوليت في تلك الفترة المؤقتة التي كانت تقيم خلالها في باريس. ولقد توسلت إلى ارماند أن يرسل فيوليت إلى الريف، حيث يمكن تكليفها بواجبات تقل أهمية عن واجباتها الحالية. وكان أرماند يشعر بالسرور من اقوالها ويجيبها وهو يبتسم بأن القطة بدأت تشعر بالغيرة، و كانت تحتج ميشيلان على ذلك يقولها:
إن الأمر لا يتعلق بذلك، إن لدي شعورا بأن كارثة ستنزل بنا من جراء عملها.
وكان آرماند يجيبها ضاحكا: ألا يمكن أن ينبعث هذا الإحساس من الغيرة؟ ولكن ذلك الشعور قد تحقق فعلا. وكانت رونيه بوري أو من كانت تسمى فيوليت سبب كارثة أودت إلى تحطيم وخراب تلك المجموعة، فقد تلقت فيوليت أمرا بالحصول على معلومات ذات أهمية ثانوية وكانت المعلومات المطلوبة معرفة الإتجاه الذي ستذهب إليه بعض الكتائب التي سيتم نقلها بواسطة القطار من محطة الشمال في باريس.
وقابلت فيوليت على مقربة من محطة الشمال أحد صف الضباط الذي بدأ الحديث معها ثم ابتدأت هي بدورها في إستجوابه بحذر دون أن تنتبه الى وجود رجل يرتدي الثياب المدنية ويجلس الى خلف صف الضباط، متظاهرة بأنه يقرأ الصحف الفرنسية. ثم إنصرفت من المقهى بعد أن قضت وقتا مع صف الضباط، دون أن تلاحظ وجود شخص يسير في أثرها كما أن الشك لم يخامرها خلال الأيام التالية بوجود أشخاص مدنيين يعملون على مراقبتها باستمرار تقريبا. وبذلك أمكن مشاهدها برفقة كل من آرماند والقطة. ونتج عن تلك المراقبة | إكتشاف مقر قيادهم العامة، وكذلك مقر سكنها، وفي 18 تشرين الثاني عام 1941 وفي الساعة الخامسة والنصف صباحا تم إعتقال كل من آرماند وفيوليت من قبل منظمة مكافحة الجاسوسية، التابعة للأميرال الألماني وولتر ويلهيلم كناري، كما تم إعتقال ميشيلان
کاريه بعد ذلك بساعات وألقي بها في السجن العسكري. ولقد أثار صمت الزنزانة الرهيب شعور قلق كبير في نفس القطة التي لم تكن التعلم شيئا عن الآخرين؟ ... وكانت تتساءل: ترى هل تم إعتقال آرماند أيضا؟ ... وهل أمكن إعتقال الآخرين؟ ... ترى هل كانت هي الوحيدة من بين الزمرة؟ وفكرت وهي ترتعد بما ستتعرض له وبما ينتظرها! إن الليل سيهبط، وسيحمل معه كل الرعب الذي تنتظره ... وهبط الليل عليها وهي وحيدة في زنزانتها المظلمة، و كانت القطة تعرف بأنها لن تنجو من الموت. وكانت ترتجف وهي تفكر بالصورة التي ستلقى الموت فيها. وفجأة إشتعل ضوء المصباح المثبت الى السطح وانفتح الباب، حيث دخل رجل يرتدي الثياب العسكرية
الألمانية.
بقيت القطة جالسة في مكانها وألقت نظرة جذعة إلى ذلك الرجل المنتصب أمامها. ولما كانت تعرف الشارات العسكرية بشكل جيد فقد عرفت بأنه يحمل رتبة رقيب، ولو لم يكن يرتدي الألبسة العسكرية لما عرفت أنه رجلا ألمانيا.
ذلك لأن مظاهر الوحشية لم تكن لتنطبق على مظهره. كما فوجئت بموقف ذلك الرجل منها أيضا، والذي بقي واقفا على عتبة الباب مستندة بكتفيه إلى الجدار ناظرة إليها بثبات دون أن يقول لها
شيئا. وابتدأت القطة بعد قليل تفقد صبرها، إلا أن قالت له وهي تنهض من مكانها: ياسيد، ترى لماذا عملتم على إعتقالي؟ ... ولكن ذلك الرجل لم يجب شيئا وكان صمته يطبق عليها آخذا بتلابيبها. الى أن قال لها أخيرة:"لقد عشت في الجزائر، أليس كذلك؟. وأجابته: نعم في الجزائر. وعندئذ قال لها: إن باريس مدينة شاعرة، أليس كذلك؟ ... ونظرت إليه ملع وآنئذ أعقب على نظراها بقوله: هل أنت خائفة؟ ... ولماذا تخافين؟ ... إنني سوف لن أقوم بأي عمل يضايقك، وإنني أعترف بأنك إمرأة ذكية، ثم هل تعرفين بأنك بطريقة تصفيف شعرك تشبهين إلى حد ما جاندارك؟ ...
ولقد كتبت فيما بعد في مذكراها شعورها عن ذلك اللقاء فقالت: لقد تملكني شعور غريب للغاية، فلقد كان ذلك الرجل الذي دخل إلى زنزانتي إنسانة. ولم يستجوها ذلك الرجل الإنسان عن نشاطها في منظمات المقاومة بل تكلم معها عن الجزائر، عن فرنسا وباريس، وكان صوته يصل إلى أذنيها عذبا، هادئا. ولقد دهشت الفتاة من ذاها وهي تنساق معه فجأة في حديث عذب مهذب، إلى أن مازحها بدعابة قاسية وهو يقول لها: إن هذا المكان يفتقد للراحة قليلا، فلنذهب إلى مكان آخر، ما هو رأيك؟ ... وأدركت فجأة قسوة المكان الذي تقيم فيه، فهزت بكتفيها بحركة يائسة وهي تطرق إلى الأرض، وعندما رفعت رأسها كان الرقيب قد إختفى، وانطفأ الضوء عليها، وكتبت عن ذلك فيما بعد: لقد عادت إلى سمعي ألحان موزارت، وانيفيت، واضحة في خيالي وكأن تلك الموسيقى الحلوة كانت تعزف فعلا على مقربة مني. وطرق سمعها بعد قليل صوت من جديد، وأضيء النور، وفتح الباب ليظهر منه جندي مسلح، حيث تقدم عريف من ميشيلان وأشار إليها بأن تتبعه، وسارت خلفه بين الدهاليز الموحشة، واجتازت الأبواب الحديدية المتتالية إلى أن وصلت إلى مكتب وقع العريف فيه على ورقة كانت معه، ثم فتح الباب لتجتازه ثم إجتازت بابا آخر وعبرت خلال باب جديد من الحديد المتصالب الذي إنفتح أمامها، وعندئذ وجدت نفسها أمام رجل، ولكن ... من هو هذا الرجل؟ ... إنه ذلك الرقيب الذي زارها في زنزانتها، ولكنه يبدو. هيئة مختلفة تماما. فلقد كان يرتدي الثياب المدنية، كما كان يحمل قفازات أنيقة ويضع رباط عنق ذات ألوان زاهية ويرتدي على رأسه كمة من ذلك النوع الذي كان يرتديه رجال جنوب غرب فرنسا، الكوت باسيك، فوق رؤوسهم وكان يعلق لفافة تبغ بين شفتيه، وكان يبدو في كل ذلك وكأنه أحد الفرنسيين المتأنقين الذين كانوا يقيمون في الحي الإيطالي.
ورافقها ذلك الرجل المتمدن إلى عربة كبيرة، وطلب إليها أن تجلس فيها قائلا لها: على المقعد الخلفي من فضلك، واتركي الستائر مقفلة. ثم إنزلق بدون اكتراث خلف المقود. وقد لاحظت ميشيلان المساحة الكبرى للمرأة العاكسة التي كانت تقع أمام بصر السائق والتي كانت تمكنه من مراقبة الجالس على المقعد الخلفي بوضوح، وهدر صوت محرك السيارة، ثم إنفتح باب حديدي، ووجدت القطة ذاها في باريس من جديد. ترى الى أين ستذهب؟ ... ووصلت السيارة إلى ظاهر المدينة ثم مرت من أمام منرل لافييت. ولقد رأت ميشيلان ذلك بوضوح من خلال عاكس الهواء، ترى من كان يقطن تلك الفيلا التي تقع في وسط تلك الحديقة الكبرى، إرتعدت القطة خوفا من جديد، فلقد كان ذلك القصر الفسيح هو مرل الممثل المشهور هاري بور الذي إستولى عليه الألمان ليتخذوا منه مقرة المنظمة مكافحة الجاسوسية في القيادة العامة الألمانية.
وأدركت أنها إذا ما وصلت الى هناك، فمعنى ذلك أنه قد افتضح عملها وأمكن إكتشاف كل شيء عنها، كما إن قوات الإحتلال لا تتلهى في إلقاء القبض عليها وجلب العناصر التي لا خطر منها الى هذا المترل. وكان يتوجب عليهم بأن يضعوا فوق باب المدخل الرئيسي لهذا المنزل لوحة يكتب عليها قول دانتي الذي وضعه على باب جهنمه: أنت - يا من تدخل من هنا - دع خارجا كل آمالك. ولكن هل كان مقر القيادة العامة لمكافحة الجاسوسية الألمانية يقيم هنا فعلا؟ ... لقد كان يبدو كل شيء أمام ناظريها و كأنه غير
حقيقي ... فالخدم بغاية الأدب والتهذيب، كما كانت الصالات الفسيحة أنيقة الأثاث و ... تركوها هناك وحيدة. جلست القطة في مقعد وفير ونظرت الى النافذة حيث لمحت بالكاد الساحة الفسيحة الغارقة في بحر من الظلام الدامس، كما كان يطرق أذنيها أصداء الأصوات الخافتة لصخب المدينة وضجيجها. وبدى لها أن كل من في المدينة ينصرف إلى شؤونه ولا يفكر في شأنها أحد. وفجأة، فتح الباب وطلب إليها الرجل الذي رافقها أن تتبعه ثم تقدم أمامها إلى البهو وقادها إلى صالة كبرى كثيرة الأثاث. وكان هناك باب آخر ينفرج عن نصف إنفتاحة. ومرت ميشيلان برأسها من خلال ذلك الباب فرأت مرآة كبيرة، وأمامها مصباح صغير يضيء الغرفة _ لقد كانت تلك الغرفة مخصصة للنوم - ترى ماذا حدث في تلك الليلة؟ ...إن مذكرات القطة لا تحتوي شيئا عما جرى في تلك الليلة. ولقد حاولت المحكمة فيما بعد الكشف عن ذلك عندما سألها رئيس محكمة درابي قائلا: "قصي علينا مشاهد تلك الليلة كما حدثت بالضبط، وبعد أن وصلت إلى فيلا هاري بور؟ .. "
لقد قلت لك ما جرى تلك الليلة بالضبط - ولكن سأعيد ذكر ذلك ثانيا بعد أربعة عشرة شهرا من النضال والعمل المستمر من أجل المقاومة، تم إعتقالي وأخذت إلى فيلا هاري بور، وهو مرل لافييت. كنت تحت رحمة الألمان كما أن الرقيب هيجو بليخر لم يتركني ثانية واحدة أعيش فيها وحدي - لقد تعرفت إذا على إسم ذلك الرقيب؟ .... - كان يدعي بأن إسمه هيجو بليخر.
وهل كان يحمل رتبة رقيب فعلا؟
إلي لست أدري إطلاقا. - وهل كان إسمه الحقيقي هيجو بليخر؟ ...
حسنا، لقد كنت مسجونة لدى بليخر فهل أصبحت خليلة له منذ تلك الليلة؟ ... - وهل تستطيعون أن تضعوا أنفسكم مكاني، ياسيدي الرئيس؟ ... - أجيبي على سؤالي. هل أصبحت خليلة ذلك الرقيب أثناء تلك الليلة الأولى؟ ...
- وهل يجب أن أجيبك فعلا بدقة، يا سيدي الرئيس؟ ... - ولماذا أصبحت خليلته؟ ... لقد قال لي بليخر بأنك إذا لم تسخري مني - فسأطلق سراحك في تلك الليلة - وعندئذ عملت على أن لا أسخر منه. - ألم يصدمك ذلك، أنت أرملة ضابط فرنسي، بأن تصبحي خليلة لرقيب ألماني؟ ... - نعم يا سيدي الرئيس لقد صدمني ذلك. وعلى كل حال فلقد صدمني ذلك من الناحية الجسدية، يا سيدي الرئيس. - وماذا حدث غير ذلك خلال تلك الليلة؟ ... صمت - أريد أن أعرف ماذا حدث لك من أشياء أخرى خلال تلك الليلة؟ ...
صمت.
- إننا نريد معرفة كل ما جرى لك تلك الليلة، وهذا ما يجب عليك أن تفسريه لنا. فلقد بذلت كل جهودك خلال أربعة عشرة شهرة وعرضتي نفسك لأخطار جسيمة وأنت تعملين لمصلحة زمرتك من عناصر المقاومة، ثم وفي ليلة واحدة نسيت كل ماضيك، ونسيت فرنسا - ونسيت حتى ذاتك - ربعد إذن ... وخلال ثماني ساعات التي تلت تلك الليلة عملت على وضع رفاقك الخمسة والثلاثين مقاتلا وهم من أكثر عناصر المقاومة الفرنسية أهمية بين يدي ذلك الرقيب بليخر. أذكري لنا الآن ماذا حدث لك خلال تلك الليلة؟ ... وركز الرئيس درابيه نظراته الثاقبة على المتهمة خلال دقيقة كاملة.
وفي الصباح الذي تلا تلك الليلة صعد كل من القطة وبليخر وكان هذا الأخير يرتدي الألبسة المدنية من جديد وركبا سيارة صغيرة تحمل لوحة فرنسية إنطلقت بهما إلى قلب باريس، حتى توقفت أمام المكان الذي كان يختفي فيه م. روشيني، كما توقفت عربة أخرى في ذات الوقت ولكن دون أن تجلب أي انتباه لها، لأنها كانت تحمل ركابها ممن كانوا يرتدون الألبسة المدنية والذين خرج أحدهم الشراء صحيفة يومية، بينما إنطلق آخر ليجرب حظه عند أحد باعة التبغ.
وتسلقت القطة على درجات السلم، ثم طرقت باب أحد الشقق مستخدمة في أسلوب الطرق رمزة متفقة عليه، وفتح الباب مباشرة حيث ظهر كل من روشيني وفرانك وهما من الأعضاء البارزين في مجموعات المقاومة. ولقد أربكتهم الدهشة لرؤية ذلك المجهول برفقة ميشيلان التي همست في آذافم بصوت خافت: يجب القيام بعمل ما فلقد تم إعتقال آرماند. وذعر كل من الرجلين هذا النبا، ثم قالت لهما وهي تشير إلى 
- لا تقلقا من أجله، إنكم لا تعرفونه، ولكنه واحد منا. وتلى ذلك خمس دقائق تخللتها الأحاديث الودية. ووجهت القطة أخيرة حديثها إلى بليخر قائلة: - أهبط وأدر محرك السيارة، لكي لا نضيع الوقت سدى. ثم مكثا في الشقة لمدة دقيقتين أو ثلاث وآنذ إهتز الباب تحت وطأة طرقات ثقيلة. وفتحت القطة الباب فوجدت نفسها وجها لوجه مع الألمان الذين كانوا قد أشهروا مسدساتهم وهم يصرخون: إرفعوا أيديكم. ولقد تكررت إعادة هذا المشهد الذي تم إعداده وإخراجه بمهارة فائقة خلال الثماني ساعات التالية في عدد من المرات، وترك بليخر القطة تنعم بحريتها وتتصرف على هواها لمدة شهرين كاملين، فلقد
كانت تعرف كل شيء، وقد عملت على خيانة كل من تعرفهم، فقذفت بذلك كل رفاقها الذين إستطاعت أن تعثر عليهم إلى السجن. ولكن الشخص الذي كان يهدف بليخر القبض عليه هو العقيد آکارد ولقد يبدو ذلك غريبة فإن القطة لم تقدم على الوشاية به ولقد شهد العقيد آکارد بذلك أمام المحكمة عندما قال: إنها كانت تعرف أين أختبئ ولكنها لم تقدم على خيانتي. ولقد إختلقت القطة كافة الأعذار لكي تضلل بليخر وصرحت له بأنها لا تعرف أي شيء عن مكان أو مخبأ آکارد وأقسمت له كثيرة ومرارة حتى إقتنع بأقوالهاء
وعرضت عليه أن تساعده في إلقاء القبض على شخصية أخرى لها أهمية كبرى، وكانت تلك الشخصية بيير دو فونكورت. وقد بدت ملامح الاستثارة وللهفة على وجه بليخر وهو يستمع إلى ذلك الإسم
ثم جالت فكرة في رأسه، دفعته ليتأمل قليلا، حيث قدر موقفه خلال ذلك وإبتدأ يرسم مخطط جديدة للعمل يتمكن بواسطته إقتناص إمكانات كبيرة ... عادت القطة بعد ذلك إلى مقر قيادة العامة القديمة و كانت مشاريع بليخر متكاملة ودقيقة، ذلك أن الرجال الذين تم إعتقالهم لم يتمكنوا بعد من إنذار رفاقهم بما حدث، كما أن ما وقع حتى ذلك الحين كان لا يزال بعيدا عن آذان رجال المقاومة.
واستمرت القطة في عملها وهي تمثل دورها القديم خلال شهرين من الزمن دون أن يراود الشك أحد من بين صفوف عناصر المقاومة رجالهم ونساءهم، وكانوا ينظرون جميعا إلى الرفيقة الأمنية والشجاعة ميشيلان کاريه بعين التقدير. ولذا فلم يكن ليخطر في مخيلة أحد منهم أو منهن بأن هذه القطة تعرض كل منظمتهم للخطر، ذلك أنه لم يكن هناك أي مبرر للشك بها وهي التي اعتادت على تنظيم المجموعة المتخاذلة كما انها هي التي أثارت الشجاعة في نفوس الجماعة.
ولكن، وفي كل مساء، كان يتم اصطحاب القطة بشكل سري إلى الفيلا التي كان يقيم فيها بليخر حيث يتم خيانة تلك المنظمات والمخططات التي كان يتم وضعها في النهار. وفي ذات يوم، أعلنت القطة أمام بليخر بأن الهدف الرئيسي لعناصر المقاومة هو إقامة إتصال مع إنكلترا بعد أن تم إعتقال وإيقاف كافة عناصر الإتصال.
وعندما علم بليخر بذلك، طلب من القطة أن تعمل على إستدعاء بييردو فونكورت إلى باريس، وشرح لها بأن فونكورت يجب أن يذهب إلى إنكلترا، كما يجب عليها أيضا بأن تدفع رفاقها لكي يصروا على ذهاب فونكورت لأنه خير من يصلح لأداء هذه المهمة.
وفي الليلة التالية، ذكر بليخر أمام القطة بأنه يحمل لها مفاجأة سارة: عندها ستعودين إلى مقرك، ستجدين هناك فيوليت التي لم تعتقل في الواقع أبدا لأنها كانت تعمل معنا دائما، وسوف لن تتكلم فيوليت عن أي شيء، وبإمكانك الوثوق منها وعليك الإهتمام بها لأن مهمتها هي البقاء في صفوف المقاومة.
ونفذت القطة كافة الأوامر التي أعطيت لها، حيث قابلت بيير دو فونکورت وكذلك بعض عناصر المقاومة الأخرى في أحد مشارب الشانزيليزيه وإسمه بام - بام وتقدمت بعرضها الذي تقبله الجميع بالترحاب. ولقد إتخذ القرار بارسال بييردو فونكورت للإلتحاق بإنكلتر، بمهمة إعلام رفاقهم عما كان يدور في الطرف المقابل للمانش، وطلب أية تعليمات أخرى، ولم يكن تنفيذ المهمة بالأمر السهل فلقد قام بعض الخونة على دلالة الألمان الى المممرات السرية التي كان رجال المقاومة يستخدموها للوصول إلى إسبانيا، كما كان الألمان أيضا على علم بالنقاط المحددة لاستخدامها في إنزال القوارب والغواصات الإنكليزية.
وعادت القطة بعد عدة أيام من إجتماع بام بام لرؤية أصدقائها مجددا وأعلمتهم بأنها تمكنت من العثور على الوسيلة التي يستطيعون بواسطتها من الوصول إلى إنكلترا، كما شرحت لهم بأنها يجب أن ترافق بييردو فونكورت وذلك لأنها أصبحت معروفة هناك كما أن وجودها معه من شأنه أن يذلل الصعاب في سبيل تنفيذ المهمة.
ووافق الآخرون مباشرة على هذا الإقتراح رهنورها على ذلك، وهم يشعرون تجاهها بعرفان الجميل، ولقد كانت بالنسبة لعناصر المقاومة في الواقع بمثابة الهيرويين وأنها تستحق تلك الشهرة، فلقد كانت أكثر الجميع تألقا، وأرجح الجميع رأية وأشجعهم إطلاق.
حرص بليخر على أن تتمكن القطة من مغادرة فرنسا، دون أن يداهمها أي خطر، ذلك لأنها عندما تتمكن من إجتياز فرنسا، فلن يبقى أمامها أية صعوبة للوصول الي إنكلترا وبذلك تمكن بليخر من إدخال عميلته القطة مع بيردو فونكورت الذي لم يكن ليشك أبدا في أمرها، إلى قلب وزارة الحرب في لندن.
وعملت القطة هناك لمدة تسعة أشهر، كانت خلالها تقوم بنقل كل ما تعلمته إلى فرنسا عن طريق القنوات التي أنشأها رجال المقاومة،وكانت هذه المعلومات جميعة تصل إلى فيوليت التي كانت تقوم بدورها في نقل تلك المعلومات الى بليخر.
ولكن ... أتي اليوم الأسود الثاني في حياة القطة، فلقد راودت الشكوك رجال منظمة مكافحة الجاسوسية البريطانية.
كما أدركت رجال المقاومة الشجعان في فرنسا ورجال السكوتلانديارد وهم يدققون جميعا بكافة ما جرى، فتم إعتقال القطة في شهر تموز عام 1942، وألقي بها في أحد السجون الإنكليزية، ومكثت هناك حتى نهاية الحرب.
ولقد كتبت في صفحة من مذكراها، أثناء إقامتها في السجون الإنكليزية رسالة وجهتها إلى رفاقها القدامى في المقاومة الفرنسية جاء
آه! كم أتألم وأنا في سجني، وإنني لم أتمكن أبدا من العثور على الكلمات التي أستطيع أن أعبر بها عن حزني العميق والأبدي، كما إنني لا أستطيع أن أصف مخاوفي، ولكنني لست وحيدة هنا، إنكم جميعا، أنتم الذين لا زلتم على قيد الحياة، وإنكم سوف لن تتمكنوا من النوم أيضا في هذا المساء، لأنكم ستكونون إلى جاني. وأنتم يا من قضيتم أجلكم، وأنا منكم، إننا سنعيش ونحن نسير حسب شريعتنا الخاصة في عالم سأنتصر عليه من أجلنا جميعا.
وفي كانون الأول من عام 1949، كانت القطة تجلس أمام حکامها، وكان يبدر عليها الهدوء التام، بينما كانت عيناها الحالمتان تنظران إلى السقف الذهبي لتلك الصالة المشوشة الصاخبة.
وتكلم النائب العام للجمهورية فقال: - لقد زاولت هذه التي أمامكم لمدة شهرين أعمال الخيانة في أرهب صورها الممكنة، ولقد كان خبثها وخداعها، وإغراقها في الشر، ومذكراها التي قرأت عليكم نصوصا منها، والتي تصفها كما هي على حقيقتها: عقل المفكر وامرأة بدون قلب ... وعليكم أن تصدروا حكمكم على كل هذا ولا شك بأنكم لتشعرون معي بأن العقوبة الوحيدة التي يمكن تطبيقها جزاء وفاق هي: الموت. أما محامي الدفاع فقد أوجز دفاعه بقوله: - إنني أعترف أمامكم بذنبها، ولكن عليكم أن تدركوا بأن العمل الذي أقدمت عليه هذه المرأة كان نتيجة لذلك الموقف الذي لم يكن لها الخيرة، فأما الحياة أو الموت، وعليكم ألا تنسوا بأنها كانت تعمل مع المقاومة منذ البداية، ولقد كان عنصرة بطولية من عناصر المقاومة كما يتوجب عليكم أن تصدروا الحكم بالموت على كل أولئك الذين سبقوها فعملوا على بذر بذور الثقة ثم عملوا بعد ذلك على دفعها إلى الخيانة.
- وقبل أن يتم إصدار الحكم، فقدت القطة هدوء أعصاها، وكانت تلك هي المرة الوحيدة التي وقع لها ذلك، فصرخت أمام المحكمة: "ولكنني لا أستطيع أن أمنع نفسي من التفكير لأتذكر بأنه في الوقت الذي يطلب فيه النائب العام الموت لي فإن هيجو بليخر ينعم بحريته في ... هامبورغ" وأصدرت المحكمة حكمها الذي كان متوقعا _ الموت

لكن ... وبعد عدة أشهر أنزل رئيس الجمهورية عقوبة الموت التي صدرت بحق ميشيلان کاريه الى السجن مدى الحياة.
المرجع
1 - کيرت سنجر "أعلام الجاسوسية العالمية" ص 297 - 31.








مصادر و المراجع :

١- موسوعة الامن والاستخبارات في العالم

المؤلف: د. صالح زهر الدين

الناشر: المركز الثقافي اللبناني للطباعة والنشر والتأليف والترجمة - بيروت

الطبعة: الاولى

تاريخ النشر:2002 م

تعليقات (0)

الأكثر قراءة

ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلا … ويأتيك بالأخبار من لم تزوّد
المزید
فصبرا في مجال الموت صبرا … فما نيل الخلود بمستطاع
المزید
حننت إلى ريّا ونفسك باعدت … مزارك من ريّا وشعباكما معا
المزید
أفاطم مهلا بعض هذا التدلل … وإن كنت قد أزمعت صرمي فأجملي
المزید
إنّ أباها وأبا أباها … قد بلغا في المجد غايتاها
المزید