المنشورات
جان دايد
وسحق هيبة فرنسا وسمعتها
كم كان الزعيم الفيتنامي "هوشي منه" على حق عندما كان يقول: "لا شيء أثمن من الحرية والإستقلال". ومن هنا شكلت معركة "ديان بيان فر" في فيتنام "قمة الإنتصار" الفيتنامي، مقابل "قمة الهزائم" الفرنسية في الهند الصينية. سحقت فيها القوات الفرنسية بمراراة، كما سحقت فيها هيبة فرنسا وسمعتها الدولية في تلك الأيام. ولم يكن ذلك ليتم لولا العنصر المخابرات التجسسي الفاعل والمؤثر في الحدث على مختلف المستوايات والأصعدة
تلك الواقعة التي عرفت ب "فضيحة جان دايد" فما هي تفاصيل هذه الفضيحة التي هزت فرنسا وأفقدها أهم متلكاها المعروفة ب الهند الصينية"؟.
لم يكن التعليق الذي شاع تردده على أثر إنتشار فضيحة (دايد): بأن دمار فرنسا يأتي دائما من داخلها تعليقة مرتجلا بل كان يستند إلى حوادث تاريخية سابقة، وهل تمكن النازيون لسنوات مضت من إجتياح فرنسا عن غير هذا الطريق؟ ... ولقد قضى الفرنسيون على أثرها أربعة أعوام لا يمكن أن تنسى أبدا. أربع سنوات شعر خلالها الكثير من الفرنسيين بقيمة الحرية رما يسببه فقداها من الألم المرير.
ومن البديهي، بأن نتائج أعمال (دايد) تسبب مأساة فادحة، ولكنها كانت على درجة كافية من الخطورة ذلك أن هذه المؤامرة قد كلفت فرنسا فقدانها لإحدي ممتلكاها الرئيسية الهند الصينية والتي كانت تتمسك بها كثيرة، وإن مسؤولية هذه الخسارة تقع على عاتق (أعداء الوطن من الداخل الذين وقعوا وثيقة الحكم على الهند الصينية. ولقد تم ذلك عندما علم العلماء الشيوعيون في باريس بأن أميركا قد قررت موقفها بألا تبعث الوحدات المقاتلة وأن تضع حدا لمساعدتها وذلك بالإكتفاء بإرسال إمدادات الأسلحة والفنيين فقط، ولقد تسربت هذه المعلومات من وزارة الدفاع الفرنسية ونتج عن ذلك تلك الضربة القاضية ومكان الإنقضاض الرهيب الذي أطاح بالقلعة الحصينة، ديان بيان فو.
وخلال ذلك كله وعندما إنتشرت تلك الفضيحة وبعد أن انفجرت أزمتها لم يرتكب أولئك الذين يلعبون دورهم على المسرح أي خطأ حتى اهتزت فرنسا وافتضح أمر (دايد)، وعندئذ امتدت أصابع الإقام التشير إلى كبار شخصيات الدولة، وفي مقدمتهم تلك الشخصية التي برزت خلال هذه الحوادث (جان دايد) أحد كبار ضباط الشرطة والذي كان يبدو أنه على إطلاع بالمناورات السياسية التي أحاطت بعقدة (الهند الصينية أكثر من المسؤولين المباشرين والذين أنيط إليهم أمر الدفاع عن شرف الامبراطورية الفرنسية وكان أدهى باقي تلك الفضيحة هو ذلك الدور الذي لعبه (دايد) والذي تمكن بواسطته من إدخال الجواسيس إلى قلب إجتماعات مجلس الدفاع بمهمة کشف الجواسيس الشيوعيون على الرغم من أنه كان يعرف بوجودهم في هذا المجلس، فهل كان بالإمكان أن يشاهد الإنسان على مسرح الأوبرا تمثيليات أدق وأجمل من هذه؟.
كان (جان دايد) قد جاوز الأربعين من عمره عندما أنيط إليه أمر مراقبة الشيوعيين الأجانب وذلك منذ بداية حدوث أزمة (الهند الصينية) ولقد كان أبوه من قبله أيضا ضابط في الشرطة حتى عندما إنتسب هو الى هذا النظام، ولقد تمكن (دايد) من تكوين فكرة جيدة عنه طوال مدة خدمته، بدءا من بدايته كشرطي عادي قبل الحرب العالمية الثانية، وحتي ارتقى بسرعة في سلم الرتب والمناصب إذ لم يكن قد مضى عليه أكثر من عامين حتى أصبح مفتش في الإستخبارات العامة.
وعين (دايد) بعد أن تم تحرير فرنسا، بمنصب رئيس للفرع الخاص للإستخبارات العامة) وقد كان إختصاص المكتب الخامس هو مكافحة الجاسوسية) والذي يهتم بالعملاء الشيوعيين الأجانب، وبما أن (دايد) كان من أنصار (ديغول) ومن الذين عملوا في تحرير (باريس) فقد تم إنتخابه لإشغال منصب هام في إتحاد شرطة باريس. كان يتم طبع تقارير (دايدي السرية عن التجسس على الشيوعيين على عدة نسخ وتوزيع هذه التقارير إلى المسؤولين في الشرطة والجيش، والمدنيين، وكانت هذه التقارير على درجة من الأهمية لا توصف، ولقد أذهلت هذه المعلومات عن تنظيم شبكات الشيوعيين رئيس الشرطة، (بايلو) فجعل من (دايد) مساعده الأيمن وذلك بهدف إعطاء الفرصة في سبيل المزيد من المعلومات عن نشاط هذه التي أتخذت من باريس مرکزة لها.
وعندما إستلم (لاينيل) رئاسة مجلس الوزراء ظهر أول تقرير يدرس دراسة عميقة تنظيمات وأعمال الشيوعيين في العاصمة الفرنسية، وفي هذا التقرير کشف ردايد) النقاب لأول مرة بأن الشيوعيين قد تمكنوا عن طريق جواسيسهم من الحصول على المعلومات المتعلقة بالدفاع عن الهند الصينية.
حدث بعد ذلك أن تقدم الجنرال (هنري أوجيني نافار) إلى مجلس الدفاع الوطني في باريس بمشروع للدفاع عن الهند الصينية ولم يمض على هذا الإجتماع إلا أيام قليلة حتى ظهرت بوادر تسرب المعلومات عن هذا المؤتمر السري، ولم يكتف الشيوعيون بإظهار علمهم بخفايا هذا الإجتماع وعن مشاريع فرنسا في هذا الاقليم المضطرب ولأن المراقب (أو بسر فاتور) الأسبوعية قامت بنشر محضر إجتماع هذا المؤتمر السري للغاية ونوهت إلى المقررات التي تم اتخاذها، فكيف تسربت هذه المعلومات؟ ... لا أحد يدري كيف تم ذلك؟ ... ولقد أنيط إلى ردايد) أمر التحقيق في هذا الموضوع. لقد كانت الظواهر تشير إلى أن بعض أعضاء مجلسي الدفاع على علاقة جيدة مع الشيوعيين وقد ثارت الشكوك حول المكتب الثاني للجيش وكل أفراد الإستعلامات العسكرية، ولكن الفاعل الحقيقي بقي بعيدا عن الشبهات.
وعقد مجلس الدفاع إجتماعاته بتاريخ الرابع عشر من ماي ألف وتسعمائة وأربعة وخمسين ولقد كان هذا الإجتماع على مستوى عال فاستعرض تدابير الأمن المتعلقة بالمواطنين الفرنسيين والمبعوثين في الهند الصينية ولقد أمكن وضع عناصر مكافحة التجسس العاملين لمصلحة
دايد) في وضع جواسيسه في قلب الإجتماعات أمر لا يزال يحوطه الغموض ولكنه ولم تنقض سوى أيام قليلة على عقد إجتماع هذا المؤتمر حتى اتضح بأن الشيوعيين كانوا على إطلاع بما يجري في هذا المؤتمر قامت المجلة الأسبوعية (أكسبرس) ونوهت إلى ما دار فيه.
وتقابل (دايد) مع مدير الشرطة (م. بايلو، الذي أراد أن يعرف كيف أمكن تسريب هذه المعلومات مرة ثانية، على الرغم من إتخاذ كافة الترتيبات بوضع عناصر مكافحة الجاسوسية) وفي قلب الإجتماع، وبعد هذه المقابلة بثلاثة أيام تقدم زدايد مطارد الجواسيس بمخطط للعمل بموجبه، وقد قام مدير الشرطة بدراسة هذا المخطط وكذلك فعل وزير الداخلية المشرف على منظمات الأمن الوطني.
ولقد إقترح (دايد) في مخططه بإدخال المواطن (أندريه بارنيس). الى قلب القيادة الشيوعية والجنة المركزية، ذلك لأن (بارنيس) كان شيوعيا لسنوات مضت ثم إنسحب بصورة سرية من الكومينفورم) | وذلك لإختلافه مع قادة الحزب الذين يجعلون إرتباط الحزب الشيوعي الفرنسي إرتباطا مباشرة مع (موسكو).
تمكن (بارنيس) خلال عدد من الأسابيع من سرقة نسخ عن كل الوثائق الهامة الموجودة في القيادة الشيوعية، وقام ببيعها إلى (دايد)، ولكنه لم يكشف النقاب إطلاقا عن أية تقارير من تلك التي حصل عليها الشيوعيين والمتعلقة بإجتماعات مجلس الدفاع. وبعدئذ سقطت حكومة (لاينيل) وحلت محلها حكومة دبير مانديس فرانس) وتبعة التغير الحكومة فقد تبع ذلك تغييرات في أساليب وأجهزة الحكومة الحالية عن الحكومة السابقة وصدر قرار بتعيين (أندريه ديبوا) مکان مدير الشرطة السابق (بايلو) الذي قرر بأنه لا ضرورة لوجود فرع مكافحة الشيوعية في جهازه فعمل على إلغائه ذلك أنه كان يؤمن باتباع أساليب أخري لمحاربة الشيوعيين فقام بتعيين العناصر الموثوقة من أعوانه. وكان ردايد) شخصية من بين هؤلاء الذين شملتهم حركة التنقلات والتغييرات، فصدر القرار بتسميته مفتشا لميناء باريس الذي
كان مقره خارج باريس في (جنيقيه). ولقد ذهل (دايد) هذا الإبعاد الى الضواحي، وهو يرى كافة الجهود التي بذلها في مكافحة الجاسوسية تذهب هدرة، ولذا فقد صمم على الإحتفاظ بعلاقاته السابقة مع إستمرار بالاتصال مع طبقة العمال من الحزب الشيوعي وكذلك مع أفضل مخبريه. ونتج عن ذلك أن أنيط أمر مراقبة الشيوعيين إلى العسكريين.
إستنفرت شعبة إستخبارات الجيش وبدأت مهمتها وبتاريخ العاشر من أيلول عقد إجتماع ثالث لمجلس الدفاع، وكان منهج الإجتماع يهدف بصورة رئيسية إلى معالجة ودراسة إستراتيجية معاهدة شمال الأطلنطي، وإعادة تسليح ألمانيا في المستقبل، ولقد أمكن سرقة أسرار هذا الإجتماع مرة أخرى، وقام (دايد) بعد هذا الإجتماع بعدة أيام بزيارة (كريستيان فوشيه) وزير فرنسا لما وراء البحار، ووضع بين يديه ملخصا عن المحضر السري للإجتماع. ولقد ذهل الوزير عندما رأى هذا الملخص وهو من بين من حضروا هذا الإجتماع بنفسه ولقد حصل (دايد) على هذا التقرير من (بارانيس) مخبره الخاص الذي قام كالمعتاد بعد سرقته ببيعه له. ولقد صرح الوزير في فترة ذهوله "بأن هذا الملخص ينطبق في الواقع مع محضر الإجتماع" وتساءل عن سبب زيارة (دايد) له بدلا من وضع هذه المعلومات تحت تصرف رجال الشرطة مباشرة، ولكن الجواب على هذا التساؤل أتاه سريعة عندما قال له (دايد): (يامعالي الوزير فوشيه لقد أتيت لزيارتكم ومعي تحذير: لقد صدر أمر إلى الشيوعيين الفرنسيين بجمع كافة المعلومات الممكنة والمتعلقة بمخططاتنا في المستقبل للدفاع عن الهند الصينية).
ولكن، وعلى الرغم من الصراحة التي برهن ها (دايد) على إخلاصه وصدقه في عمله، فإن منظمات إستخبارات الجيش، لم تنظر بعين الإرتياح إلى تقاريره المختصة فقط بالشيوعيين ولاسيما وأنه لم تعد له أي صفة رسمية وأن عمله هذا يعود إلى دوافع شخصية بحتة ولذا فإنه ليس من المستغرب إذا ما ثبت بأن المسؤولين لم يطمئنوا إلى أهدافه من عمله كما سيرى ذلك فيما بعد.
في 18 أيلول، تم إعتقال ردايد) بواسطة ضباط المخابرات، دون أي إنذار، في اللحظة التي كان يغادر فيها مكاتب وزارة الهند الصينية) ولقد أبدي (دايد) في باديء الأمر مقاومة عنيفة ولكنه إضطر أخيرة إلى مرافقة ضباط الإستخبارات.
ولقد عثر معه بعد تفتيشه على وثيقة لم يكن له الحق بامتلاكها في حوزته وتتضمن تلك الوثيقة ملخصا عن محضر إجتماع مجلس الدفاع، ذات الوثيقة التي أبرزها أمام الوزير (فوشية. ولقد تم إخلاء سبيل دايد بعد إستجواب دقيق إستمر خلال المساء وقسما من الليل.
ولقد صرح بأنه حصل على هذه الوثائق من (بارانيس) ونتج عن إستجوابه إعتقال عضوين من أعضاء مجلس الدفاع الوطني وهما (حان توربان) و (روجر لابروس) كما عزل (دايد) من الوظائف والمهام التي كان يشغلها. وعلى الرغم من ترك الحرية له، فإن إستجوابه إستمر تقريبا في كل يوم، ولقد تمكن (بارانيس) من الفرار، ولكن رجال الشرطة تمكنوا من إعتقاله ثانية بعد بحث واسع النطاق حيث عثر عليه في أحد الأكواخ في (بورجونيرر).
ولقد خيل لرجال الشرطة بأن هؤلاء الأظناء الأربعة هم رؤوس شبكة واحدة: إذ يقوم (توربان) بإعطاء المعلومات إلى (لابروس) الذي يقوم بنقلها الى (بارانيس) فيقوم هذا ببيعها الى (دايد). ولقد خيل لهم، ولأول وهلة، بأن الدافع الدايد) في نشاطه و اتصالاته هو إخلاصه الكبير لأمن فرنسا، ولكن تصريحات (بارانيس) خلفت الشكوك بصورة قوية. فهل هناك معنى آخر لتفسير نشاطه واهتمامه بأمور الهند الصينية.
ولقد قال (بارانيس) بعد اعتقاله:"إنني لست الوحيد الذي قام بإعطاء المعلومات للشيوعيين وللشرطة، فهناك آخرون قد زاولوا هذا العمل من قبلي. وكانت تقاريري باستمرار تصل إلى الشرطة والى الشيوعيين بعد تقارير الآخرين، وكان الهدف منها تأكيد ما يقوله الآخرون، ولكن أقوال (بارانيس) لم تقنع أي إنسان. أما عندما إستجوبوه عن علاقه ب (دايد) فصرح مؤكدا بأن الشيوعيين كانوا يعرفون تماما بأن المعلومات التي يقومون بنقلها إليه ستباع إلى (دايد) بل أن الواقع يؤكد بأن الشيوعيين أنفسهم كانوا يقومون بتحضير التقارير التي ستسلم الى (دايد)، وذلك بهدف إثارة جو من التضليل في باريس. ونتيجة لذلك فقد كان من الصعب معرفة الحقيقة في قلب هذه الدوامة من الإقامات والإقامات المعاكسة والإشاعات، بل أن هناك ما هو أدهى من ذلك فقد أصبح الشك يحيط بالموضوع باجمعه. أما (دايد) فقد بدأ يستعيد شخصيته ليس فقط كمفتش للشرطة بل کشخص قام بدوره وهو يغادر غرفة المسرح بعد أن أدى واجبه على أكمل وجه. وآخيرة أصبح من الممكن أن يسود الاقتناع بأنه قد أسيء فهم الدور الذي قام به (دايد)، ولكن التعليل لذلك أنه حتى لو أسيء فهمه، فهو وحده المسؤول عن ذلك.
لقد كان (دايد) دائما يصرح بإفاداته على أنه ضابط شريف من ضباط الشرطة، يقوم بواجبه بضمير حي، وإنه لم توجه إليه أية قمة ولم يقدم للمحاكمة طوال خدمته، وهذا ما لا يجب نسيانه، كما أنه من الممكن أن يكون (دايد) ضحية للعمل الشيوعي المزدوج (بارانيس) الذي زاول معه العمل لفترة، من المؤكد بأنها كانت فترة طويلة نسبية، كما أنه من المحتمل أيضا بأن يكون دايد) قد فعل ذلك سالكة الطريق الوعر بهدف إثارة فضيحة لإعطاء سلاح إلى هؤلاء الذين يعملون القلب حكومة (مانديس فرانس) كما فكر الآخرون بأن (دايد) لم يكن إلا (ضابط شرطة عادي أرادت الحكومة إستخدامه والتضحية به لتظهر أمام حلفائها البريطانيين والأميركيين بأن فرنسا قد عزمت على إجراء تصفية عامة لكل تسرب شيوعي في أجهزة الدولة.
ولكن مهما كان من أمر فإن التاريخ سيسجل واقع مؤكد وحقيقية ذلك هو أن الهند الصينية قد بيعت للشيوعيين، وإن عقد هذه الصفقة قد إرتكب في باريس وقامت بذلك الأوساط السياسية العليا
كما إشتركت أميركا في ذلك، حيث ترددت قبل أن تعلن آخيرة أن أميركا لا تقر أي لون من ألوان المعونة العسكرية للهند الصينية المحاصرة). ولم يكن بإمكان الفرنسيين إيجاد تيرير لهذه القرارات الأميركية، فحاولوا تفسير ذلك باقتفاء آثار الجواسيس الذين عملوا تخريبا في بلادهم.
ولقد حدث أيضا أن أوقف أخرون، بعد أن وجه (مانديس فرانس) إقاماته إلى وزير الدفاع الوطني في حكومته بالإهمال الخطير. أما الباحثون العسكريون فلقد أدركوا بأن هدف الشيوعيين من سرقة ونشر محاضر الإجتماعات و آثار الفضيحة نفسها هو الإسراع في إنهاء حرب (الهند الصينية).
كما أوقف (جاك در کلور) سكرتير الحزب الشيوعي الفرنسي، واستجوب ثم أخلي سبيله ولكن بعد أن أدان الحكومة الفرنسية إدانة قوية عندما صرح: "ليس من حق فرنسا أن تعارض نضال (الهند الصينية للتحرير من نير الرأسمالية الفرسية". أما النائب المعتدل
فريدريك ده بونت):"لقد كانت حرب الهند الصينية دائما برهانا الاتحاد فرنسا وتضامنها تجاه الشيوعية العالمية، ولكن منذ وصل الشيوعيون الصينيون إلى حدود (تونكين) أصبحت الهند الصينية حدة فاص" للحضارة الغربية، ودخلت الهند الصينية بأكملها في منطقة الحرب الباردة ".
دفعت الولايات المتحدة الأميركية مبلغ ثلاثة مليارات من الدولارات بهدف إنقاذ الهند الصينية، ولكن على الرغم من المساعدات الأميركية التي بلغت نسبتها خمسة وثمانين من مجموع ما كلفته هذه الحرب فإن فرنسا وجدت نفسها مجبرة على توقيع ذلك الإتفاق في (جنيف) والذي أمسكت بموجبه بعنق الهند الصينية إلى حذف الزعيم الجديد (هوتشيه مينه)، وبذلك تم وضع حد للحرب القذرة التي لم تكن أبدا محببة إلى نفوس الفرنسيين ...
كان (هوتشبه مينه) قد تمكن بفضل مساعدة روسيا له من تنظيم شبكة للجاسوسية في قلب الأوساط الدبلوماسية الفرنسية وبذلك تمكن من معرفة مشاريع مجلس الدفاع الفرنسي وذلك بعد كل إجتماع يتم عقده بمدة لا تزيد عن الثمانية والأربعين ساعة. ولقد رفضت دول الغرب، ولمدة طويلة، الإعتراف الجدي برهوتشيه مينه) لأنها كانت تعتبره كشخص عادي لا قيمة له وكعميل من عملاء الشيوعية يتقاضي راتبا من موسكو، ولكن فرنسا إضطرت أخيرة أن تعترف به كزعيم لقد حسب (هوتشيه مينه) حسابه منذ البداية، فقدر ضرورة وأهمية إنشاء منظمة للتجسس تعمل في قلب باريس، حيث كانت العقلية الإستعمارية الفرنسية ترسم خيوطها فيها. '
ولقد قامت المخابرات الروسية فأمنت له الإتصالات الأولى مع الأوساط المطلعة، ثم تركت له بعد ذلك حرية العمل ليزاولها حسبما يشاء.
ولد (هوتشيه مينه) في عام 1892 في اقليم رنجيه) المضطرب، وكان لا يزال في مطلع شبابه عندما ركب متن إحدى سفن الشحن ميمم شطر أوروبا، وزار إنكلترا ثم أقام طويلا في فرنسا، و كان كأغلب الثائرين في عصره مضطرة للتستر خلف عشرات الأسماء المكتسبة ولقد إكتسب إسمه هذا بذيوع صيته كأول رئيس شيوعي الجمهورية فيتنام الديموقراطية) ولقد عرفته الإضبارات لدى الشرطة في باريس وخلال عدة سنوات بإسم رنجيه أي كوك) أو المواطن (نجاي).
وفي عام 1919، وعندما لم يكن ل هو تشبه مينه) من العمر أكثر من سبع وعشرين عاما، حضر إلى مؤتمر السلم في (فرساي ليطلب في أن يترك لرالهند الصينية حق تقرير مصيرها وذلك تطبيقا للمبدأ الذي كان قد نادى به (وودرو ولسن) في بيانه الشهر ذي الأربعة عشر بندة كما تم تقديم طلبات مماثلة من قبل ممثلين للبلاد الأخرى کالهند، وكوريا، والبلاد العربية.
ولكن هذا المؤتمر، للأسف، كان برهانا على تجاهل مطلب العالم المتوثب والمتيقظ، وقد أصبح واضحا بعد هذا المؤتمر بأن فرنسا ليست وحدها من بين الشعوب التي لم تنظر إلى المستقبل نظرة تجاوز مداها أبعد من أرنبة الأنف.
بقي (هوتشيه مينه) بعد فشل مؤتمر فرساي في باريس وعمل فيها كمصور ليكسب ما يفي باحتياجات عيشه، أما نشاطه السياسي فكان بمثابة هواية له، وكان يحرر بعض المواضيع ويعمل على نشرها في صحيفة الشعب الإشتراكية كما كان يحضر الإجتماعات السياسية ويساهم في أعمال الحركات الإشتراكية، وقادته نزعته (الراديكالية) وتصريحاته الحماسية إلى السجن في أكثر من مرة ولكن لم تثنيه عن عزمه، حيث صرح ذات يوم بقوله: (إن الزمن الذي قضيته في السجن كان طوي، وإن أغلب السجون متشابها، ولكن سيأتي اليوم الذي تصبح فيه الهند الصينية سجنا يضم هؤلاء الذين يستعمروها).
تعرف (هوتشبه مينه) أثناء إقامته في باريس على زعماء البلاد الأخرى والتي كانت فرنسا مستعمرة لها، کافريقية الشمالية الفرنسية ومدغشقر، وكان يستخدم القاعدة الشيوعية منطلقا للدفاع في سبيل الحصول على الإستقلال، وقد قام بوضع كتاب المصلحة الحزب عنوانه مراحل الإستعمار الفرنسي) وأمكن تمريب عدة نسخ من هذا الكتاب الى الهند الصينية، والي مستعمرات فرنسية أخرى بحيث أصبح هذا الكتاب بمثابة إنجيل للحركات الوطنية.
وفي عام 1920 كان أول فيتنامي يدخل إلى موسكو بدعوة رسمية لحضور مؤتمر (كومنترن ومكث هناك لمدة عام كامل، إتبع خلاله دورة تدريبية في (أكاديمية ستالين) ثم عاد إلى باريس وعمل على إنشاء وإصدار جريدة (لوباتريا) والتي أصبحت الصحيفة الناطقة باسم الدوله الخاضعة لاتحاد الدول الإشتراكية والتي يسيطر عليها الإستعمار.
وقد عملت فرنسا بالإضافة إلى دول أخرى على منع هذه الصحيفة من دخول المستعمارات الخاضعة لها، ولكن هذا الإجراء جعل الطلب يزداد عليها والبحث يكثر عنها كما استمر العمل على تقريبها إلى داخل المستعمارات.
ومرت سنوات، ثم بعدها إنتخاب (هوتشيه مينه) كممثل عالي للفلاحين الإشتراكيين، وذلك بهدف نشر الأفكار الإشتراكية بين الشعوب وتفجير الوعي في كل من أفريقيا وآسيا وكان يؤمن بأن کسب الصين إلى جانب المعسكر الإشتراكي أمر ضروري كما أن مستقبل (فيتنام) يرتبط ارتباطا وثيقا بنجاح الشيوعية في الصين. ولقد عبر عن رأيه هذا في إحدى مقالاته حيث قال (لا يمكن للهند الصينية أن تبقى كتلة من الجليد وهي تقع بين الهند والصين الملتهبتين).
وفي عام 1920 أيضا، كان (هوتشيه مينه) قد مر في الصين حيث اجتمع بعدد من المثقفين من (تونكين) وآخرون من (أنام) وغيرهم من الهند و (الصين) وكان يزاول عمله (کمترجم) في السفارة الروسية في
کانتون) تحت قيادة رئيس منظمة الجاسوسية الروسية في الصين بورو دين) وقد عمل (هوتشيه مينه) حسب مخطط موسكو السياسي والذي قضى بالعمل من أجل الإستقلال الوطني كمرحلة الأولى، ومن ثم وتحت تأثير هذه الموجة الثورية الوطنية يمكن للحركة الشيوعية أن تكتسب السلطة بالتدريج وتعمل على توجيه هذه الشعوب البسيطة، أي أن قيام الثورة الوطنية هو مرحلة أولية تليها بعد ذلك مباشرة قيام الثورة الإجتماعية.
إذن، فقد شهدت (کانتون) تشکيل نواة الثورة التي ستعمل على قلب السلطة الفرنسية في الهند الصينية وانقضى بعد ذلك ثلاثون عاما حتى تم تحقيق هذا الواجب ففي عام 1931 لم يكن تعداد الحزب الشيوعي في الهند الصينية ليزيد عن 1000 عضوا ولكن كان من بينهم عدد كبيرة من الأقحاح، وعند إنتهاء الحرب العالمية الثانية أصبحت قوة المد الثوري قادرة على شن حرب ضروس ضد فرنسا.
يتحدث الشيوعيون في الهند الصينية عن (هوتشيه مينه) کرجل له صفات (لينين) الثورية، وكفاءة (نابليون العسكرية، بينما لا ترى فيه فرنسا إلا رجلا حل إلى بلاده لونا حديثا من ألوان الإستعمار (الأحمر).
تتالت الأحداث بسرعة مذهلة بعد أن تمكن الجواسيس من إرسال التقارير عن مقررات مجلس الدفاع في باريس الى (هوتشيه مينه) وتجاهلت فرنسا التي كانت في يوم من الأيام أمة ثورة مشاعر ورغبات سكان مستعمراتها فحملت لواء مقاومة الثورة عوضا عن مد يد التعاون إليهم، وقد دفعت ثمنا لذلك سيلا من دماء أبنائها.
المرجع 1 - کيرت سنجر "أعلام الجاسوسية العالمية". داز اليقظة العربية. بيروت 1991 (ترجمة بسام العسلي). ص 57 - 70.
مصادر و المراجع :
١- موسوعة الامن
والاستخبارات في العالم
المؤلف: د. صالح
زهر الدين
الناشر: المركز
الثقافي اللبناني للطباعة والنشر والتأليف والترجمة - بيروت
الطبعة: الاولى
تاريخ النشر:2002
م
1 أبريل 2024
تعليقات (0)