المنشورات
المهدي بن بركة
واقتحام التاريخ مثلما تتألق النجوم في السماء، هكذا تتالق رموز الحرية في سماء الوطن العربي، فكيف اذا كانت الحال في ظل وجود الاستعمار الأجنبي الذي لا يقيم وزنا للقيم ولا للمبادئ والمقدسات؟ ولم يخرج المغرب العربي في شمالي افريقيا عن إطار السيطرة الاستعمارية التي تفننت في عملية التحكم بسكانه، وبأفظع الطرق والوسائل.
وعندما كان من أولى حقوق شعب في ظل الاحتلال، هو مقاومة الاحتلال، فقد كان طبيعية أن يلاقي الاستعمار ما لاقاه من مقاومة باسلة في هذه المنطقة، بفضل نخبة واعية قائدة التزمت بمصالح الشعب والوطن والقضية، مفضلة الموت على الحياة الذليلة. وكان في عداد هذه النخبة، المناضل العربي الكبير المهدي بن بركة»، حيث لم يقتصر تألق نجمه على وطنه فقط، بل تجاوز ذلك الى القارة الأوروبية والأفريقية، مما دفع بمخابرات القوى الاستعمارية للتخلص منه وتصفيته في أبشع عملية من نوعها في القرن العشرين ..
فكيف حصلت عملية اختطاف والمهدي بن بركة؟ وما هي أسرار تصفيته؟.
لعل من أبشع جرائم العصر، التي هزت الضمير العالمي، وظلت انبازها تحتل عناوين الصفحات الأولى لكبريات صحف العالم، جريمة اختطاف الزعيم المغربي والمهدي بن بركة، من شارع سان جرمان، في باريس، ظهر يوم الجمعة في 29 تشرين الأول/ اکتوبر سنة 1965، بتدبير من الجنرال محمد أوفقير، وزير داخلية المغرب، والكولونيل أحمد الدليمي مساعده، بالتعاون مع المخابرات الفرنسية والأميركية والصهيونية والمغربية،حيث نقل الى مكان ما في احدى ضواحي باريس، وخلقوه وقطعوه إربا إربا.
ولد المهدي بن بركة، في الرباط سنة 1920. كان طوال فترته الدراسية من أنبغ الطلاب في جميع المواد، وخصوصا في مادة الرياضيات. وعلى اثر حوادث المطالبة بالاستقلال سنة 1944، اعتقل المهدي بن بركة لأول مرة من جانب السلطات الفرنسية. ويرجع نشاطه في الحياة السياسية حينما انضم الى العمال الوطنيين سنة 1943. وشارك في تأسيس جمعية الرباط الوطنية الثقافية، والتي منعتها السلطات الفرنسية سنة 1944. اضافة إلى أنه كان على رأس من حرروا وثيقة 11 يناير 1944 والتي تطالب باستقلال المغرب، وبعد خروجه من السجن تحمل مسؤولية الكتابة الإدارية اللجنة التنفيذية لحزب الاستقلال، ومن ثم عضوا في اللجنة التنفيذية. وفي 28 فبراير 1901 اعتقل المهدي بن بركة مرة أخرى، ونفي الى الجنوب المغربي حيث بقي منفية حتى اکتوبر 1954. بعد اطلاق سراحه لعب المهدي دورا بارزا في نشاط الطبقة العاملة المغربية. وهذا الدور هو الذي أسفر عن تأسيس المنظمة العمالية المغربية / الاتحاد المغربي للشغل في 20 اغسطس 1955. وفي شهر أغسطس 1955، وأثناء مفاوضات رايكس ليبان، التي نظمتها حكومة رادغاره. هذه المفاوضات التي أسفرت عن استقلال المغرب - شارك المهدي بن بركة في الوفد الذي شكله حزب الاستقلال لهذه المفاوضات بالإضافة إلى عبد الرحيم بوعيد، ومحمد البزيدي، وعمر بن عبد الجليل، ومحمد بوستة.
وفي تشرين الثاني / نوفمبر 1909 انتخب المهدي بن بركة رئيسا للمجلس الوطني الاستشاري، وظل رئيسا له حتى حل المجلس سنة 1959.
وفي سنة 1956 تولى المهدي بن بركة، الإشراف على مجلة والاستقلال، الأسبوعية، والتي تصدر باللغة الفرنسية حيث عرفت هذه المجلة أنها الصوت الثوري للجناح التقدمي داخل حزب الاستقلال.
وفي سنة 1958 بعث المهدي برقية إلى المؤتمر الأفريقي الأسيوي اليساري بمشاركة
قير عالمي من الطلاد
الوطني للقوى
اختارته الهي
بالرغم من معارضة قيادة حزب الاستقلال، عبرت عن الاختيارات التي يطمح اليها الجناح اليساري داخل الحزب.
وفي 20 كانون الثاني / يناير 1908، استطاع الجناح اليساري بمشاركة المهدي بن بركة الفعالة تأسيس الاتحاد الوطني للقوى الشعبية، كما كانت طاقاته موضع تقدير عالمي من الطلائع الثورية في العالم الثالث، لذلك فقد اختارته الهيئات التحضيرية لمنظمة تضامن شعوب القارات الثلاث ومقرها
هافانا، ليكون سكرتيرة لها. ومن المؤسف أن أيدي الغدر امتدت لتنتزع روحه الثائرة، قبل أن يتاح له احتلال هذا المنصب العالمي المرموق الذي رشح له
بعد المؤامرة الأولى ضد الاتحاد الوطني للقوى الشعبية، والمقاومة وجيش التحرير واعتقال المناضل محمد البصري وعبد الرحمن اليوسفي، اضطر المهدي بن بركة للبقاء خارج المغرب، وأصبح الناطق الرسمي
للحزب في المحافل الدولية، وأخذ يوثق الصلات بين الحزب والحركات: الثورية في العالم.
وفي خريف سنة 1963 حكم عليه بالإعدام من قبل السلطات المغربية، وفي 3/ 14 / 1964 حكم عليه بالإعدام مرة ثانية مما اضطره للبقاء خارج وطنه، حتى كانت عملية اختطافه وتصفينه جسدية في 29 اکتوبر 1990. اشترك في عملية الاختطاف عدد كبير من عناصر وقياديي المخابرات المغربية والفرنسية والأميركية والصهيونية، نظرا لأهمية المناضل المهدي بن بركة وخطره على الاستعمار والإمبريالية ككل.
كان الكولونيل المغربي أحمد الدليمي أحد كبار المتهمين الرئيسيين في عملية الاختطاف. التحق بسلك الشرطة المغربية في أغسطس 1900 بعد أن تخرج من مدرسة جنود المظلات.
وقد كلف الدليمي بأن يكون المسؤول عن تنظيم التعاون مع المجموعة الأميركية من اجل انشاء جهاز خاص للأجانب ... ويقوم هذا الجهاز بتدريب الكوادر اللازمة لعمليات التسلل الى السفارة الأميركية بالرباط، ومعرفة التنظيمات النقابية والسياسية والدبلوماسية في الشرق العربي. وعلاقة الدليمي بالمخابرات الأميركية تبدا بعلاقته الشخصية مع المستر بدوني، الذي كان يعمل لصالح المخابرات الأميركية في المغرب، ويتكلم اللغة العربية واللهجة المغربية الدارجة، ويعرف المغرب شبرا شبرة. وكان يتلقى تعليماته من المستر هار، الذي يعمل بالسفارة الأميركية بالرباط، وعرف عنه أنه حلقة وصل بين فرع الوكالة في المغرب والمركز الرئيسي لها في الولايات المتحدة.
وقد زود احمد الدليمي من المخابرات الأميركية بأشهر خبير أميركي في التسجيلات السرية وادوات الجاسوسية هو المستر اويتس»، وفي مجال تخطيطاته العملية اختطاف المهدي بن بركة، فإنه قدم الى باريس قبل ثمانية اشهر برفقة المدعو «العربي الشوكي، الذي يشغل مركزا مهما في الاستخبارات المغربية، وذلك لتحضير عملية الاختطاف. وقد اجتمع مع بعض أصدقائه الفرنسيين حيث نزل في فندق الاليزيه غرفة رقم 55، واتصل بالمتهم فيليب لومارشان، بباريس، وهو نائب في البرلمان الفرنسي عن دائرة اليون
وصل أحمد الدليمي الى باريس يوم 30 اکتوبر 1995 (أي بعد يوم واحد من اختطاف المهدي) حيث استقبله المتهم وانطوان لوبيز، في مطار اورلي. واستأجر له سيارة يقودها سائق جزائري أوصلته الى «فيلا، يحتجز فيها المهدي بن بركة.
والواقع أن أحمد الدليمي عريق في الإجرام، وخاصة مع عناصر جيش التحرير المغربي الذي كان يخوض الكفاح ضد الاستعمار الاسباني في الصحراء المغربية المحتلة. كما قام بتعذيب المناضلين الاتحادين شخصية، وعلى رأسهم الشهيد عمر دهكون سنة 1973.
والى جانب الكولونيل الدليمي وأوفقير، هناك الغالي الماحي، الذي ينتحل صفة طالب مغربي في باريس مسجل في قسم التجارة بالجامعة الفرنسية، وكان يقوم بدور الوسيط بين الدليمي وانطوان لوبيز. وكذلك السيد الحسيني، عميل الاستخبارات المغربية، ومساعد الكولونيل الدليمي، وهو ممرض مكلف بالتخدير في الفرق الخاصة التابعة للشرطة المغربية، وقد رافقه الدليمي منذ وصوله من جنيف إلى فيلا فونتاي لي فيکونت. كما لعب
العربي الشئوکي، دورا رئيسيا في إعداد خطة الخطف والإغتيال مع الكولونيل أحمد الدليمي، وباعتراف المتهم الغالي الماحي، في مطار أورلي يوم 30 اکتوبر 1990 بعد عملية اختطاف المهدي الاستقبال الجنرال أوفقير والكولونيل الدليمي.
اضافة لكل هؤلاء، فقد كان هناك اعشاشي عبد الحق، ودالصقلي سعيد، الذي كان يتولى مهمة تمويل العملاء المشاركين في العملية، وهو صديق الجنرال أوفقير. وكذلك مساعد الجنرال محمد ارفقير وزير الداخلية، للعمليات السرية دايلي ترجمان، وهو يهودي مغربي ويحمل الجنسيتين الاسرائيلية والمغربية، وهو الذي فاتح المتهم فيليب لومارشان، وجورج فيغون، وانطوان لوبيز، في موضوع الاختطاف. والصهيوني ايلي ترجمان يعمل حاليا ضمن سكرتارية الحكومة ومكلف بالعلاقات الخارجية مع باقي العملاء للمخابرات الجاسوسية للولايات المتحدة الأميركية والاسرائيلية ويدير هذا المكتب.
أما فيما يتعلق بالمشتركين الآخرين الذين يحملون جنسيات أجنبية نذكر منهم: انطوان لوبيز وهو فرنسي الجنسية ومن مواليد 1913. وهر المتهم الأول في هذه الجريمة، وهو عميل المخابرات الفرنسية. وقد سبق له أن شغل منصب مدير مطار طنجة المغربي، وهو الذي أعطى الإشارة للمخابرات الفرنسية بالتنسيق مع المخابرات المغربية - بحكم هذا المنصب. لكي نختطف طائرة الزعماء الجزائريين وهم في طريقهم إلى تونس أثناء حرب الاستقلال الجزائرية، وكان من بينهم أحمد بن بللا وفي سنة 1991، رقي الى منصب كبير في شركة «ايرفرانس، في مطار أورلي بباريس. وبحكم منصبه في المطار أصبح وانطوان لوبيز، وكيلا للعديد من وزراء المغرب يقدم لهم التسهيلات والخدمات. كما تأكد أمام قاضي التحقيق أنه يعتبر نفسه مرؤوسة في هذه القضية لجهات عليا. علما أن البوليس الفرنسي استطاع تحديد مكان التلفون الذي استعمله بوم 29 تشرين الأول/اكتوبر للإتصال بالجنرال أوفقير في المغرب يعلمه بنجاح عملية اختطاف المهدي بن بركة. وقد أطلقت الصحافة الفرنسية على انطوان لوبيز لقب
المتهم المراوغة. صدر عفو عنه في أواخر عام 1971. إلى جانب الوبيزه كان هناك المدعو «جورج بوشيس، الذي كلف. كما يقول - بعملية الاختطاف من قبل رجل الأمن المغربي العربي الشوكي. اضافة الى المتهم «جورج فيغون، الذي قتل في 17 ديسمبر 1965، على أيدي صحفي الماني غربي له علاقة بالاستخبارات الأميركية، في الوقت الذي أشيع فيه بأنه انتحر، وكذلك الكولونيل «فانفيل، ويدعى مارسيل لوروا، وهو رئيس مفرزة مكافحة الجاسوسية ورئيس انطوان لوبيز مباشرة. أعفي من منصبه في 18 يناير 1966 بعد افتضاح دور أجهزة الأمن في تدبير عملية الاختطاف، خصوصا أنه كان يعلم بان الغرض من جر المهدي بن بركة الى باريس هو التصفية الجسدية. كما أقيل الجنرال «جاكه، أيضا وهو رئيس إدارة مكافحة الجاسوسية (سيدکر).
هذا وتضيق الصفحات عن ذكر جميع الأسماء المجرمة في هذه القضية، ويبقى للصحفي فيليب برنييه، الدور الكبير في هذه العملية، حيث كان رئيسا للتحرير في مجلة رانترا، التي يملكها الجناح اليساري في الحزب الديغولي .. استخدم كطعم لإحضار بن بركة إلى باريس. وكان قد اتصل هاتفيا بالمهدي في 29 اکتوبر 1965 عندما كان بن بركة في جنيف 22 شارع دوفيني. والصحفي برنييه صديق للمتهم «جورج فيغون»، رهر مختص في شؤون المغرب حيث كان يتردد على المهدي بن بركة منذ عدة سنوات، وله علاقات مع رئيس الاستخبارات المغربية. وقد تم الاتصال به عبر العربي الشتوکي، بعد أن عرض عليه مبلغا كبيرة من المال لإحضار المهدي الى باريس.
ويرجح البعض أن قرار اسرائيلية نفذته والموساد، والمخابرات الاسرائيلية بالتعاون مع جهات فرنسية رسمية وغير رسمية، كان وراء عملية اغتيال الزعيم المغربي.
فصحيفة «بول، (المرمى) العبرية الصادرة في تل أبيب بتاريخ 11 ديسمبر 1999، صدرت صفحتها الأولى بعنوان مثير هو: اسرائيليون في مقتل بن بركة، وهذه ترجمة لأبرز ما تضمنه المقال:
ان شخصية كبيرة أقنعت بن بركة بأن يستقل الطائرة الى باريس حيث قتل. هذه الشخصية هي رجل أعمال سويسري، معروف جدا، عرض آن يمول فيلمة حول العالم الثالث، انطلاقا من سيناريو، يكتبه المهدي بن بركة نفسه ... رجل الأعمال هذا يتعاطى تجارة الافلام السينمائية، وبما أن القضية ما تزال لغزة فإننا نود أن نحتفظ باسمه ... وكل ما يمكن أن يقال عنه أنه يهودي، ويخشى عندما تنفجر القضية أن تتخذ طابعة عنصرية.
وكما يقول فيليب برنيه (أحد المشاركين في إخراج الفيلم في شهادته التي أدلى بها أمام المحكمة، أن المهدي بن بركة عرف أن جهات اسرائيلية أو أموالا اسرائيلية سوف تساعد على انتاج الفيلم، ولما عرف تراجع عن الفكرة .. اذ لم يكن واردة أن يتعامل مع الاسرائيليين
والواقع أن «جورج فرانجوا كان هو ذاته ممول ومخرج الفيلم السينمائي المزعوم باستان الذي يصور نضال شعوب العالم الثالث بمناسبة انعقاد مؤتمر القارات في هافانا في كانون الثاني / يناير سنة 1999 ...
هذا وقد انضم الى عملية الاختطاف الويس سوشون، رئيس مفرزة مكافحة المخدرات بناء على طلب المتهم وانطوان لوبيز، وقد اعترف بذلك أمام المحكمة وهنا لابد من الإشارة الى تصريح الوزير الفرنسي السابق «بيار جولي الذي قال في شهادة له أمام المحكمة اذا كانت المخابرات الإسرائيلية أو الأميركية أو غيرهما تريد اخفاء بن بركة، فلابد لها أن تستعين بالمخابرات الفرنسية.
لقد دخل المهدي بن بركة التاريخ من بابه الواسع، مسجلا أنصع الصفحات في حياته الزاخرة بالنبوغ والعطاء والتفوق.
وليس مستغرب أن يلاقي ما لاقاه على أيدي أعداء الإنسانية، وهو القائل أن من واجب المناضل إما أن يكون واقفا على قمة جبل، وأما ممددة على تبن زنزانة مظلمة ... وقد جرب الزنزانة في حياته، وبقي عليه أن يجرب التمدد الأبدي في سبيل الولادة الجديدة في ضمائر الشعب العربي من المحيط الى الخليج. وكانت حكومة الجمهورية العربية السورية سباقة في هذا المضمار، عندما أطلقت اسم المهدي بن بركة، على أحد شوارع دمشق الرئيسية، بعد أن أصبح نضاله جزءا لا يتجزأ من نضال الشعب السوري والعربي ضد الاستعمار اينما كان، وفي كل زمان.
المراجع
ا- سعيد، الجزائري المخابرات والعالم،. دار الحياة. بيروت. لا تاريخ.
ص 388 - 405. 2- هاني الخير واشهر الاغتيالات السياسية في العالم. الجزء الأول. دار
الكتاب العربي. دمشق 1985، ص 113 - 198. "
مصادر و المراجع :
١- موسوعة الامن
والاستخبارات في العالم
المؤلف: د. صالح
زهر الدين
الناشر: المركز
الثقافي اللبناني للطباعة والنشر والتأليف والترجمة - بيروت
الطبعة: الاولى
تاريخ النشر:2002
م
1 أبريل 2024
تعليقات (0)