المنشورات
المحطة الباريسية في صراع الجاسوسية
تمثل عملية فرار نائب القنصل السوفياتي في السفارة السوفياتية في باريس عام 1982، نيكولاي بوليانسكي، إحدى العمليات المثيرة في تاريخ الجاسوسية. هذا في الوقت الذي كانت فيه "الحرب الباردة" بين المعسكر الغربي بقيادة الولايات المتحدة الأميركية، والمعسكر الشرقي بقيادة الإتحاد السوفيا، ما زالت قائمة، تخف حدها أو تزداد من فترة إلى أخرى، تبعا لضخامة الحدث أو الأحداث وتفاقم الأزمات منذ قيام الجبارين بعد الحرب العالمية الثانية، وكل أزمة منها كانت تستولد بدورها أزمات جديدة.
فما هي أسرار عملية فرار الجاسوس السوفياتي بوليانسكي من باريس إلى ألمانيا الغربية؟ وما هو تأثيرها في الصراع الخفي بين عمالقة الجاسوسية في القرن العشرين؟
في الواقع، كان "نيقولاي بوليانسكي" نائب القنصل السوفياتي في السفارة السوفياتية في باريس عام 1982، من مواليد 1939، وشيوعي جيد لم يسمع عنه شيء يخل بالنظام خلال عمله السابق كنائب للقنصل في السفارة السوفياتية في كل من زغرب وبرن. وقصة هروبه من باريس إلى الغرب وخصوصا إلى ألمانيا الغربية ليس فيها شيء من الغرابة، وليس لديه أيضا أسباب جوهرية للهرب والخيانة لوطنه، ولم يكن مضغوطة عليه أو ملاحق أو مكروه. ومع ذلك خرج من السفارة السوفياتية في باريس للتجول يوم الأحد في 2 تموز 1982 وتوجه بالقطار إلى ألمانيا الغربية وسلم نفسه للمخابرات الألمانية الغربية، حيث أعتبر بعد ذلك من ضيوف هذه المخابرات (أي الاجنة سياسية)
من هنا نجد من الضروري أن نورد قصته الموجزة بغية الإطلاع على طريق عمل المخابرات السوفياتية والسفارة السوفياتية في باريس. فمبني السفارة السوفياتية في باريس، حيث تسكن الممثلة الشهيرة (بريجيت باردو) ورجل صناعة الطيران "مارسال داسو" الذي تنتج مصانعه
طائرات الميراج. وهناك يعيش ممثلو الكرملين في بناء السفارة الضخم الذي بلغت تكاليف إنشائه مائتي مليون دولار، ولا يكاد يوجد هناك أحد من السياسيين الغربيين من تجاوز قاعة الإستقبال المرمرية الفخمة أو مكتب السفير إلى الممرات ودهاليز البني والأرضيات المزدوجة وممرات التهوية السرية التي تحتوي على أجهزة مخابرات خفية للتنصت والتصوير التجسسي لكل زائر للسفارة، كما توجد خلف جدران من الأسمنت المسلح طرق ملتوية تؤدي إلى أقسام السفارة المختلفة ويتكون مجمع السفارة السوفياتية في قلب العاصمة الفرنسية من سبع طوابق فوق سطح الأرض وخمس طوابق تحت الأرض منه بالطابق الأول موقف سيارات السفارة والطوابق الأربعة مصانة بألاف أطنان المواد العازلة حيث أصبح "ملجأ قادرة على مقاومة القنابل الذرية "ولا تكاد السفارات السوفياتية في عواصم البلدان الأخرى في أوروبا تختلف عن السفارة السوفياتية في باريس. ويعيش الدبلوماسيون السوفيات وكالهم في دير وإن لم يعيشوا حياة الرهبان فالحياة في الخارج محجوبة عنهم وهم محجوبون عنها، إذ يراد للمواطنين السوفيات الدبلوماسيين أن يبكوا على أقل قدر من الإتصال بخارج السفارة حيث أعداء الطبقة
العاملة. وتوجد في السفارة سوق مركزي ومخبز ودكان جزارة "لحام: أو قصاب" ودکان لتصليح الأحذية أيضا. ومصبغة ومطعم يتناول به
العزاب من موظفي السفارة طعامهم لكي لا يقعوا ضحية مغريات الغرب وخاصة مطاعم ساحة بيكال. كما أن أطفال جميع العاملين في السفارة يذهبون إلى مدرسة داخل جدران السفارة "وتضم المدارس في الإتحاد السوفياتي عشرة صفوف" ولا توجد مدارس متقدمة جدة كهذه إلا في سفارات نيويورك، جينيف، فيينا، لندن. وأخيرا يوجد داخل أسوار مبنى السفارة وخلف الجدران السميكة دار سينما ها مسرح العرض بعض أعمال موظفي السفارة المسرحية. وحوض سباحة وقاعة رياضة بأنواعها ومكتبة وعيادة طبية. والسفير بالذات هو المسؤول عن
جميع هذه المنشآت إدارية ومالية وهو كذلك يتلقى راتبة كبيرة بالنسبة للأوضاع السائدة في الوظائف في الإتحاد السوفياتي حيث يحصل على ثلاثة آلاف دولار ومثله السفيرفي جنيف ويتقاضى مستشار السفارة تسعين بالمائة من هذا الراتب بينما يتلقي السكرتير الأول بالسفارة لحس وثمانين منه أما السكن في السفارة للسفير وجميع الموظفين ف مجانا" لأن البناء هو ملك الدولة السوفياتية مثل بناء السفارة الفرنسية العريق في موسكو فهو ملك للدولة الفرنسية. أما معيشة السفير فهي الى حد ما على سحاب ميزانية السفارة ويكون لديه طباخ خاص وسائق وخادمة وبستاني بحديقة مترله وسكرتير خاص. أما الملابس فيفضل السفراء شراؤها من الخارج وقد خصص له لذلك مبالغ لا بأس بها، وفي داخل السفارة يعتبر مجرد إمتلاك عملة أجنبية كالدولار إمتيازا لا يقدر. كما أن الروبل يصرف للدبلوماسيين بسعر خاص فمقابل ثلاثماية روبل يحصل الموظف الدبلوماسي على مائة دولار والعكس صحيح مقابل المائة دولار يحصل على ثلاثماية روبل وأكثر. وعلى من يود الإلتحاق بالسلك الدبلوماسي خارج الإتحاد السوفياتي أن يلتحق بمدرسة الدبلوماسيين في موسكو وأن يجتاز إمتحاناها الصعبة ومدرسة الدبلوماسيين في مبيين يقع أحدهما في شارع كسلوفكسي على مقربة من ميدان ليرمونوتوف بينما يقع الآخر في شارع لابوتا شيفكسي في الجنوب الغربي من موسكو وينتسب الدارس إلى هذه المدرسة بعد حصوله على شهادة جامعية ويفضل المتخصصون بالعلوم السياسية أو اللغات ويتلقى الدارسون دروسا في كيفية التصرف كممثلين للحزب والدولة في الخارج. ويضم البرنامج الدراسي تاريخ العلاقات الدولية وتاريخ الدبلوماسية والاقتصاد والمال والقانون الدولي وبطبيعة الحال " العلوم الماركسية اللينينية" ولا يجري تدريب الدبلوماسيين على أي نوع من أنواع علوم التجسس على خلاف ما يروى في هذا الصدد.
ويقضي الدارسون في الدرجة المتوسطة عامين في مدرسة وزارة الخارجية هذه. أما الدبلوماسيون من ذوي الدرجة الرفيعة والذين يختارون من أعضاء الحزب العاملين فيقضون سنة إضافية. لاحتمال تعيينهم سفراء معتمدين للإتحاد السوفياتي بعد تخرجهم ولكي لا تنسى المبادئ الأساسية للدبلوماسية والديالكتيكية فإن السكرتير الأول والثاني ومستشار السفارة والقنصل يدعون لدورات تنشيطية مرة كل عامين أو أربعة أعوام. ومن أهم واجبات الدبلوماسي الإخلاص المطلق الخط الحزب والتمسك به دون محاولة تفسيره حسب المفهوم الشخصي كما فعل مستشار السفارة السوفياتية في بلغراد "سيمانوف" فقد سافر مع الملحق العسكري في السفارة إلى سلوفينيا للإشتراك في إحتفال سوفياني يوغسلافي مشترك وكان عليه أن يلقي كلمة في هذا الحفل قام السفير "روديونوف" بمراجعتها مسبقا حسب الأصول ولكن المستشار لم ينطق من الكلمة المكتوبة سوى "أيها الرفاق" ثم إنطلق يتحدث عن الإعجاب الشديد بالشعب اليوغوسلافي الشقيق وعن الزعيم الإشتراكي العظيم "تيتو" وقد خرج سيمونوف عن فحوى الكلمة المعدة له تماما ثم جرى تصفيق حاد له وتم شرب الأنخاب باسم الرفيق تيتو وفي طريق العودة أقدم الملحق العسكري على توبيخه على كل ما ذكره في الحفل وتطور الأمر بينهما الى عراك في السفارة حتى تدخل السفير رديونوف الذي يقدر سيمانوف شخصية لكن الملحق العسكري كان من العناصر السوفياتية الى "كي. جي. بي" في السفارة حيث لم يمض أسبوع حتى استدعي المستشار إلى موسكو ليقضي سنتين في المدرسة الدبلوماسية وهذه المدة لا تحسب له في القدم الوظيفي فيكون بذلك وكأنه قد خفضت رتبته ثم عين بعد ذلك سكرتيرة أول في السفارة السوفياتية في الجزائر. إذ لا يجوز لأحد مطلقا، يعارض السفارة السوفياتية خاصة إذا كان من الدبلوماسيين والأهم أن لا تكون المعارضة بعلم أو أمام عناصر المخابرات السوفياتية المتواجدة بكثرة في السفارات والقنصليات السوفياتية في الخارج. ومن المعلوم بتقدير الخبراء الغربيين أن نسبة 40% من أعضاء السفارة السوفياتية في باريس الذي يبلغ عددهم حوالي المائة هم من المخابرات السوفياتية. كما توجد هناك نسبة أقل من أعضاء المخابرات بين الثمانمائة مواطن سوفياني الذين يعيشون في فرنسا. وكنا قد ذكرنا أن السفير هو المسؤول الأول في السفارة إلا أن "رئيس فرع مخابرات السفارة " هو صاحب كلمة الفصل في السفارة فلا يحدث شيء إلا برضاه وموافقته لدرجة أن مستشار السفارة إذا أراد تناول الطعام مع شخص غير سوفياني وخارج السفارة يجب أن يعلم رئيس فرع المخابرات بذلك. لأن المستشار وغيره ملزومون بتسجيل أسمائهم لدى
حارس السفارة ولدى عودتم يقوم البواب بتبليغ ذلك لهم أيضا. وتقوم المخابرات بالإتصال بالمراكز الرئيسية في موسكو بوسائلها الخاصة. ولا يطلع السفير على ما يقوم أعضاء مخابرات السفارة المعتمدون بواسطته إلا نادرا وهو يحاول الإبتعاد عن طريقهم ولكن إذا
حدث ودعوه للمساعدة فإنه يكون ملزوما بتقديمها، ومن مهام رئيس فرع مخابرات السفارة معرفة كل شيء عن السفير وحياته الخاصة وعاداته وسلوكه وتصرفاته أثناء العمل وخارجه، ولا تستدل من هذا العرض إن حياة الدبلوماسيين السوفيات جد في جد .. أي عمل متواصل أبدا وهناك بعض الحفلات الراقصة تقام في شقق العزاب الذين يعيشون دون أسرهم ويوجد حفلات زواج تقام في مسرح أو سينما السفارة وذلك بين موظف في السفارة وموظفة أيضا فيها لأن هذا هو المخرج الطبيعي في الغالب من حياة العزوبية داخل السفارة. أما فيما يتعلق بالإتصالات بالأجانب وخاصة العاملين بالسفارات الأخرى فيتم ذلك بتوجس وريبة بالنسبة لموظفي السفارات الغربية، والأمريكيون هم "أعداء" دائما ولا يستطيع أحد أن يتصل بالأميركيين دون السفير أو بمعرفة زاطلاع المخابرات. ويجتمع سفراء الإتحاد السوفياتي في بلدان الكتلة الشرقية بصورة منتظمة ولكن الريبة ليست مستثناة بينهم فالسفير اليوغوسلافي لا يحضر معظم الإجتماعات كما لا يحضر السفير الروماني سوى بعض الإجتماعات والسفير الألباني لا يحضر مطلقا. ولا تقل العادات طرافة عن ذلك حتى في عواصم البلدان الإشتراكية كالعمل في السفارات السوفياتية في تلك البلدان غير مرغوب فيه لأن المرتبات فيها أقل من الغرب بمقدار "الثلث" ولذا فإن العمل في أوروبا الغربية كباريس ولندن وبون وجنيف هو حلم الدبلوماسيين السوفيات ونسانهم ولا يتذمر أحد من الدبلوماسيين من العمل في الجزائر وسوريا والمغرب ومورشيوس وأكثرهم لا يجدون رغبة في العمل في جنوب شرق آسيا. ومن المؤكد أن كل دبلوماسي سوفياتي أو ضابط مخابرات ذاق طعم الحياة خارج نطاق المجتمع السوفياتي يود الإستمرار في الحياة بالخارج خاصة في البلدان الرأسمالية. وعلى كل حال فالدبلوماسيون السوفيات ليسوا سوى بشر كغيرهم من الناس. وإن رغبة بعضهم في العمل الدبلوماسي لا تقل عن رغبة غيرهم من الدبلوماسيين الغربيين وغيرهم في العمل الدبلوماسي في هذه البلدان.
المرجع 1 - سعيد الجزائري "ملف الثمانينات عن حرب المخابرات". دار الجيل. بيروت. ودار دمشق 1989 ص 280_290.
مصادر و المراجع :
١- موسوعة الامن
والاستخبارات في العالم
المؤلف: د. صالح
زهر الدين
الناشر: المركز
الثقافي اللبناني للطباعة والنشر والتأليف والترجمة - بيروت
الطبعة: الاولى
تاريخ النشر:2002
م
1 أبريل 2024
تعليقات (0)