المنشورات
الاعلام الصهيوني في فرنسا وقضية السيد روك
المستنقع الأسن لا يفرز إلا الميكروبات والأوبئة؛ ومن تغلغل في دمه وشرايينه الهواء الفاسد وجميع ميكروبات جهات الدنيا الأربعة، لا يمكن أن بفرز هواء نظيفة تنفسه رئة البشرية في كل زمان ومكان. ذلك هو حال العرب - وشعوب العالم أجمع - مع الحركة الصهيونية، التي لا تتنفس إلا الإجرام والدم والعنصرية، في الوقت الذي يدعي فيه انصارها ومروجو دعاياتها وأساليبها بأنهم أكبر ضحايا البشرية على سطح الأرض.
وعندما كان صحيحا ذلك القول بأن كل وعاء بما فيه ينضح،، فليس هناك مجال للإستغراب بما تقدم عليه الحركة الصهيونية من أعمال وممارسات وخطط وسياسة، وخصوصا بعد أن جرعنا نحن العرب كاس المرارة. حتى الثمالة - من جراء نهجها و سياستها وأساليبها، وما زلنا حتى اليوم ناب من هذا الكاس - بإرادتنا أو رغما عنا. فتزيد مرارته دون أن ينقص، وكأننا نعمل على إبقائه مليئا دون أي نية لإفراغه
اضافة لكل ذلك، فقد علمتنا التجارب المريرة أن جميع الحصانات الدبلوماسية وغيرها لا وجود لها في قاموس الصهيونية، اذا كانت خارجة عن نطاق خدمة أهدافها ومراميها؛ ومهما علت مرتبة صاحب الحصانة، يجب أن يبقي - براي الصهيونية. مطية وأداة في يدها تحرکه کحجر الداما، أو الشطرنج»؛ وإلا الى القبر ...
والتاريخ حافل بمثل هذه المأثر؛ وليست جريمة اغتيال الكونت فولك برنادوت / الأمين العام للأمم المتحدة وجيمس فورستال وزير الدفاع الأميركي في حكومة الرئيس هاري ترومان / إلا أحد هذه النماذج التي تؤكد عنصرية الصهاينة، وكل ما تحمله نازية القرن العشرين وفاشيته من عنف وهمجية.
والجدير ذكره في هذه المسألة هو أن الحركة الصهيونية كانت. وما زالت. تعتبر فرنسا حلقة مركزية هامة في السلسلة التي تريدها طوقة لاعدائها في سبيل أهدافها الستراتيجية، رغم تركيزها أيضا على أميركا وبريطانيا ودول حلف شمال الأطلسي وصولا الى تمركزها وتمددها اليوم في القارة الأفريقية السوداء
وليس مستغربة على الإنسان، المطلع على سجل الصهيونية وتاريخها الدموي الإجرامي، أن يفاجأ بأي عمل من أعمالها، أو أي أسلوب من جملة اساليبها الدهائية الخبيثة، وما يستحق الاشارة اليه في هذا المجال، هو القضية التي شغلت فرنسا. ولا تزال - منذ شهر يوليو 1989، وهي القضية المعروفة باسم الضية روك.
فما هو سر هذه القضية؟ وما هي تفاصيلها وأبعادها؟.
كثيرا ما يعمد الصهاينة بين حين وآخر إلى إثارة قضايا معينة، وكأنهم يقصدون من وراء ذلك في كل مرة، اختبار قوتهم. وحجم نفوذهم بين الجمهور الفرنسي، ولقد شن الصهاينة حملة إعلامية على «كورت فالدهايم،/ الأمين العام السابق للأمم المتحدة ولمدة ثلاثة أشهر في الصحافة الفرنسية وعملوا على توجيهها وتحريكها بشكل يخدم أهدافهم في تأليب الرأي العام الفرنسي على مرشح الرئاسة النمساوية من جهة، ومن أجل إعادة التذكير بمذابح النازية لليهود «هولوكوست لاستدرار مزيد من العطف لصالح اليهود والكيان الصهيوني في فلسطين من جهة ثانية. مع أن هذه المذابح لم تكن سوى خرافة وليست حقيقة.
وبعد أن هدأت هذه الحملة على شخص کورت فالدهايم الذي نجح في الانتخابات النمساوية رغم أنف الصهاينة، أثيرت قضية جديدة في الصحافة الفرنسية تتعلق بموضوع اليهود والنازية والهولوكوست، عرفت بقضية اروك
حصل السيد وهنري روك في عام 1980 على شهادة الدكتوراه من جامعة / نانت / بموجب أطروحة ناقش فيها تقرير جرستين، المتعلق بوجود
غرف الغاز» التي زج فيها اليهود على يد النازيين إبان الحرب العالمية الثانية، والتي أودت بحياة ستة ملايين يهودي حسب الدعاية الصهيونية. وكما قال السيد اروك في صحيفة الوموند Le Monde الفرنسية بتاريخ 3 يونيو 1989، أن أطروحته ولا تنفي ولا نؤكد وجود مثل هذه الغرفه. وتنطرق أطروحته الى تقرير يعتبر حجر الأساس الذي يعتمد عليه الصهاينة لإثبات مقولتهم حول «غرف الغاز، النازية. ويصل السيد «روك إلى أن هذا التقرير ليس صالحة لإثبات أي شيء يحتوي على تناقضات كثيرة!!.
وهنا يكمن بيت القصيد. لقد ثار غضب المجموعات الصهيونية في فرنسا، التي اعتبرت أن دروكه قد من المحرمات الصهيونية. وبناء على ذلك فقد قام اللوبي اليهودي في فرنسا بإثارة هذه المسألة، مستنكرة ليس فقط محتوى الأطروحة، بل ومناقشتها في جامعة فرنسية ونيل درجة الدكتوراه عليها، وقام بعض أساتذة الجامعات الأوروبية وبتحريض من الصهاينة، بتشكيل لجنة مهمتها إعادة النظر في درجة الدكتوراه، والمطالبة بإظهار والحقيقة التاريخية، حسب الرواية الصهيونية، وللعمل على منع نشر أي أطروحة أو مقالة تتنافى مع والحقيقة الصهيونية
وفي مجال آخر قامت الجمعيات المؤيدة والمناصرة لليهود في فرنسا بتنظيم تحركات ومظاهرات نظمت إحداها في باريس بتاريخ 29 مايو احتجاجا على نشر هذه الأفكار التي تفند وندحض المزاعم الصهيونية
ولم يكتف اللوبي الصهيوني بهذا التحرك، بل اغتنم الفرصة لشن حملة إعلامية على الحزب اليميني المتطرف وطروحاته حول الحرب العالمية الثانية التي يقول فيها بأن النازية ما هي إلا نظام دكتاتوري مشابه لكل الدكتاتوريات في العالم. وهذا ما لا يعجب الصهاينة الذين بنوا قاعدتهم الفكرية على أساس أنهم ضحية لأكبر عملية إجرامية في التاريخ!!.
وبغض النظر عن محتوى أطروحة السيد وهنري روك، وصحة ما جاء فيها، فإن افتعال الضجة الصهيونية حول هذه الأطروحة يعتبر تدخلا سافرة في الحياة الفكرية والحياة الجامعية في فرنسا، البلد الذي يعتبره البعض واحة للديمقراطية الغربية.
فالصهاينة يحاولون منع أي بحث جدي، وحتى على مستوى أكاديمي، يناقش الحقائق التاريخية، التي بريد لها الصهاينة أن تصبح مسلمات ومحرمات يمنع التعرض لها. فما فرضه الصهاينة لا يمكن زحزحته طالما تسيطر النظرية الصهيونية والفكر الصهيوني على الأبحاث والفكر الغربي الخاص بقضاياهم. ومن هذه المسلمات هو ما فرضه الصهاينة حول تاريخ اليهود وخصوصا في أوروبا. وكلما حاول أحد الأوروبيين أن يخترق هذا الطوق الصهيوني، ترى الصهاينة يغضبون ويزمجرون، كما فعلوا منذ عدة سنوات عندما ناقش أستاذ في جامعة اليون، نفس هذا الموضوع، واسمه افوريسون.
آن استنفار اللوبي الصهيوني في فرنسا على كل أطروحة أو دراسة أو مقالة تتعارض مع الطروحات الصهيونية هو أسلوب قديم مارسه الصهاينة في كافة الدول الرأسمالية، من أجل إرهاب كل من تخول له نفسه أن يخرج عن الخط الصهيوني العام.
ولم يقتصر هذا الأسلوب الابتزازي على الدول الغربية فحسب، بل تعداه لكي يطال الدول الاشتراكية. وأصبح معروفة بأن الصهاينة يمارسون ضغطا كبيرا على الاتحاد السوفياتي من أجل السماح لليهود السوفيات بالهجرة الى فلسطين المحتلة.
أما على الصعيد الفرنسي، فإن الضغط الصهيوني يشكل خطرا على البحث العلمي ويعتبر تدخلا مشينا في الحياة الأكاديمية لمنع إبراز الحقائق التاريخية حول الإدعاءات الصهيونية فيما يخص يهود أوروبا والقضية الفلسطينية. ومن جهة أخرى فإن المطالبة الصهيونية بإعادة النظر في منح شهادة الدكتوراه لباحث فرنسي، يشكل سابقة خطيرة في الجامعات الفرنسية. وإذا ما نجح الصهاينة في ضغوطاتهم، فإن هذا يشكل خطرا كبيرا على الحرية الأكاديمية وحرية الرأي في جامعات فرنسا، وهذا يعني أنهم سيمنعون حتى التطرق الى القضية الفلسطينية أو الظروف التي أدت الى قيام الكيان الصهيوني على حساب الشعب الفلسطيني ..
ويبقى سؤال كبير يرتسم في مخيلة الكثيرين: فهل سيتمكن واللوبي الصهيوني، في فرنسا من السيطرة كلية على الجامعات كما سيطر على وسائل الإعلام المختلفة؟ أن هذا يتوقف على يقظة الأحزاب الفرنسية والعاملين في الجامعات الذين يرفضون أسلوب الابتزاز الصهيوني.
ولكن! ماذا كانت نتيجة الضجة الصهيونية ضد السيد وهنري روك؟.
فبناء على الضغوطات الصهيونية، وخوفا من أن يوصم الوزير الفرنسي بمعاداة اليهود واللا سامية، فقد قرر الوزير المفوض بشؤون التعليم والأبحاث في 2 يوليو إلغاء مرافعة السيد وهنري روك، وبالتالي حرمانه ان درجة الدكتوراه التي دافع عنها في 10 بونير 1980. كما قرر الوزير تعليق وظيفة الاستاذ «جان کلود لاريفيير J
k . La Riviere ، وإيقاف انتدابه من جامعة نانت لأنه هو الذي أشرف على المرافعة وقبل موضوع الأطروحة.
وبناء على هذا القرار، يحرم السيد وهنري روك أن يحمل لقب دکتور، كما يمنعه من نشر أطروحته على الملا. أما فيما يخص الأستاذ الاريفيير Riviere ها، فإنه سيخضع الى جلسة تأديبية أمام مجلس الكلية.
ومن جهة أخرى فقد أصدر الوزير أوامره بإجراء تشديدات على مواضيع الدكتوراه وذلك للحفاظ على سمعة الجامعات الفرنسية. أي لمنع اختراقات اگهذه في المستقبل.
ومن خلال ذلك نستطيع أن نرى أن الصهاينة نجحوا أخيرة في إثارة موضوع هذه الأطروحة التي تنفي بشكل غير مباشر وجود غرف الغازه النازية. كما نجحوا في إلغائها وحرمان صاحبها من اللقب. وهنا نلاحظ أن قضية بروك تعطي دليلا جديدة على النفوذ الصهيوني في فرنسا. كما نلاحظ بأن قضية اليهود لا تزال تشكل حساسية خاصة لدى المسؤولين الأوروبيين الذين ينحاشون الاقتراب من المسائل التي تغضب اليهود، خوفا من أن يتعرضوا للحملات الإعلامية الصهيونية التي قد تفقدهم مواقعهم.
وقد كانت الحملة على الدكتور كورت فالدهايم خير مثال على هذه الحملات الإعلامية الشرسة ضد من يخاصم اليهود أو يغضبهم، ولكنها فشلت ضد فالدهايم، ونجحت في فرنسا.
واذا كان الاستاذ «هنري روك، قد خسر لقب دكتورا بعد بحث وتنقيب في مئات الوثائق والمراجع والمصادر العلمية، وبعد جهد كبير ووقت نوبل امضاه في إعداد أطروحته، فإنه جدير في المقابل أن يحمل لقب «ناضل ضد الصهيونية والعنصرية، ولقب دكتوره أيضأ رغم أنف الصهيونية وأذنابها في فرنسا وغيرها، شرط أن لا يخاف المواجهة، وأن لا ينسحب من ساح الصراع معها ومع أنصارها، لأن قضية الحق تستحق مثل هذه الوقفة الشجاعة والجريئة، ومن يخاف الدفاع عن قضية الحق، فعن أية قضية يتجرأ الدفاع
وليتذكر اهنري روك، وأمثاله أن الكثيرين من أصحاب الألقاب الكبيرة الذين تعربشوا إليها فوق الجثث، وعبر بحر من الجرائم والدم، ذهبت معهم الى قبورهم، وتلازم اسماءهم في كل لحظة تتلفظ فيها الشفاه، إلا أن مصيرهم لا يجهله حتى الأطفال الذين ما زالوا على الأرض يحبون.
وهل هناك أكبر من لقب رالفوهررا ووالدوتشي، والامبراطور، والشاه في قاموس القرن العشرين؟.
وكم في هذا الكون من أشخاص فقدوا حقهم في حياتهم، إلا أن قضية الحق تبقى أكبر من الأشخاص في كل زمان ومكان ... كما يبقى لرموز هذه القضايا قيمتهم واهميتهم على مدى التاريخ.
اوالحق يعلو ولا يعلى عليه
المراجع
ا- مجلة فلسطين الثورة، (لسان حال حركة التحرير الوطني الفلسطيني افتح - المجلس الثوري). العدد 201. بتاريخ 1989
/ 7 /
10. ص 42 - 43. 2 - جريدة الوموند Monde على الفرنسية. بتاريخ 1989
/ 9 /
3 وه /1989/ 9 و 1989
/ 7/ 9.
مصادر و المراجع :
١- موسوعة الامن
والاستخبارات في العالم
المؤلف: د. صالح
زهر الدين
الناشر: المركز
الثقافي اللبناني للطباعة والنشر والتأليف والترجمة - بيروت
الطبعة: الاولى
تاريخ النشر:2002
م
1 أبريل 2024
تعليقات (0)