المنشورات
الاستخبارات البريطانية
في كتابه حول والاستخبارات البريطانية وعملياتها السرية، يذكر جوناثان بلوش قائلا بأن لهذا الاستخبارات دورة عريقة وقديمة، بل ربما كان الأعرق بين أجهزة الاستخبارات الإمبريالية والاستعمارية الأخرى كافة. وإن كان هذا الدور قد تراجع في السنوات الأخيرة، بعد أن تعملق دور الاستخبارات الأميركية، وتضخم حجم عملياتها المستورة إلى حدود شبه خيالية، وأصبحت عمليات الاستخبارات البريطانية، في حالات كثيرة، جزءا من عمليات الاستخبارات الأميركية، أو تابعا لها؛ مع أن الاستخبارات البريطانية هي التي رعت ولادة وترعرع الاستخبارات الأميركية في مرحلة ما بعد الحرب العالمية الثانية مباشرة.
على ضوء ذلك، تؤكد معظم المصادر، أن أقدم وأعرق استخبارات في العالم الحديث منذ النهضة، هي الاستخبارات البريطانية. حيث تأسست عام 1073 على يد والسر فرنسيس والشينغهام، وزير الدولة والمستشار لدى الملكة اليزابيث الأولى.
والواقع أن أول وأهم عمل قامت به استخبارات فرنسيس والشينغهام في تلك الأيام الغابرة، كان التجسس على ماري ستيوارت ومصادرة الرسائل السرية الواردة اليها في براميل البيرة. وبفضل المعلومات القيمة، قتلت اليزابيث عدوتها ماري ستيوارت، ومددت رجليها على العرش.
نظر والشينغهام الى مهمته بجدية بالغة منذ البداية. فراح يوظف اذکي المتخرجين من طلاب أكسفورد وكامبريدج ويرسلهم الى الخارج للتغلغل في قصور أعداء التاج البريطاني. وفي العام نفسه، كان والشينغهام يقدم الى ملكته تقريرا مفصلا جدا عن الأسطول الاسباني الذي كان يرهب بريطانيا والعالم في تلك الأزمان. وبالنتيجة طار الاسطول الاسباني من الوجود.
بعد انقضاء ستة وعشرين سنة على ذلك، كان خليفة والشينغهام، جون تورلو، يقوم باستخبارات حسنة التمويل والنتيجة كوزير للدولة لدى أوليفر کرومويل، وبالشكل الذي أحبط مؤامرات كثيرة من تدبير تشارلز ستيوارت. وحتى هذه الأيام، تبدو المخابرات البريطانية شديدة التعلق بتقاليد الماضي، ولو أنها تعمل في عمر الذرة والالكترون. أما الوضع الحالي لهذه الاستخبارات، فهو من انتاج العصر المتقدم، حيث تقسم أجهزتها في بريطانيا إلى أربعة أقسام على الشكل التالي:
أولا: جهاز (ام. أي - 1)، يتبع لوزارة الخارجية مباشرة، وتنحصر مهمته في الخارج.
ثانيا: جهاز الأمن (ام. أي. 5)، يتبع لوزارة الداخلية، ويقوم بمهمة مكافحة الاستخبارات في الداخل
ثالثا: المديرية العامة للإستخبارات أو رمديرية جهاز الاستخبارات،، وتتبع لوزارة الدفاع.
رابعا: الجهاز المتعارف عليه باسم اسكوتلنديارد، متخصص في الشؤون الداخلية ذات الطابع الاقتصادي والجزائي العام. ولها علاقة بالجهازين الأولين. حيث تأسست عام 1886 للعمل على تحطيم النشاط الجمهوري الإيرلندي في قلب بريطانيا، وتطورت منذ ذلك الحين لتصبح الإدارة الدقيقة والفاعلة في مقاومة الحركات السرية المشبوهة، بالإضافة إلى کشف الجرائم والجنح. أما بالنسبة للجهازين الاستخباريين (ام. آي - 1) وأم. أي. 5)، فقد تشكلا حوالي سنة 1910، أي قبل اندلاع الحرب العالمية الأولى بأربع سنوات.
آنذاك، أي في عام 1910، تأسس (ام. أي - 6) برئاسة السر مانسفيلد كامينغ»، وتلقت الأموال اللازمة لها لتسلم مسؤولية كل أعمال التجسس خارج نطاق الامبراطورية البريطانية، وهو أمر لا تزال تقوم به المؤسسة حتى اليوم. وقد كان كامينغ في شبابه ضابطا خدم في البحرية، واشترك في حملات قامت بها بريطانيا في مصر والملايو.
أما جهاز الأمن (أم. آي - 5)، فقد تأسس في الظرف نفسه بقيادة والسر فيرنون کيل»، وهو ضابط أشترك في قتال الصين أثناء ثورة البوکسر سنة 1900. هذا الجهاز تأسس بتمويل من وزارة الحربية، كما كان مسؤولا عن مكافحة التجسس ضمن بريطانيا والامبراطورية. وهذه المهمة لا تزال قائمة حتى الآن، رغم تقلص الامبراطورية.
بدا فيرنون کيل، العمل وحده؛ لكن تطور الأمور، والقبض على الجواسيس الالمان، اوصل عدد المساعدين عند نهاية الحرب العالمية الأولى الي 800 شخص. وقد بقي رکيل، في منصبه حتى العام 1940. وعندما استقال، كان عدد أفراد مؤسسته قد بلغ حوالي السبعة آلاف.
وفي صيف 1940، أنشئت وإدارة العمليات الخاصة كهيئة مستقلة عن الاستخبارات وجهاز الأمن، بناء على أمر شخصي من ونستون تشرشل الى وزير الاقتصاد الحربي هيو دالتون، والذي جاء فيه بالمختصر وإجعل أوروبا طعمة للناره
هذا، وقد كان الإدارة العمليات الخاصة أسماء مستعارة كثيرة للتمويه على مكان مقرها الرئيسي في شارع بيکر، منها مكتب الأبحاث،، ورد المجلس المشترك للشؤون التقنية. ووراء هذه الإدارة كان هنالك عقل رئيسي بديرها هو السر کولين غايينزا، وهو ضابط في الجيش. لكن هذه الإدارة أنهيت أعمالها والغيت من الوجود بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية. وقد بقيت محفوظاتها مغلقا عليها في مكان سري. إلا أن ماكميلان، بعد ما أصبح رئيسا للحكومة، فقد سمح بإصدار كتاب عنها أثار عاصفة من النقمة والاعتراض في كل من بريطانيا وفرنسا، لأن المواضيع التي عالجها هذا
الكتاب، أظهرت مدى الإشراف البريطاني على حركة المقاومة الفرنسية ضد الاحتلال.
يبدو من خلال ذلك، أن أجهزة الاستخبارات البريطانية لا تخضع دومة السلطة الحكومة، بل كثيرا ما تخضع الحكومة لسلطتها.
والحقيقة أن الاستخبارات البريطانية قامت بكثير من عمليات الارهاب والفحش والقذارة الصرفة. على حد قول بلوش - وهي العمليات التي تمت الحماية مصالحها المفترضة، ذات الطابع الاقتصادي في الغالب، عندما بدات الامبراطورية الاسطورية بالسعال والحشرجة قبل أن تهوي في القبر.
وقد وصل الأمر بهذه المخابرات، إلى أنه لم يكد يمر يوم واحد عليها منذ الحرب العالمية الثانية، دون أن يكون للروس (السوفيات) موظفون في هذه الإدارات البريطانية، يفيدونهم عن عمليات هذه الإدارات التي يفترض بها أن تكون سرية للغاية، بل الأكثر خضوعا للحراسة عن قرب ..
وبالرغم من سريتها والزائدة عن اللزوم،، فقد تعرضت الاستخبارات البريطانية لعمليات اختراق، قلما تعرض لها جهاز استخباري آخر في التاريخ، خاصة بعد أن تمكنت المخابرات السوفياتية من تجنيد مدير المخابرات البريطانية بالذات - روجر هوليس - للعمل في خدمتها، على رأس فريق مكافحة الجاسوسية السوفياتية، كان رؤساؤه بأجمعهم من عملاء السوفيات، مما وجه ضربة قاسية جدا لهذه المؤسسة البريطانية التي بالغت في الثقة بنفسها حدا كبيرا، ولم تعد بالتالي موضع ثقة من قبل حليفاتها الغربيات، خاصة الأميركية منها (وهذا ما سنراه بالتفصيل في الفصول اللاحقة).
ولكن رغم ذلك، يبقى للمخابرات البريطانية دورها وأهميتها ونجاحاتها الكثيرة، التي يصعب على أي إنسان نكرانها أو تجاهلها، مهما بلغت درجة عدائه لها.
المراجع
1. جوناثان بلوش وباتريك ثيتز جيرالد والاستخبارات البريطانية وعملياتها
السرية. ترجمة عفيف الرزاز. مؤسسة الأبحاث العربية. بيروت.
الطبعة الأولى 1987. ص 9 - 14. 2? حافظ ابراهيم خيرالله والاستخبارات البريطانية، (ملف رقم 3 من عالم الاستخبارات). أيار/ مايو 1971 بيروت. ص 7 - 13 و 18. 3- نزار عمار والاستخبارات الاسرائيلية المؤسسة العربية للدراسات
والنشر، بيروت. ص 244.
مصادر و المراجع :
١- موسوعة الامن
والاستخبارات في العالم
المؤلف: د. صالح
زهر الدين
الناشر: المركز
الثقافي اللبناني للطباعة والنشر والتأليف والترجمة - بيروت
الطبعة: الاولى
تاريخ النشر:2002
م
1 أبريل 2024
تعليقات (0)