المنشورات

جاسوس " البلوطة الملكية " البريطانية.

تمثل عملية تدمير البارجة البريطانية المعروفة ب " البلوطة الملكية " حدثا هاما في تاريخ الجاسوسية والجاسوسية المضادة. كما تمثل في الوقت نفسه درسا لكل " مزاولي المهنة " في هذا الفن بما تحمله من عبر يجب الإستفادة منها في الوقت المناسب والمكان المناسب، إذ ليس بمقدور كل إنسان أن يتحمل ما تحمله الضابط الألماني " ألفريد ويهرينغ" (المعروف ب" ألبرت أورتيل") من صبر وجلد ومثابرة في عمله التجسسي لتحقيق النجاح في تلك العملية المكلف بتنفيذها. فما هو سر هذه العملية؟. وكيف تم تنفيذها؟ وما ترتب عليها من نتائج؟.
أدار الأميرال (کارل دو نيتز) قائد أسطول الغواصات الألمانية في بداية الحرب العالمية الثانية، ظهره إلى الخارطة المعلقة على الجدار والتي كان يقوم بدراستها، ليركز نظراته الباردة الحادة على الكابتن، الشاب قائد إحدى الغواصات الذي كان يقف الى جواره وقفة عسكرية بالإستعداد التام وكان ذلك في صباح يوم من أيام الآحاد في شهر تشرين الأول من عام 1939، ولم يكن قد مضى على بدء الحرب سوى شهر واحد، وهتف (دونيتز) أن العامل الأول للنجاح في تنفيذ المهمة هو الإستفادة من الذهول الناجم عن الهجوم المفاجئ الذي يمكن القيام به من أحد المداخل السبعة لميناء (أسكابافلو) ولقد قرر قائد إحدى الغواصات المرور من أحدها على الرغم من التيار السريع والمتبدل باستمرار، بينما كانت شفتاه تفتران عن إبتسامة خفيفة.
تعتقد البحرية البريطانية بأن هذه الناقلات الثلاث والتي تطفو هنا في مداخل ميناء (كيرك) الضيقة تؤمن حماية كاملة للبوارج الكبيرة الراسية في الميناء، هذا ما قاله الأميرال وهو يشير إلى نقطة على الخارطة، بينما كان الكابتين قائد الغواصة والذي كان يسمى برغانتر برين) يوافق على أقواله بايماءة من رأسه، ولقد كان هذا الكابتين قد نضج وأصبحت له نفس عقلية قائده ونفس أسلوبه وردد لنفسه وهو في نشوة: سيكون نصرة جريئة لو حالفه النجاح وسيحصل إذا ما تمكن من إحراز هذا النصر على أرفع وسام مع قاي الفوهور الخاصة. واستمر (دونيتز) في حديثه: إن الإمكانيات متوفرة للنجاح في تنفيذ هذا الواجب، وأعتقد بأنك الرجل الملائم للقيام به ثم اقترب من مكتبه وأخذ من فوقة مجموعة من المخططات والرسوم البحرية والخرائط المتضمنة للمعلومات الدقيقة والكاملة عن وسائل الدفاع المتبقية لتأمين حماية القاعدة البحرية الإنكليزية (إسكابافلو) حيث كانت ترسو فيها البارجة (البلوطة الملكية). كما كان يبدو على هذه الخرائط بوضوح المواضيع الإستراتيجية للناقلات الثلاث التي كانت عائمة عند المداخل والتي كانت ترتبط مع بعضها البعض بحبال معدنية | قوية، وتابع حديثه: أحمل معك كافة المعلومات وهذه الوثائق، رقم بدراستها بانتباه فالمعلومات التي تحملها مؤكدة تماما، وقد قام بتزويدنا | بما أحد عملائنا وأمهرهم، ثم عليك تحليل كل ذلك وإعلامي عن رأيك يا (كابتين بر اين). كما يجب أن تعرف بأن لك الحرية التامة في اتخاذ قرارك، فإذا كان من رأيك عدم القيام بهذه العملية لتعذر تنفيذها
فنحن لا نريدها، ولكن إذا وافقت فمعك مهلة زمنية حتى يوم الثلاثاء التعطي إجابتك، وهذا أهي الأميرال حديثه بعد فترة من الصمت.
وعكف، الكابتين (بر اين) على دراسة الرسوم والخرائط خلال اليومين التاليين لهذه المقابلة، وكان إهماكه في هذه الدراسة يشبه إستغراق العالم في تجربة دقيقة. وكان كلما ازداد تفكيرة بالمشروع
كلما ازداد حماسة لتنفيذه. وعندما أقبل موعد تقديم التقرير إلى الأميرال (دونيتز) في يوم الثلاثاء أظهر له رغبة قوية للقيام بتنفيذ هذه المهمة. تدمير " البلوطة الملكية " البريطانية:
تحتل عملية تدمير (البلوطة الملكية) بواسطة الطوربيدات، والتي ذهب ضحيتها 833 رجلا في الساعات الأولى من يوم 14 تشرين الأول 1939، مكانتها بين أجرة عمليات الحرب، ولم تكن الجرأة تقتصر على التنفيذ بقدر ما تتعداها لتشمل الوسائل والإمكانيات التي بذها الأميرال (درنيتز) والقيادة البحرية الألمانية للحصول على أسرار (إسكابافلو) من مخططات وخرائط تم إعدادها بعناية مما ساعد الغواصة (ي 47) للتسلل الى ميناء (كيرك) وتقذف بطوربيداها الى مجنبة البارجة ذات ال 29000 طن (التسعة والعشرين ألف طن) وهناك بعض وجهات النظر التي تسلط الضوء على العمل التحضيري للعملية فتحجب النور عن أهمية العملية ذاتها، فترى بأن العبقرية وحدها، للجاسوس الصبور، الذي قضى سنوات طويلة بالتقاط المشاهد والملاحظات وتسجيلها وبذلك هيأ فرص النجاح الملائمة التنفيذ العملية. ولنعد الى الوراء:
في يوم من أيام عام 1927 وقبل أن يبدأ هتلر محاولته للسيطرة على العالم بإثني عشر عاما، تقدم بهدوء رجل قصير القامة إلى رجال الجمارك البريطانية وهو يضع على عينيه نظارات غليظة وكان ذلك الرجل، قادما من سويسرا يحمل إسم (البرت أورتيل) وقد صرح الضباط الهجرة بأن عمله هو صناعة الساعات، وأنه قدم إلى المملكة المتحدة ليزاول مهنته فيها، وقد أدلى تصريحه وهو يبتسم إبتسامة
بريئة 
- هناك عدد كبير من صانعي الساعات في سويسرا، ولقد قيل لي بأنني أكفأ محترف سأجد مكانا ملائما لي هنا في إنكلترا. وأنني أرغب في أن أجد عملا إذا كان ذلك ممكنا في جزيرتكم الساحرة التي تشبه في جبالها وبحيراتقا ما يذكرني بوطني الأصلي سويسرا.
في الواقع، لم تكن سويسرا موطن هذا الساعاني، على الرغم مما كان إسمه مكتوبة على جواز سفره كما أن إسمه الحقيقي لم يكن (ألبرت أورتيل) إنما كان إسمه في الواقع (ألفريد ويهرينغ) وهو ضابط قديم من ضباط البحرية الألمانية، في زمن القياصرة وأثناء الحرب العالمية الأولى.
وعندما تم توقيع معاهدة الصلح في عام 1918 لم يكن لدى المانيا ماتتمكن من تقديمه إلى ضباطها القدامى، فقضى (ويهرينغ) الأربع سنوات التي تلت ذلك دون أي عمل. وبعد ذلك، وفي عام 1923 عندما أنيط الى الأميرال (كاناري) أمر إعادة تنظيم أجهزة الجاسوسية الألمانية، تذكر ذلك الضابط الشاب في البحرية والذي كان يحمل له تقديرة كبيرة، وقدم له مرکزة في منظمته. وقد كان هذا النوع من العمل جديدة على (ويهرينغ) ولكنه كان سعيدا بأن يعاود نشاطه وعمله
أصبح (ويهرينغ) بموجب أوامر (كاناري) الوكيل المعتمد الأحدى شركات الساعات الألمانية، ولقد قادته هذه المهنة الجديدة الى أسفار متعددة في أكثر بلدان أوروبا حيث كان يقوم بجمع كافة المعلومات الممكنة عن المنشآت البحرية الحديثة أو التي هي قيد الإنشاء، وبعد ثلاثة أعوام (من الخبرة) أرسل إلى سويسرا لإتقان مهنته کساعاي وهذا ما سيؤهله للحصول على واجهة رائعة يختفي خلفها ويخفي معه نشاطه كما سيسمح له بذلك أيضا، أن يطيل مدة اقامته في إحدى البلدان إذا ما لزم الأمر، لمزاولة مهنته الفنية.
ولقد حملت المعلومات السويسرية ثمارها بسرعة، وعندما أصبح ويهرينغ) مستعدة لحمل أعباء مهمة جديدة على جانب من الأهمية بعد أن تم تزويده بجواز سفر سويسري كان قد أعده له الأميرال
كاناري تحت إسم (ألبرت أورتيل) ووصل (ويهرينغ) إلى بريطانيا العظمي، حيث إستأجر في (کير کويل) وهي إحدى المدن الجميلة والصغيرة مسكنا له و كانت هذه المدينة لا تبعد كثيرا عن (سکابافلو).
عمل (أورتيل) في البداية كصانع مجوهرات في أحد المحال ثم تمكن من اكتساب الزبائن لإصلاح الساعات وساعات الحائط بعد أن كان أهالي المدينة يرسلونه إلى (ليث) وكانت حجته أن أهالي (کير کويل) بحاجة إلى مصلح للساعات، ولما كان عمله متقنة فلقد تمكن من إكتساب شهرة واسعة في مدة قصيرة، ولم تمض عليه فترة طويلة
حتى تمكن من إفتتاح مخزن لحسابه الخاص في أحد الشوارع الفرعية ذات الطابع الشمالي في (کير کويل).
ولم يكن هذا المخزن في الواقع أكثر من دكان صغير يشبه إلى حد كبير دكاكين بيع التحف والآثار القديمة، وكان (ويهرينغ) ألبرت أورتيل، يبيع من هذه الجواهر الجميله مع بعض التحف الجميلة التي تصلح كتذكار بالإضافة لمزاولته لمهنته في عمل الساعات.
القي (أورتيل) في الوسط الجديد الذي بدأ يعيش فيه كل التشجيع وذلك لما كان يتمتع به من التهذيب والرقة والنبل الظاهر في معاملته الزبائنه. ولم تمض فترة طويلة حتى وجد في عدد من زبائنه أصدقاء شخصيين له يقومون بدعوته إلى منازلهم، كما أن الحياة في مدينة ساحلية تعتبر جميلة وبقي أمره كذلك حتى عام 1932 عندما أكمل دورة في إكتساب الجنسية البريطانية.
ولعل سكان (کير کويل) لو عرفوا بأن هذا الساعاني لم يكن في السابق إلا ضابط من قدامي ضباط الإستخبارات الألمانية في زمن قصير، لكانوا أكثر تحفظا في إظهار عواطفهم تجاهه، ولكنهم كانوا يجهلون الكثير عنه وكان من بين ما يجهلونه عنه أن أية معلومات يتفوهون بها أثناء حديثهم تأخذ مكافا في دفتر مذكراته الصغيرة وكان من بين زبائنه ضباط في البحرية البريطانية وعدد من العاملين في القيادة البحرية، يأتون الى دكانه لشراء الهدايا أو لإصلاح ساعاقم.
ثم يصار الى تسجيل هذه المعلومات وتثبيتها ثم إخفائها بعد ذلك في أحد الدواليب الموجودة في غرفته الواقعة فوق دكانه.
كما كانوا يجهلون أيضا، بأن هذا الدولاب يحتوي على جهاز لاسلكي للإرسال على الموجات القصيرة قد أتقن إخفاؤه وقويهه بمظهر بريء على شكل جهاز قديم من أجهزة الراديو، هذا بالإضافة للجولات الليلية القصيرة التي كان يقوم بها الساعات في بعض الأمسيات و كان (أورتيل) بعد أن يقوم بإقفال دكانه، يجلس ليكشف الستار عن جهازه ويعمل على إحكامه على تردد معين حيث تتم إتصالات التعارف والتأكد وبعد ذلك إرسال المعلومات الهامة التي أمكنه الحصول عليها بشكل رمزي ليستقبلها الملحق البحري الألماني في هولندا الكابتن (فون بيلو) أما الرسائل التي كانت تصله من سويسرا والتي كانت بريئة في مظهرها فقد كانت تحمل تعليمات الأميرال (كاناري) وتوجيهاته ببعض الإجراءات التي يعدها له رجال المخابرات السرية النازية.
حرص (أورتيل) دائما بألا يثير أية شبهات من حوله سواء كان ذلك في أحاديثه أو في تصرفاته حتى أن جلسته للبحر والمراكب الكبيرة التي تدخل إلى ميناء (سکابافلو) وتخرج منه، لم تكن غريبة على أحد من المواطنين بل كانت تبدو وكأنها شيء عادي، وكان من يعرفه يبتسم له ويتبادل معه كلمات المجاملة الودية عندما يصادفه وهو يتتره على طول رصيف الميناء أو هو ينظر إلى الأفق البعيد من خلال منظاره المكبر، لقد كانت الحياة في (کير کويل) بسيطة جدا كما هي حياة الريف دائما ولذا فليس من المستغرب بألا يتساءل المواطنون إطلاقا عن نشاط ذلك الرجل الذي كان يبدو وكأنه واحد منهم.
وفجأة، وفي صباح يوم من أيام الأحد التي لا تنسى، وعندما كانت كافة نواقيس بريطانيا العظمى، تقرع معلنة قيام الحرب، كان ساعي البريد يحمل الى (أورتيل) رسالة واردة من سويسرا، وقد أعلم الساعات أولئك المواطنين الذين كانوا قد وجهوا اليه الدعوة في ذلك اليوم لتناول طعام الغداء معهم بأن والده أرسل له رسالة وصلته اليوم ليعلمه فيها بمرض والدته التي تبلغ من العمر ثمانين عاما وأها في حالة خطر كما وأها راغبة في رؤية ولدها الوحيد.
بعد ذلك بيومين فقط. كان (أورتيل) يستقبل باخرة تقلع من (ليث) في إتجاه (روتردام) حاملا معه تحت بطانة معطفه الخفيف وسترته كافة الرسوم من مخططات وخرائط بعد أن قام برسمها بدقة كبيرة في الأمسية السابقة في غرفته وعمل على تمويهها وإخفائها بشكل جيد.
كانت الرسالة التي تلقاها (أورتيل) في الواقع رسالة رمزية من الأميرال (كاناري) يطلب فيها إيداع كافة الوثائق الى (فون بيلو) رئيس الجاسوسية النازي الذي كان يعرف بأن عمله في الجزيرة البريطانية قد انتهى من وضع مخططاته، وبأن وصول هذه الرسالة في ذات اليوم الذي أعلنت فيه إنكلترا الحرب على ألمانيا ليس إلا مصادفة غريبة إذ كان من الممكن أن تصل الرسالة قبل أو بعد هذا اليوم، وعندما وصل (أورتيل) الى (روتردام إتجه رأسا على فندق (التجارة) حيث طلب مقابلة (اهر فريتز بيرلر) ولقد كان الإصطلاح الرمزي هذا الأخير هو "ه 432 " وكان يزاول عمله كرئيس المنظمة الجاسوسية السرية للنازيين في (هولندا) ولقد إستقبل (بيرکر) زائره باحترام كبير، واصطحبه بسيارة إلى (لاهاي) حيث كان المقر الخاص (للبارون تون بيلو) وتصفح الملحق البحري الألماني بسرعة الوثائق التي أخرجها (أورتيل) من مخبئها، وهتف بنبرة كلها إعجاب (كابتن ألفريد ويهرينغ) إنني أهنئك وأن هذه المخططات ذات قيمة لا تقدر بثمن، لقد أكملت عملا رائعا، وسأعمل لإيصال هذه الوثائق ونقلها إلى الأميرال (كاناري) بأسرع ما يمكن (عاش هتلر). وأجاب أورتيل) بدوره على التحية النازية فإنه لم يكن في اللحظة ذلك الساعات القصير المتحفظ والذي كان يعرفه سکان (کير کويل) ذلك أن إبتسامته الوديعة كانت قد إختفت مع إختفاء إحديداب ظهره قليلا فأصبح منتصب القامة، ذو قسمات وجه قاسية، وقامة مشدودة
کالوتد، ولم يبق من هيئته القديمة سوى نظاراته ذات الحامل الذهبي التلمع عيناه من خلفها ببريق حاد.
ووصلت الوثائق ذات الأهمية الكبرى الى المكان الذي ينتظرها ويمكن للخيال أن يتصور بأن مهمة (أورتيل) قد انتهت عند هذا الحد، وأن هذا الأخير سيذهب ليتوارى عن المسرح، ولكن السلطات النازية أذكى وأخبث من أن تترك الخوف يحجب تألقه، فقد كان من الخطر تغيبه في هذه الفترة لأن ذلك قد يكون سببا لإثارة الشكوك التي قد تؤدي الى قلب كافة المخططات، كما كان أمام (أورتيل) الكثير من العمل للقيام به، وذلك لاستكمال المعلومات حتى الدقيقة الأخيرة التي تسبق البدء في وضع الخطة موضع التنفيذ.
بعد ذلك بأقل من أسبوع عادت الملابس السوداء، والهيئة الحزينة التأخذ طابعها على الساعات المزيف، الذي عاد الى مقر فتوحاته، ولقد بدي التأثير على أصدقائه عندما أعلن لهم بأنه وصل بعد ساعتين فقط من وفاة والدته.
لاحظ المارة في اليوم التالي أن العلم الإنكليزي خفاقا فوق دكان الساعات الصغيرة ولقد قال لزبائنه باعتزاز: - إنني بريطاني، وعلي أن أظهر ولائي تجاه أصدقائنا الحلفاء.
عكف (أورتيل) مباشرة على إكتشاف آخر الأسرار المتعلقة بالدفاع عن (سكابافلو) وكذلك البواخر التي تستخدمها هذه القاعدة البحرية الهامة، فلقد كان يعرف، بأن البريطانيين، قد أعادوا تقدير موقفهم منذ البداية لإعلان الحرب فأدركوا بان الأفخاخ المعقدة والشبكات المعدنية المضادة للغواصات والتي كانت تقوم على حراسة مداخل الميناء قد ضعفت بتأثير الصدأ والرطوبة وأنها لم تعد تأمن الحيطة الكافية، ولقد وافقت السلطات العليا على إعادة إصلاح وسائل الدفاع هذه، وكان على (أورتيل) إذا أن يكشف هذه الإصلاحات وإذا كان قد تم إحكام إغلاق مداخل الميناء السبعة، ولم يكن ليلزمه وقت طويل لكي يستخلص المعلومات التي كان يرغب بالحصول عليها، ولقد تأكد من أن مدخل أحد محاور الميناء الشرقية لا يزال مفتوحا. ولم يتم إغلاقه بواسطة الحبال للغواصات، كما أن الحاملات الثلاث قد وضعت جانبا وإذا فلا شيء يعيق غواصة من إجتياز القناة الضيقة والعميقة الى حد ما.
بعد ظهر احد أيام تشرين الأول، وبعد أن تمكن (أورتيل) من جمع بعض المعلومات الهامة، أغلق دكانه قبل الموعد المعتاد بقليل، وصعد السلم أربعة أربع ثم قفز الى غرفته حيث فتح دولابه الذي كان يختبئ فيه جهاز الإرسال. فلقد أقبلت اللحظة الكبرى، وقاربت سنواته الطويلة في التعلم، وجمع المعلومات بصبر من نهايتها، وأذنت عقارب ساعة المصير من إرسال ضرباها.
وأذاع (أورتيل) نداء التعارف، وانتظر بفارغ الصبر الإجابه، ثم أرسل برقيته الرمزية، التي يعلم فيها سلطات النازي بأن الدفاع عن الميناء (سكابافلو) لا يزال كما هو دون تعديل.
ونقلت البرقية بسرعة إلى الأميرال (دونيتز) في القيادة العامة للقوى البحرية، فأدرك هذا بأن أي تأخير في تنفيذ المهمة سيكون له نتائج خطيرة، ليس فقط لأن ميناء (كيك) سيغلق مداخله ويستعد للدفاع فحسب بل لأن البارجة (البلوطة الملكية) و كذلك القانصات الاثنتين وهما من البواخر الكبيرة التي ترسو الآن في الميناء للقيام ببعض الاصلاحات، سوف تغادر الحوض لتصبح في عرض البحر بين لحظة واخرى حسبما جاء في برقية (اورتيل) لكي تنضم إلى بقية القوات البحرية التي تقوم بتمشيط المحيط. وإذا فيجب تنفيذ الضربة في الايام القريبة المقبلة. وتحرك (دونيتز) للعمل بعد إستخلاص هذه النتائج.
في مساء الثالث عشر من شهر تشرين الأول من عام 1939 كانت مداخن وصواري الغواصة السوداء الألمانية "ي - 47 " تشق طريقها بين الأسطول في ميناء (كييل) وكان الوقت ملائما، والسماء صافية تماما. وكان الكابتن (براين) قائد العملية هو الشخص الوحيد الذي يعرف الهدف المقصود، ولم يكن بإستطاعته کشف النقاب عن المهمة إلى رجاله قبل أن يبدأ بتنفيذها عند دخوله الى ميناء (سکابافلو) في الساعات الأولى من صباح اليوم التالي وحسب المعلومات التي قدمها (ألبرت أورتيل) فقد كان الكابتن الشاب قائد الغواصة يعرف بالضبط مكان الناقلات التي كانت تطفو أمام مداخل ميناء (كيرك) وكيف كانت الحبال المعدنية تمتد لإغلاق هذه المداخل بصورة آلية.
وعندما كانت الغواصة تقترب من المحور الشرقي لميناء (سكابافلو) صدر أمر قصير بلهجة صارمة: " وضعية الغوص " ورددت الصافرات في غرف الأجهزة هذا الإنذار، فاندفع شكل الغواصة الأسود والمستطيل ليغوص بين مرتفعات الزبد في أعماق المحيط.
لقد دقت ساعة العمل ليضع (براين) كافة خبراته ومعلوماته بالملاحة موضع التنفيذ.
كان المد يثير في القناة الضيقة درامات مائية، وكادت الحبال المعدنية التي تربط الناقلات بعضها ببعض توقع الغواصة بالفخ عندما لامست فجأة أسفل الغواصة "ي -47 ' بين ناقلتين بينما وقع مؤخرة الغواصة تحت قبضة خطرة لأحد الجبال.
ولكن (براين) لم يفقد صوابه. كانت أعصابه متوترة ولكن عقله كان ككتلة من الجليد فنقل أوامره الى غرفة أجهزة المحركات: - أوقف محركات اليسار، المحركات اليمني يبطء والى الأمام، الدفة الخلفية إلى أقصى اليسار. وتغير صوت هدير المحركات القوية شيئا فشيئا، وبدأت الغواصة "ي - 47 " في وضع العوم، وتخلى الحبل عن قبضته. وهكذا أمكن تجاوز هذه اللحظة الحرجة، وأصبح بإمكان القبطان إعطاء الأمر التالي: الى السطح. - وعندما كانت الغواصة تهتز وهي تصعد الى السطح، إرتفع المنظار المكبر " بيرسكوب " وألقى (براين) نظرة سريعة دائرية الى القاعدة الكبيرة (سكابافلو)، ودمدم: لقد مررنا. والآن، إلى الهجوم. وركز مراقبته بانتباه إلى الأمام، حيث شاهد البارجة الضخمة التي
كانت ترسو قرب الرصيف، إذا دون شك (البتوطة الملكية). واقتربت الغواصة بهدوء حتى أصبح الهدف تام الوضوح، وهتف:
وأحس (بر اين) بالهزة التي اعتاد عليها والتي تنجم عن إطلاق الطوربيد وانتظر هسة ثوان، عشرة، خمسة عشر. ثم حدث إنفجار مريع إختفى على أثره مقدم البارجة تحت حزمة كبيرة من الماء والزبد.
وانسحق الطوربيد الثاني وهو يدمر منتصف البارجة، ولحق به وبسرعة طوربيد ثالث. ولم تكد قمة الصدمة تنفجر لدي ملامستها للبارجة حتى اختفت هذة الاخيرة تحت ستار من الماء وكأن البحر قد انشق فجأة، فانطلقت الشهب الزرقاء، البرتقالية والحمراء القائمة، والمندفعة من الحطام المحترق تخترق سواد الليل في كل اتجاة، وكانت القطع الضخمة المتطايرة مع المداخن والكتلة الكبيرة من الجسر العلوي ترتفع في الهواء وسط دخان الابخرة والمياة، بينما كان صوت انفجار مستودع الذخيرة يرتفع ليصم الآذان. لقد كان مشهد؛ فريدة ومرعبا وكأن جهنم قد انفتحت (سکابافلو).
على مصراعيها في هذا اليوم هنا في
وأضيات السماء فجأة بالأنوار الكشافة، وكانت اشعتها المرتجفة تكشف الظلمة التي مزقتها أنوار اللهب وتنير سطح المحيط. وابتدأت قاذفات الطوربيد السريعة وقانصات الغواصات بإجراء دوريات في كل اتجاة وكانت مقدماتها تثير امامها حرم المياه بينما كان قادقا يبحثون عبثا عن العدو الذي قام بهذا الهجوم المفاجئ. وفي نفس الوقت كان بر اين) من جهته يحاول اقتناص اللحظات ليستفيد منها، فأعطى محرکات غواصته اقصى سرعة ممكنه وانزلق من بين ناقلتين وبذلك امكنه الاختفاء تحت ستار البحر العريض مخلفا وراءه رالبلوطه الملكيه) قوت بغيظها. وكان ذلك في تمام الساعة الواحدة والدقيقة السابعة عشرة عندما انطلق الطوربيد الأول ..
وبذلك أكمل (بر اين) نصرة فريدة خارقة للطبيعة. ولقد كان هذا النصر في الواقع ثمرة لجهود ألفريد ويهرينغ) ذلك أن هذه العملية لم تكن لتنفذ لولا الجهود الطويلة والعمل الدؤوب الذي قام به هذا الجاسوس. فماذا تم بعد ذلك لكل من هذين الرجلين اللذين لعبا الدور الرئيسي في تدمير (البلوطة الملكية)؟
لقد قضى (بر اين) نحبه عندما كان يقوم بإحدى الدوريات في ربيع عام 1941. أما إستكمال تاريخ ذلك الرجل الذي عرف بإسم
ألبرت أورتيل) قد أصبح غير ممكن لأن الغموض قد لفه في طياته فقد أصبح من المعروف بأنه ترك " کير کويل " فجأة، وبعد وقوع الكارثة بقليل، دون أن يعطي أي تفسير لذلك بعد أن كان قبل يوم واحد يقوم بخدماته لزبائنه وفي اليوم التالي لم يعد له من أثر.
ويقول البعض بأن إحدى الغواصات الألمانية قد التقطته في احدي الليالي رحلته إلى (كييل)، ولكن لم يعثر على أي تقرير يؤكد ذلك من بين كافة التقارير التي وضع الحلفاء أيديهم عليها.
كما لا يوجد أي أثر يشير إلى أنه قد أرسل لأداء مهمة أخرى في مكان آخر
(1)
المرجع کيرت سنجر " أعلام الجاسوسية العالمية ". ترجمة بسام العسلي. دار اليقظة العربية. بيروت 1965. ص 91 - 102.







مصادر و المراجع :

١- موسوعة الامن والاستخبارات في العالم

المؤلف: د. صالح زهر الدين

الناشر: المركز الثقافي اللبناني للطباعة والنشر والتأليف والترجمة - بيروت

الطبعة: الاولى

تاريخ النشر:2002 م

تعليقات (0)

الأكثر قراءة

ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلا … ويأتيك بالأخبار من لم تزوّد
المزید
فصبرا في مجال الموت صبرا … فما نيل الخلود بمستطاع
المزید
حننت إلى ريّا ونفسك باعدت … مزارك من ريّا وشعباكما معا
المزید
أفاطم مهلا بعض هذا التدلل … وإن كنت قد أزمعت صرمي فأجملي
المزید
إنّ أباها وأبا أباها … قد بلغا في المجد غايتاها
المزید