المنشورات
" کريستوف نورد " بين المقاومة الفرنسية والإستخبارات الألمانية.
قليلون جدا هم الجنود المجهولون في تاريخ المقاومة الفرنسية ضد الإحتلال النازي الألماني لفرنسا، ومن بين هؤلاء الجنود المجهولين يأتي ضابط المنظمات السرية البريطانية كريستوف لورد.
فمن هو هذا الجندي البريطانين المجهول؟
وماذا عن دوره و مهماته؟ كانت طائرة وحيدة من طراز لانكستر تخترق العاصفة التي كانت تمتد كالسلسلة المحيطة بشواطى فرنسا في ليلة شؤم من ليالي شهر أيار عام 1943 ولقد قال الملاح وهو يحكم أجهزة الطائرة التي
كانت تحلق على ارتفاع كبير فوق الغيوم الكبيرة التي كانت تبدو وكأنها قرب بعيدا خلال خليج غاسكينا. - أنه من الصعب الوثوق بطقس شهر أيار. ولقد وافق ربان الطائرة على قوله عندما ردد قائلا: - إنما ليلة رديئة حقا ولكنه بطل خبير ذلك الرجل الضخم. كما أن الألمان لا يتوقعون بالتأكيد مشاهدتنا في هذا الطقس الرديء ولم يكن جوف الطائرة المقنبلة يحتوي على أية قذيفة، وكان ذلك الرجل الضخم الذي جاء في حديث الطيار ذا أهمية بالنسبة الإنكلترا وحلفائها تزيد على انزال وقذف أي قنبلة متفجرة فوق أحد الأهداف المعادية. وكان ذلك الرجل وإسمه کريستوف لورد يقبع في جوف الطائرة، وهو ضابط في المنظمات السرية البريطانية، تلقى أمرة بالقفز مستخدمة مظلته للترول فوق فرنسا التي كانت تحتلها القوات الألمانية ثم الوصول إلى تانوس وهي قرية من قرى تارن تقع إلى الشمال الشرقي من تولوز وعلى بعد ثمانين كيلو متر تقريبا منها.
كانت مهمة النقيب لورد دقيقة للغاية، ذلك أن المنظمات السرية النازية كانت منذ وقت مضى على إطلاع مسبق بكافة المخططات التي يتم وضعها في لندن والتي تهدف إلى مساعدة عناصر المقاومة الفرنسية. ونتج عن ذلك وقوع كميات من الأسلحة والمتفجرات في أيدي السلطات النازية، بالإضافة لعدد لا بأس به من رجال الإستخبارات الذين كان يتم إسقاطهم بواسطة المظلات في عدد من المواضع داخل الحدود الفرنسية بمهمة تأمين الإتصال مع عناصر المقاومة. ونتيجة لذلك فقد كان هناك وبالتأكيد وجود بعض الخلل في بعض منظمات المقاومة، ولكن الفرصة لن تسنح للنقيب الإنكليزي كي يستكمل مهمته التي جاء من أجلها. وعوضا عن ذلك وقع هو ذاته في الفخ وأصبح ممثلا رئيسية لقصة غريبة انتهت بمأساة قاسية، لم تتضح خيوطها وتري النور إلا بعد زمن طويل وبعد أن تم تحرير فرنسا. ولقد كان الكشف عنها صدفة من أكبر الصدف الطارئة. على الرغم من أن النقيب لورد كان من مواليد بيرمنغهام، فلقد نشأ وترعرع في فرنسا حيث كان يقيم أبواه هناك منذ كان صغيرا، وكان يعرف معرفة دقيقة بالإضافة لهذه البلاد كل من بلجيكا وهولندا وكان يتكلم عددا من اللغات بطلاقة تامة، كما كان قد أتم دراسته في الإقتصاد والمال. وكان في أيار من عام 1940 عندما قام الألمان باجتياح فرنسا متزوجة من إمرأة فرنسية جميلة جدا، كما كان يشغل منصب المدير لإحدى المؤسسات المصرفية في باريس.
كان لورد ذا تقاطيع مميزة، شعر أشقر انقلب إلى شعر أبيض أثناء الفرار اليائس أمام القوات النازية في عام 1940. وكانت ترافقه زوجته وابنته، ثم وصل الى إنكلترا عن طريق أفريقيا الشمالية الفرنسية، وقد شاهد بأم عينه عدد من البواخر التي كانت تدمرها الطوربيدات وتفرقها الألغام.
وبعد أن وصل لورد إلى إنكلترا إتصل بالمؤسسة المصرفية التي كان يعمل بها ووجد عملا هناك، ثم إتصل به بعض الأشخاص بعد ذلك، وابتدأ عمله في خدمة المنظمات السرية البريطانية. ثم أتبع دورة للتدريب على القفز بواسطة المظلات الواقية، وقفز عدة مرات فوق أرض فرنسا وأمريكا. ولكن مهمته الجديدة كانت تختلف تماما عن تلك الواجبات التي نجح في تنفيذها حتى ذلك التاريخ.
ذلك أنها قد تتطلب منه العمل لمدة أشهر طويلة وهو مضطر لذلك إلى العيش والحياة بشكل خفي متظاهرة وكأنه لاجئ من شمال فرنسا. وكان وهو يجلس في جوف الطائرة وقدماه تستندان الى جدار هيكلها، ولفافة التبغ تبعث دخاها من بين شفتيه، يسرح بفكره وهو يستعرض الأوامر الأخيرة التي كان قد تلقاها وهي كالتالي: عليه الذهاب إلى فندق صغير في تانوس وهو ملك الأحد عناصر المقاومة وإسمه ليون غوليسك، ويتقدم الى صاحب الفندق ليعرفه بنفسه بعد ذكر كلمة السر وهي: لقد أصبحت الدجاجات جاهزة لإرسالها الى السوق. وعندما يسأله صاحب الفندق وكم عددها؟ .. عليه أن يجيب إنني عشرة. كما كان هناك إثنان من عناصر الإستخبارات البريطانية يحملان أسماء مستعارة: شيدر ولوفيغر وسيتم إنزالهما تقريبا في ذات الوقت الذي سيهبط فيه لورد وفي نفس المنطقة ولكن بواسطة طائرة أخرى. وسيعمل هذان الإثنان بناء على أوامر النقيب لورد وتحت قيادته.
ومن المحتمل أن يكون لورد قد فكر أيضا وهو جالس بأهمية الواجب الملقى على عاتقه، وضرورة الإسراع في تنفيذه للكشف عن هوية ذلك المخبر العميل الذي يعمل مع رجال المقاومة لكي يتمكن من خيانتهم. وكان لورد قد حفظ عن ظهر قلب كل المعلومات التي أعطيت اليه، كما عمل على تثبيت نطاق جلدي فوق ثيابه وكان يحتوي على أوراق نقدية فرنسية وذلك قبل أن يصعد مباشرة ليركب على متن الطائرة التي يجب أن تقلع به من أحد مطارات إنكلترا.
كان لورد يرتدي بنطال اللباس العسكري الإنكليزي، كما كان يضع فوق كتفيه سترة مدنية ذات طراز فرنسي ظاهر، ووضع قميص سترته العسكرية إلى جانبه، بعد أن عمل على طيه تحت معطفه وذلك قبل أن يغادر الطائرة ويقفز إلى الفضاء مباشرة. وكان هدفه من ذلك بأن الحظ إذا ما خانه فوقع في أيدي إحدى الدوريات الألمانية في لحظة وصوله إلى الأرض فسيتم إعدامه رميا بالرصاص فورا كجاسوس فيما لو كان يرتدي الثياب المدنية، أما إذا تم إعتقاله وهو يرتدي الألبسة العسكرية الإنكليزية فسيتم إعتقاله كأسير حرب وذلك حسب الاتفاق الدولي. وكان من البديهي بأن السلطات النازية لو عثرت عليه لما ألزمت نفسها بأي شيء تجاهه.
ودخل الملاح الى جوف الطائرة ركور جسده ليجلس إلى جانب لورد وصرخ بأعلى صوته لكي يصبح صوته مسموعة على الرغم من هدير محركات الطائرة وقال له:
إننا سنصل فوق هدفنا بعد حوالي خمس عشرة دقيقة، فهل تريد مني أن أساعدك على إرتداء مظلتك؟
ووافق لورد بايماءة من رأسه وسحب آخر نفس من لفافة التبغ التي كان يضعها بين شفتيه ثم صرخ بأعلى صوته وهو يبتسم وقال:
إن مفارقات هذا العالم تستدعي السخرية، فلقد كنت أكره دائما الخروج من المترل عندما يكون الطقس ماطرة، ولكنني اليوم أشعر بالسعادة لأنني آمل بأن يجبر المطر الألمان على الإختفاء وأن يحجب عنهم الرؤيا.
وابتسم الملاح لهذا التعليق، ثم تناول المظلة الواقية التي كان قد تم طيها بعناية من على رف الطائرة وفض لورد بعد أن سحق عقب لفافة التبغ، وارتدى قميصه العسكري فوق سترته، ثم ثبت أحزمة مظلته، والتقط طردة عتيقة ترتسم عليه ملامح القدم كان قد أحضره معه، واقترب من فتحة الطائرة التي سيقفز منها الى الفضاء حيث ستلفه الظلمه والأمطار، وقال الملاح في اللحظة التي كان فيها شراع المظلة ينفتح بشكل طبيعي، حظا سعيدا وهبوطا موفقا.
أما الكابتن لورد ففي اللحظة التي غادرت فيها الطائرة وشعر بأنه أصبح في الفراغ عمل على لصق رأسه بصدره ثم أخذ الهواء يعبث به وكأنه كيس من القش فعمل على سحب قبضة المظلة وعندئذ أحس فجأة وكأنه وقف عن السقوط كما لو أمسكت به يد عملاق بقسوة.
ولم تكد المظلة تنفتح حتى شعر بأنه في رضع طبيعي تماما، رأسه إلى الأعلى وقدماه الى الأسفل. وكان لورد يشعر بالغثيان والدوار نتيجة الانتقاله من جو الطائرة الخار إلى الجو البارد. ولذا فعندما وصل الأرض لم يكن بحالة طبيعية، فسقط على ظهره فوق الأعشاب النامية فوق رحل إحدى المزارع بين حفرتين متجاورتين، وكان المطر قد إنقطع عن الهطول، كما كان الضباب يغطي الحقول بشكل غطاء
خفيف
عمل النقيب بسرعة على طي أطراف مظلته وأسرع بدفنها في إحدى الحفر، وآنئذ وصله من مسافة ليست بعيدة عنه صوت طرقات أجراس ساعة كبيرة تعلن أن الوقت أصبح الثالثة صباحا.
وتمكن لورد من التقدم وسط هذا الضباب، حيث اجتاز بحذر أحد الحقول، ولم يتوقف إلا عندما وصل إلى إحدى الطرقات الرئيسية، حيث مكث هادئا لبرهة وجيزة بدون أن يأتي بأية حركة، ثم أمعن النظر فيما حوله - ولكنه لم يشاهد أي شيء يثير شبهته - فلقد كان كل شيء هادئا، والصمت مطبق تماما.
ونظر باتجاه الشرق، حيث مولد فجر اليوم الجديد من خلف الغيوم الكبيرة السوداء، ورفع الورد الأمان عن مسدسه، وتابع سيره في ذلك الإتجاه الذي سمع منه صوت الساعة وهو إتجاه تانوس حيث كان ينتظره الفندق الصغير الذي يشرف عليه ويديره ليون غوليسك، ولم يكن من الصعب الوصول إلى الساحة الرئيسية للقرية النائمة، وهناك توقف أمام منزل شبه متهدم، تغطيه الأعشاب ذات اللون البني، ولم يكن هناك غير باب واحد. ولقد قال لنفسه عندما شاهد هذا الميرل بأنه مبالغة مفرطة أن يسمى هذا المترل فندق.
ودفع لورد غطاء فتحة مستطيلة في الباب كانت الصدأ يغطيها، وكانت تلك الفتحة لصندوق بريد الفندق، ثم نظر من خلال تلك الفتحة فشاهد شعاعة خفيفة من الضياء يتسرب من فوق فتحة باب ربما كان يقع في نهاية الممر، ثم نظر النقيب بحذر الى ما حوله مرة أخرى فرأى أن الشارع لا يزال مقفرة كالمعتاد فطرق على الباب ثلاث طرقات قوية متتالية. ووصل إلى سمعه صوت صراخ ديك من الطرف الآخر من المترل، ثم انفتح الباب بعد ثوان قليلة وهمس ذلك الرجل الذي انتصب أمامه بصوت خشن: - من أنت؟ ... فأجابه لورد: _ لقد أصبحت الدجاجات جاهزة لإرسالها الى السوق. وكم عددها؟ ... - إثنتي عشرة. حسنا. تفضل بالدخول، يا صديقي.
وانفتح الباب أكثر من ذي قبل ثم انزلق الرجل الانكليزي إلى داخل المنزل وتبع صامتة خطوات الشيخ الضخم الذي كان يتقدمه إلى أن وصل الى غرفة تقع في آخر الممر المظلم. إنها غرفة الجلوس ذات أثاث عتيق، يقع في زاوية منها موقد يعمل على الفحم الخشبي ويؤمن للغرفة حرارة مناسبة ودفئة مريحة. ثم فتح المضيف دولابا وأخذ منه قدحين ملاهما خرا ثم قدم أحدهما الى لورد وقال له: - في صحتكم، ومرحبا بكم، يا سيدي. ورفع ليون غوليسك قدحه ثم أفرغه في جوفه دفعة واحدة.
وقد كان ليون غوليسك رجلا ضخم الجثة، جريئا مقدامة، عريض الكتفين، ذا عينين زرقاوين لامعتين وحاجبين كثيفين وأهداب سوداء كثيفة طويلة.
وأفرغ لورد قدحه ثم قرب يديه المتجلدتين ووضعهما بجانب الموقد وقال: إنها ليلة رديئة، وقد كانت الأمطار تطل بغزارة عندما غادرت إنكلترا. وعندئذ أجابه الفرنسي وهو يبتسم بعد أن ملأ قدحه مرة ثانية: - ولكنها ليلة ملائمة بالنسبة لكم. فإن الألمان يكرهون الترهة في الطقس الرديء، حتى ولو كان ذلك بأوامر هتلر.
وأخرج لورد لفافات التبغ من جيبه وقدم واحدة منها إلى غوليسك الذي أخذها وقد التمعت عيناه فجأة وهو يقول: - إذا سجائر إنكليزية، أليس كذلك؟ .. شكرا، يا سيدي.
ثم فض ففتح باب الموقد وأدخل ورقة لثوان قليلة ثم إستخدمها الإشعال لفافات التبغ. وعندئذ جلس لورد في أحد المقاعد الوثيرة ووجه سؤالا إلى ليون: - وهل وصل آخرون؟ هه، من الدجاجات؟ ... وأجابه ليون غوليسك، وهو يزفر غيوما من الدخان بقوله:
- نعم، وصل إثنان الليلة الماضية، وصل أولهما حوالي الساعة الحادية عشرة، أما الثاني فقد وصل في مثل هذا الوقت. وإسم هذين السيدين شيدو ولوفيفر، وستقابلهما في الصباح. - حسنا، وكيف تسير الأمور هنا؟ .. وهل هناك عدد كبير من النازيين والمتعاونين معهم في ضواحي هذه المنطقة؟ .. وأجابه ليون، وهو يبصق علامة إستيائه وإحتقاره، وهز برأسه وهو يقول: - لقد أقام الغستابو هنا مركزة أمامية سرية فيجب العمل بمنتهى الحذر.
وقضى الرجلان زهاء نصف ساعة معا وهما يتحدثان عن الأوضاع العامة، بحيث أن لورد عندما ذهب إلى النوم لفترة ساعات قليلة لكي يأخذ قسطا من الراحة التي كان يستحقها كان قد كون فكرة واضحة عما كان يجري في تلك القرية وضواحيها.
واستلم إدمون تاياك عمدة قرية تانوس في صباح اليوم التالي رسالة هذا نصها:
وصلتنا ثلاث دجاجات صغيرة ". وتم نقل هذه البرقية إلى لندن بواسطة جهاز لاسلكي للإرسال على الموجات القصيرة، كان العمدة قد نجح بإخفائه عن القوات الألمانية.
ولم يساور الشك أحدا ممن شاهد النقيب لورد، وهو يهبط لتناول طعام إفطاره الذي كان يتكون من قطع صغيرة من الخبز وما يستعيض به عن القهوة في أنه فرنسي عريق، كما إنضم اليه شر کاؤه في مهمته شيدر ولوفيفر. وجلسوا جميعا في غرفة جلوس غوليسك حيث كان بإمكانهم تبادل الحديث بحرية وطمأنينة لدراسة التدابير الواجب إتخاذها لوضع حد للخطر الذي كان يتهدد كل عناصر المقاومة في هذه المنطقة. وقال لورد لزملائه: " ستبقى شبكة تجسسنا في خطر دائم اذا لم نكتشف الخائن. ومن المحتمل أن يكون هناك عدد من الخونة، ولا احد ما يستطيع اعلامنا فيما اذا كان هذا الخائن يقيم في تانوس او في ضواحيها، وقد يكون ذلك الخائن مزارعة او موزعة للبريد، او تاجرة او عاملا بسيطة .. وعلى كل حال فان من المؤكد بأن هذا الخائن على علاقه بنقل الأوامر إلى عناصر المقاومه من مكتب الجنرال ديغول في لندن ".
ثم القى لورد نظرة خاطفة على خارطة الاقليم والتي كان وضعها تحت تصرف صاحب الفندق، واستمر في حديثه إلى شركائه: " وهكذا ... وكما تشاهدون فقد عملت على تقسيم القطاع إلى ثلاثة اقسام وسيكون اكثر اهنا بالنسبه لنا فيما اذا عملنا بشكل منعزل كلي عن الآخرين، ويقوم كل منا في عمله في قطاعه الخاص به"واقترب كل من شيدر ولوفيغر من الطاوله التي كانت الخارطه قد نشرت فوقها، وابتدأ لورد يشرح ويوزع الاعمال: " سأكون مسؤولا عن الجنوب الغربي والذي يتضمن القرية ذاتها، أما أنت يا لوفيغر فتستطيع الإهتمام بالقطاع الشمالي الشرقي، أما أنت يا شيدر فستعمل في القطاع الشمالي الغربي، وفي هذا القطاع الكثير من الأكواخ والمزارع. وإذا إضطررنا للإتصال ببعضنا البعض فسيتم ذلك عن طريق غوليسك، وسنستفيد منه كوسيط فيما بيننا .. كما أنكم من البديهي بحاجة للنقود ".
وعند ذلك عمل لورد على فك أزرار سترته، وأخرج قميصه خارج بنطاله وفك نطاقه وأخرج منه قطع من ذات الألف من الفرنكات الفرنسية. وهتف شيدو وهو ينظر أمام عينيه نظرات جشعة الى قطع النقود المغرية قائلا: إنهم لم يتخلوا عنا كي لا نقع في عوز وحاجة للنقود. وعقب لورد على قوله " إنه من المستحيل التنبؤ عن حاجاتنا للنقود في هذه المهمة وما يتطلبه العمل من أجلها وأكثر من ذلك، فمن الممكن بأن نبقي محتجزين هنا في هذا الإقليم لمدة عدد من الأشهر.
وبعد ذلك بيومين قام ليون غوليسك بتسليم رسالة مستعجلة تلقاها من شيدو الى لورد وكان شيدو يعمل على مقربة من مزرعة تبعد مسافة ستة كيلومترات من تانوس والى الشمال منها. وقد إشتبه في إحدى المزارعين على أنه الرجل الذي يجري البحث عنه فأرسل رسالة يطلب فيها حضور لورد واللحاق به مباشرة بعد أن حدد موعدا للمقابلة في هضبة تقع على مقربة من كنيسة تانوس.
ولم يعرف إطلاق بعد ذلك فيما إذا ذهب النقيب إلى الموعد أو لا، فلقد شوهد وهو يغادر الفندق في الوقت الملائم والمتفق عليه، ثم إختفى كل أثر له بعد هذه اللحظة، إلى أن عثر عليه جثة هامدة بعد ذلك بحوالي الشهر، وذلك بتاريخ 23 حزيران بالضبط، وقد انتشلت الجثة من قعر أحد الآبار، بعد أن إخترق ظهر الجسد أربع رصاصات.
فماذا حدث له؟ ... ومن قام بإغتيال کريستوف لورد؟ ... وبقيت كل هذه الأسئلة أحجية ولغزة إستعصي على الحل إلى أن تدخلت الصدفة بعد ذلك بثلاثة أعوام، وكان الإستقرار قد عاد الى تانوس التي أصبحت تزاول نشاطها المعتاد وهي تنعم بفترة السلم.
كان شقيق أرملة لورد يجتاز التارن في ربيع عام 1946 عندما أصيبت سيارته بعطل طاري في تانوس مما إضطره إلى المبيت وقضاء ليلة في تلك القرية، وكان من البديهي بأن يلتجئ الى المبنى الوحيد الذي يستطيع أن يقضي ليلته فيه وهو الفندق الذي يمتلكه ليون غوليسك. وفي تلك الأمسية عمل الريل رغما عن إرادته على الدخول في حديث مع صاحب الفندق وقال له وهو يحتسي كأس شراب من البيرنو:
- كم هي جميلة قريتكم هذه وكم هي هادئة؟ إنني أفترض بأن الحياة هنا خالية من الأحداث الهامة. فما كان من صاحب الفندق إلا أن عقب على ذلك بقوله: " لقد تعرضنا إلى ما يكفينا من الأحداث الهامة أثناء الحرب. ولو كنت هنا في تلك الفترة لما قلت ذلك. لقد كانت تانوس مرکزة من مراكز المقاومة الهامة، كما كان يتم إسقاط العناصر السرية من الإنكليز بواسطة المظلات في الضواحي، وقد عثرنا على جسد
لجاسوس إنكليزي. وقد تم قتله لأن أمره إفتضح لكونه كان يعمل المصلحة الحلفاء والألمان في وقت واحد. وقد ألقي بالجثة في بئر من آبار القرية. وكان من المحتمل بألا يعثر عليه أبدا لولا أن أصاب جسده الفساد وأصبح ذا رائحة كريهة، لذا هبط إثنان من الرجال الى البئر للبحث عن سبب فساد الماء وعندئذ أمكن العثور على الجثة ".
وسأل السائح وقد استيقظت فيه روح الفضول فجأة: - ومتي تم ذلك؟ ... - في عام 1943 ... وفي شهر حزيران على ما أعتقد. ولقد ترددت بعض الشائعات في تلك الفترة بأن هذا الشخص قد قتل بيد عميل آخر جاء من لندن أيضا، ولم يكن وجود عدد كبير من العملاء المزدوجين الذين يعملون لإتجاهين في وقت واحد، أثناء تلك الفترة المضطربة، شيئا غريبا. لقد كانت هناك مبارزة حقيقية حتى الموت.
- وكيف كانت ملامح الجاسوس الذي عثر عليه في قاع البئر؟ ... ورفع صاحب الفندق رأسه ونظر إلى السقف وهو يفكر للحظة قصيرة، وأجاب سائله بقوله: " لقد كان رجلا عادية تماما من ذلك الطراز من الرجال الذين يصعب الشك في أمرهم. ولكن بعض التفصيلات هي التي أذهلتني، لقد كان شعره أبيض كالثلج، فإذا كانت تلك الشائعات صحيحة وإذا كان ذلك الشخص هو عميل مزدوج فعلا، فإن إغتياله عمل جيد، لأنه كان سيتسبب في محنة تتزل على الحلفاء، بالإضافة إلى أنه سيعرض حياة رفاقه من الإفرنسيين والإنكليز إلى الخطر ".
وفي تلك الليلة كان من الصعب أن يجد النوم سبيله إلى عيني شقيق السيدة زوجة لورد وقد تقلب في فراشه عشرات المرات وهو يسترجع تلك القصة التي رواها له صاحب الفندق، لقد كانت الشارة المميزة، وهي الشعر الأبيض، تدل بوضوح على أن الجنة في جسد النقيب کريستوف لورد.
وفي صباح اليوم التالي إتصل هاتفيا بشقيقته التي كانت تقيم في لندن وشرح لها كل ما سمعه ثم حثها على القدوم إلى فرنسا، وطلب الإذن باستخراج الجسد. وصرخت شقيقته، لا يمكن أن يكون کريستوف عمية مزدوجة. فكيف يمكن ترديد مثل هذا القول بحقه؟ ... لقد كان يكره النازيين كرها دفينا، فكيف يعمل على مساعدتهم؟ ...إنني سأحضر فورة ويجب أن يعاد الإعتبار لشرف زوجي، ولكي تبقى صفحته مشرفة ناصعة.
ولم تتأخر زوجة لورد في إضاعة الوقت سدى، بل توجهت إلى باريس مباشرة وحصلت على إذن بإستخراج الجثمان، ورافقها شقيقها وهي تجتاز بتصميم وحزم مقبرة تانوس المغيرة، ونظرت إلى بقايا الجثة المتناثرة وقالت: - إنه بالتأكيد جثمان کريستوف وكان شاحبا كما كان شعره أبيض ومماثة تماما لما كان عليه عندما كان على قيد الحياة، كما كانت هناك علامات فارقة أخرى تؤكد بأن ذلك الجثمان هو جسد زوجها، فلقد كان أحد أسنانه مصنوعة من الذهب، كما كان رسغ أحد قدميه مكسورة منذ بدأ تمرينه على الهبوط في المظلات الواقية.
وعادت بعد ذلك السيدة لورد إلى لندن ثم طلبت مقابلة إحدى الشخصيات التي لها مكانتها في وزارة الشؤون الخارجية، وعندما تمت المقابلة طلبت بإلحاح وتصميم فتح تحقيق جديد وكان مما قالته: " إني أريد إعادة الإعتبار لشرف زوجي وغسل الإقامات الدنيئة التي علقت به. إنه رجل نبيل، وشجاع، وقد إستشهد وهو يؤدي واجبه في خدمة بلده. وإنه لمن المؤلم حقا أن يدنس إسمه بالوحل ".
وأعطى ذلك الموظف الكبير في وزارة الشؤون الخارجية أوامره بالبدء في التحقيق مباشرة. وسافر ضباط من السكوتلانديارد إلى فرنسا لإجراء التحريات حول هذه الأحجية القديمة التي مضى عليها ثلاثة أعوام. وقدمت عناصر الأمن كل مساعدة في التحقيق وقد تم إلتقاط كافة الكلمات والأقوال المتعلقة بهذا الموضوع من تانوس كما أمكن إستجواب عناصر المقاومة القديمة والمزارعين وسكان القرية ولم يتم إهمال أية كلمة حتى تلك القصة التي تذكر بأن لورد قتل بأيدي الألمان فقد تم تسجيلها، وأخيرا أصدر وزير الشؤون الخارجية البريطانية البيان التالي بعد أن كان قد مضى عام كامل في تحريات وأبحاث دقيقة:
على أثر التحريات التي تمت في فرنسا من قبل السلطات الفرنسية وبمعونة رجال سكوتلانديارد، فقد تم إثبات هوية الجثة التي امكن العثور عليها في أحد الآبار في تانوس قريبا من تولوز، وذلك في شهر حزيران من عام 1943، وكانت تلك الجثة هي جثمان النقيب کريستوف جيمس لورد الذي كان قد إختفى منذ شهر مارس 1993 وهو في سبيله لتنفيذ مهمة عسكرية سرية تلقى أوامرها من وزارة الحرب البريطانية.
وقد نشرت عدد من المقالات آنذاك في الصحف الفرنسية، وهي تذكر بأن الكابتن لورد قد تم إعدامه رميا بالرصاص على أثر صدور أمر سري عن وزارة الحرب لأنه كان قد عرض مهمته التي ذهب التنفيذها للخطر وكذلك حياة رفاقة.
ونتيجة لذلك، فإنه لمن الممكن التأكيد بأن الكابتن لورد لم يقتل على أثر إصدار أوامر سرية قطعية، أو لأية شكوك راودت وزارة الحرب البريطانية، التي لم تعلم بوفاته إلا قبل فترة قصيرة من الزمن من القيام بتحرياتها التي نتج عنها إصدار هذا التصريح، كما إنه لا يوجد أي دليل مطلقا عن أن الكابتن لورد كان قد خان مهمته أو عمل على خيانة رفاقه.
ولقد أعاد هذا البيان الإعتبار لشرف لورد ومكانته، ولكن هذا البيان لم يلق شيئا من الضوء ولم يضع حلا لتلك الأحجية. فمن هو قاتل الكابتن لورد إذن؟ .. إنه لمن المحتمل بأن يكون اغتيال لورد قد تم على أيدي رفاقه، أو على أيدي رجال الغستابو، أو بواسطة أحد من الذين أغراهم المبلغ المادي الضخم من النقود الفرنسية التي كان يحملها الورد معه.
وإذا كانت هذه الفرضية الأخيرة صحيحة، والتي لا يمكن تكذيبها، كما لا يمكن تأكيدها رسميا، فإن شيدو شريکه في مهمته هو أفضل شخص يستطيع معرفة الحقيقة عما حدث له فعلا، ذلك لأنه هو الذي حدد في الواقع مكان الإجتماع السري في تلك الليلة التي إختفى فيها لورد كما أنه هو ذاته الوحيد الذي يعرف مكان النقود ويعرف بأن اللورد كان يحملها معه.
ولكن شيدر لم يكشف شيئا عما يعرف، وبقيت شفتاه مغلقتان أبدا، لأنه كان قد ترك تانوس بعد أن حدث إغتيال لورد بزمن قصير، ولكن رجال السكوتلانديارد إنتهوا من أبحاثهم عنه عندما علموا بأن الغوستابو كانوا قد علقوا جسده في باريس.
ومن المحتمل كثيرة بأن تبقى هذه الأحجية لغزة لا حل له ولكن ما هو أكثر أهمية في هذا الموضوع هو إعادة الإعتبار وغسل العار الذي علق بشرف لورد ردئسه، وقد تم ذلك بشكل نهائي وبذلك لم يبق أي شيء يمكن قوله عن تلك القصة التي كان يتناقلها سكان قرية تانوس والتي كانوا يسموها بقصة كريستوف لورد.
المرجع (1) کيرت سينجر " أعلام الجاسوسية العالمية ".ص 901 - 10.
مصادر و المراجع :
١- موسوعة الامن
والاستخبارات في العالم
المؤلف: د. صالح
زهر الدين
الناشر: المركز
الثقافي اللبناني للطباعة والنشر والتأليف والترجمة - بيروت
الطبعة: الاولى
تاريخ النشر:2002
م
1 أبريل 2024
تعليقات (0)