المنشورات

خدعة الحرب بين مونتغمري الحقيقي والمزيف

كم كان مصيبة ذلك القول بأن الحرب خدعة، وسياسة المكر والمراوغة تحرز في كثير من الاحيان انتصارات مصيرية، تنعكس آثارها مباشرة على حياة الشعوب والأوطان. وكثيرة هي فنون الخداع التي عرفتها الحرب العالمية الثانية، تبدا من خطط وهمية لتنتهي في انتحال الشخصيات وتقرير المصائر، ولم تكن عملية انتحال شخصية الجنرال الانكليزي
مونتغمريه، من قبل الممثل اکليفتون جيمس، سوي احدى هذه العمليات الشهيرة والأكبر غرابة وأهمية في تاريخ هذه الحرب.
فما هي أسرار هذه الحادثة؟ وكيف كانت مراحلها ونتائجها؟.
في ربيع سنة 1944 كان الجيش البريطاني في غليان. وكان الجنود يشعرون باقتراب اليوم «ج»، بالرغم من جهلهم خطط قادة الحلفاء الكبرى.
وعلى الساحل، بالقرب من بورتسموث، كانت تجارب الانزال المقبل تجري على نطاق واسع بحضور وزير الحربية والجنرال دمونتغمري،، الذي كان يستعرض فرق جيشه، وعلى راسه والبيريه السوداء، غير مكترث برقيب يتبعه خطوة خطوة، ويحدق فيه بإمعان.
فمن هو هذا الرجل؟ لم يسبق لأحد من معاوني الجنرال أن رآه و عرفه، ومع ذلك فرجال الشرطة يسمحون له بأن يذهب ويجيء كيفما شاء انه يقترب من القائد الكبير، يفحص تقاطيعه بدقة، ويراقب كل حركة من حركاته، فتستبد الدهشة بالجنود، ولكن يبدو أن الجنرال مونتغمري لا تزعجه هذه المراقبة.
ان هذا الرقيب هو دكليفتون جيمس، الذي يشبه الجنرال كثيرة، وهذا الشبه في الواقع يثير الدهشة: فله نفس القامة، ونفس تقاطيع الوجه، ونفس النظرة، وفضلا عن ذلك، فهو ممثل أصيل يستطيع بقليل من الجهد، أن يزيد في هذا الشبه المدهش .. .
علمت مصلحة الاستخبارات البريطانية بهذا الأمر، فقررت الاستفادة من هذه الظاهرة الغريبة، لتخدع مصلحة الاستعلامات الالمانية، فعمدت الى إجراء تحقيق سريع عن كليفتون جيمس.
كان كليفتون جيمس ضابطا في الحرب العالمية الأولي. وفي سنة 1939 تطوع في مصلحة المالية، وبقي أياما طويلة بدون أرقاما، وهو يبذل الجهد لكي لا يغفر أثناء عمله الممل. وقد نجح في الحصول على اذن الإخراج بعض المسرحيات في أوقات فراغه، وهكذا تمكن من الترفيه عن الجنود أثناء راحتهم ..
وكان شبهه الشديد بمونتغمري سبيا لتسلية رفاقه. حتى أنه في أحد الأيام ظهر على المسرح وعلى رأسه دبيريه، عريضة سوداء. وفي يوم آخر طلب منه أحد المصورين أن يقف أمام عدسته وعلى رأسه والبيريه العريضة المشهورة، فلبي الممثل الطلب، وهو مضطرب يسائل نفسه، عما اذا كانت جريمة احتقار الرؤساء لن تكلفه غاليا. وظهرت الصورة في النبوکرونيکل وقد كتب تحتها اكلا انك على خطا، انه الليوننان كليفتون جيمس). ولم تمض مدة طويلة حتى دعي كليفتون إلى لندن من قبل المصلحة السينمائية في الجيش، نتوهم أنهم يستدعونه ليظهر في بعض الأفلام، فكان فرحه عظيمة. ولما وصل الى العاصمة وجد زوجته ايفا، في انتظاره، فصحبها معه الى المقابلة، وتركها أمام الباب، ثم دخل مكتبة فوجد نفسه وجها لوجه مع الكولونيل اليستر، الذي قال له بدون مقدمات:
- اننا لم نستدعك لتظهر في أفلام. وقبل أن يستفيق من دهشته، تابع الكولونيل حديثه قائلا:
إن الجنرال مونتغمري يستعد لشن هجوم عنيف، ولكي ينجح هذا الهجوم تمام النجاح، يجب أن نجعل الألمان يعتقدون أن الجنرال يدرس الخطط في ارض غير الأرض الحقيقية التي اختارها للمعركة. والأفضل أن تيري الجواسيس الالمان شبيها لمونتغمري في أفريقيا الشمالية، أو في جبل طارق. وقد كلفني الجنرال مونتغمري شخصية أن أجد الشبيه الذي سيقوم بهذا الدورا
واضاف الكولونيل: أرجو أن تقبل عذري. لا علاقة لي بالمصلحة السينمائية في الجيش. انني تابع لمصلح الاستخبارات،.
وبقي كليفتون جيمس مدهوشأ، فقال له الكولونيل: «لقد اخترناك لتلعب دور الجنرال مونتغمري حتى اليوم «ج». ونحن مكلفون بخداع العدو، وبإنقاذ حياة الألوف من الرجال. لم يعد لدينا وقت نضيعه. سوف نبدأ بتدريبك، وفي " اليوم المعين تصبح الجنرال مونتغمري) ..
وطبيعي أنه لم يكن مجال لمناقشة هذا الأمر ..
ولم يبق أمام كليفتون إلا أن يحني رأسه للأوامر. فراح يصغي باحترام الى تعليمات الكولونيل التي تقتضي السرية التامة. فهو يستطيع أن يختلق لزوجته أية نصة يريدها، أما الحقيقة فيجب أن تبقى سرة. وطلب اليه أن يختفي لبعض الوقت وأن ينقطع عن أصحابه القدماء. وجرى كل شيء كما كان يتمناه الكولونيل. فودع كليفتون جيمس زوجته وداعا حارة، وبعد مدة من التمرين قضاها في وزارة الحربية، ارتدي ثياب رقيب في مصلحة الاستخبارات لأنه بهذا الزي يستطيع أن يقترب من الجنرال كما يحلو له وفي صباح اليوم التالي لارتدائه هذا الثوب، اقتيد إلى بورتسموث، حيث سنحت له الفرصة لدرس مونتغمري عن كثب. فراقب كل حركة من حركاته، وحفظ لهجة صوته. وبقي بضعة أيام يولي هذا العمل انتباهه التام، لانه كان بعي المسؤولية المترتبة عليه، بعد أن أوضح له أنه باتقانه هذا الدور، يساهم مساهمة فعالة في النصر النهائي:.
وبعد مدة قصيرة كان عليه أن يتبع الجنرال الى كورسيکا. وفي هذه المرة دخل مكتب القائد الكبير، وكانت دهشة الرجلين عظيمة عندما وقفا وجها لوجه. وقد قال جيمس فيما بعد: شعرت بأني أقف أمام المرآة.
ودارت بينهما محادثة طويلة، فكان الممثل يستوعب كل كلمة من كلمات القائد. قال له مونتغمري: «ان المسؤولية التي تقع على عاتقك كبيرة جدا، فهل أنت على ثقة من نفسك؟.
وتردد کليفتون في الجواب، فأضاف الجنرال: «إني متأكد أن كل شيء سيتم على ما يرام، وأنك ستلعب دورك باتقان.
وسرعان ما انتهت مدة المراقبة، وحفظ الدور تماما، ولم يبق الا أن تقدم التمثيلية ..
ارتدي جيمس بزة الجنرال التي فصلت خصيصا من أجله، ونظر الى نفسه في المرآة فأعجبته قامته، ومع ذلك فقد كان ينقصه شيء هام: سلسلة ساعة، حيث كان مونتغمري بعلق سلسلة في جيب صدرته، فأسرع ضابط الى السوق واشترى له هذه السلسلة التي لم يزد ثمنها عن نصف دکورن، ... ولم يكن كليفتون جيمس يحمل ساعة جيب يعلقها بالسلسلة، فاكتفى بأن علق في طرفها مبراة صغيرة وضعها في جيب صدرته الصغيرة، وكان يأمل ألا بسأله احد عن الوقت .. وبقي أمر هام يجب أن تبذل له عناية خاصة: فقد كان الممثل قد خسر في الحرب العالمية الأولى الاصبع الوسطى من بده اليمني، وكان يمكنه أن يخفي هذا العيب بأن يلبس قفازا، ولكن مونتغمري لا يستعمل القفازات، فصنعوا له اصبعا علقوه بيده برباط خفي، ولم ينسوا أن يعطوه عدة مناديل طرزت فوقها هذه الحروف  B
M . L  وأوصوه بأن يرميها هنا وهناك، أمام أنوف الجواسيس.
وما أن تم تنگره على هذا الشكل حتى نادوه الى المطار، وهناك أدت له التحية شلة من الجند، وخفقت القلوب فخرة لبطل بريطانيا العظيم. وجد كليفتون في الطائرة الجنرال رهيود، وكان هذا القائد مكلفة بان يتبع الممثل خطوة خطوة، ليساعده عند الحاجة، وليجنبه ارتكاب الأخطاء.
وبعد انقضاء بضع ساعات وصل المسافرون الى جبل طارق، وكان حاكم القلعة السير رالف استوودا، صديق مونتغمري قد أحيط علما بالأمر. وهبطت الطائرة، فخرج كليفتون منها، وحيا بكل ارتياح الضباط الذين هرعوا الى استقباله. وحين التقى بالجنرال راستوود، لم يستطع هذا الأخير أن يخفي دهشته أمام صورة صديقه مونتغمري الحية.
وقال الحاكم: القد عرفت صديقي طوال سنين عديدة، ولكنني لبعض لحظات، ظننت أنه غير مخططه وقرر أن يحضر هو بنفسه،.
وأصبح من الواجب الآن أن نصل الى الغاية الحقيقية التي بذل من أجلها هذا الجهد كله، وهي تضليل الألمان عن نوايا عدوهم الحقيقي.
وتطلع كليفتون من النافذة، فرأى رجلا رابضة على أحد السطوح، وبيده آلة بوجهها نحوه، فاضطرب. هل ينوون أن يقتلوا في شخصه قائد القوى البريطانية؟ وأخيرا تنهد ارتياحا عندما ثبت له أن هذه الآلة التي اخافته، انما هي منظار يوجهه نحوه احد الفضوليين. كانت المقابلة الأولى تاجحة تماما ولكن اللعبة الحقيقية لم تكن قد بدأت بعد ...
و بعد بضعة أيام استقبل السير رالف والليدي استوود خطيبين نالا أنهما من اسبانيا، وقد أخرج هذا المشهد باعتناء ..
ففي الوقت الذي سيصل فيه الخطيبان، كان السير رالف وضيفه الشهير يتنزهان، وهما يتحدثان بصوت مرتفع في حديقة قصر الحاكم الجميلة. وراح مونتغمري المزيف يدلي لصديقه بتفصيلات عن الخطة (303) التي اخترعها من أجل هذه المناسبة، ولما لاحظ السير رالف الخطيبين أخذ بيد صديقه ليفهمه أنه يجب أن ينقطع عن الحديث. فسكت الجنرال المزيف فجاة وعبس، كأنما وصول الغريبين المفاجيء أثر فيه حقيقة. ومع ذلك تم التعاون وبدأت المحادثة عن اشياء عادية، واكتفى الجنرال المزيف بان يلقي بعض عبارات مبهمة عن الحرب، ولم ينس أن يستعمل لهجة مونتغمري في الحديث، وكان واقفا وهو يتكلم، ويداه معقودتان وراء ظهره ليخفي اصبعه المقطوعة. وبعد بضع دقائق نظر إلى السماء وقال: أرجو أن يبقى الطقس حسنة، إذ ما زالت امامي ساعات طويلة من الطيران،.
ثم حيا الغريبين وانصرف، فظن هذان أنهما تحدثا الى مونتغمري بالذات، والأهم من ذلك انهما اعتقدا أن مونتغمري سيقوم بجولة في الشرق الأوسط لكي يهيء هجوما في المناطق البعيدة فنقلا معلوماتهما مذه على الفور.
وكان الجواب على هذه المعلومات أن تلقى جواسيس الألمان الذين يعملون في الخارج من مصلحة الجاسوسية برقية جاء فيها واكتشفوا طبيعة الخطة 303 مهما كان الثمن، ووزعت أوامر أخرى للعمل على إسقاط طائرة
الفور.
مونتغمري ..
ركب کليفتون جيمس الطائرة بعد بضع ساعات، واتجه نحو الجزائر، ولم يكن يفكر كثيرة فيما يعترضه من أخطار. والحقيقة أنه لم يكن عرضة للكثير منها. إذ أن هتلر، في اللحظة الأخيرة قرر أن لا يتعرض للقائد البريطاني ما دام يجهل كل شيء عن خططه ..
وفي المطار شعر شبيه مونتغمري أنه محاط بالجواسيس من جديد.
ولكنه كان على ثقة بنفسه. فقد ناقش ضباطه في مسائل عدة، ولم بنس أن يذكر الخطة (303). وكان الجواسيس يصدقون كلامه.
ودارت نفس اللعبة في افريقيا الشمالية. فقد استقبل القائد ضباط فرنسيون وأميركيون وبريطانيون فحياهم برقة، ولكنه لم يكن يجهل أن بعض تركته يقترب من
الجواسيس يمكن أن يختفوا نحت هذه الثياب.
وكانت مصلحة الاستخبارات قد اكتشفت جاسوسا المانيا تختفي شخصيته الحقيقية تحت اسم فرنسي معروف جيدا في الأوساط العسكرية. غير أن مصلحة مقاومة الجاسوسية لم تلق القبض عليه، بل تركته يقترب من مونتغمري المزيف، وقدم للجنرال باسمه الفرنسي، وبدأ الحديث.
وكان على كليفتون أن يستعين بكل قواه أثناء هذه المقابلة. فبينما كان يقوم بدوره على أكمل وجه، لاحظ أن يد محدثه اليمني في جيبه. ألن يشهر الجاسوس مسدسه ويطلق عليه النار؟ إنه ليس مغريا دائما أن يكون المرء بديلا لمونتغمري. ولم يحدث شيء لحسن الحظ وتمكن كليفتون من متابعة رحلته.
وتحدث كليفتون فيما بعد عن هذا القسم من الرحلة فقال: انطلقت الدراجات النارية الأربع عشرة بسرعة البرق، ولن أنسى طوال حياتي هذا السباق نحو مدينة الجزائر. وكان الأميركيون الذين أوكل اليهم أمر حراستي قد أحيطوا علمأ بمحاولة لاغتيالي، واذا نجحت هذه المحاولة وقتلت، فلن بخبيهم شيء من المحاكمة أمام المجلس الحربي. ولم يكن لديهم ترات كافية لتؤمن الحراسة في طريق طولها عشرون كيلو مترا، فانطلقوا بهذه السرعة الجنونية حرصا على حياتي ..
وزار کليفتون مدنا عديدة في أفريقيا الشمالية، وكان يعرف دائما انه محاط بالجواسيس، وكان بود لو بنطلق على سجينه عندما يلتقي بنساء جميلات، فيطلبن اليه أن بهديهن صورته مذيلة بتوقيعه. وقد حرصت مصلحة الاستخبارات في الواقع على أن توزع صور مونتغمري المزيف، ولكن کليفتون كان يجيب المعجبات بخشونة، لأنه يعلم أن مونتغمري لا يبدو أبدا لطيفة مع السيدات اللواتي لا يعرفهن.
وبعد جولة وصل کلينتون الى مقر القيادة العامة في الجزائر. وقد انطلت هذه الخدعة على الجميع .. وعندما انتهت مهمة الممثل عند هذا الحد، فإنه أرسل الى القاهرة وحظر عليه أن يظهر، ومرت أسابيع على اقامته في هذه المدينة، بدت له مدة
طويلة جدا، واعتقد أن رؤساءه قد نسوه. ولما أعادوه الى وطنه، سر کثيرا بلقاء زوجته. أما في فرقته فقد أخذوا ينظرون اليه بازدراء اذ انتشر أثناء غيابه خبر سجنه في برج لندن بتهمة الخيانة ..
وفي الوقت الذي ستضع فيه الحرب أوزارها، سيستطيع كليفتون أن يشرح لأصحابه سبب اختفائه الفجائي، ولكنه وجد صعوبة كبيرة في العودة الى شخصيته الحقيقية، وبقي الممثل سنوات طويلة يقلد مونتغمري، وبدون إرادة منه، وكان الناس الذين يرونه مارا بخلطون دائما بينه وبين مونتغمري ..
وقالت له زوجته ذات يوم:.
هل تعرف دكان بائع التبغ الذي يقع عند منعطف الشارع، بالقرب من محطة الأوتوبيس؟.
فأجاب: نعم.
- لقد دخلت حانوته في هذا الصباح - قالت الزوجة - وسالته عن الساعة، فأجابني: «انها الساعة الحادية عشرة والنصف. وأنا متأكد من أن ساعتي مضبوطة. لأنني أضبطها دائما كلما مر مونتغمري في الساعة السابعة والدقيقة الخامسة والأربعين، في طريقه ليركب الأوتوبيسا .. .
وقد يدهش هذا البائع بالطبع اذا قيل له أن الشخص الذي يظنه مونتغمري ليس سوى ممثل ممتاز، تابع لمصلحة الاستخبارات.







مصادر و المراجع :

١- موسوعة الامن والاستخبارات في العالم

المؤلف: د. صالح زهر الدين

الناشر: المركز الثقافي اللبناني للطباعة والنشر والتأليف والترجمة - بيروت

الطبعة: الاولى

تاريخ النشر:2002 م

تعليقات (0)

الأكثر قراءة

ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلا … ويأتيك بالأخبار من لم تزوّد
المزید
فصبرا في مجال الموت صبرا … فما نيل الخلود بمستطاع
المزید
حننت إلى ريّا ونفسك باعدت … مزارك من ريّا وشعباكما معا
المزید
أفاطم مهلا بعض هذا التدلل … وإن كنت قد أزمعت صرمي فأجملي
المزید
إنّ أباها وأبا أباها … قد بلغا في المجد غايتاها
المزید