المنشورات

قضية الجاسوس " ويليام جويس" والمذياع النازي.

تمثل قضية الجاسوس البريطاني ويليام جويس، المشهور ب "اللورد هاو هار " إحدى قضايا الجاسوسية المثيرة للإهتمام في هذا العالم. فما هو سر هذه القضية؟ ومن هو ويليام جويس؟ وكيف كانت نهايته؟ - إنه خائن، فأجبروه على السير، وسيهتمون بأمره.
هذا ما كان يتردد على شفاه بعض العسكريين البريطانيين المتحلقين حول إحدى عربات نقل الجرحى العائدة للصليب الأحمر الدولي، عندما توقفت مساء أحد الأيام الأخيرة لشهر أيار عام 1945، على مقربة من القيادة العامة للجيش في لينبورغ.
كان يتمدد على إحدى ناقلات الجرحى لعربة الإسعاف رجل تحيط به الأغطية مربوع القامة، قد تشوه وجهه بندبة جرح تمتد من اذنه اليمني حتى زاوية فمه الدقيق والحاد. إنه ويليام جويس الذي اشتهر باسم اللورد هاو هاو، ذلك اللقب الذي منحه إياه الشعب الإنكليزي بسبب أسلوبه المتصنع السمج الذي كان يتحدث به من إذاعة ألمانيا النازية. وتبعا لتفاوت تمسك العسكريين بأسس الإنضباط، فقد كانت حدة تعليقات الجنود تزداد أو تنقص في إستقبال جويس صاحب الصوت الساخر الذي كان يعلن نداء ألمانيا والذي أصبح صوته مألوفة عند عدد كبير من المستمعين، طوال سنوات الحرب التي كان يحاول أثناءها باستمرار تقويض الروح المعنوية للشعب الإنكليزي عن طريق الكذب والسباب والتهويل والخداع عبر موجات الأثير. ولقد خانه ذات الصوت الساخر قبل يومين فقط عندما قفز رجل من الغابة أمام ضابطين بريطانيين وهما يسيران عبر طريق من طرق الغابة المتاحة للحدود الألمانية - الدنماركية، وكلمهما بالإنكليزية وعندئذ صرخ أحد الضابطين. - إنه هار هار، هذا القذر الوضيع، رجل مذياع غوبلز. وقام الضابطان باستجوابه، فمد جويس يده الى جيبه كما لو كان يريد إستخراج مسدس منه ومن المؤكد إنه أسيء فهم هذه الحركة، ذلك أن جويس لم يكن مسلحة وإنما أدخل يده إلى جيبه ليستخرج منها جوازة ألمانيا يحمل إسم ويليام هانسن، ذلك الاسم الذي تحمله منذ عام 1990 بعد أن إكتسب الجنسية الألمانية. وبما أنه لم يكن لدي الضابطين أي إستعداد لأية مجازفة مع تلك الشخصية، فقد سارع أحدهما في إطلاق النار، محدثة جرحا في إلية جويس قبل أن يتمكن هذا الأخير من سحب يده من جيبه.
وكان أول ما سمعه عندما وصل الى لينبورغ تلك الصرخات التي صدرت عن الجنود، الى أن تم حله بعد ذلك إلى خارج عربة الإسعاف حيث وقعت عيناه على تلك النظرات التي تفيض بالحقد. وعندئذ إتخذ الخائن والدعائي في إذاعة هامبورغ هيئة الإزدراء التي حملت اليه سخرية واحتقار بريطانيا بأكملها، وقال بصوت متعجرف، وهو ينظر إلى الجنود نظرات تدل بوضوح على أنه كان يعتبرهم كما لو كانوا متشردين أغبياء. - إنهم لا يسمحون في البلاد المتحضرة بترك رجل جريح عرضة للنظرات الفضولية.
تلك كانت اللوحة الأولى في المشهد. أما المنظر الحقيقي فإنه لم يبتدئ في الأولدبيلي، مجلس القضاء في لندن، إلا بعد ذلك بأربعة أشهر، عندما صدر الحكم بالخيانة العظمى على ويليام جويس الطالب السابق في المعاهد الملكية في لندن، والإنكليزي الفاشي سابقا. ولقد تم الكشف عن سيرة ويليام جويس أمام محكمة يرأسها القاضي نوکر وتضم نخبة رائعة من الخبراء، بينهم السير هارتلي شو کروس والسيد ديريك کورنيس بينيشار مستشار البلاط.
إنه متمرد مغرور، حقير رديء نتيجة للعمل الذي أراده في سوق النازية مدفوعة الى ذلك بحقده على إنكلترا إنه تاريخ للخيانة والغدر تجاه بلد تفيأ بظلاله منذ عام 1921، عندما وصل الجزيرة البريطانية قادما حسبما يقال من إيرلندا، أما الواقع فقد ولد ذلك الرجل الذي عرف باللورد هار هار عام 1906 في بروكلين من الولايات المتحدة الأميركية.
كان جويس ذا نفسية حاقدة، كما كان في حرب مستمرة مع التقاليد والعادات أو ما يسمى بثبات النظام الإجتماعي. وكان يفرغ حقده العدائي باتباع ما يسمونه سياسة الشارع. وبعد أن إنتسب إلى جامعة المعاهد الملكية إنضم الى الاتحاد الفاشي البريطاني الذي كان يوجهه السير وولد موسكي وأصبح من أوائل الخطباء لحركة ذوي القمصان السوداء. وفي أثناء أحد الإجتماعات التي كانت تعقد في فندق المدينة في لامبيت، أصيب بضربة آلة من آلات الحلاقة تلك الضربة التي تركت أثرها ندبة كريهة تشوه الجانب الأيمن من وجهه.
كان الصنم الحقيقي الذي يتعبده جويس في الواقع هو آدولف هتلر باعث الرايخ الثالث الجديد، والذي كان يجد فيه أحلام الطموح، والقدرة فلا عجب إذا ما أصبحت ألمانيا ما قبل الحرب موطنه
الروحي لقد صرح جويس كذب بأنه من مواليد غالوي في إيرلندا وإنه نتيجة لذلك من أهالي بريطانيا، وهذا ما مكنه من حيازة جواز سفر إنكليزي، وأعطاه الفرصة ليسافر إعتبارا من عام 1933 عدة مرات الى فاتيرلاند قبل أن يتمكن من دراسة أساليب الفوهرر في موضعها على أرض ألمانيا.
وفي 24 آب عام 1939، قام جويس بتجديد جواز سفره للمرة الثانية. وبعد ذلك بقليل سافر إلى ألمانيا بعد أن حزم أمره وقرر عدم العودة إلى بريطانيا نهائيا. وصرح أمام أحد ضباط الإستخبارات الإنكليزية الذي كان يستجوبه أثناء إقامته في مستشفى لامبورغ، وذلك بعد إعتقاله بعدة أيام، بأنه عندما إتخذ قراره بمغادرة إنكلترا إلى ألمانيا لم يكن يسعى وراء أي مغنم مادي، انما كان مدفوعا بتأثير مفاهيمه السياسية. وكان مما قاله:
بما أنني كنت قررت أثناء تلك الفترة العصيبة بأن أحيد عن شرف خدمة إنكلترا، فلقد توصلت الى النتيجة المنطقية في إنه لم يعد لي الحق في أن أعود إلى بريطانيا بإرادي الخاصة، وأنه من المفضل أن أطلب الجنسية الألمانية لكي أقيم في ألمانيا بصورة نهائية.
ولكن في الواقع هو أن إسم ويليام جويس كان مدرجة بين الأسماء التي تضمنتها القوائم التي كان يقوم هتلر بتزويدها بالمال. فمنذ عام 1937، وبعد أن إنفصل عن موسلي وتشرد أعضاء الحزب الفاشي أصبح جويس عميلا من عملاء النازية، وعلى علاقة وثيقة بإحدى شبكات الجاسوسية التي كان يقوم على توجيهها مكتب سري في لندن. وكانت هذه الشبكة تضم أكثر من ثلاثماية عميل مزودين جميعا بالأسماء الرمزية ومصنفين حسب الأحرف الهجائية ويتخاطبون بالنصوص الرمزية، وهذا ما كان يمكنهم من التأكد من شخصيات بعضهم بعضا. وكانت الشبكة على إتصال دائم مع أعضاء السفارة الالمانية التي كانت تقيم في تلك الفترة في كارلتون هاوس تيراس على مقربة من وزارة الحربية البريطانية. ولقد أذيعت بعض الدقائق عن اعمال جويس في شبكة التجسس هذه منذ عام 1941 على اثر التقارير التي عملت على تقديمها فتاة ممثله كانت قد انتسبت كعميله سريه ثم إنفصلت عن المنظمة.
وكان سبب إنفصالها هو ما بدأت تشعر من شكوك راودها حول الأهداف الحقيقية لتلك المنظمة. ولقد صرحت الممثلة السينمائية الناشئة أمام رجال الصحافة فقالت:
- عندما انتسبت للعمل معهم، لم تكن لدي أية فكرة عن خيانة جويس ورفاقه. فلقد قيل لي أن البلاد تتعرض للخطر بحيث جعلوي أتوهم في البداية أن روسيا هي الدولة التي يجب الحذر منها.
وكان التبرير الذي قدموه لتلك الفتاة الشابة هو أن المنظمة ترغب في جمع المعلومات للتأكد من إمكانيات الدفاع عن الوطن، وكفايته المواجهة التطورات العاجلة. ولقد بدا لها ذلك غريبة ومبهجة، ولقد صرحت آنئذ بأنه لأمر مفرح حقا أن يزاول الإنسان عملا فيه الكثير من المغامرات. وأعطيت الفتاة إسما رمزيا كي تستخدمه فيما إذا كان لديها من التقارير الخطية ما يتوجب عليها إرساله. وكان كل حرف بالأبجدية يتمثل بحرف رمزي، كما بولغ في إفهامها بضرورة المحافظة
على السر بشكل مطلق، وحذرت بأن أي خطأ تقع فيه أثناء مزاولتها العملها كعميلة سرية ستضطر المنظمة إلى فصلها. ولقد تم تكريسها للعمل بشكل دقيق للغاية بحيث لفتها دوامة هذه الأعمال الجديدة تماما بشكل أصبحت معه غير قادرة على التساؤل لمصلحة من تجازف، ولماذا تقوم بعملها؟. ولو تمكنت هذه الفتاة البريئة من إدراك عملها منذ البداية لعرفت أية حيلة خدعت بها وأية هوة تردت فيها. ومن هنا أدرك رجال الشرطة ورجال المباحث البريطانية أهمية هذه الزاوية المهملة في أعمالهم.
لم يكن العمل بحد ذاته مثيرة، بقدر ما كان الجو المحيط به غامضا. وهذا ما جعل تلك الفتاة تعيش جو المغامرة التي كانت تطالعها في الكتب وتتعرف أكثر فأكثر على الحيل الشبيهة بتلك الأدوار الصغيرة التي تعمل فيها عند إنتاج الأفلام السينمائية. وكان ما قالته تلك
الفتاة - كانت التعليمات غالبا ما تصلني بطريقة غريبة. ففي ذات مساء، وبعد أن تناولت العشاء في أحد مطاعم الطرف الغربي من لندن، وجدت بطاقة علقت على معطفي الذي كنت قد تركته في غرفة المعاطف. وكان مضمون الرسالة يطلب مني الذهاب والإنتظار أمام مخرج إحدى دور السينما في وقت محدد. وقد تأكدت أن جويس على إتصال بعدد من المستخدمين الذين يعملون في فنادق الطرف الغربي من لندن. ووصلت دار السينما في الموعد المحدد حيث سلمني رجل رسالة لأهلها الى سيدة تقيم في أحد فنادق الطرف الغربي،
ولقد اعترفت الفتاة أثناء حديثها بأنها التقت بذات الرجل عددا من المرات بعد ذلك، وعرفت أنه ألماني الجنسية.
وفي مرة أخرى طلب من تلك الفتاة الحصول على معلومات عن أحد المطارات الجديدة للقوات الجوية الملكية، فيما إذا كان ذلك بمقدورها. وصرحت أمام رجال الصحافة فقالت بالضبط: لقد ضايقني ذلك الطلب وأزعجني، لأنني لا أحمل في نفسي أي شعور عدائي لبريطانيا، وقد وجدت أنهم ذهبوا بي بعيدة وخشيت أن يذهبوا في إلى أبعد من ذلك فيطلبوا مني الحصول على معلومات تزيد على حدود مطار جديد ..
علمت الفتاة بعد ذلك بقليل بأن جويس وشركاءه على إتصال وثيق مع بعض أعضاء السفارة الألمانية، وأن من عاداهم الإجتماع في دار سيدة تتصرف ظاهرية وكافا من نبلاء العائلات الإيطالية. وتأكدت شكوك الفتاة أخيرا عندما اكتشفت أن جوس نازي صميم، وأنه ينتظر بفارغ الصبر وصول ذلك اليوم الذي يتمكن فيه هتلر من فتح بريطانيا والتغلب عليها. واعترفت الفتاة فقالت:
- عندئذ أدركت ذلك الخطأ الفادح الذي وقعت فيه، فقررت أن أقطع فورا كل إتصال مع جويس وزمرته. ولحسن الحظ فقد توقفت عن الإستمرار معهم في الوقت المناسب، فالحمد لله.
وذهب جويس بعد ذلك بقليل إلى المانيا، وكان يتخيل عندئذ أنها ستكون سفرة بلا عودة، أو على الأقل حتى يأتي ذلك اليوم الذي تصبح فيه أعلام الصليب المعكوف خفاقة ظافرة فوق مباني قصر بكينغهام والوايت هول. ولكن تلك الرحلة في الواقع كانت بداية الطريق الذي أوصله الى حبل المشنقة.
لم يعرف عن حياة جويس في المانيا بعد أن وصلها من إنكلترا وحتى أصبح عامة في الإذاعة الألمانية كدعائي رئيسي للإذاعة باللغة الإنكليزية الشيء الكثير، وكانت زوجته الثانية ترافقه عندما غادر إنكلترا عام 1939. وكانت هذه السيدة تفيض نشاطا وحيوية، ذات لون أسمر جميل، تزوج منها بعد أن افترق عن زوجته الأولى عام 1934 بعد أن كان قد أنجب منها إبنتين. وكانت الزوجة الثانية تعمل موظفة في وزارة الإعلام الالمانية، وتنحصر مهمتها في تصحيح النصوص الإنكليزية قبل تقديمها لتذاع على الهواء. وكانت هي المسؤولة على ما يبدو عن أكثر التفاهات الصادرة عن هار هار. وهي التي عملت على إذاعة تلك النشرة عبر الأثير، والتي ذكرت فيها أنه تم تدمير قاعدتين إنكليزيتين ساحليتين هما در فر رفولکستون. وكان لا بد لذلك الخبر الكاذب والمستحيل تصديقه من أن يعكس أثره على وجه الخائن، عندما وقف وجها لوجه مع أخصامه الذين يحاكمونه على جريمته أمام المحكمة الرئيسية والمنعقدة في أولدبيلي للنظر في المواضيع الجنائية.
هرب جويس وزوجته من هامبورغ قبل وصول الدبابات الإنكليزية اليها بساعات قليلة، واتجها شمالا حتى وصلا أخيرا إلى فايسنبورغ على مقربة من الحدود الدانمركية. وكان من المحتمل تماما أن يتمكنا من الفرار والنجاة من قبضة الإعتقال لولا أن وقعت مشادة بين الزوجين وارتفع صراخ الرجل الذي كان صوته معروفة ومألوفة على آذان العسكريين البريطانيين. وفي الواقع، وإثر تلك المناقشة الحادة، غادر جويس مباشرة المنزل الذي كان التجا اليه في كوفر موهلل للقيام بترهة في الغابات بغية إراحة أعصابه المشدودة، ووجد ذاته على حين غرة وجها لوجه أمام الضابطين البريطانيين، وهما من ضباط الإستخبارات في الجيش المدرع الملكي، وكانت الرصاصة التي انطلقت من مسدس الملازم بيري هي التي أصابت جويس في إليته. 
أما زوجته السيدة جويس فلقد تم اعتقالها بعد زوجها بفترة وجيزة. ولقد عثر في حقائبهما الثلاثة على عدد من الوثائق المتعلقة بالزوجين، مع دفتر مذكرات وحوالي مئة وخمسين صورة فوتوغرافية للجنود الألمان من الوحدات التي كانت تقيم في كوربودا بألمانيا.
كانت السيدة جويس تحمل في أصابعها أربعة خواتم، وقد سحبت هذه الخواتم منها لا سيما وأن أحدها يحمل حجرة كبيرة، وذلك خشية أن يحتوي على السم. وقد أجبرها الضابط الذي كان يعمل على استجوابها على تسليم سوارها الذي كانت تحتفظ به لأنه كان ذا طرف قاطع يمكن إستخدامه إذا ما أرادت إيذاء نفسها. كما قامت سيدة من ضباط مصلحة الصحة بتفتيشها تفتيشأ داخلية دقيقة، فلم يعثر على أي شيء قد تتمكن من استخدامه إذا ما رغبت في الإنتحار.
وتم استخراج الرصاصة من إلية جويس ثم نقل هذا المتمرد الذي يكره إنكلترا إلى لندن، کسجين رضيع حقير، وذلك بانتظار إستجوابه عن جريمة الخيانة العظمى، ولذا لم يتحقق حلمه في العودة ظافرا في اذيال قوات العدو المنتصرة.
ولقد ثارت ذات الإنفعالات التي كانت في صدور الجنود عندما أحاطوا به حول سيارة الإسعاف في لينبورغ مرة أخرى في نفوس المواطنين البريطانيين، ولكن بقوة تزيد مئات المرات عن السابق.
وكان الجمهور المتدافع يحتشد ليحيط بناء المحكمة في مبنى أولدبيلي عند انعقاد المحمكة في يومها الأول، والشعور بالحقد يطفح منه.
ولقد شهد قفص الاتهام، أمام المحكمة المركزية للجرائم والجنايات في لندن، عددا كبيرا من الأشخاص الفاسدين والمجرمين، ولكنه ربما لم يشهد أبدا فيما سبق متهما اكتسب ذلك المقدار من الكراهية والحقد يماثل ما حصل عليه اللورد هاو هاو، ذلك الخائن الذي كان يتراقص ويضحك وراء المذياع بينما كانت لندن طعمة للحريق والدمار.
وعند بدء المحاكمة، أقرت محكمة البلد" الذي غمره باحتقاره" حق المساعدة المشروعة، تلك المساعدة التي تمنحها عادة لكل سجين يعجز عن القيام بالنفقات المالية للدفاع عن نفسه. فتم تعيين ثلاثة من أقوى المحامين في المملكة المتحدة للدفاع عن جويس وهم السيد جيم بورج وإثنين من مستشاري البلاط هما السيد ج ار سيلاد والسيد ديريك کوري بينيت. وكان أمر تكليف هذه الزمرة من المحامين يتطلب نفقات باهظة حتى لو كانت الدعوة مدنية. ومن المؤكد بعد ذلك أن
شعور جويس قد غمره الفرح والإمتنان لما قام به هؤلاء الخبراء من الخدمات في تلك الدعوى.
وأجاب ويليام جويس على اقامات نواب الحق العام الثلاثة بأنه غير مذنب، بينما كان يرتدي ثيابه الأنيقة ذات اللون الأزرق الفاتح. أما نبرات صوته فقد كانت تختلف عن تلك النبرات التي كان يستخدمها عندما كان يتكلم من خلف أجهزة الإذاعة الألمانية. ولم تقابل إجابته هذه بأية بادرة من بوادر السخرية، ولكن ملامح الذعر إرتسمت على وجهه عندما بدأ يستمع إلى النائب العام السيد هارتلي كروس يعرض أعماله على مسمع من وزارة الأمور العامة.
- السيد رئيس محامي الدفاع، كان من واجب جويس أن يكون وفية ومطيعة للملك ولكنه تعاون مع أعداء الملك أثناء إقامته في المانيا وقام بإذاعة النصوص الألمانية المعادية في الفترة الواقعة بين 18 أيلول عام 1939 و 29 أيار عام 1945.
ثانيا - إنه متهم بالتحالف مع أعداء الملك وذلك بتاريخ 29 أيلول عام 1940 عندما استبدل جنسيته بالجنسية الألمانية.
- أما الإمام الثالث فكان ممثلا للإقام الأول ما عدا بعض التعديل في تاريخ وقوع الحوادث المحصورة بين 18 أيلول عام 1939 و 2 تموز 1940. وبالإختصار، فقد كان الإقام يرتكز على مبدأ ثابت هو أن جويس وهو مواطن بريطاني قد وضع نفسه تحت تصرف النازيين بينما كانت إنكلترا في حالة حرب مع النازية.
وأراد الدفاع دفع الإقام فذكر بأن جويس أميركي، وإن أباه إرلندي وأمه إنكليزية، وقد أثار هذا الدفاع معركة في أصول إجراءات الدعوى خلال فترة تمكن خلالها أعضاء المحكمة من الإمساك بأنفسهم المبهورة لمشاهدة هذه المحاكمة المثيرة.
وحسم الموقف هارولد غودرين الضابط المساعد في مصلحة الجوازات عندما جلس في مكان الشهود وصرح أمام النائب العام بأن جويس كان قد تقدم بطلب تجديد جواز سفره قبل إعلان الحرب بفترة قصيرة.
وقال السيد هارتلي وهو يبرز وثيقة الشهادة: - أنظروا، أليست هذه الورقة هي نموذج لطلب تجديد جوازات السفر؟ وأومأ غودرين برأسه علامة الموافقة. عندئذ تابع السير هارتلي فقال بصوت هاديء ونبرات واضحة: إسمعوا إذن المحتوى الذي تضمنته هذه الوثيقة: - إنني أقر وأعترف أنا المدعو ويليام جويس والمقيم حاليا بالبناء رقم 38 بشارع أيردلي كريسنت في القطاع الجنوبي الغربي الخامس من لندن بأنني أطلب وجاهية تجديد جواز سفري البريطاني رقم 12993 الذي كنت قد تسلمته في لندن بتاريخ السادس من شهر تموز عام 1933 بفترة أخرى متقا عام واحد، وأصرح بأنني من مواليد بريطانيا ورعاياها، وإنني لم أفقد هذه الجنسية، وأن كافة هذه المعلومات التي ذكرها في هذا التصريح هي صحيحة وثابته.
وأجاب غودرين: نعم هذا هو النص فعلا. - وهل يحمل هذا التصريح توقيع ويليام جويس؟ - نعم. هو ذا! 
- هل تاريخه 24 آب عام 1939؟ ... - نعم. - هل تم تجديد الجواز حتى أول تموز عام 1940؟ ...
وقال هارولد غودرين: نعم. حصلت الموافقة وتم تجديد الجواز. وبذلك قوض النائب العام أول الدفوع الرئيسية في أقوال الدفاع، ثم قام باستدعاء الشاهد الثاني وهو ألبرت هنت مفتش المباحث للفرع الخاص في السكوتلانديارد الجديد، الذي قام بالإدلاء بشهادته بعد أن أخذ مكانه في منصة الشهود، وأكد أن جويس كان قد دخل في خدمة المنظمات النازية منذ 18 أيلول عام 1939 عندما احتل مكانه كمذيع للأنباء الإنكليزية. ولقد صرح هنت بأنه سمع صوت السجين لأول مرة قبل الحرب العالمية الثانية مباشرة عندما وقف جويس يخطب كعضو في الإتحاد الفاشي البريطاني أمام مجمع عام في لندن. ولذا فلقد كان المفتش يعرف تماما لهجة صوته التي استمع اليها خلال عدد من المرات عندما كان يلقي جويس خطابه على الجماهير. وسأله السيد هارتلي: - وهل كنت في الخدمة في فولکستون بتاريخ الثالث من أيلول عام 1939؟. - نعم كنت هناك. 
- بين هذا التاريخ وتاريخ العاشر من كانون الأول، ترى هل استمعت إلى إحدى الإذاعات وشعرت بصدمة خاصة عندما استمعت الى لهجتها؟ ... - نعم. إنني أذكر ذلك جيدا. لقد استمعت إلى إذاعة وعرفت أن الصوت الذي أسمعه هو صوت جويس حتما، وذلك عندما كان يذكر إنه قد تم تدمير فولکستون ودوفر. - شكرا، أيها السيد المفتش .. وأعاد السير هارتلي وضع الشعر المستعار الذي يحمله فوق رأسه، والمتدلي على كتفيه بشكل مناسب، بينما كان ذلك الرجل القابع في قفص الإتهام يعض بأسنانه على شفتيه، في حين إرتمت زوجته التافهة والتي سمحت بمررر ذلك النص وإذاعته على ظهرها لأنها مكنت النائب العام بالإفادة من تلك النقطة الحاسمة في قرار الإقام.
ولم يترك السير هارتلي ذلك الموضوع يمر دون تعليق عندما وقف أخيرة أمام رئيس المحكمة والمحلفين ليقول: - إنه لمن المؤكد بأن تصريح جويس الذي ذكر فيه إنه قد تم تدمير كل من دوفر وفولكستون تصريح لا أهمية له، ولا يترك أي أثر في نفوس أولئك المقيمين في إنكلترا. ولكن نتائج ذلك تبدو خطيرة أثناء سير العمليات الحربية في نفوس الوحدات الإنكليزية المقاتلة خارج الوطن وفي المناطق التي لا يستطيعون فيها الإستماع الى محطات الدعاية النازية، وكذلك أولئك الذين لا يستطيعون الحصول على المعلومات الدقيقة عما يجري داخل البلاد.
وبذل الدفاع قصارى جهده ليدعم ريدافع عن وضع السجين، فوقف السيد ج. أو. سيلاد وابتدأ قوله ذاكرة أن جويس لو أراد اكتساب الجمهور ليستمع إلى إذاعته بانتظام لما ابتدأ بتلك الاكذوبة الكبيرة التي لا يصدقها عقل من عقول المستمعين الذين بإمكانهم أن يتأكدوا من صحة الأنباء بعد مدة لا تزيد عن ثمان وأربعين ساعة من إذاعتها.
واستمر السيد سلاد في دفاعه مدعية أن جويس رجل أجنبي على كل حال، وليس على الأجنبي واجب الطاعة للتاج إلا عندما يكون في حماية التاج، وإن حيازته جواز سفر بريطاني لا يجبره بأية حال من الأحوال على إطاعة التاج البريطاني، على الأقل في تلك الفترة التي كان يقيم أثناءها في ألمانيا.
ولم يكن هذا الدفاع إلا محاولة لإنقاذ الموقف. وفي اليوم الثالث من أيام المحاكمة أعلن رئيس المحكمة أمام المحلفين وهو يرتدي ثوبه الأحمر بأن واجب الطاعة والوفاء للتاج كان مفروضة على جويس. وقد كان الزاما علية أن يتقيد بذلك طوال الفترة التي كان يحمل فيها جواز سفره البريطاني.
 ولم يتغيب المحلفون أكثر من ثلاثة وعشرين دقيقة، عندما عادوا وأعلنوا أن جويس مذنب. وهكذا صدر الحكم عليه بالإعدام شنقا حتى الموت، ولقد رفض طلب الرحمة الذي بعث به جويس الى المحكمة أولا ثم الى مجلس اللوردات ثانيا.
وفي نهاية الجلسات طلب رئيس الحكمة تو کر بوقار من جويس فيما إذا كان لديه ما يضيفه، أو إذا كان هناك ما قد يخفف عنه عقوبة الإعدام، ولكن جويس لم يكن لديه شيء ليضيفه.
وأخيرا، كان لا بد من أن يقول البلد الذي أظهر عداءه له كلمته، وهي الكلمة الأخيرة، فتم تنفيذ حكم الإعدام بجويس بتاريخ الثالث من كانون الأول عام ألف وتسعمائة وستة وأربعين.
المرجع
(1) کيرت سنجر " أعلام الجاسوسية العالمية ". ترجمة بسام العسلي. دار اليقظة العربية. بيروت 1990.ص 221 - 233.







مصادر و المراجع :

١- موسوعة الامن والاستخبارات في العالم

المؤلف: د. صالح زهر الدين

الناشر: المركز الثقافي اللبناني للطباعة والنشر والتأليف والترجمة - بيروت

الطبعة: الاولى

تاريخ النشر:2002 م

تعليقات (0)

الأكثر قراءة

ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلا … ويأتيك بالأخبار من لم تزوّد
المزید
فصبرا في مجال الموت صبرا … فما نيل الخلود بمستطاع
المزید
حننت إلى ريّا ونفسك باعدت … مزارك من ريّا وشعباكما معا
المزید
أفاطم مهلا بعض هذا التدلل … وإن كنت قد أزمعت صرمي فأجملي
المزید
إنّ أباها وأبا أباها … قد بلغا في المجد غايتاها
المزید