المنشورات
شبكة التنصت البريطاني في فخ الإبتزاز السوفياتي.
يعتبر "العقل" قيمة من أسمى القيم الإنسانية التي وهبها الله عز وجل لأعز مخلوقاته على وجه الأرض وهو: الإنسان.
لذلك فإن المحافظة على هذه النعمة هي واجب وفريضة في الوقت نفسه، ولا يدرك أهمية هذه القيمة إلا من كان بها جديرة وخصوصا في الأوقات التي تتطلب إمعان العقل في أمور تفرض التعقل والحكمة. فكيف والحال هذه بمن كان في موقع خطير وحساس، يلزمه بأن يكون دائما حذرة ومتيقظا وعاقة في كل تصرف من تصرفاته؟ لكن شهوة الإدمان على الكحول والشذوذ، لا تقيم للعقل وزنا ولا تعترف بقيمته ... وفي الوقت الذي " تذهب " فيه عقولهم في رحلة الملذات، سرعان ما يستفيقون ليجدوا أنفسهم وهم في " فخ " نصبه هم محترفون في هذا الفن، فيصعب الإفلات منه بسهولة، لأن " الصيادين البارعين " كانوا يدركون تماما كل خيوط الخطة المحكمة للإيقاع ب"الطريدة الطائشة".
وهذا ما حصل بالضبط مع رجال التنصت البريطانيين في قبرص على أيدي رجال المخابرات السوفياتية ال (كي. جي. بي.) فكيف كان ذلك؟ وماذا كانت النتيجة؟.
ففي لندن قدم سبعة من البريطانيين العاملين في القوات البريطانية في قبرص الى المحاكمة. وهؤلاء البريطانيون " عملوا " في قسم التنصت والتجسس البريطاني المقام في قبرص منذ سنوات. وقدموا لمحكمة الجنايات التي لها صلاحية الحكم بقضايا التجسس بجرم التجسس الذي ارتكبوه أثناء عملهم على مدار عامين من شباط (فبراير) 1982 إلى شباط (فبراير) 1984. ففي شباط (فبراير) 1982 دعي البريطاني " تومبسون وارد " لحضور حفل خاص سقي فيه مخدرات جودته من إرادته حيث تم تصويره من قبل عميل مخابرات أجنبي في حالة بغاء وشذوذ جنسي. بعد ذلك جرى قديده بكشف أمره إذا لم يقدم بانتظام معلومات " سرية " من موقعه في العمل، فقام بتسليم العميل الكثير من الوثائق تحت التهديد أولا وتحت الإغراء ثانية، حيث كان العميل يدفع له عن كل وثيقة بريطانية رسمية يحضرها له مبلغ خمسين جنيه إسترلينية ثم طلب من تومبسون إستقطاب رفاقه البريطانيين المنغمسين معه في عمليات الشذوذ ففعل ما طلب واستقطب المزيد من رفاقه الذين تم تصويرهم أيضا وابتزازهم وإرغامهم على التجسس. وبلغ عدد الوثائق المئات منها السرية ومنها السرية جدا وتسلم الجواسيس بدل هذه الخدمة النقود والمخدرات والمزيد من حفلات الشذوذ بدون سبب إيديولوجي أو سياسي.
وإعترف المتهمون السبعة بأن العملاء الأجانب الذين ورطوهم بالتجسس كانوا ثلاثة تم وصفهم كالتالي: _ الأول عربي واسمه " يونس ". _ الثاني روسي ضابط في المخابرات السوفياتية واسمه الكسي. - الثالث قبرصي واسمه " بابا أرتينا ".
كما اعترف تومبسون بأنه حضر الى قبرص في عام 1979 منقولا الى قسم التنصت والتجسس في القاعدة البريطانية، وأنه التقى في شباط (فبراير)) 1982 بشخص عربي يعمل تاجر خضروات وفواكه يدعي يونس في ناد ليلي بلارنكا. وبعد الشرب سويا سكر تومبسون للشمالة وعلى الطريقة البريطانية. فذهب مع يونس إلى مترله حيث أعطي مخدرات وكحوليات ذهبت بالبقية الباقية من عقله، ولم يشعر إلا وقد تمت العملية معه كما يتم الأمر بينه وبين صديقه " کريستوفر" الذي يقيم معه علاقات شاذة. وبطبيعة الحال جرى تصويره بمختلف أنواع التصوير. فيديو، سينما 19 مم، تصوير ملون، عادي. وفي اليوم التالي أخير يونس تومبسون بأن لديه إثباتا لما حصل تصويرة وشهود وأن عليه إحضار تفاصيل عن عمله وإلا فإنه سيطلع المسؤولين عنه على تفاصيل ما حصل؟ وخاف تومبسون أن يطرد من الخدمة في القوات البريطانية. وبدأ يسرب المعلومات السرية الى يونس في مترله أو في النادي الليلي في لارنكا. عمل تومبسون شهرين لوحده حتى طلب منه يونس إحضار زملائه واحدة بعد الآخر لجرهم " مثلما جرى معه " إلى حفلات شاذة ثم تصوير هم وابتزازهم وتوريطهم للعمل في التجسس حتى وصل عدد البريطانيين الذين قبلوا بالممارسات الشاذة ثم قبول التجسس والخيانة إلى سبعة وإن أحدهم متزوج وكان يسمح لزوجته بالمشاركة في الحفلات الشاذة المتكررة مع المجموعة، والتي كانت تقام في منزل أحدهم، وهو سكن للجنود غير المتزوجين داخل القاعدة البريطانية. ثم تحولت هذه الحفلات الشاذة إلى مرل الجندي المتزوج وفي منطقة سكن الجنود المتزوجين في القاعدة. وبناء على اقتراح الزوجة الشاذة نفسها " بالطبع هذه الحفلات كانت تقام ضمن القاعدة دون مشاركة أجانب" والحفلات التي يقصد منها تسهيل عملية التجسس أو إصطياد عميل جديد كانت تقام في مترل يونس.
واستمرت الحفلات حتى خريف عام 1983 حيث تعرف تومبسون العميل الشاذ على أرتيست فيليبينية تدعى " جوبي " كانت السبب فيما بعد بكشف الجميع.
إستمرت عملية التجسس لمدة سنتين. فالكسي السوفياتي هو زعيم الشبكة التي تحصل على المعلومات وأصبح تومبسون رئيسا للمجموعة البريطانية وقناة التوصيل، وقبض النقود واستلام المخدرات، وهو المسؤول عن توزيعها على المجموعة، فهو الذي أسسها أصلا. عندما تعرف تومبسون على الفتاة الفيليبينية خافت المجموعة بأن يؤدي هذا التعرف لكشف سر أفرادها؟ فعقدوا إجتماعات عديدة لمناقشة ماذا يفعلون إذا فضح الأمر. نصيحوه أن يتركها وهو الذي ليس بحاجة إلى الجنس فرفض لأنه متعلق بها. وحين ذلك " انتهت " مدة خدمته في قبرص واستلم بطاقة الطائرة للعودة إلى لندن ولكنه لم " يغادر" قبرص لأنه أراد قضاء أطول مدة ممكنة مع جوي لدرجة عرضه الزواج عليها بدون أن يعلمها بتورطه بالتجسس لصالح ال كي. جي. بي ...
المخابرات البريطانية تكشف حلقة التجسس:
أطال تومبسون بقاءه في قبرص مما لفت نظر المخابرات البريطانية الأنتلجانس سرفيس) في مقر عمله السابق الكائن قرب أيوس نيکولاوس بقبرص، لأن دورياقم كانت تعرفه جيدا. واستمرت هذه الدوريات تراه في المرابع الليليه مع صديقته الفليبينيه فراقبوه وعرفوا علاقته مع الفتاة الاجنبية. وهذه العلاقه محرمه على موظف المخابرات او العاملين في اجهزة الأمن إلا إذا كانت بعلم رؤسائه، أي أن تكون العلاقه للمصلحة العامة وخاصة المخابرات البريطانية التي تحظر على العاملين في حقل التجسس البريطاني الاتصال بالفتيات الغربيات حتى لا يقعوا في حبائل العملاء الأجانب. اما الاختلاط "الشاذ" فلم يكن يثير انتباه المخابرات البريطانية ويبدو انه ممارسه عاديه بين رجال القوات البريطانية.
إستمرت المخابرات البريطانية في مراقبة تومبسون مراقبة هادئة دون أن تعلم تورطه بالتجسس شيئا، وأخيرا استدعي إلى مقر المخابرات وبعد مواجهته بالأمر " علاقته بجوي فقط " تطور التحقيق بعد أن وجد را معه وثائق سرية، فانهار وبدأ يعترف على بقية الحلقة التجسسية. فتم ضبط الجميع وصودرت منهم العديد من وثائق التجسس فاعترفوا بما أقدموا عليه وجرى نقلهم إلى لندن حيث قدموا الى المحكمة، وأثناء المحاكمة قال المدعي العام البريطاني أن هذه القضية تتداخل فيها كل عناصر الفضيحة والاثارة وإنها على غاية من الأهمية بالنسبة للدفاع عن بريطانيا. ويتابع المدعي العام حين يقول أن الإبتزاز هو السبب الرئيسي لوقوع المجموعة في فخ العملاء الأجانب وأن أسباب الإبتزاز هي حضور المجموعة حفلات الشذوذ الجماعية التي وصفها المدعي العام بأنهم كانوا يلبسون ملابس النساء ويتبادلون الفحشاء. وقد وصفت الصحافة البريطانية هذه الحفلات بتفصيل مثير نقلا عن الشهادات في المحكمة. وقال المدعي العام موجها كلامه الرئيس المحكمة:
سيدي الرئيس إن رجالا مثل هؤلاء عملهم في القوات المسلحة يفرض عليهم السرية والكتمان، يقيمون هذه الحفلات فيتركون أنفسهم عرضة للإبتزاز، وهذه الحفلات محرمة عليهم خاصة وأنهم يعملون في مجالات حساسة. ونفس الشيء ينطبق على تناول المخدرات .. لقد عملت هذه المجموعة في قلب أهم المواقع العسكرية حساسية واستمر عملها دون انقطاع العامين قدموا خلالها معلومات سرية جدة لعملاء أجانب مما أحدث خسائر عظيمة للأمن العام البريطاني. وأضاف المدعي العام إن المجموعة كانت تعمل في قسم الاتصالات والتنصت حيث يتم التعامل مع وثائق خطيرة وإن ستة من السبعة كانوا قادرين على الوصول لأدق المعلومات في مجال عملهم، وإنه لو لم تكن الثقة فيهم مطلقة لما وصلوا لمركزهم هذا أبدا. وأعرض لكم (أي لرئيس المحكمة) إن الحقيقة الثابتة الكبيرة أنه حتى شباط (فبراير) 1984 قدم أفراد المجموعة الاسرار بحجم كبير وليس بشكل إقتصادي، ولكن في أكياس مليئة. ثم ذكر المحامي العام هيئة المحلفين بأن هذه المعلومات مستقاة من المتهمين فقط ويجب عدم أخذها وكأنها الحقيقة كاملة خاصة المعلومات المتعلقة بالدولة الأجنبية المستفيدة من هذا التجسس. إذ يعتقد أنهم لم يقولوا الحقيقة. وربما اتفقوا على أقوالهم قبل کشف أمرهم وإن الشيء الوحيد الواضح أن أقوال المتهمين بالتجسس نصف الحقائق والنصف الآخر أكاذيب صارخة وإن ذلك
كان جزء من خطة محكمة معدة لتضليل المحققين وحماية العملاء الأجانب من الكشف وإن ذلك "عقد" التحقيق واخره. وفي النهاية طلب المحامي العام لهم أقصى العقوبات التي تسمح بها القوانين البريطانية ليكون ذلك رادعة لهم ولغيرهم وقد وجدهم المحلفون مذنبين فجري الحكم على كل من الرجال الستة بالسجن عشر سنوات لكل منهم والحكم على السابع بالسجن خمس سنوات نتيجة تجسسهم وعدم إبلاغهم لرؤسائهم لدى تورطهم. إذ لو أنه قام كل منهم بالابلاغ عما تعرض له حتى لجهة الشذوذ فإن المخابرات البريطانية تعلم ان الكثير من البريطانيين يمارسونه ويبقى موضوع الابتزاز فتخلصه منه بنقله أو اتخاذ أي إجراء يجعل العميل المهدد يشعر بأن لا قيمة لتهديده. ولكن إنها المخابرات.
المرجع
(1) سعيد الجزائري "ملف الثمانينات عن حرب المخابرات". دار الجيل. بيروت. ودار دمشق 1989. ص 278 - 283.
21
مصادر و المراجع :
١- موسوعة الامن
والاستخبارات في العالم
المؤلف: د. صالح
زهر الدين
الناشر: المركز
الثقافي اللبناني للطباعة والنشر والتأليف والترجمة - بيروت
الطبعة: الاولى
تاريخ النشر:2002
م
1 أبريل 2024
تعليقات (0)