المنشورات

دقة الجاسوسية الألمانية بين النجاح والفشل

كثيرون جدا من الناس، هم الذين عششت الفوضى وعدم الانضباط في دمائهم، ونخرت عظمهم في أحيان كثيرة. أدمنوا عليها وأصبحت جزءا أساسية من حياتهم، تماما ككل المدمنين على تعاطي المخدرات، وتناول المشروبات الروحية.
وكثيرون جدة بالمقابل، هم الذين أدمنوا على الانضباط والتنظيم والدقة في أمور حياتهم، وطبيعي أن يكون هذا الإدمان المفرط سببا في القضاء على صاحبه؛ وخصوصا في مجال المخابرات والتجسس، وفي حقل المعلومات. هذا وقد شكلت الحرب العالمية الثانية تربة خصبة لانتشار هذه الظاهرة التي برز في مرتبتها الأولى جواسيس الألمان النازيين، كما كان كثيرون منهم من أهم ضحاياها.
تميز الألمان بنزوعهم نحو الدقة، أو بعبارة أعم نحو «فن مجابهة الصعوبات .. وهذا ما يوصف في كثير من الأحيان بالعبقرية.
إزاء ذلك، كان لابد من التخصص الدقيق لمواجهة هذا الفن الالماني العريق، وتحطيم هذه الأسطورة التي يفتخر بها النازيون، رغم نجاحاتهم الواسعة في هذا الحقل. وبما أن البريطانيين كانوا معنيين أولا وأخيرا بهذه الظاهرة، فقد أدركوا ? بلا شك - أهمية ذلك، حتى برع فيهم رجال تفتخر بهم الإنسانية، وتقدر عظمتهم وخبرتهم في مجال مكافحة الجاسوسية، والالمانية منها خاصة
ويعتبر العقيد البريطاني أورست بتوه من أعاظم الرجال الذين تربعوا على عرش مكافحة الجاسوسية في العالم، وهو الذي لعب دورا كبيرا في

العالمية الثانية.
وليست قضية الجاسوس الالماني الخطير اتمرمانسا، إلا واحدة من تلك التي ساهم أورست بنتوه في كشفها رغم دقتها الفائقة.
فما هي قصة «تمر مانس»؟ وما هي تفاصيل اسرارها؟. إن الدقة المفرطة، في الواقع، قد تفضح الكثير، وتؤدي إلى الهلاك.
كان المرمانس، من أصل بلجيكي، وكان عمره ما يقارب 37 سنة، ولم يكن متزوجا، وكانت مهنته البحرية، كما كان مظهره يدل على مهنته.
و كان يبدو عليه أنه بحار عادي، ويمكنك أن تجد مائة مثله في اي ميناء في العالم. كان لباسه نظيفة، ويبدو أنه بحسن العمل اليدوي، ولم يكن كثير الذكاء، لكنه كان كثير المنطق. وقد كانت عيناه زرقاوين، وشعره أشقر غير منتظم، ويبدو عليه أيضا أنه عاطفي وغير مراوغ.
من هذا المنطلق، يقول العقيد أورست بنتو، بأن قصته كانت أكثر اعتيادية من مظهره. فقد قرر أن يترك بلجيكا بعد احتلالها من قبل الالمان ويلتحق بالبحرية التجارية البلجيكية في انكلترا، والتي كانت تحتل ميناء برکسهام الانكليزي. وقد اخترق فرنسا المحتلة وحده الى احدى المناطق، فجيء به بعد أن اتجه نحو الجنوب ووصل الى جبال البرينس» ... ولكونه بحارة جيدة تمكن من اجتياز الجبال إلى أسبانيا، وقد وضع هناك في السجن السوء طالعه. وقد أنهى سبعة أشهر في زنزانة مظلمة قذرة في برشلونة حتى تمكنت القنصلية البلجيكية من إطلاق سراحه بعد جهد كبير، وأرسل بعدها الى لشبونة في البرتغال، حيث قدمت اسمه القنصلية البلجيكية هناك بين قائمة المنتظرين للذهاب إلى انكلترا. وبسبب كون المرمانس، شابا ويمكنه العمل من أجل الوطن، أعطي الأفضلية في اللجوء الى انكلترا التي وصلها في نيسان عام 1943. وقد جيء به الى المدرسة الوطنية في كلافهام، لغرض الاستجواب الاعتيادي ... ولأنه مواطن بلجيكي، فقد أرسل إلى أحد المستجوبين البلجيكيين. وقد كان هذا أحد تلامذة العقيد أورست بنتوه
حيث لم تكن له علاقة في موضوعه هذا حتى تلك اللحظة، لأنه كان مشغولا في استجواب إسباني؛ وقد كان موضوع استجواب تمر مانس، موضوعة روتينية ويستطيع ضابط الأمن البلجيكي أن يعالجه لفطنته وذكائه.
لقد كانت المهمة في المدرسة الوطنية تقضي بتفتيش لوازم المتهم بصورة دقيقة، سواء كانت حقائب أو لوازم شخصية. وقد يحمل الأبرياء الصور والجرائد المحلية وأوراقا قد تنفع الكثير في إعطائها معلومات ممتازة للمستجوب المدرب، والذي يصل لغرض التجسس يجلب معه عادة الوسائط التي بواسطتها يرسل المعلومات التي يحصل عليها، ولا يمكن للجاسوس مثلا أن يحمل معه جهاز راديو كجزء من لوازمه، لكنه قد يخفي شيئأ صغيرة مثل آلة التصوير المايكرومي. بالاضافة الى ذلك، هناك قليل من الجواسيس لهم قوة ذاكرة لحفظ الأسماء والعناوين وفي لغة اجنبية غالبا لغرض إيصال المعلومات التي حصلوا عليها، ولهذا كان يقتضي تفتيش جميع حقائب ولوازم المتهمين الشخصية باعتناء كبير، ويؤخذ بهذا عادة بعد الحصول على الاستجواب الأولي منهم، وقبل الاستجواب المفصل الذي يستند عادة على تفتيش لوازم المتهمين والأدلة المستقاة منها.
وفي المدرسة الوطنية كانت هناك غرفة خالية من الأثاث إلا من منضدة

الخشب. وفي كل صباح يجلس المستجوبون وينشرون أمامهم لوازم ازبائنهم، وقد يفحصون احيانا تحت زجاجة التكبير كافة حقائب الألبسة وحقائب الكتب والمحافظ وكتب الجيب والمراسلات وأفلام الحبر وأغلفة النظارات ومشارب الدخان وعلب السجائر والمفاتيح وكل شيء غريب يحمله اللاجئون
ويدقق كل شيء بمنتهى الاعتناء، وعند الفراغ منه يوضع الى جانب. وكانت الغرفة على العموم شبيهة بالجمرك أو المزاد.
كان العقيد «اورست بنتوه جالسا إلى جانب ضابط الأمن البلجيكي، وكان الصباح جميلا في أحد أيام شهر ابريل حيث الشمس المشرقة والأزمار المتفتحة، وكان هو منهمكة في موضوع تمرمانس،. وبينما كان «بنتو، غارقة في التفكير يدرس لوازم اللاجئ الاسباني العنيد، التفت نحوه تلميذه وقال: ماذا تظن أن يكون هذا يا سيدي؟.
لقد بدد تركيزه هذا السؤال وأزعجه. كما يقول بنتو. فنظر اليه وهو يفرغ محتويات محفظة قديمة سوداء وأخرج منها غلافا، وفتح الغلاف وأخرج منه مسحوق أبيض. فأجاب العقيد أورست، متضايقة: كيف اعرف هذا بحق السماء؟ إني لست بمختبر. أرسله الى المختبر وأطلب تحليلا عاجلا ثم رجع العقيد الى عمله يفحص لوازم الإسباني، إلا أنه انتبه بعد لحظات الى صوت (يقول عنه کسولا) يسأله: هل يمكنني مقاطعتك ثانية با سيدي؟». فالتفت الى تلميذه الشاب وكان على وشك إعطائه محاضرة عن الشباب غير الكفوء الذي لا يتمكن من القيام بواجباته، ولكنه راي ما كان في بده، وكان ذلك رزمة من عيدان الليمون شبيهة بما تستعمله الصبايا الحسان الغرض تدوير مجالس اظافر من ... وصرخ عندها: يا الله ... ماذا دهاك يا سيدي؟ قال:
لا شيء، استمر وأخرج القطن، (أجابه بتو.
القطن؟ فصاح باستغراب والنظرة التي طفرت على وجهه كشفت عن شکه بأن أحدهما يجب أن يكون مجنونة وأنه ليس بذاك الشخص، ومع هذا نفذ الأمر ونظر في الجيب الآخر من المحفظة وأخرج بأصابعه قطعة من القطن. وفي هذه اللحظات أنهي قصة جاسوس الماني اسمه اثمر مانس،،
إزاء هذا الوضع، يقول العقيد أورست، وبعد أن شرحت له أهمية اكتشافه طلبت منه أن يترك موضوع اتمرمانسه لي ويبدأ في موضوع آخر. وأخذت أحدق بهذا الجاسوس الألماني والدئة الألمانية التي كشفته. ومن يرسل الى انكلترا لابد أن يجهز بكل الأشياء حتى الصغيرة والتافهة منها. ولكن سيد الجواسيس (الذي عرفنا بعدها أنه سكن في دار ضيوف في لشبونة) أعطاه الرسالة التي أوصلته إلى جهاز مكافحة الجاسوسية دون عناء. فلقد زوده بثلاث ضروريات للكتابة السرية: مسحوق البارميدون ليذاب في مخلوط من الماء والكحول، وأعطاه عيدان الليمون کواسطة للكتابة، وكذلك القطن لغرض لفه على رؤوس العيدان ليتجنب خدش الورق. والشيء الذي يستحق الرأفة من ناحية المرمانس، هو أن بالامكان لأي شخص شراء تلك الضروريات الثلاثة من أي صيدلية في انكلترا، ودون أن يسأل أحد عن السبب في شرائه هذه الأشياء. وهنا أصبح عليه أن يوضح الأمور بسبب دقة سيده. .
والحقيقة أن اكتشاف حقيقة الجاسوس شيء، والاعتراف بالجريمة شيء آخر. وكان من الواجب الإتيان ببرهان أمام محكمة لإدانته بموجب القانون، وقد تمكن العقيد أورست بنتوه من وضع راس المرمانس، في المشنقة، إلا أنه لم يسحب الحبل.
ذهب العقيد بعد ذلك الى غرفته، واستدعي سكرتيرته في الهاتف، وطلب منها أن تسجل له كافة لوازم نمرمانس، بقائمة بحيث لا تترك أي شيء مهما بدي تافها. وبعد دقائق كانت هناك أمامه قائمة مطبوعة على مكتبه، وأدخل فيها بين المواد العديدة المواد الثلاثة التالية:
غلاف فيه مسحوق ... رزمة واحدة من عيدان الليمون .. قطعة من القطن.
وبقي على «اورست، أن يحصل على اعتراف اتمرمانس، بأن هذه الأشياء الثلاثة هي له. وفي تجربته أن كثيرا من الجواسيس يدعون بأن الأدلة التي وجدت بين لوازمهم زرعت معهم من قبل المستجوبين. ودون وجود أي برهان ضد هذا الادعاء بأخذ الحاكم بما يقولونه ويخلي سبيلهم. ولقد غلب العقيد «بنتوه مرة ولا يمكن أن يغلب ثانية. وبعدها ارسل بطلب اتمر مانس.
دخل «تمر مانس، غرفة أورست، بمشية مضطربة، وجلس عندما طلب منه الجلوس ... واخذ بنظر في عيني العقيد ثم ابتسم ابتسامة خجلة دون وعي، فابتسم له أورست، وقدم له علبة السجاير فأخذ واحدة منها واشعلها له، ثم تنفس نفسا عميقا وطرح ظهره الى الخلف. قال له العقيد: حسنا با
ثمر مانس، - في البلجيكية - إن قضيتك غير معقدة لحسن حظك، وقد تحققنا من قصتك ووجدناها كاملة تماما ...
ابتسم تمرمانس، ثانية. وأضاف العقيد: قيل لي أنك ترغب في الانضمام إلى البحرية التجارية البلجيكية الحرة وتقوم بسهمك من الحرب ....
- نعم تواق جدا يا سيدي، قالها مبتسمة وقد تشجع.
أجاب العقيد بنتو: اني مسرور ان اسمع هذا، لأن البحرية التجارية البلجيكية تحتاج الى رجال طيبين مثلك (وأخذت أقلب بعض الأوراق)، وأردف أورست قائلا: حسنا ليس هناك حاجة في تعطيلك أكثر من هذا، لقد تم استجوابك وأنت كما أعلم ترغب بالالتحاق بمواطنيك بأقرب فرصة ممكنة، وسأطلب من ضابط الهجرة أن يعطيك سمة الدخول حالا، وإن رافقك الحظ يمكنك أن تركب القطار هذه الليلة إلى «برکهام،، ما رأيك؟.
هذا رائع يا سيدي، أشكرك جدا (وقد انتشرت ابتسامته من الأذن اللاذن).
ثم قلت: هناك شيء واحد، فهذه لوازمك على المنضدة، تأكد منها، ووقع هذا الوصل الرسمي بها، ويمكنك أخذ لوازمك والذهاب في طريقك ...
تناول المر مانس، القائمة من أمام العقيد أورست، ووقعها بعد أن قراها وقال: كل شيء على ما يرام سيدي
وساد الصمت أثناء توقيعه حكم نفسه بالموت.
بعد هذا دفع ثمر مانس، کرسيه الى الخلف وتساءل: هل هذا كل ما تطلبه يا سيدي؟ قال العقيد: ليس تماما، وأخذ يفتح محفظته بهدوء وأخرج المسحوق ورزمة العيدان ثم قطعة القطن، ووضعها بالترتيب على النشاف، وأخذ ينظر اليه، فاصفر وجهه وزالت ابتسامته واضطربت عيناه ...
قبل أن تذهب أرجو أن تفسر الأسباب التي جعلتك تحمل مثل هذه الأشياء بصورة خاصة في محفظتك، وهي أشياء اعترفت أنها لك بتوقيعك لهذه القائمة؟.
اضطرب ونظر الى القائمة التي في يدي العقيد، وكان كما لو بتحين الفرص لاختطاف هذه الورقة المقيتة من بده، ثم استرخي وطفرت على شفته ابتسامة نصر
قال: طبعا يمكنني تفسير ذلك يا سيدي ... لقد حيرتني برهة ولكني أتذكر الآن جيدأ، عندما كنت في السجن في برشلونة - وقد أخبروك عن ذلك طبعا ? نزلت زنزانة في السجن مع شيوعي اسباني، وفي صباح أحد الأيام الباكر جاء اليه الحرس وأخذوه خارجة. وعند سمعه وقع أقدامهم في الممر، رمي لي بهذه الأشياء الثلاثة وقال إنهم سيقتلونه لو وجدوا هذه الأشياء معه، وطلب مني أن أحتفظ بها له حتى يرجع.
وهنا تنفس عميقة وأردف قائلا: ولكنه لم يرجع ثانية. وقد وضعت هذه الأشياء في محفظتي ونسيت كل شيء عنها حتى هذه اللحظة ... أقسم بشرفي يا سيدي. 
لقد اخفي العقيد أورست، اعجابه بهذا الرد السريع وأخذ ينظر اليه .. وقد قفزت له فكرة لاكتشافه نجربها فورا ...
ابتسم العقيد كما لو أنه بدا يفهم نكتة لطيفة، ثم اتسعت ابتسامته وأخذ يضحك من أعماقه بدون توقف، وألقي رأسه إلى الخلف، واحمر وجهه وسالت الدموع من عينيه، كما لو لم يكن في الدنيا نكتة الطف ...
جلس «تمر مانس، كالشبح طابقا نگيه واحمرت جبهته وأخذ يرتجف كلما تعالي ضحك أورست، وانهار في النهاية وأخذ يضغط راحتيه على أذنيه ووقف على قدميه واخذ يصيح ويشتم ويطلب من العقيد «بنتو، أن يوقف ضحكه الجنوني هذا قائلا:
سأخبرك كل شيء ... كف عن الضحك من أجل السماء؟.
وبعد أن حذره داورست، من أن أي شيء بقوله قد يؤخذ كدليل ضده، کتب ورئع اعترافا كاملا ثم طبع بصورة لطيفة ووضع على مكتب العقيد المنتصر. وتبين بأن «تمر مانس، هذا من أكبر جواسيس النازية وأكثرهم خطورة ودماء. لذلك نفذ به حكم الإعدام في وندسورث، في السابع من يوليو سنة 1942، ضحية للدقة والعبقرية المفرطة.
وهكذا تخلصت البشرية من جاسوس نازي كان بإمكانه أن يعرض حياة الآلاف من الناس لخطر الإبادة وفق أحدث الفنون الهتلرية في هذا المجال.








مصادر و المراجع :

١- موسوعة الامن والاستخبارات في العالم

المؤلف: د. صالح زهر الدين

الناشر: المركز الثقافي اللبناني للطباعة والنشر والتأليف والترجمة - بيروت

الطبعة: الاولى

تاريخ النشر:2002 م

تعليقات (0)

الأكثر قراءة

ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلا … ويأتيك بالأخبار من لم تزوّد
المزید
فصبرا في مجال الموت صبرا … فما نيل الخلود بمستطاع
المزید
حننت إلى ريّا ونفسك باعدت … مزارك من ريّا وشعباكما معا
المزید
أفاطم مهلا بعض هذا التدلل … وإن كنت قد أزمعت صرمي فأجملي
المزید
إنّ أباها وأبا أباها … قد بلغا في المجد غايتاها
المزید