المنشورات
صراع الدهاء بين رجال البحر
بسيادته على الأرض الذي جبل فيه الان اصبح بحق سيد منقوف على
منذ أن ظهر الانسان على سطح الأرض، برزت موهبته وتفوقه على سائر الكائنات والمخلوقات الأخرى، حتى أصبح بحق سيد هذه الأرض وما عليها. وفي الوقت الذي جبل فيه الانسان على الطمع، فإنه لم يكتف " بسيادته على الأرض وحدها، بل تعداها إلى السيطرة على الفضاء، حتى أن البحر والمحيط لم يفلت من قبضته، ولم يعد هناك بحر اسمه ابحر الظلمات، ماخرة عبابه ومحطمة جميع المصاعب التي اعترضت طريقه بهدف جعله مستقرة وممرا الى دنيا جديدة ..
البحر. وكم من معركة كبري حسمتها الأساطيل لتقلب موازين القوى وتؤثر على سير الحرب بشكل عام. ولم تكن البارجة الالمانية المعروفة ب شارنهورست التي أغرقتها السفن الحربية البريطانية في الحرب العالمية الثانية، سوي حلقة صغيرة في سلسلة الصراع بين الأساطيل أو بين دهاة البحر ..
فما هي هذه البارجة المسماة بشارنهورسته؟ وما هي أسرار إغرائها؟.
ربما كان النازيون على علم بتلك القافلة البريطانية التي تشق طريقها الى امرنسك حول أقصى نقطة في شمال النروج، وربما كانوا قد أنفذوا البارجة رشارنهورست في جوف الليل الى تلك المنطقة القطبية عساها تقع على شيء فيها. ولكنها خرجت على كل حال من مرساها في خليج نروجي، وقد عقد لواؤها رللاميرال بايا،
و توفرت لهذه البارجة. وحمولتها 29 ألف طن - جميع المقومات المطلوبة للإغارة على قافلة. فقد وضع تصميمها لتكون أسرع من اية بارجة بريطانية، ومدافعها الكبيرة تسعة من عيار احدى عشرة بوصة. فهي اذ تنبذ أي طراد بريطاني معروف في تلك الفترة، ومدافعها الثانوية تتيح لها اذا ما توسطت قافلة ما، أن تمعن في إغراق سفنها كما يمعن الثعلب في قتل الفراخ اذا ما تسلل الى حظيرة الدجاج ..
خرجت شارنهورست، مساء يوم عيد الميلاد في الوقت الملائم تماما، وقد أخذ الفجر يرسل ضياء شاحبأ على مياه البحر المظلمة في تلك الأصقاع الشمالية. فالتقت بالقافلة وكانت حمولة سفنها قرابة نصف مليون طن. وكان في إمكان بشارنهورست، أن تنزل بها من الضرر في الساعة التالية ما يستطيعه اسطول الغواصات كله في مدى ستة أشهر ..
كانت القافلة البريطانية متجهة شرقا على 150 ميلا شمال الراس الشمالي. وكان يحرسها من خطر الغواصات حلقة من سفن الكورفيت والمدمرات والسفن الحربية الصغيرة، وكان اللاميرال بيرنت، - قائد الاسطول الحارس - ثلاثة طرادات هي: بلفاست، ونورفوك وشفيلد، فعين لها مكانة الى الجنوب الشرقي من القافلة، ومن هذه الناحية اقبلت بارجة الأميرال باي،، شارنهورست، وتراءت الدارعة والسفن الحربية البريطانية، على مسافة ستة أميال. وكان في السفن البريطانية تلك العين الساهرة التي تحملها كل سفينة من سفن المملكة المتحدة. فكانت تسهر على سلامتها، فأنذرت اول نذير، وأخذت تبين مكان ذلك الدخيل الذي لا يكاد بشك في أنه عدو، وتنبيء بوجهته. وكانت المدافع تسدد وفقا لإرشادها وضباط المدفعية ينتظرون اللحظة المناسبة لقذف نارهم ..
واستدارت القائلة بناء على أوامر القائد، على حين انطلقت الطرادات الثلاثة الى ملاقاة العدو. وكان في وسع مدافع شارنهورست، الجانبية أن تقذف من القنابل ما يزيد وزنه على ما تقذفه الطرادات الثلاثة مجتمعة، وأن طرادأ تصيبه قذيفة مدفع قطره 11 بوصة ولا يدمر نهر ولابد طراد محدود،على حين تذود دروع (شارنهورست السمكية قنابل الطرادات عن أحشائها إلا ما أصابها عن كثب. فالصراع لا تعادل فيه على ما يبدو، ومع ذلك فقد اندفعت الطرادات الثلاثة نحو البارجة الألمانية اشارنهورست ..
وفي نور ذلك الصباح، كنت ترى الماء الذي يشفه مقدم شارنهورست المسرعة وإن غابت أجزاؤها العليا المربدة، وأطلق مدفع من الجانب البريطاني، فارتسمت في السماء اقواس ساطعة من الضوء الأبيض، قبل أن تنفجر القنبلة المنيرة فوق البارجة فأضاءت البحر حولها في دائرة قطرها ميل، ثم اطلقت الطرادات نيرانها وصفرت القنابل في انطلانها. وراي ضابط المراقبة في الطراد انورفوك بمنظاره وميضا باهرا أخضر على هيكل اشارنهورست، ساعة وقعت القنابل عليها. وكانت مدافع نورفوك، من عيار 8 بوصات، ومدافع الطرادات الأخرى من عيار 1 بوصات فمن المحتمل أن تكون شارنهورست قد أصيبت ..
واستدارت الدارعة مسرعة فاخطأتها القنابل التالية، ثم مرقت من الدائرة المنيرة حولها واختفت. ولقد قضى الأميرال باي، نحبه، فلن تعرف الدوافع التي حدت به الى الفرار، وليس من المحتمل أن يبلغ هياب رعديد مرتبة امارة البحر في الأسطول الألماني، ولعل «باي، كان ينفذ خطة وضعها من قبل. فالقافلة هي هدفه، وقد عرف الان اين كانت القوة الرئيسية التي تحرسها، ففي وسعه أن يقدر في شيء من الدقة اين سفن القافلة فليبتعد متلفحأ بالظلام ثم ليسدد اليها ناره. وكان على أمير البحر ابيرنت. على الطراد بلفاست. أن يدرك ما بنويه «باي،، وأين يهاجم القافلة؟ وتي؟ ففي طاقة بارجة سريعة كهذه أن تدور حول القافلة في ساعة، وقد تهجم عليها من أية ناحية وتغرق منها في 10 دقائق سفنا كثيرة. فعلي بيرنت، وهو واقف في المرفا العالي المكشوف على ظهر الطراد بلفاست ورشاش الماء يتطاير من حواليه وهي تمخر عباب البحر الزاخر بأقصى سرعتها أن يقدر ويحكم التقدير لأن في الخطا خطر عظيم .. وفي منتصف الساعة الواحدة، أي بعد ثلاث ساعات من اللقاء الأول في الجنوب الشرقي عادت شارنهورست الى الظهور في الشمال الشرقي، فألقت «بيرنت، وطراداته أمامها. انبيرنت قد أحكم التقدير، أماما جال في خاطر دباي، حين لاح له شبح هذه الطرادات الثلاثة العنيدة، على حين كانت جميع الاحتمالات تشير إلى وجودها على بعد عشرين مية، فيمكن أن نستشفه من خلال ما فعل في تلك اللحظة. فقد أطلقت «شارنهورست، نجاة عدة مدافع دفعة واحدة، فانفجرت قنابلها على مؤخرة الطراد انورنوك، ثم أدير مسرعا الى قاعدته ..
لم يكن باي، يشك في أن «بيرنت، قد أرسل منذ ثلاث ساعات إشارات لاسلكية الى الأمير الية البريطانية والى الأسطول البريطاني الرئيسي ينبئهما بخبره. ولم يكن يشك في أن البريطانيين لن يتوانوا عن إرسال السفن والطائرات للهجوم على بارجة عظيمة مثل شارنهورسته ..
بل ان الخطر كان أعظم مما يتصور. فعلى نحو 100 ميلا في الجنوب الغربي منه، كانت قوة بحرية تسير مسرعة لتقطع عليه خط الرجعة. وهي قوة تستطيع أن تجعل سفينته ركاما من حديد. وكانت مؤلفة من البارجة ديوك اوف يورك، والطراد رجاميکا، المرافق لها واربع مدمرات لحراستها. وكان لواؤها معقودا للاميرال السير ابووس فريزرا قائد اسطول الجزر البريطانية ..
ويندر من يعلم كم مرة نصبت البحرية البريطانية مثل هذا الفخ، وكم مرة خرجت قوة مؤلفة من بوارج وسفن أخرى تشق طريقها الى روسيا في خط مواز لخط سير القافلة وعلى مسافة غير يسيرة منها، عسى أن تلتقي بقوة نازية بحرية تخرج من النروج، وهذا أول جزاء جوزي به العزم والمثابرة ..
وكانت البارجة ديوك اوف يورك على نحو مشي ميل حين تلقت اشارة ابيرنت، الأولى، وكانت اشارنهورست، تفوقها سرعة، وعلي افريزر، أن يضمن قطع الطريق بينها وبين قاعدتها. فاتجه إلى أقرب نقطة اليه على خط مستقيم بين أخر مكان ظهرت فيه اشارنهورست، وقاعدتها .. ولما أرسل بيرنت، إشارته الثانية بعد أن عادت دشارنهورست، الى الظهور عرف فريزر، مكانها بدقة، فهي لم تزل على بعد 150 ميلا ..
وآن الأوان البيرنت، أن يأتي بطريدة أخرى كانت اشارنهورست، بعد أن أصابت «نورفوك قد اتجهت جنوبا، فبادر «بيرنت، يقتفي أثرها، اذ كان يحب أن يحاط «فريزر، علمأ بمسيرها فعلي ابيرنت، أن يظل متصلا بها. بيد أن الاتصال ببارجة مدافعها من عيار 11 بوصة أمر پسهل طلبه ويشق تنفيذه، فإن في طاقة تلك المدافع أن تصيب هدفا وراء الأفق، ولا يحتاج الأمر إلى عدة طلقات دفعة واحدة تقع على أحد طرادات دبيرنت، لتغرقه ..
وبعد ظهر ذلك اليوم الذي ساده القلق والانتظار لم يأت فريزر، شيئا يكشف عن مكانه، فإن همسة واحدة من جهاز الراديو على سفينته تكفي لتدل اشارنهورست على وجود قوة بريطانية أخرى في جنوبها. على أن الشكوك تبددت فجاة في منتصف الساعة الخامسة اذ قطعت ديوك اوف يورك، صمتها اللاسلكي بأمر من «فريزر» إلى «بيرنت، أن دافيء مكان العدو بقنبلة منيرة واذ ذاك أيقنوا أن «فريزر، كان على رمية منهم، وأن ضباط الملاحة على بارجته احكموا التوجيه الى طريدتهم، وقد حسبوا حسابة دقيقة لسرعة بارجتهم وسرعة تيارات البحر والرياح واستدلوا على مكان شارنهورست، من بيانات ابيرنت .. و لقد خيم الظلام. وشارنهورست على يسار فريزره والطراد بلفاست على ثمانية أميال يجد في أثرها. وانطلقت من أحد مدافع بلفاست قنبلة من نار بيضاء تعالت في الفضاء الأسود، وانفجرت عالية فأضاءت الظلمات بنورها
الوهاج ..
في وسط ذلك الفيض من النور لاحن شارنهورست، وراي المراقبون وضباط المدفعية في اسطول فريزر، أجزاءها العليا بارزة للعيان مرتسمة على صفحة الأفق البعيد. وصبت خمسة مدافع من عيار 14 بوصة نيرانها في دوي صاحب منقطع النظير، وقذفت ثلاثة أطنان ونصف طن من حمم الصلب والمواد المتفجرة على هدفها. وظلت القنابل تهدر في الجو عشرين ثانية ومرة في مسيرها المقوس فوق احدى المدمرات المرافقة للبارجة ديوك اوف يورك فسمعها من على المدمرة كانها قطارات سريعة تنهب الأرض نهيا. ووقعت القنابل قاب قوسين أو أدنى من شارنهورست، فاستطار الماء اعمدة ذهبت في الجو مشى قدم وسجلت الطلقة التالية بعد نصف دقيقة اصابة مباشرة ..
فادار «باي، دارعنه نحو اليسار، وانطلق بها الى الشرق مسرعا يبتغي الأمان في الظلام المخيم، فاندفعت في أعقابها البارجة (ديوك اوف يورك) وأصيبت شارنهورست مرة بعد مرة. بيد أن اصابتها لم تكن من الخطر بحيث تخفض سرعتها من فورها. وقبيل منتصف الساعة السابعة كانت اشارنهورسته خارج مرمي المدافع محطمة مهشمة تضطرم فيها النيران، ولكنها أمنة - الى حين - مدافع ديوك اوف يورك ..
ولم تكد مدافع «ديوك اوف يورك، تسكت عن دمدمتها حتى التمع في الأفق البعيد ضوء نيران المدافع من جديد. كانت المدمرات الأربع المرافقة للبارجة ديوك اوف بورك، قد أدركت بسرعتها المتفوقة البارجة اشارنهورست
نهجمت اثنتان من اليمين واثنتان من اليسار لتسد طريق النجاة على باي، قبل فوات الوقت. وأطلقت شارنهورست، نيران مدافعها الثانوية عليها، فكان دفاعها يستوقف النظر. منها هي ذي شعلة من اللهب الأحمر البرتقالي الخارج من فوهات مدافعها ومن هذه النواة المناهجة ينطلق عدد عديد من خطوط الرصاص القصاص على أنه من الصعب وقف مدمرات مندفعة بسرعة هائلة. وكانت اشارنهورست، الى ذلك قد أصيبت اصابات بالغة حيث لحقت بمدافعها ونظام مواصلاتها أضرار لا ريب فيها، فكانت نيرانها غير محكمة، فلم تصب من المدمرات المطاردة إلا واحدة. وتابعت المدمرات البريطانية هجومها، ومن على مسافة قريبة حيث سددت طرابيدها الى البارجة الألمانية ثم انثنت مبتعدة عنها بعد أن قربت ساعتها ..
أصاب بشارنهورست عدد من الطرابيد اصابات مباشرة، لكنها ظلت عائمة على الرغم منها، وظلت مدافعها نصب نارة قوية كانت تخطئ الهدف في أكثر الأحيان ولكن كان لها في النفس وقع مهيب ..
ونقصت سرعة بشارنهورسته، فدنت البارجة، «ديوك اوف يورك، إلى المرمي مرة أخرى، وشرعت مدافعها من عيار 14 بوصة تدكها دكا. وكذلك دنا الطراد وجاميكا، المرافق للبارجة ديوك أوف يورك، الى مسافة قريبة جدا من شارنهورست. وفي الوقت نفسه وصلت الى ساحة المعركة طرادات
بيرنت، الثلاثة وأربع مدمرات من المراكب الحارسة للقافلة. وفي الظلام الدامس اطبق على «شارنهورست، ما لا يقل عن ثماني مدمرات واربعة طرادات وپارجة كبيرة. وحينئذ حان الوقت لليد العليا المدبرة أن تتولى الأمر، فصدرت أوامر والأميرال فريزر، بلغة واضحة: «افسحوا ميدان الهدف إلا من سفن الطربيد ومدمرة واحدة بنور کشاف، فانحرفت جميع السفن ما عدا اثنتين ووجهت مدمرة أنوارها الكاشفة الى حطام اشارنهورسته، وكأنها رماح مشرعة من النور الأبيض الناصع تنفذ في الظلماء واقترب الطراد جاميكا للقضاء عليها. واستدار نحوها وقذف عددا من الطرابيد دفعة واحدة، فانفجرت انفجار مريعا حين أصابت الهدف.
وحين انقشع الدخان بدت اشارنهورست، آخر مرة مائلة على جنبها ولم تزل نيران ذخيرتها تندلع من جوفها، ثم أطبق عليها الدخان مرة أخرى وغابت في قرار اليم، على حين هرعت الطرادات البريطانية إلى التقاط الناجين. على أن تلك النيران كانت قد أحرقت أكثر من ألف رجل. وهكذا أن أكبر الدارعات الألمانية خرجت محطمة. ومن الممكن أن يكون الفوهرر هتلر وحاشيته من النازيين، قد تأسفوا وحزنوا على دارعتهم ورجالها البحريين. إلا أنه من المؤكد لم يتأسفوا ولم يحزنوا مرة واحدة على ملايين الضحايا والجرحى والمفقودين والمشوهين الذين أحرقتهم نار حربهم العالمية الثانية.
وكان طبيعية أن يكون مصيرهم كمصير رجالهم من الدارعة (شارنهورسته.
وقليل جدا في هذا العالم من الذين اكتووا بنار هذه الحرب المدمرة، قد تأسف أو بکي على المصير الذي لاقاه النازيون والفاشيون بعد هزيمتهم النكراء، وما من ظالم الا سيبلي باظلم. والتاريخ لا يرحم ...
المرجع
1. س. س. فورستر «كيف أغرقت البارجة شارنهورست، الالمانية؟.
ملخصة عن استرداي ايفتنج پوست، مجلة المختار من ريدرز (م) دايجست»، السنة الأولى. أوغسطس / آب 1944. المجلد الثاني. العدد 12، ص 22 - 27
سے کسي نيست
مصادر و المراجع :
١- موسوعة الامن
والاستخبارات في العالم
المؤلف: د. صالح
زهر الدين
الناشر: المركز
الثقافي اللبناني للطباعة والنشر والتأليف والترجمة - بيروت
الطبعة: الاولى
تاريخ النشر:2002
م
1 أبريل 2024
تعليقات (0)