المنشورات

دحرجة الرؤوس في بون

بعد أن شهد القرن العشرون كثيرا من التطورات في عالم الاختراع والتكنولوجيا، كان طبيعية أن ينعكس ذلك على وسائل الاعلام في أي بلد من بلدان الدنيا، كما أصبح تعداد المدن والدول، من المواد والاستهلاكية الضرورية في عملية بث الأخبار واختلاف البرامج. إلا أن اسم دولة المانيا يبقى له الوقع والوزن الأكبر في هذا القرن، حيث ترتسم فورة في أذهان الناس صورة ذلك المارد الذي يحمل فتيل الحرب لإشعال شرارتها المحرقة
وهل تنتظر البشرية أكثر من حربين عالميتين لتؤكد ذلك، بعد أن حمل العالم أجمع مسؤولية إشعال هاتين الحربين الى المانيا، وفي فرن واحد فقط؟ وهذا ما يجعل الكثيرين من الالمان، أكثر من غيرهم، عرضة لعملية
تدحرج الرؤوس، في مسلسلات تجسسية قل نظيرها. ولم تكن حادثة رئيس دائرة مكافحة التجسس في المانيا الغربية المدعو «هانس تيدغي، في الشهر الثامن من عام 1985، سوى الحلقة الأساسية في هذا المسلسل.
فمن هو «هانس بواكيم نيدفي»؟ وما هي أسرار عملية هروبه الى المانيا الشرقية؟. و في الحقيقة، ضجت وسائل الاعلام على اختلافها، بأخبار هذه الحادثة. كما تبارت في التقاط تفاصيلها وادق اسرارها حتي صورت اخيرا وكان كل اسرار الغرب كانت داخل كاس من النبيذ على حد قول جيران «هانس تيدغي رئيس دائرة مكافحة التجسس في المانيا الغربية والذي فر الى المانيا الشرقية. ويضيف هؤلاء الجيران بأنه كان مخمورة دائما، واذا ما ظهرت امرأة شقراء في النافذة، راح يناديها بصوت عال مع أن مهمته تقتصر على النظر من ثقب الباب .. كان بإمكان الذئاب أن تدخل من الباب ساعة تشاء، هذا ما قالته صحيفة بيلد تساميتونخ التي أضافت أن الوثائق والمعلومات كانت تتناثر على الطاولات وأحيانا على المقاعد كما لو أنها زجاجات فارغة. ولا شك أن الكثير منها قد تطايره عبر النوافذ .. و كان «هانس يواكيم تيدغي، رجلا متوازنة للغاية لكنه كان يدعي حالة السكر لإخفاء، علاقاته السرية. فالرجل الذي كان مفترضأ فيه أن يكافح الجاسوسية، أنشأ شبكة للقيام بكل عمليات التجسس التي تأتي بالفائدة على الاتحاد السوفياتي. وقد تمكن من السيطرة النفسية على رؤسائه ومرؤوسيه. وكان يبدو أكثر الناس کراهية للاتحاد السوفياتي، حتى أنه لم يتردد في القول ذات مرة أمام مسؤول فنلندي أنه كان يفترض بالرئيس هاري ترومان أن يلقي القنبلة الذرية على موسكو لان قيام الثورة البولشفية هو السبب الحقيقي لاندلاع الحرب العالمية الثانية، وستكون السبب لاندلاع الحرب العالمية
الثالثة ...
كان تيدغي، على علاقة وثيقة، وبحكم مركزه، بوكالة الاستخبارات المركزية. واذا كانت المانيا هي بوابة العبور باتجاه الشرق، فقد كان الرجل يعرف تقريبا، بكل عميل أميركي يتوجه الى الاتحاد السوفياتي أو إلى أية دولة أوروبية شرقية أخرى. كان يحصل على كل التفاصيل ثم يبثها عبر البقال الى مركز ال ك. ج. ب، في موسكو. هذا وقد وصل الأمر إلى حد، يردد فيه في أكثر من عاصمة أوروبية أن تيدغي، استطاع أن يخدع الجميع وأن يحمل على معلومات يفترض وصولها إلى الاتحاد السوفياتي لإعادة النظر، وبصورة كاملة، بالخطط الاستراتيجية الغربية، لأن معرفتها تؤدي فعلا الى زعزعة المانيا الغربية والمعسكر الغربي برمته ..
والحارس الكبير، هو الذي سقط وسقطت معه المانيا في كأس من النبيذ: راجل لقد تحطمت أسرارنا، ولقد تحطم رجالنا أيضا. لكن الأهم هو أن ثقة الآخرين بنا ميرا الى أنه خلال
مع الاخوة التكنولوجية المشاركة في
أن ثقة الآخرين بنا هي التي تحطمت .. هذا ما قاله عضو في دالبندستاغ، عن الحزب الاشتراکي مشيرا الى أنه خلال القمة الأخيرة للدول المصنعة السبع، بدا واضحا أن واشنطن وبون أعلنتا نوعا من الاخوة التكنولوجية بعدما أبدت الدول الغربية الأخرى وعلى رأسها فرنسا، تحفظات عميقة على المشاركة في مبادرة اللدفاع الاستراتيجي، التي تعرف ب (حرب النجوم ..
ان كل الأسرار الأميركية كانت بين أيدي الألمان. ولقد بات هذا معروفة للغاية، أما الآن فكل الأسرار الاميركية في بين أيدي السوفيات الذين طالما قال الأميركيون انهم يعيشون في عصور الجليد، لكن الجليد يحرق الأصابع الغربية كما يبدو، وثمة تفاعلات القضية اتبدغي، قد لا تقتصر على المستشار رهيلموت كول، وحده، حيث من المعروف أن وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية تقيم نوعا من المظلة الأمنية السرية فوق المانيا الغربية. لكن الرك. ج. ب، (أي المخابرات السوفياتية تمكنت من إحداث ثقوب واسعة في هذه المظلة. والدليل أن هانس تيدغي،، الحارس الكبير، انتقل الى برلين الشرفية ومنها الى موسكو على الأرجع لينطاير رجال الغرب في الشرف ...
الأميركيون بدأوا بالدفاع عن الاحتمالات وهم يقولون أنهم يعرفون جيدة بان العديد من الألمان لم يتخلصوا من عقدهم، ولم يتجاوبوا بالتالي مع مبدأ العيش المشترك مع الأمم التي دحرتهم. في منتصف الأربعينات، وبالطبع فإن هؤلاء الذين يتسللون كالثعابين الى المراكز الحساسة مستعدون الفعل أي شيء ينشر التوتر في العالم، ويجعل احتمالات الصدام اكثر حدة فالالمان يجب أن يكونوا في حالة حرب مستمرة مع الجميع إلى أن تتوحد المانيا ...
ولهذا السبب يدعى الأميركيون بأنهم لا يضعون سوى الأسرار العديمة الجدوى امام حلفائهم الالمان، منذ أن ألقي القبض على اغونتر غيوم مستشار المستشار اويلي برانت، في أيار/ مايو سنة 1974 ...
ويلاحظ «دوغلاس لوفين، وهو من الأميركيين الذين سبق لهم وعملوا في الاسي. آي. اي، ان جهاز الاستخبارات في أي دولة من الدول لابد من أن يكون انعكاسا للوضع المجتمعي. وفي الولايات المتحدة حيث يعاني المجتمع من التفتت العميق، لا مجال للحديث عن التماسك في أي قطاع
حتى ولو كان هذا القطاع هو الاسي. أي. أي، حيث يفترض أن يقوم توازن دقيق في عبقرية الألهة وعبقرية الشياطين. لكن الوفين، يعتقد أن السوفيات ليسوا بحاجة الى التجول داخل البيت الأبيض .. وقد يكونوا هناك فعلا ک? يطلعوا على الأسرار الاستراتيجية الأميركية. اذ يكفيهم أن يتجولوا في أمكنة أقل أهمية كي بعثروا على الأسرار وهي مبعثرة على الأرض. هكذا كانت
حالة منزل «هانس تيدغي، وقد بدا بعد تفقده. الذي أعقب فرار صاحبه. كما لو أنه مقهى سوفياتي من الدرجة الرابعة. ولقد كان مثيرة أن يتساءل كاتب سياسي أميركي عما اذا كان السوفيات قد زرعوا جهاز بث الكتروني في بطن الرئيس رونالد ريغان لدى إجراء العملية الجراحية في أمعائه المصابة
بالسرطان ...
وبعبارة أخرى، يقول «دوغلاس لوفين، أن أزمة الثقة هي التي تحكم العلاقات بين هذه الدول، وقد تم بحث الموضوع أكثر من مرة في الاجتماعات السرية لقيادة حلف الأطلسي. وتتخذ التوصيات التي تزيد الأمور تعقيدة. وهنا يقول الوفين، الذي يملك الأن مزرعة صغيرة في كاليفورنيا أن السوفيات موجودون في كل مكان: القد خدمت في باريس وروما وبروكسل واعرف تماما أن قرارات حلف شمال الأطلسي كانت تصل أحيانا إلى موسكو قبل أن تصل الى واشنطن، ..
والواقع أن المانيا الغربية تمثل الأن العمق الحقيقي لحلف شمالي الأطلسي، فالفرنسيون انسحبوا من الجناح العسكري للحلف في مارس 1999 كما أن البريطانيين يعانون من الترهل، فيما تتراقص ايطاليا بين الأحزاب المتصارعة. ويبقى أن الظروف الألمانية هي الأفضل بحيث أن الجنرال الكسندر هيغ، وقد شغل لفترة منصب القائد العام لقوات الحلف، وصف بون ذات مرة بأنها عاصمة الأطلسي، مع أنها لا تطل على المحيط، بل تغتسل بمياه بحر الشمال ...
لكن الألمان يشعرون وكان عليهم أن يتصرفوا كما العمالقة الذين فرض عليهم المكوث في القاع. هذا ما قاله هنريش بويل، تحديدأ: «اننا نتنفس نصف الهواء، نرى نصف السماء، نعمل لنصف المستقبل، اذ ينبغي أن تنقسم الكرة الأرضية الى قسمين، أو بالأحرى يجب أن تنفجر. حيث أن احدى الصحف الفرنسية طلعت بتعليق خلصت فيه إلى أن كل الماني جاسوس حتى يثبت العكس. مضيفة بأن الألمان جعلوا الاتحاد السوفياتي العضو الرئيسي في حلف شمال الأطلسي .. أجل إنه يوجد بيننا، وينبغي أن تفتش رؤوس الجنرالات الالمان بدقة قبل أن يدخلوا، فهناك توجد الأبالسة لقد تطرقت هذه الصحيفة إلى هذا القول بعد أن أثيرت قصة رمانفريد روتش الشهيرة حيث كان هذا الأخير رئيس قسم التخطيط في شركة «ميسر شميث? بولكوف - بلوف، واعتقل في شهر سبتمبر 1984، بعد اتهامه بالعمل لحساب الاستخبارات السوفياتية وتسليمها معلومات تتعلق بمشاريع أطلسية بالغة الحيوية من بينها: مشروع الطائرة المقاتلة رأ. س. ف، الذي بدأته خمس دول أوروبية قبل سنتين. وتصاميم الطائرة المقاتلة اتورنادو، التي تنتجها ايطاليا وبريطانيا والمانيا الغربية , ومشروع استيلت، ذي الحيوية التكنولوجية الخاصة، والذي يهدف إلى جعل الطائرات والصواريخ غير مرئية على شاشة الرادار. إن هذا الرجل، وكما ورد في قرار الاتهام، عمل لحساب الاستخبارات السوفياتية، طوال ثلاثين عاما. والمثير أنه لدى العودة الى ملفه الشخصي، تبين أن جهاز الاستخبارات الفيدرالية الذي أخضعه للمراقبة ولفترة طويلة، كما هي الحال بالنسبة لجميع الذين يشغلون مراکز حساسة لم يأخذ عليه أي ماخذ. بل على العكس من ذلك أشارت الى انضباطيته المطلقة
ولكن دائما يلقي القبض على المتهم بعد فوات الأوان. فقبل انفجار
لقد تطرقت ما كان هذا الأخير رئيمبر 1984، بلاريع أطلية باله قضية تيدغي، كانت السلطات الالمانية الغربية تحقق في اختفاء سكرتيرة تعمل في مقر قيادة الجيش في بون وتدعى أورسولا ريختر، (53 عاما)، فيما تشير المعلومات الى تورطها في عملية تجسس لحساب المانيا الشرقية. وهذه التحقيقات جاءت في أعقاب اختفاء السكرتيرة السابقة لوزير الاقتصاد الالماني الغربي، وتدعى سوينا لوينبرغ، (60 عاما) اضافة الى شخص آخر يحمل اسم لورنز (53 عاما) وهو من العاملين ايضا في مقر قيادة الجيش. وها أن عملية أكبر بكثير تظهر على السطح بعدما تبين أن مارغريت هوكي، التي تعمل سكرتيرة في مكتب الرئيس الألماني هي «جاسوسة خطيرة ..
البعض يصفونهم با والجراثيم الثمينة والكن ضابطا فرنسيا قديما هو الوران بيئرلي، لا يتورع عن الدعوة إلى تقسيم المانيا إلى أربع دول عنى الأقل، لأن تقسيمها الحالي لا يحل المشكلة، بل إنه يتيح المجال أمام الالمان کي يزرعوا الألغام في القاع حيث هم الآن: «انهم أشعلوا الحرب العالمية الثانية وهزموا. لكنهم يخططون الآن للحرب العالمية الثالثة ليهزموا ما تبقى من البشرية انتقاما لهزيمتهم.
والواقع أن موجة هائلة من الخوف سادت الأوساط العسكرية في الغرب، حتى أن صحيفة الاكروا الفرنسية ألمحت إلى ضرورة تحديد أسس جديدة لتداول الأسرار. والى حد الدعوة الى «تحييد، المانيا الغربية عسكرية، بحيث لا تبقى عبارة عن صندوق بريد تنتقل عبره كل الأسرار الاستراتيجية الغربية الى الاتحاد السوفياتي. وتبعا لما تقوله الصحف المقربة من الحزب الديمقراطي المسيحي في بون، فإن الهدف السوفياتي من زرع الجواسيس قد لا يكون جمع المعلومات فحسب، بل زعزعة البنية النفسية في المانيا الغربية، وذلك من خلال هذا النوع من الانقلابات الباردة، وهذا ما يدفع هيلموت کوله أن لا يكتفي بدحرجة بعض الرؤوس التي لن تكون الأخيرة بأي حال. والواقع أن قضية تبدغي أكبر من أن تعالج بإطاحة رميللينبرويش، عن ذلك، أصبح «هانس يواكيم تيدغي، بما من تام لكي يمضي شيخوخة ذهبية بعد الانجازات الهائلة التي حققها لألمانيا الشرقية والاتحاد السوفياتي. والمثير أن ترتفع أصوات أوروبا تدعو الى اعتبار الجاسوسية في المانيا الغربية أمرأ مشروعا. فإذ ذلك يمتنع حلف الأطلسي عن وضع حياة شعوبه بين ايدي السكرتيرات والمخمورين والقتلة. فيما يدعو البعض الآخر إلى وقف الخطة الأميركي بعسكرة المانيا. لكن الأوروبيين لا يفهمون المانيا ولا الالمان جيدا ... الذين يتنفسون نصف الهواء ويرون نصف السماء ويعملون لنصف المستقبل: اننا نرتدي تاريخا ممزقة، ونعيش موتة ممزقة، هكذا يقول الماني آخر هو اکورت ليننغره. كلام خطير يعني أن الألمان لم ينسوا جراحهم القديمة بمجرد أن قامت المباني الجديدة، وعليهم أن يدمروا العالم مرة أخرى ..
هؤلاء الذين يتذكرون جيدأ ساعات برلين التي اغتصبت کنساء الأرصفة، كما يقول النازي الجديد هربرت براكل، يملكون كل الكراهية التي تجعل منهم جواسيس الدرجة الأولى ...
والمهم أن الأطلسيين يستعيدون المعلومات التي كانت في راس نيدفي .. انهم لا يستطيعون تحطيم رأسه .. إذن فليعملوا على تحطيم المعلومات .. ويقال بأن الصواريخ النووية قد ذابت في كؤوس النبيذ ...
وفي مكان آخر من هذا الكون الواسع يشربون نخب أحد العمالقة الذي يسمى «هانس يواكيم تيدغي ..
وليس بوسعنا نحن الشرقيين، وخصوصا أبناء دول العالم الثالث، إلا أن نشارك عن بعد في شرب نخب تيدغي الذي قام بواجب لن تنساه الانسانية أبد الدهر ..









مصادر و المراجع :

١- موسوعة الامن والاستخبارات في العالم

المؤلف: د. صالح زهر الدين

الناشر: المركز الثقافي اللبناني للطباعة والنشر والتأليف والترجمة - بيروت

الطبعة: الاولى

تاريخ النشر:2002 م

تعليقات (0)

الأكثر قراءة

ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلا … ويأتيك بالأخبار من لم تزوّد
المزید
فصبرا في مجال الموت صبرا … فما نيل الخلود بمستطاع
المزید
حننت إلى ريّا ونفسك باعدت … مزارك من ريّا وشعباكما معا
المزید
أفاطم مهلا بعض هذا التدلل … وإن كنت قد أزمعت صرمي فأجملي
المزید
إنّ أباها وأبا أباها … قد بلغا في المجد غايتاها
المزید