المنشورات

الفريد موند الصهيوني وأوسمة الشرف العربي

استأثر العراق منذ وقت مبكر باهتمام الحركة الصهيونية ونشاطها السري والعلني، نظرا لاعتبار الطائفة اليهودية هناك من أقدم الطوائف اليهودية في العالم، على حد قول «فريتز غروباه، الوزير الألماني المفوض في بغداد بين عامي 1932 و 1939.
وبما أن بريطانيا هي صاحبة الوعود المشؤومة على الدوام، والتي تقوم استراتيجيتها على طعن العرب وقضم حقوقهم وأراضيهم، ومنحها الى من تجد فيهم حليفا ونصيرا في أوقات المصاعب والمحن، ونعني بهم الصهاينة، فلذلك لا نستغرب اهتمام صهاينة انكلترا بيهود العالم، ومن ضمنهم بالطبع يهود العراق.
واذا كان «بلفور، وتشرشل، وهربرت صموئيل» وغيرهم ممن تصدروا واجهة دعم الصهيونية ومناصرتها في كل زمان ومكان، فهناك الكثيرون غيرهم ايضا كانوا يعملون بصمت أحيانا، ويتململون كالأفعي (مع كونهم بأجمعهم
أبناء الأفاعي الرقطاء)، في سبيل الهدف الصهيوني ونصرته، ولم يكن البريطاني الصهيوني الفريد موند (الذي عرف باللورد مالتنشتر أخيرا الا أحد هؤلاء الأبالسة في الجنة العربية
فمن هو رألفريد موند، هذا؟ وما هي أسرار زيارته الى العراق عام 1928؟. يعتبر الفريد موند، من أبرز الشخصيات الصهيونية التي جاءت العراق، ولم تلق، كما هو متوقع، غير معارضة الرأي العام العراقي بكافة قواه وفصائله الوطنية خاصة الطلبة منها. وهو شخصية يهودية بريطانية، قدم إلى العراق يوم 8 فبراير سنة 1928، وهو الذي يتمتع بنفوذ واسع في انكلترا، ليس في المجالات المالية فحسب وانما في الميادين السياسية أيضا. وكانت له صلة صداقة بالملك فيصل الأول أيضا، حتى أن الأخير نزل مكرمة في دار السير ألفريد موند في احدى زياراته للندن. ولما أظهر موند رغبة بزيارة العراق أبدى الملك فيصل ترحيبه بذلك. ولا يمكن التكهن بالضبط اذا كان ترحيب الملك بمقدم موند ناجما عن رغبة حقيقية في نفسه أم بضغط من الانكليز أو توسطهم. وقد تطرق خيري العمري، (في كتابه حكايات سياسية من تاريخ العراق الحديث إلى هذا الموضوع بقوله: «روي لي مزاحم الباجه جي أنه كان في ذلك التاريخ (أوائل 1928) ممثلا للعراق في لندن، وقد تقدم اليه السير الفريد موند بطلب سمة دبلوماسية له ولحاشيته، فرفضت الطلب لأنه لا يتمتع بتلك الصفة. ولكن بعد أيام وردتني برقية من الحكومة العراقية تشير بإعطائه سمة دبلوماسية، ولا أستبعد أن يكون ذلك قد تم بتأثير فيصل أو هنري دوبس» (المندوب السامي البريطاني في العراق الموالي للصهيونية.
وعلى الرغم من أن الاحتمالين قائمان فإن صداقة موند وفيصل فضلا عن أنها تبرر الترحيب بمقدم موند، فإنها تثير في الوقت نفسه التساؤل والاستغراب، وأيا كان مبعث هذا الترحيب فقد كانت لهذه الزيارة أهداف صهيونية بعيدة المدى.
مثلت هذه الزيارة بحد ذاتها تحديا للشعور الوطني والقومي الذي كان بعرف الصهيونية ومراميها وخطرها، بخلاف ما كان يظنه الانكليز ودوائر الأمن
العراقية
وقد استعد اليهود المتحمسون للصهيونية لاستقبال الزائر استعدادا كبيرة منذ اليوم السادس من فبراير. فانتهز أبناء الشعب العراقي هذه الفرصة، التي رأوا فيها تحديا لمشاعرهم الوطنية واستهانة بعواطفهم القومية، وقرروا القيام بمظاهرات صاخبة. تعتبر أول مظاهرات في شوارع بغداد معادية للصهيونية. الاستنكار السياسة البريطانية المتبعة في فلسطين واعلان سخطهم الشديد على الفكرة الصهيونية، في شخص هذا الزائر الممقوت. وتجمهر طلبة المدارس في عصر اليوم الثامن من فبراير ورفعوا لافتات وأعلام كتب عليها التسقط الصهيونية، واليسقط وعد بلفور، والتحيا الأمة العربية. وهتافات من بينها
بيت المقدس عربية ودليرجع الزعيم الصهيوني الفريد موند، إلى غير ذلك من العبارات. وكانوا كلما تقدموا أكثر وأكثر في الشارع انضم اليهم فريق من المتظاهرين حتى تجاوز عددهم عشرين ألفا، وتوجهت هذه الجموع الى محطة الكرخ، حيث يمر موند. ولما علمت السلطات بذلك غيرت طريق الزائر وطلبت من الشرطة تفريق المتظاهرين. وقد تصدى رجال الشرطة الى هذه المظاهرة في محاولة لمنعها من متابعة سيرها نحو جسر والخره، فاشتبكوا معها في معركة عنيفة استعان بها المتظاهرون بالحجارة والعصي والزجاجات الفارغة واستخدم فيها رجال الشرطة هراواتهم وخيولهم التي داسوا بسنابكها بعض الطلبة ممن أصيبوا بجروح بليغة. وفشلت محاولاتهم في تفريق وتشتيت المظاهرة، حيث واصل الطلبة سيرهم نحو «جسر الخره في
جو من الحماسة ونشوة الظفر. وعند هذا الجسر رابط الطلبة وعيونهم ترقب بحذر ونشاط وتفتش السيارات القادمة بغية العثور على الصهيوني القذر الفريد
موند، حتى اذا خيم الظلام ولم يجدوا أثرا لسيارة موند عادوا إلى شارع الرشيد في الليل وهم يهتفون بحماس أشد «ردينا السير موند وجينا»، والمارة في الشارع تصفق لهم، والنساء في الشرفات تزغرد، وهكذا فوجئت الحكومة العراقية برئاسة عبد المحسن السعدون بهذه المظاهرة العنيفة، وخشيت أن يتعرض موند الى اعتداء، فسارعت الى حمايته من غضبة الجماهير، فأرسلت - بعد أن فشلت الشرطة في منع المظاهرات من الوصول الى جسر الخر - مدير شرطة بغداد «حسام الدين جمعة مع قوة من الشرطة إلى نقطة ابي منيصير، حيث استقبلت من هناك السير ألفريد موند، ووضعنه تحت حراسة مشددة ونقلته تحت ستار الظلام الى الكاظمية ومنها إلى الأعظمية والي دار الاعتماد البريطانية حيث حل ضيفة هناك مع زوجته وابنته «الليري ايرليا». أما حاشيته فقد نزلت في بيت السير أليازر خضوري، أحد أثرياء اليهود المقيمين في لندن. ويبدو أن غضبة الجماهير ضد الصهيونية بشخص موند هي التي حالت دون استضافة فيصل أو الحكومة العراقية لموند رسميا، خاصة بالنسبة للملك فيصل الذي كان عليه أستضافته في قصره ردا على صنيع موند معه حين زار لندن سابقا.
وقد أسفرت أجراءات الشرطة عن القاء القبض على عدد من المتظاهرين بينهم ستة من الأهلين و (30) من طلاب المدارس، وكبست احدى النوادي الأدبية (وهو نادي النضامن) في العاصمة بحجة التحريض على هذه المظاهرات، واعتقلت أعضاءه، فنفت رئيس النادي «يوسف زينله الى «الفاو» في البصرة، باعتباره، حسب اعتقادهم، الشخص الذي يختفي وراء تلك المظاهرات، وأغلقت صحيفة «التضامن، المعارضة لنشرها مقالا ضد البريطانيين والصهاينة. وأصدرت منصرفية بغداد أمرا بمنع التجمهر في الطرق والشوارع والميادين العامة أو تسيير المواكب فيها والاجتماعات في المحال العامة دون اذن منها، والمخالف يعاقب بموجب القانون. وقررت وزارة المعارف طرد أحد عشر طالبة من دار المعلمين، وخمسة من الثانويات، وطالبين من مدرسة الحقوق طردأ مؤبدأ بحجة اشتراكهم في هذه المظاهرات، على الرغم من أن هذه المظاهرات حظيت بعطف الرأي العام لأنها عبرت عن حقيقة مشاعره نحو الصهيونية، بل وحظيت بمساندة الرأي العام العربي بصحفه وشخصياته. ولكن رغم ذلك، أعلن توفيق السويدي وزير المعارف بكل وقاحة أن النار ستطلق على المتظاهرين ذاتظاهر وا. وأخذ الوضع يزداد تازمة خاصة بعد اجتماع عقده عدد كبير من الأهلين في جامع الحيدر خانة بوم 10 فبراير للاحتجاج على سياسة الحكومة التي يرأسها عبد المحسن السعدون ويدير سياستها الداخلية عبد العزيز القصاب، ازاء المتظاهرين .. فقبضت السلطات على بعض الخطباء وفرقت المجتمعين بالقوة. ثم لجأت الحكومة الى المراسيم فأصدرت مرسومين، كان وراءهما والمستر دراوره المستشار القانوني لوزارة العدل الذي بات مجلس الوزراء لإصدارهما. بنص المرسوم الأول على معاقبة الطالب الذي لم يكمل الثامنة عشر من العمر بالجلد (20) جلدة اذا اشترك في اجتماع غير قانوني، أو أقلق أو حاول أن يقلق السلم العام بصورة أو بأخرى. كما ينص المرسوم الثاني على تطبيق القوانين بحق المحرضين على ارتكاب الجرائم - أي المظاهرات. على أن بطبق ذلك بمفعول رجعي على من لهم علاقة بحادث 8 شباط / فبراير 1928. أما مجلس الوزراء فقد قرر طرد الطلاب المشاركين باحداث 8 شباط / فبراير والذين يزيد عمرهم عن (18) سنة، ولم يشملهم المرسوم الأول أعلاه طردا مؤقتا او مؤبدة، وأن لا يستخدم في دوائر الدولة في المستقبل من تقرر طرده من هؤلاء طردا مؤبدة بسبب الحادث المذكور، وهكذا كانت العقوبة شديدة وغير عادلة من الأساس لأنها لم تكن لتتناسب مع «الجرم المرتکب، فضلا عن أن الطلبة لم يقوموا إلا بما أملتهم عليهم عاطفتهم وشعورهم الوطني والقومي النبيل؛ لذا استدعى صدور المرسومين احتجاج الصحف والأحزاب؛ فرفع حزب الشعب احتجاجا وقعه رئيسه ياسين الهاشمي في 16 شباط / فبراير 1928 الى رئيس الوزراء دعاه الى الغاء المرسومين، وطلب الحزب الوطني في الموصل الذي يرأسه سعيد الحاج ثابت في 21 آذار / مارس 1928 إعادة النظر في أمر الطلاب الذين فصلوا من مدارسهم، وقدم حکمت سليمان وزير العدلية استقالته، إلا أنه أجلها بناء على طلب من رئيس الوزراء.
كتبت جريدة «النهضة في 17 فبراير 1928 تثني على المتظاهرين لانهم أظهروا عواطف وطنية جديرة بالتقدير لا باللوم. بل إن العطف تعدي حدود القطر العراقي الى الوطن العربي، فنجد الثناء والتقدير في سوريا ولبنان ومصر، وتصدت جريدة والعراق، البغدادية للهجوم الذي شنته جريدة «بغداد تأبمس  Baghdad Times)،  الناطقة شبه الرسمية باسم دار الاعتماد البريطانية في بغداد، ضد المتظاهرين ساخرة حين وصفت المظاهرات بأنها همجية، وأنها أضحوكة العالم. ومما ردت به والعراق، قولها أن دول العالم المتقدمة تحدث فيها مظاهرات لتعزيز الشعور القومي. ولا شك نحن نعلم تعاطف جريدة «بغداد تايمس، والمندوب السامي السير هنري دوبس وقتذاك مع الصهيونية، خاصة وهو الذي حث اليهود، على تأسيس فرع للوكالة اليهودية في العراق. لذا لا نستغرب من دوبس فرضه حجرة إعلامية على انتشار اخبار المظاهرات بتشديد الرقابة على البرقيات الخارجية من العراق. ولكن رغم ذلك تسربت أخبارها عن طريق وكالة رويتر التي أشارت إلى ما لقيه ألفريد موند وحاشيته من استقبال ساخنه زاد عدد المشاركين فيه على العشرة آلاف شخص، لما اتصل بعلم العراقيين أن موند إنما جاء لإدخال الفكر الصهيوني الى العراق أو الترويج له.
وبالنظر لما لقيه موند من ترحيب حاره، مع أن الطقس كان شتاء، لم يستطع أن يبقى في بغداد أكثر من أسبوع زار خلاله في تكتم شديد بعض المدارس والنوادي اليهودية، وحضر مأدبة أقامها له الملك فيصل، وصرح الى جريدة بغداد تايمس» تصريحا أثنى فيه على فيصل، وزعم أنه جاء الى العراق لمشاهدة اطلال بابل ودراسة بعض المشروعات الاقتصادية. وفي 10 فبراير غادر الفريد موند بغداد مع حاشيته على متن طائرة نقلته إلى الرطبة حيث كانت هناك سيارة نيرن (وهي التي حملته الى بغداد) بانتظاره. وقد علقت «السياسة الاسبوعية على ذلك قائلة أن السير الفريد موند اختار السفر بهذا الاسلوب خشية قيام المظاهرات.
وبعد أكثر من ثلاثة أشهر ألغت الوزارة السعدونية الثالثة مراسيمها الجائرة بحق الطلبة المتظاهرين في 17 مايو 1928، رغبة منها في کسب عطف الناس وودهم بحجة انتفاء الغاية التي أدت الى صدور تلك المراسيم.
هذا، وإن ما حدث عند مجيء الصهيوني الممقوت ألفريد موند، إن دل على شيء فإنما يدل على عمق الشعور القومي لدى أبناء الشعب العراقي، خاصة الطلبة أولا، ولا مبالاة الحكومة العراقية، بتأثير دار الاعتماد البريطانية في بغداد، إزاء قضية فلسطين، فضلا عن إهمالها مشاعر الجماهير وانحيازها عن قصد أو بدونه الى صالح الحركة الصهيونية العنصرية الاستعمارية الاستيطانية، باستقبالها لموند ثانية، وتأمينها الحماية له ثالث، ومعاقبتها المتظاهرين ضده بقسوة متناهية رابعاء مستحقة بمشاعر أوسع قطاعات الجماهير.
وتبقى الحقيقة أخيرة ساطعة بلون الشمس، حيث أن هذه المراسيم التي صدرت بحق هذه النخبة من أبناء الشعب العربي العراقي ما هي الا أوسمة شرف على صدور المناضلين الطليعيين ضد الاستعمار والصهيونية وأذيالهما الطويلة والقصيرة
وقد شهد العالم أجمع كيف رحل الاستعمار البريطاني عن العراق وبقي أبناء العراق الأصليين، أقوى من كل الغزاة القدامى والجدد.
المراجع
1 - صادق حسن السوداني النشاط الصهيوني في العراق 1914 - 1902.
دار الرشيد للنشر منشورات وزارة الثقافة والاعلام الجمهورية العراقية. سلسلة دراسات رقم 209. دار الحرية للطباعة بغداد.
توزيع الدار الوطنية للتوزيع والاعلان. 1980. ص 95 - 73. 2. خيري العمري «حكايات سياسية من تاريخ العراق الحديث القاهرة. دار
الهلال 1999. ص 179 - 193. 3 - طالب مشتاق «أوراق أيامي، الجزء الأول (1909 - 1908) دار الطليعة
للطباعة والنشر، بيروت 1998. ص 188. 4 - عبد الرزاق الحسيني تاريخ الوزارات العراقية، مطبعة دار الكتب
الطبعة الرابعة. بيروت 1974. الجزء الثاني. ص 109 - 195. ه - جريدة «النهضة العراقية بتاريخ 17 شباط / فبراير 1928. 1 - جريدة «العراق البغدادية بتاريخ 21 شباط / فبراير 1928.







مصادر و المراجع :

١- موسوعة الامن والاستخبارات في العالم

المؤلف: د. صالح زهر الدين

الناشر: المركز الثقافي اللبناني للطباعة والنشر والتأليف والترجمة - بيروت

الطبعة: الاولى

تاريخ النشر:2002 م

تعليقات (0)

الأكثر قراءة

ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلا … ويأتيك بالأخبار من لم تزوّد
المزید
فصبرا في مجال الموت صبرا … فما نيل الخلود بمستطاع
المزید
حننت إلى ريّا ونفسك باعدت … مزارك من ريّا وشعباكما معا
المزید
أفاطم مهلا بعض هذا التدلل … وإن كنت قد أزمعت صرمي فأجملي
المزید
إنّ أباها وأبا أباها … قد بلغا في المجد غايتاها
المزید