المنشورات
غسان كنفاني: من العذاب الى الخلود
ليس المهم أن نستشهد بل المهم أن نصنع باستشهادنا اسطورة الحياة الأجيال لاحقة بنا، لاقتطاف ثمرة الاستشهاد وتحويلها لصالح الشعب والوطن والقضية.
فالشهادة ليست طريق الفناء والنهاية، بل هي طريق البقاء والاستمرار والخلود.
وفي هذا المبدأ عمل المناضل العربي الفلسطيني والكاتب المبدع: غسان كنفاني. وعلى أساس هذا المبدأ أيضأ، استشهد غسان كنفاني في الثامن من شهر يوليو 1972، على أرض بيروت التي أصبحت قطعة من لحمه ودمه، وبالتحديد على ارض منطقة الحازمية في صباح يوم حار، على صعيد الطقس والوضع السياسي.
فمن هو غسان كنفاني؟ وكيف كانت عملية اغتياله؟.
تطرق الأديب حليم بركات الى ذلك قائلا: غسان حلم جميل في ليل عربي حار. يمر الزمان ويظل يتوهج، يفعل في النفوس، يوحي، بشع، يضيء الزوايا المعتمة في الحياة العربية. بحول الليل الى صباح، فهو بداية دائمة. غسان ظاهرة نادرة. يجمع بين طاقات متعددة، تتلاحم وتعمل بانسجام في خدمة قضية هي من أعدل القضايا وأنبلها، أنها قضية تحرير الانسان وتحريره في فلسطين، هو تحرير الانسان في كل مكان وكل زمان.
أقبل غسان بكل طاقاته ودفعة واحدة وباسلوب مادر، فكان وما يزال كالنبض والبرق والرعد والمطر فرق صحراء حياتنا ... الرمل يتحول الى تراب، والتراب يكتسي بالعشب والزهر ... تطور غسان منذ طفولته في القضية الفلسطينية، ونضج بفعل نيرانها، كل كلمة كتبها كانت بوحيها ومن اجلها. وكما الشروق يعني بداية الغروب، كذلك الغروب يعني بداية الشروق. ولأنه صنع استشهاده، سيظل غسان طاقة هائلة تحرك الوجود العربي. سيظل يوحي ويشع ويفجر ينابيع الخلق في حياتنا. وسر عظمته أنه رفض الخضوع واختار الموت طريقا إلى الشمس.
ولد غسان كنفاني في مدينة عكا بفلسطين عام 1936، في تلك السنة العربية التي شهدت أطول اضراب عربي في التاريخ ضد المستعمر البريطاني وحلفائه الصهاينة. ولد من عائلة متوسطة، وانتقل مع أبويه إلى بانا، حيث تلقى دراسته الابتدائية في مدرسة تابعة لإرسالية فرنسية، وقبل أن يكمل عامه الثاني عشر، قامت العصابات الصهيونية بمهاجمة المدن الفلسطينية وارتكبت فيها المذابح التي تقشعر لها الأبدان، والتي تؤكد أن العنصرية والاجرام يسري مع الدم في عروق بني صهيون وحلفائه الكبار والصغار، فاضطر غسان الى النزوح مع عائلته المكونة من أبويه وجده وسبعة أشقاء إلى جنوب لبنان، حيث أقاموا هناك فترة قصيرة من الزمن قبل أن تنتقل العائلة إلى دمشق.
في بداية الخمسينات التحق غسان كنفاني بحركة القوميين العرب المناهضة للاستعمار والاحتلال. وفي عام 1953 كتب قصته الأولى وكان اسمها «أنقذتني الصدفة، وأرسلها الى برنامج أسبوعي كانت تبثه اذاعة دمشق تحت اسم «ركن الطلبة. وبالفعل أذيعت القصة مساء 4 تشرين الثاني / نوفمبر 1903.
ثم نشر قصته الثانية في جريدة الراي، عام 1953 بعنوان «شمس جديدة، التي تدور أحداثها حول طفل صغير من غزة. وفي العام 1956 سافر غسان الى الكويت ليعمل مدرسة للرسم والرياضة في مدارسها الرسمية. وكان في هذه الأثناء يعمل في الصحافة، كما بدأ انتاجه الأدبي في الفترة نفسها بالنضوج. وهناك ومن خلال مشاهدته للصحراء، ولأبناء شعبه، وللعلاقات السائدة، يختزن في ذهنه مئات الصور والفواجع الانسانية، ليستفيد منها بعد سنوات في روايته الشهيرة «رجال في الشمس، التي كتبها عام 1963.
انتقل كنفاني الى بيروت عام 1960، حيث عمل محررة ادبية لجريدة الحرية الاسبوعية، ثم أصبح عام 1963 رئيسا لتحرير جريدة المحررة. كما عمل في جريدة الأنواره تحت اسم فارس فارس، وكذلك في مجلة
الحوادث، حتى عام 1969، والتي نشر فيها رواية شهيرة بعنوان «من قتل ليلى الحايك؟، ودعائد إلى حيفا. ثم أسس مجلة رالهدف الأسبوعية الناطقة بلسان الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، وبقي رئيسا لتحريرها حتى استشهاده.
يمثل غسان كنفاني نموذجا خاصا للكاتب السياسي والروائي والقاص والناقد. فكان مبدعة في كتاباته كما كان مبدعة في حياته ونضاله واستشهاده. وقد نال سنة 1999 جائزة أصدقاء الكتاب في لبنان، لأفضل رواية عن روايته
ما تبقى لكم». كما نال جائزة منظمة الصحافيين العالمية عام 1974، ونال جائزة اللوتس، التي يمنحها اتحاد كتاب آسيا وأفريقيا عام 1975.
وفي صباح الثامن من يوليوا 1972، وبعد دقائق معدودة على خروج غسان كنفاني من منزله في الحازمية كعادته إلى مركز عمله في مجلة «الهدف وبرفقته الميس حسين نجم، (ابنة أخته)، دوي انفجار کبير اهتزت له منطقة الحازمية، وسمع في مختلف أنحاء بيروت العاصمة، وتطاير على أثره غسان كنفاني كما تتطاير الشظايا في الفضاء.
استشهد غسان على أيدي عملاء اسرائيل، عندما زرعوا عبوة ناسفة في سيارته الخاصة من نوع «أوبل»، وهي عبارة عن قنبلة بلاستيكية ومعها خمسة كيلو غرامات من الديناميت انفجرت بدورها لتفجر السيارة ومن فيها.
وفي هذا الاطار تقول زوجته ورفيقة نضاله السيدة رآني»: بعد دقيقتين من مغادرة غسان ولميس، سمعنا انفجارا رهيبا وتحطمت كل نوافذ البيت ... نزلت السلم راكضة لكي أجد البقايا المحترقة لسيارته ... وجدنا لميس على بعد بضعة أمتار ... ولم نجد غسان ... ناديت عليه .. وثم اكتشفت ساقه اليسرى، وقفت بلا حراك، في حين أخذ فائز - ابنه - بدق راسه .. بالحائط، وليلي - ابنتنا - تصرخ: بابا ... بابا ... لقد قتلوك ...
والجدير ذكره هنا، أن المحققين وجدوا الى جانب السيارة المنسوفة ورقة تقول: مع تحيات سفارة اسرائيل - کربنهاغن .. هذه الورقة لها معناها المحدد. وهي تكشف عن جانب هام من جوانب نضاله السياسي ... فماذا تعني هذه الرسالة الغامضة؟.
من المعروف أن غسان كنفاني كان متزوجة من فتاة دانماركية اسمها آني،، هذه الفتاة كان لها دور كبير في حياة غسان ونضاله السياسي ونشاطه الشوري. وقد اعتمد عليها غسان في توثيق صلاته بكثير من الأوساط الأوروبية ... بل واعتمد على مساعدتها له في الحصول على كثير من الوثائق المتصلة بواقع العرب في الأرض المحتلة، هؤلاء الذين كانوا يبلغون أكثر من نصف مليون عربي داخل فلسطين المحتلة قبل عام 1997، والذين أصبحوا اكثر من مليون ونصف مليون مواطن بعد أن وقعت الضفة الغربية لنهر الأردن تحت سيطرة الاحتلال الصهيوني. لذلك فإن هذه الورقة التي عثر عليها المحققون بمكان الانفجار تعني اشارة واضحة للدور الذي لعبه غسان من خلال هذه الزوجة المثقفة الوفية لزوجها، ولشعب فلسطين العربي. وتجدر الاشارة الى ان غسان التقى مع رآني، لأول مرة وهي تقوم بزيارة لبعض الدول العربية لإعداد دراسة عن اللاجئين الفلسطينيين. وقد تعرفت على غسان باعتباره كاتبأ فلسطينية يمكن أن يساعدها في إعداد البحث وتفصي الحقائق ... وانتهت هذه المعرفة الى الزواج ...
لقد أبدت الصحف الصهيونية، في الواقع، اهتماما كبيرة باستشهاد غسان كنفاني في اليوم الأول لصدورها بعد الاغتيال. وركز دزثيف شيف، في مقال كتبه في جريدة هارتس بتاريخ 1972
/ 7/ 9، على علاقة غسان كنفاني بجماعة اليابانيين، أعضاء الجيش الأحمر الياباني، الذين قاموا بعملية مطار اللد، وهم: «اوکاموتو، ور اوکاديراة وديا سودا، حيث استشهد الأخيران ولم يبق سوي اوکاموتو الذي اعتقل وعذب حتى قارب الموت، ولم يطلق سراحه الا منذ فترة قصيرة على أثر عملية تبادل للأسري، وجاء إلى منطقة البقاع اللبناني، وأضاف «زئيف شيف قائلا: بحسب جميع الدلائل كان لكنفاني علاقة مباشرة بعملية تخطيط المذبحة في مطار اللد ... وأن المسلحين سيفهمون موت كنفاني على أنه انتقام لمجزرة اللدي. ووصف زئيف شيف كنفاني بأنه الرجل الثالث في المنظمة بعد جورج حبش والدكتور وديع حداده وأضاف: «بينما كانت هناك حراسة مشددة على حبش وحداد، كان كنفاني مكشوفة أكثر بسبب مهمته کناطق باسم الجبهة، وكرئيس تحرير لمجلتها
الهدف». ويعتبر مراقبون عسكريون وخبراء بشؤون الفسطينيين مقتل كنفاني أنه ضربة قاسية. وقد أوفدت جريدة ارتس مراسلها «يهودا آرئيل، الى عكا، ونشرت معلومات عن غسان وعن عائلته قبل النزوح.
كما كتبت ردائاره بنفس التاريخ مقالا أظهرت فيه تشفية بقتل غسان كنفاني وقالت: «إن موت كنفاني هو ثمرة نشاطه في حياته. إن التحريض على الارهاب وتبريره هو جزء لا يتجزأ من تدبيره وتنفيذه. ولجميع الذين يمارسونه المصير نفسه. إن أولئك الذين يساعدون الارهاب، نهايتهم دفع الثمن بالعملة نفسها التي جعلوها هم أنفسهم متداولة ... إن هذا الأمر لا ينطبق فقط على المسلحين من القاعدة الذين يفقدون حياتهم، وإنما على الذين يرسلونهم أيضأ، والذين يظهرون بمظهر السياسيين والكتاب .. وكانت معاريف (72
/ 9/ 9) قد نشرت بعد العملية الفدائية في مطار اللد مقالا عن علاقة الجبهة الشعبية بالجيش الأحمر الياباني، ونشرت مع المقال صورة ظهر فيها غسان وكتب تحتها: ثوري ياباني، انضم إلى الجبهة في لبنان بصحبة غسان كنفاني من زعماء والمخربين»، والحقيقة، أنه اذا
مقتل
كنفاني
عن عائلته قبل مراسلها
نه بنفس الي عدنا إلى ما كتبه غسان فإننا ندرك بعمن أنه كان على مستوى الخطورة. ولر لم يكن كذلك لما اغتيل. كان شعاره الحقيقة كل الحقيقة للجماهيره، لم يخف على رأسه مرة واحدة، كما فعل الكثيرون في أيامه , ولو خاف على رأسه مرة لما اغتيل. اليس هو القائل: «نحن الجيل الذي يمهد لجيل الثورة؟، نعم .. إنه مع الشهداء، يمثلون جسر العبور من المنفى إلى فلسطين. انهم جسر الحرية الذي جبل بدم الكرامة والتضحية والشرف والفداء.
والثورة وقودها رجال برجال لا حطب ... ، ومرحي بأمثال هؤلاء الرجال الذين يعرفون كيف يزقمون حب القضية إلى أبنائها وأصحابها أولا وقبل كل شيء، لكي تدخل بعدئذ كل بيوت الدنيا من الباب الواسع ولكن ...
والأشخاص يزولون، والقيادات تتغير ... وتبقى القضية أكبر من القيادات والأشخاص،
المراجع
ا. مجلة الهدف، (الناطقة بلسان الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين)، بيروت
العدد 165. تاريخ 19 آب/أغسطس 1972. 2 - مجلة الآداب، (اللبنانية بيروت. آب / أغسطس 1972 (مقال بقلم رجاء
النقاش). 3- هاني الخير ويحدثونك عن أنفسهم، الجزء الثالث. دمشق. 4 - العدد الرابع عشر من نشرة منظمة التحرير الفلسطينية. ه - الصحف الصهيونية: هآرتس / دائار/. معاريف بتاريخ 72
/ 6 /
9 و 1972
مصادر و المراجع :
١- موسوعة الامن
والاستخبارات في العالم
المؤلف: د. صالح
زهر الدين
الناشر: المركز
الثقافي اللبناني للطباعة والنشر والتأليف والترجمة - بيروت
الطبعة: الاولى
تاريخ النشر:2002
م
1 أبريل 2024
تعليقات (0)