المنشورات
مردخاي فانونو بين الدسيسة والفضيحة
من أبلغ ما يطلق على السياسة الاسرائيلية في هذا العصر، دبلوماسية الحرباء والأفاعي الرقطاء، التي تعطي لكل ظرفي لونه وأهميته تبعا لمستلزماته ومتطلباته. ولم تكن «طرودها الدبلوماسية، إلا أحد أنجح الأساليب في تطبيق هذه السياسة. وطبيعي أن طردها الدبلوماسي، الذي حوى الخبير النروي الاسرائيلي امردخاي فانونوه في طريقه من لندن إلى تل أبيب في أواخر شهر أيلول/سبتمبر 1989، لن يكون آخر طرودها ... والحبل على الجرار.
فمن هو «مردخاي فانونو؟ وما هو سر عملية اختطافه من لندن إلى تل أبيب؟
القصة هي بحد ذاتها عالم من الأسرار والألغاز، ومحدودة التداول جدة ... وقد رواها صديق مقرب من فانونو بقوله: أخبرني مردخاي بانه ليس صهيونية ولن يكون. وكل أصدقائه يعرفون عنه أنه يعمل في مصنع للنسيج لا في مفاعل ديمونا. ف الشين بيت، (جهاز مكافحة التجسس الصهيوني) تلقن علماء مفاعل ديمونا ما يقولون وما لا يقولون، وهي تهددهم بالقتل اذا هم کشفوا عن هويتهم الحقيقية، وقد كانوا مراقبين أكثر خارج مكان العمل
ويضيف: في كل مرة كان مردخاي يزورني كانوا يستدعونني للتحقيق ... ولم أعرف أنه يعمل في ديمونا إلا قبل عام تقريبا، وقد أوصاني بعدم التصريح بهذه المعلومات. وقد أدرك فانونو من خلال عمله في مفاعل
هويتهم الحقيقية، وقد كانوا يقولون، وهي تهن ديمونا مخاطر الرعب النووي، واستيقظ ضميره، وبدأ يعد العدة لكشف ادعاءات اسرائيل السلمية للعالم كله.
ولهذه الغاية تمكن فانونو من اجتياز حواجز التفتيش المحيطة بالمفاعل، مصطحبة معه آلة تصوير دقيقة. وفي مرة أخرى أدخل أفلام التصوير. وكانت النتيجة أن حصل على صور غاية في الدقة والتتابع والتسلسل بحيث أدهشت خبراء الذرة الذين استفد منهم صحيفة «الصنداي تايمز» البريطانية خصيصا الفحص الوثائق والصور ... مما يؤكد على النية المبينة لديه لكشف ما يدور داخل مفاعل ديمونا.
ويستطرد صديق فانونو قائلا: آن مردخاي تقدم في أوائل عام 1981 بطلب من الدوائر الأمنية الاسرائيلية للسماح له بالسفر الى استراليا. ووافقت والشين بيت؛ لأنه ليس في ملفه ما يريب أو ما يستدعي الشك في امكانية تسريب معلومات صحافية عن أسرار الذرة الاسرائيلية، فإن ذلك لا يشكل عامل قلق لاسرائيل، اذا لم تكن موثقة بالصور والمستندات والأدلة المقنعة.
وفي حين كان فانونو يتجه الى سيدني (استراليا)، أوعز الى صديق آخر بحمل الصور معه الى لندن، لعلمه بأنه سيتعرض لتفتيش دقيق للغاية لدى مغادرته مطار اللد. وكانت شقته مسرحا لعمليات اقتحام وتفنيش عديدة ودقيقة منذ تقديمه طلبا للسفر إلى استراليا، تولتها مخابرات والشين بيت
في سيدني، تعرف فانونو الي نس استرالي هو (جون ماكنايته، وبعد صداقة دامت فترة قصيرة فقط، وبدافع من قناعاته السابقة، اعتنق فائونو المسيحية وصار بروتستانتية. هذه الخطوة نبهت الحكومة الاسرائيلية إلى شخصه فانفتحت عليه العيون. وتساءل رسميون في اسرائيل كيف يسمح الخبير مثله بالسفر الى الخارج وبهذه السهولة ... ثم كيف لم تكتشف المخابرات الاسرائيلية نياته الحقيقية، سيما وأنه لم يذهب للعمل في مفاعل نووي استرالي؟ وتضيف بعض المعلومات أن مردخاي فانونو اتصل بالمخابرات السوفياتية في سيدني، مما دفع الموساد لتعقبه ومداهمة منزله دون أن يعثر على شيء. وقد أخبر صديقه والقس ماکنايت، بذلك، فنقل الصديق بدوره الخبر الى وكالة الصحافة الفرنسية في القدس ... ونشرت الفضيحة على الملا.
وبرفقة صديقه وما کنايت، انتقل فانونو الى لندن حيث يوجد الصديق الثاني الذي يحتفظ بالوثائق .... وفي العاصمة البريطانية كانت المفاجأة
الثانية.
سافر الصديقان واتصلا سرا بالرجل الذي يحمل المستندات. ثم اتصلا بصحيفة «الصنداي تايمز» البريطانية، وتم الكشف عن أسرار الترسانة النووية الاسرائيلية، لأول مرة بمثل هذه الدقة.
آن فانونو كان يعرف أن «الموساد» تتعقبه منذ وصوله الى سيدني. وكان يعرف أيضا، نفوذ هذا الجهاز الخطير في بريطانيا، ومدى حجم العلاقة بين والموساد» وجهاز المخابرات البريطانية C
A . D)، ويعرف أنه اذا لم تجر تصفيته على يد «الموساد»، فإنها ستتم بالتأكيد على يد البريطانيين.
ولكن كيف تصبت والموساد له الفخ؟.
بعد نشر المعلومات عن مفاعل ديمونا في صحيفة «الصنداي تايمزه، تاكدت الموساد أن فانونو موجود في لندن، وبدأ رجال المخابرات الاسرائيلية يبحثون عنه ويحصون عليه حركاته وأنفاسه
لم يكن مسلحا، ولم يكن حذرة في تنقلاته. كان ينزل في فندق مطمئنا إلى المبلغ الذي قبضه ثمنا لمعلوماته ... وكان له في لندن صديقان، أحدهما هو القس البروتستانتي ماكنايت، والأخر هو الصديق الذي حمل له الوثائق من اسرائيل، وقد فر بعد انکشاف أمره الى جهة مجهولة.
وقد كانت وثائق مردخاي فانونو، صورة من الداخل لمفاعل ديمونا. التقطت في تأن وترتيب، والتي تدل على أنه أمضى وقنا غير قصير في التصوير، وكان يعد صفقته عن سابق تصور وتصميم.
تعقب رجال الموساد، مردخاي أيامأ دون جدوى، في الوقت الذي كانت فيه الضجة تملا اسرائيل، بل العالم كله، وشيمون بيريز يصرح في
1989/ 10 / 14 بما يأتي: «ان المعلومات التي نشرتها صنداي تايمز ليست حقيقية، واسرائيل ملتزمة بالفكرة القائلة بأنها لن تكون أول دولة تدخل السلاح النووي الى منطقة الشرق الأوسط.
فجاة وعلى غير موعد، ظهرت في لندن امراة جميلة تدعى (سيندي،، أنها صديقة فانونو. كانت قد أرسلت له رسائل عدة الى سيدني ... ولم يصدق مردخاي عينيه إذ رأها ... وبعد حديث طويل، وكلام فيه كثير من الشوف، اقنعت الصديقة مردخاي بالخروج من لندن (حيث المتاعب) إلى عرض البحر، في سفينة سياحية متوسطة الحجم، ووافق على رحلة الحب هذه. لكن الرحلة لم تنته كما كان يحلم، بل انتهت الى سفينة أخرى، تبين فيما بعد أنها اسرائيلية ... وانتهى مشوار الحب الى زنزانة باردة في تل أبيب، ولم تكن الحبيبة الا احدى عملاء والموساد، وقد أجادت الدور بدقة. ويبدو أن تحذيرات القس ماكنايت، الذي شكك في أمرها، لم تنفع. فنداء القلب كان أقوي.
غير أن هذه الرواية ليست الوحيدة التي تتردد عن اختفاء فانونو وظهوره في اسرائيل. فبعض الصحف الغربية تشير الى أنه ربما يكون قد خطف أثناء نزهة مع الحبيبة، قام بها في نهر التايمزا ... وہ الشين بيت، لا تقول شيئا. أما كيف استطاع فانونو العبور الى داخل مفاعل ديمونا مع آلة التصوير الدقيقة فمسألة تخضع للبحث داخل والشين بيت،؛ والصحافة البريطانية تنقل عن اسحق شامير قوله أن مسؤولا كبيرا في هذا الجهاز أعفي من منصبه. ولكن كيف تمكنت «الموساد» من اختطاف فانونو في لندن ونقله الى اسرائيل؟ فتلك هي المسألة الأهم في هذه القضية؟.
أكدت صحيفة «الفايننشال تايمز، بتاريخ 14 نوفمبر 1989، ران الاستخبارات البريطانية ساعدت «الموساد، في خطف فانونو من بريطانيا،. ونسبت معلوماتها إلى أحد كبار السياسيين الاسرائيليين، لكنها لم تكشف هويته.
وواقع الأمر هو كالتالي: قبل أسبوعين من اختفاء فانونو، تم اتصال هاتفي بين رئيس وزراء اسرائيل في ذلك الوقت شيمون بيريز، ورئيسة وزراء بريطانيا مرغريت تاتشر.
وفي تلك الفترة، لم يكن أحد يعلم بوجود فانونو في لندن سوي عدد من محرري الصحيفة البريطانية الذين تولوا مهمة إعداد الموضوع الخاص حول قيام اسرائيل بانتاج أسلحة نووية، استنادا الى المعلومات والصور التي أمدهم بها فانونو، والذي عمل لمدة عشر سنوات في المفاعل النووي الذي تحيطه اسرائيل بسرية مطلقة.
ورغم انكار بريطانيا للإتصال الذي تم بين شيمون بيريز ومرغريت تاتشر، فقد تكرر هذا الإنكار على الرغم من المعلومات الصادرة من داخل اسرائيل نفسها، والتي تؤكد أن بيريز حصل من رئيسة الوزراء البريطانية على وعد قاطع أن تغمض المخابرات البريطانية أعينها عن قيام افراد جهاز المخابرات الاسرائيلية «الموساد» بخطف فنانونو وإعادته إلى اسرائيل.
كذلك اتفق على اشاعة أخبار أن فاتونو اختطف خلال رحلة على يخت في عرض البحر المتوسط، وذلك لتخليص بريطانيا من تهمة التواطؤ مع اسرائيل في عملية الخطف، حيث لم يغادر فانونو الأراضي البريطانية بطريقة رسمية، أي أن مغادرته لم تسجل في أي من مطارات بريطانيا أو موانئها.
هذا وقد طلب السفير البريطاني في تل ابيب دوليام سكواير، من الحكومة الإسرائيلية تفسير كيفية اختفاء الفني النووي مردخاي فانونو بشكل غامض من لندن، لينتهي به الحال في أحد سجون اسرائيل حيث اتهم بالخيانة.
وقد اعترفت اسرائيل في الأسبوع الثاني من شهر نوفمبر سنة 1989 - بعد أسابيع من الصمت - بأنها تحتجز فانونو. ولكنها نفت تقارير بأن عملاء والموساد اختطفوه في لندن.
وطلبت بريطانيا من المحامي الذي يمثل نانونو، معلومات عن الكيفية التي ظهر بها موكله في أحد سجون اسرائيل. وقال المحامي رامنون زيخروني، لوكالة «رويتر، إن السفير البريطاني وليام سکواير، اتصل به للإستفسار عن الطريقة الغامضة التي عاد بها نانونو الى اسرائيل. وقال
زيخروني: «لقد أبلغته أنه لا يمكنني أن أعطيه المعلومات الا بموافقة وزارة الخارجية الإسرائيلية: فهي سر من أسرار الدولة. وذكرت الصحف الإسرائيلية أن محامي فانونو زاره نهار الثلاثاء بتاريخ 11 نوفمبر 1989 للمرة الأولى منذ اعتقاله. وأوضح المحامي أمنون زيخروني، أن هذه الزيارة نظمت كما لو كانت عملية سرية حقيقية، لان أجهزة المخابرات الاسرائيلية أرادت أن تتجنب أن يتسنى للصحافيين والمصورين الذين يلاحقون المحامي تتبعه الى المكان الذي يتم فيه احتجاز فانونو، ويعتبر سرا.
وقال المحامي للصحافيين الذين استقبلهم في مكتبه بعد أن زار موكله فائونو يطلق الأن لحيته ولا يأكل إلا الفاكهة، ويقضي الليل كله في قراءة التوراة والعهد الجديد وأعمالا فلسفية، وينام أثناء النهاري
وأضاف: «ان فانونو أعرب عن الأمل في أن تكون محاكمته علنية
وفي حديث أدلى به الى الاذاعة الاسرائيلية، قال رئيس لجنة الخارجية والأمن في الكنيست الإسرائيلي أبا ايبان دان اللجنة ستناقش الثغرات الأمنية في مفاعل ديمونة، النووي، حيث كان يعمل الفني النووي الاسرائيلي مردخاي فانونو المعتقل في اسرائيل بتهمة تسريب أسرار نووية الى احدى الصحف البريطانية. وأضاف: ان اللجنة تعقد اجتماعات مغلقة ستبحث في الاجراءات المعتمدة في ديمونة، والتي أتاحت بروز هذه الثغرات الأمنية، وهي ستحقق في اجراءات الأمن المتبعة في ديمونة، للحيلولة دون تكرار حادثة فانونوا
اما اسحق شامير فقد ذكر في كلمة ألقاها خلال جولة قام بها الى شمالي تل أبيب أن فانونو «لم يخطف، على الأراضي البريطانية قبل اقتياده الى اسرائيل، لكنه رفض الكشف عن أي تفاصيل أخرى، في الوقت الذي أكد فيه عضو مجلس العموم البريطاني أنطوني بومنت دارك، وهو من حزب المحافظين أن «مصدرة اسرائيلية رفيعة أبلغه أن جهاز الاستخبارات الاسرائيلي (الموساد) هو الذي نفذ عملية تهريب فانونو بواسطة طرد دبلوماسي عن طريق السفارة الإسرائيلية في لندن،.
ألم تعمد اسرائيل الى هذه الطريقة، وفي بريطانيا أيضا عبر مطار هيثرو، عندما لجأت الى اختطاف وزير المالية النيجيري السابق أحمد ديكور الحساب الحكومة النيجيرية التي اتهمنه بسرقة أموال الخزينة، واكتشفت السلطات البريطانية هذه الخطة في اللحظة الأخيرة وأفسدتها؟.
أما في دمشق، فقالت صحيفة «الثورة، إن الحكومة البريطانية نظمت حملة بشعة ضد سوريا متهمة إياها بالارهاب، وذلك لتبرئة ساحة المعتدي الصهيوني والتغطية على جرائمه النكراء، وتمويه أوكار الإرهاب الحقيقية. وبالمقابل معاقبة ضحايا العدوان الصهيوني وتحميلهم مسؤولية الجرائم التي اقترفها الاستعماريون البريطانيون والصهاينة بحق الأمة العربية.
ومضت صحيفة «الثورة»، تقول القد حاولوا طمس جوهر الكيان الصهيوني العدواني وتحسين صورته وتلطيف ملامحه، حتى قضية فانونو التي تمس جوهر السيادة والكرامة الوطنية البريطانية، آثروا ابتلاعها والصمت عليها، وبالمقابل ستروا حملة الثأر من سوريا التي تخوض نضالا انسانية ووطنيا نبيلا لرفع الظلم عن المشردين، ووضع حد للإرهاب واقتلاع جذوره،وتخلوا عن أخلاقية العمل السياسي وفقدوا الاتزان وانسلخوا عن الموضوعية، وآثروا السقوط في مستنقع الخداع والتضليل والافتراء.
من ناحية أخرى، أكدت مصادر عملية أن المعلومات والرسومات التوضيحية عن مفاعل ديمونة، النووي الإسرائيلي، والتي أدلى بها فانونو الى صحيفة الصنداي تايمز، تثبت أن هناك محاولة تضليل متعمد تهدف الى صيانة سرية عمليات المفاعل. وتضيف: أن وصف فانونو للمفاعل يتعارض تماما مع الأسس العلمية التي يقوم عليها انتاج يورانيوم مقوي لصنع القذائف النووية. وتقول المصادر إن هذا ما يؤكد بأن القصة بأكملها مدسوسة.
ومن خلال متابعتنا لهذا الموضوع، من حقنا أن نقول (وليعذرنا مردخاي فانونو اذا كنا مخطئين) إن هذه الهمروجة، النووية حول الخبير النووي الإسرائيلي ليست سوى حلقة ودور من أدوار الموساد، وليس مستبعدا أبدا أن يكون نانونو أحد أعضاء هذا الجهاز، المكلف بتأدية دور «نرويه وہ اعلاميه في الوقت نفسه. واذا كان قد اختطف أو خطف نفسه. لا فرق? فإن هذه المسألة لم تعد تنطلي مطلقة على أحد، خصوصا أولئك الذين خبروا اساليب وألاعيب الاستعمار البريطاني والموساد الصهيوني الذي هو «إبن شرعي، لبريطانيا العظمي.
واذا تجاهل اسحق رابين (وزير الدفاع الاسرائيلي يومها، أو نفي امتلاك اسرائيل للأسلحة النووية، ولو اعترف بأن لديها وهيئات أبحاث عديدة، فإن القضية أصبحت كعين الشمس، والصهاينة يتنفسون الكذب والتدجيل كما يتنفسون الهواء، ولا يستطيعون العيش بدونه خوفا على إتلاف الرئة الاسرائيلية.
اففانونو مكلف بمهمة رسمية من قبل «الموساد» وبعلم من شيمون بيريز نفسه، وإلا كيف عرف بأنه سيدلي بتصريحات عن اسرائيل وقوتها النووية بالصور والرسومات التوضيحية التي نشرت في الصنداي تايمز، في 5 تشرين الثاني / نوفمبر 1989؟ ولماذا أجرى الاتصال مع مرغريت تاتشر قبل حوالي عشرين يوما من نشر هذه التصريحات؟.
مصادر و المراجع :
١- موسوعة الامن
والاستخبارات في العالم
المؤلف: د. صالح
زهر الدين
الناشر: المركز
الثقافي اللبناني للطباعة والنشر والتأليف والترجمة - بيروت
الطبعة: الاولى
تاريخ النشر:2002
م
1 أبريل 2024
تعليقات (0)